يركز الإعلام هنا على تناول الجوانب المعرفية بصورة غامضة، على الأقل عند بعض المتلقّيــن، وتغليف هذه الجوانب بتحولات مفرطة، وهو الأمر الذي مسّ الإدراك أكثر من التغييرات الظاهرة للحقائق المعرفية. والتشويه الذي أصاب السطح قد هز الذات أيضًا. إن الوقائع اهتزت من خلال الإفراط الإعلامي في نظر الرؤية الإنسانية. ما وقع أنه تم الفصل بين الدال والمدلول، كون أن الواقع الحقيقي اختفى، وصرف لنا واقعًا آخر خلافًا للواقعية الصرفة حسب تعبير بودريار. كما نجد المحاكاة التي تقوم بها الصورة آسرة جدًا في عرض واقع بديل من الواقع الحقيقي وفي أحسن ثوب وبحيل مقنعة لا محيد عنها، وبالصورة التي يتعايشها الأفراد في المجتمع. وبذلك يسعى الإعلام إلى توحيد الرؤية في بوتقة ثقافية واحدة، وهو ما أدى إلى تلاشي الحدود ورفع الاختلاف وإزاحة الخصوصيات، وهو الأمر الذي أشار إليه ماكلوهان بأن الاتصال يجعل من العالم عبارة عن قرية محدودة الأفق، فالتوازن البيئي تحدد مسافته بينه وبين الإنسان حسب قوة التأثير والحاجة إليه.

وإزاء ذلك يُنظر إلى الفعل الاتصالي على أنه علاقة وصل بين الظروف الفردية وعلاقتها بالمحيط، إذ إنه يعكس علاقة أخرى متوازنة معه مثل الخيال السوسيولوجي عند رأيت ميلز، الذي يشكل نسقًا اتصاليًا داخل التفاعلات كمرجعية جذرية للنسيج الاجتماعي، كما يبقى الاتصال بنية تكون بمنزلة رابطة محايثة في بناء المجتمع خاضعة للنقد والتحليل. وعلى الرغم من الانتقادات التي أصابت أفكار بودريار التي نسفت الواقع محملّا بذلك آثار القوة المهيمنة بحيث يصفه أحد المفكرين (فليب كوركوف) بأن رؤيته تقتصر على أحادية الاتجاه، وبأنه مثقف تلفزيوني[1]. لذلك فإن الاتصال يغرس وهمًا أبديًا، مثلما تكونت أسطورة الكهف الأفلاطوني، إذ يفعل الإعلام صورة مزيفة للواقع ويصدمنا بحائط كهف متعدد الألوان فنظل بدورنا نراقب تلك الألوان الحائطية على أساس أنها تمثل الواقع، لكن في الحقيقة هي خيالات متراقصة مصطنعة من الوهم القائم في ذواتنا، في حين أن الواقع الحقيقي ميت لا يظهر لنا إلا حرفًا، وكأن الحقيقة تنعكس على الصورة الإعلامية كما انعكست الحقيقة على جدار الكهف (الأفلاطوني). ويعتقد الكثير أن الصدق لا بد أن يمر عبر بوابة الإعلام، وهو ما خلق لديهم وهمًا زائفًا صار أغلبهم مقيدين على جدار الشاشة تمامًا مثلما كان أسلافهم مقيدين على جدار الكهف. إنه فعل الصورة المخادعة، إذ يتشكل لدينا صعوبة في تحديد مدلولات العلامة[2]. بهذا سيتمكن الإعلام من إرساء دعائم الاتجاهات والمواقف، إذ يكون في هذه الحالة بمنزلة جهاز أيديولوجي حسب تعبير ألتوسير. وفي ظل هذا التفسير، قد يصعب تحديد انتماء شخصية بودريار وتصنيفها في إحدى الخانات المتعلقة بحسب دروب الاختصاصات المعاصرة، فيشكل ذلك اضطرابًا شديدًا في زمن اكتست فيه لعبة الزيف وتسخيف العقل مكانة متطورة مع الارتكاز البعيد على سلطة الصورة وقوتها التحريرية للوقائع والاستبداد بالحقائق.

أولًا: سلطة الصورة في قلب الحقائق

بالوقائع نفسها يحيلنا علي وطفة في هذا على صاحب كتاب حرب السلام مارك أوجيه الذي يتكلم على قوة كثافة المشهد للصورة التي تتضمن بطبيعتها نصًا غير محدود، وكون غزوها كونيًا فهي تظهر نمطًا حداثيًا خياليًا يشكل أثرًا بليغًا في الوضع الاجتماعي من حيث التفكير مخترقًا توازنه، حيث يثير الكثير من التساؤلات التي تشكك في الهوية وبعض التمفصلات التي تربك الذات وتجعلها مضطربة أمام المضمون المؤسس والدونية في مكوناته وقدسية معطياته، معززًا قوله إن هذا الإنجاز ينبئ بانبثاق وعي إنساني يتجاوز المراحل السابقة كمًّا وكيفًا. ويبشر بتحوِّل تاريخي يكرس الخلقنة والإبداع، إذ يستمد هذا التقدم في نموذج حجم إرثه من الوعي الجمعي، مؤكدًا في السياق نفسه أن رسالة التربية ينبغي أن تكون مواكبة لحداثة الركب الثوري والتجديد في الفكر والوسائل، لكي تنطلق نحو أفق التطور وتكسر حواجز التقليد والتصورات الجامدة على عمود الماضي، مضيفًا أنه لا بد من انعكاس هذا الاستثمار في تفاعلات ثورة الاتصالات لتجاوز السقف المحدود وطرح البديل المميز… وبتعبيره فإن كوكبنا يتطور إزاء فضاءات النهضة الرقمية ليصبح كوكبًا سيبرانيًا فائق التقدير والذكاء[3].

في هذا ترى هل كان بودريار مثقفًا عضويًا يواجه موجة الصراع بكل قوته المعرفية من دون الفصل بين عتبات الأدبيات، وهو معروف بغزارته اللامتناهية في التعبير المتداخل بين السياسي والأدبي والفلسفي، إذ يشترك في هذا التمفصل الخاص بالإنتاج المتعدد مع الكثيرين على تنوع مشاربهم وباختلاف تخصصاتهم العلمية. وببلاغة صائبة أمكن بودريار أن يتجاوز الكثير من التحفظات في السياق العام؛ نظرًا إلى ارتباط بعض البحوث في نسيج واحد، مثلما هو في الأبعاد الفلسفية وعلم الاتصال بالسوسيولوجيا ليخرج بنتيجة منفردة متكاملة تصب كلها في مشروع يكشف عن زيف الصورة المنسوخة ومدى سلطتها في تحوير المضمار وقلب النتائج[4].

يبدو أن سلطان الصورة عمل في حقب تاريخية عميقة أسست في مراحل مختلفة فعملت في بعدها الماضي السحيق على تثوير الحادثة، وتفعيل رموزها عبر الصورة. فمن خلال الصورة يتم تجييش الحدث على مستوى العاطفة أو تصويره بطريقة باردة من باب إحباط نفسية المتلقّي وإخفاق الحادثة إلى حد إهمالها وجعلها في صفة التجاهل، كأنها لم تكشف قضية مصيرية في حياة الفرد والمجتمعات بغية امتصاص الغضب مثلًا، أو تحويل الهدف عن مغزاه الحقيقي، أو إبراز عكسها لكسب ود الرأي العام مثلما أشار بودريار إلى الحرب الإعلامية التي وقعت أثناء حرب الخليج الثانية التي قال عنها إنها لم تحدث واقعيًا بل كانت حربًا إعلامية بامتياز[5].

وعلى غرار ما ينبعث من سلطة الصورة يذكر عبد الله الغذامي أن ثقافة الصورة تجلت كثقافة بشرية بصرية تأخذ نموذجًا في الإرسال والاستقبال والفهم والتأويل، وهي تقتحم إحساسنا وتضغط بصورة فعلية حقًا[6]. وهي إذ تشير إلى نوع من الإبادة للمعنى (الفصل بين الدال والمدلول) فإنها تشكل قصة مضمرة تضم في مضمونها أحداثًا لا يستطيع أحيانًا البوح بها. فقوة الصورة في هذا الزمن تؤكد حضورها على أساس أنها هي التي خلقت الحدث وأصبح الإنسان في حد ذاته يعيش تفككًا داخليًا من قوة التعدد وتمشهد الحياة. وهنا قد يحجب الكثير من الحقائق إزاء تصلّب العقل بعد تركيز دقيق على بعدٍ واحد كما يحسب (سيكولوجيًا)، أي تترسب الأحداث من خلال اللاوعي مدفوعة من التأويل النابع بحسب الرغبة والميولات، وفي هذا قد ينشأ زيف عقلي يعيش وهمًا أبديًا.

ثانيًا: التمشهد المرعب للأمن الاجتماعي

وفي كفة التوازن بين الآراء يصف ماكلوهان (الكندي) أن الرسالة هي الوسيلة، إذ يحققان الهدف معًا، في حين يرى بودريار بدوره أن الوسيلة الإعلامية ليست حيادية أو بريئة عن تلوين الصورة بشيء من الاتجاهات والاعتقادات، فلم تعد الوسيلة وسيلة نقل تثبيتًا لوظيفتها، بل أصبحت تشارك وبقوة في صنع الحدث. أي يصبح هذا الحدث حقيقة واقعية، وهو ما حدا بالأمر إلى تلاشي المعنى وتفكيك أثره من صورته الأصلية، وجعله يُتداول عبر الصورة المتعددة الخصائص الجديدة، فيتبدد المعنى الأصلي وتتحول الوسائل الإعلامية إزاءها إلى احتواء لكل الرموز (المعنوية) وتنتج في الوقت نفسه حالة مغايرة بديلة من الحالة الأولى الأصلية المستقلة بذاتها كمعلومة جديدة تزيح المعنى وتثبت الشكل أي الصورة الأولى[7]، وهي بهذا تعبر عن حالة بائسة تنشئ أزمة اجتماعية في فهم معنى الأدوار، وهي أزمة تطرح سبلًا متعددة لإنتاج آليات تطور المجتمع التكنولوجي. فالصورة وقوتها أصبحت ترعب الأمن الاجتماعي، وتؤثر في التمثلات الاجتماعية وفي الخيال الجماعي والفردي، الذي بفعلها أدى إلى كشف المحتوى وفسخ سياجه، وتبديد إطاره لتصبح العلاقة عكسية. أي أن الأحداث باتت خارج حدودها الموضوعية وأن المعرفة أصبحت خارج الإطار المدرسي مستمدّة من خارج أسوارها الأيديولوجية، وبتعبير بودريار في هذا تصبح الشيفرة مركزة تؤدي دورًا محوريًا لتشويه الطابع الأصلي. يؤكد هذا علي وطفة، إذ يقول إننا في عصر ثورة الشيفرات الوراثية التي بدأت تجعل من الإنسان مادة فاعلة للتصنيع المحكم[8]. وفي البعد نفسه يطرح بودريار في كتابه المصطنع والاصطناع مسألة هلاك الواقع، بمعنى موت الوجود لأن عملية السيطرة على بؤر الاصطناع أخضعت الصناعة العالمية لوجود علامة مكررة كنسخة تتموقع مكان الوجه الحقيقي والأصلي. فالنسخة حسب بودريار تعود أدراجها إلى مضامين جذرية تفيد مرجعيتها بأصل ثابت، في حين أن المصطنع يخلق صفة جديدة لم تعهد من قبل. بهذا لا وجود للحيازة الأصلية كمرجع يؤكدها، وإنما يبقى الاصطناع شاهدًا على الزيف، وتلاشي الجذور وتماهي الواقعية في الوسط الأصلي. وبصورة أخرى فإن المصطنع في هذه الحالة يتعدد في أشكال وخصائص لا يخفي الواقع تمامًا، إنما يؤكد وجوده متمركزًا على أساس أنه حل في تموضع الواقع؛ مزيحًا تلك الفوارق ليحاكي خلقته الأصلية ولا يولي اهتمامًا خالصًا للدال والمدلول، أي يكسر قاعدة العلامة المتوازنة لغويًا، حيث إنه من قبيل ذلك تصبح المرجعية التي تضمنها الواقع متآكلة[9].

ومن منطلق أن الإعلام يحجب الواقع متماهيًا مع المصطنع الذي شكّل أثره الإبداع الخارق والمتجاوز للواقع، فإن التمظهر الواقعي تم اغتياله وتدميره عبر آليات تزييف وعي الآخر الذي يعدّ بمنزلة المتلقي للحدث أو للصورة، والذي تم توريطه في عملية اصطناعية لواقع مزيف تحرِّكه أطراف متمكنة في المضمون والشكل المطابق للواقع الأصلي. وتكمن في هذا السياق قوة الصورة في حضورها الآني، أثناء وقائع كارثة ناطحات السحاب في 2001، التي هيمنت على أعصاب التمشهد. في هذا يحيلنا بودريار إلى لحظة الزلزال الأرضي، أو بما يسميه فعل الهزة الجوية، إذ عكس هذا الارتطام المذبحة (الشكوكية) التي حدثت في الفضاء، حيث كان حدثًا بمثابة الانهيار الإمبراطوري الذي لم تستطع السلطة الفعلية الأمريكية التحكم في دواعيه. كل هذا الدمار عبَّرت عنه الصورة المحكمة التي كشفت سيطرتها عن اختراق المجهول دون غيرها من الأجهزة الأخرى والتي صدمت باضطراب تقنيات هذه الوسائل المختلفة بداية انهيار البرجين التوأمين[10].

يدلي بودريار بقطيعة شكلية لنموذجه مع الماركسية رغم تبنيه تحليلات تدعي بأن ارتباطه بالماركسية عكس أوجه الشبه تناولت مجمل ما طرحه كتابه المصطنع والاصطناع. ومن بعض المساهمات تتكشف ماركسية بودريار، حيث إنه يسير متماهيًا مع فكر جاك دريدا، كما لا ينقطع عن فضاء هابرماس في تفسيرهما لبعض الأحداث الاجتماعية والسياسية، وما اقتضى من تأويل للوقائع الإرهابية وردّ فعلها إلى جانب تحليلاتهما لقوانين الأخلاق، إضافة إلى عصر التكنولوجيا الذي هو ليس هدية للمضطهدين وليس انتصارًا للرأسمالية دومًا. فتصنيف بودريار يصعب رصده، فهو مرة متأثر بالبعد التفكيكي وأخرى محدد للإرث الكلاسيكي في حضرة سارتر وفوكو، كما يغلب عليه طابع اللغة ونظرة المعنى لما حلله بارت، إضافة إلى أن اتفاقه مع الصور الإبداعية لما بعد الحداثة عكس مجانبة أفكار فرانسو ليوتار[11]. أسئلة متعددة واجهها بودريار بأن الممتثل للأوامر يعيش حرية، معتبرًا أن الحرية حريات، هناك صنف متمرد وهذا خارج الإطار لا سبيل لإقناعه وهناك من يخضع لشروط الدائرة، فيعيش حرية قد تبدو مقتضبة بإشارته إلى أنه «من يعيش الحرية هو المجبر على الامتثال»، ذلك لأن السلطة ابتلعت الواقع واصطنعت حرية بشروط «الخضوع»[12].

في هذا التحليل، لا يريد بودريار أن يفصل بين المضمون النظري والسلوك حتى لا يعدّ ذلك استغفالًا منه، إلا أن هذا الأمر جذب له ردود فعل قوية دفع ثمنها باهظًا كما يقول، وإن استحسن مردودها في النهاية[13]. وعلى الرغم من تنوع ثراء فكره وشهرته الواسعة في الكثير من البلدان الأوروبية والأمريكية، إلا أنه ظل مغمورًا في بلاده ولم تشفع له الإنتاجات المتعددة والمتنوعة التي حققت أهدافها لدى مجمل مفكري ما بعد الحداثة. وانطلاقًا من ذلك فإنه صوّب جزءًا من طراز نقده إلى بعض الاتجاهات الفكرية، وكذا إلى بعض المظاهر الاجتماعية، نظرًا إلى أن شعار هذه الاتجاهات يخالف سلوكها، وهي تعكس نوعًا من الاستغلال الفاحش. لذلك سعى بودريار إلى كشف حقيقة الواقع عن تعاونه مع بعض المنظمات الأمريكية لرصد الفجوات الممكنة للرموز التي حجبت الواقع والتي تخفيها الشعارات الكثيرة من دون أن تظهر الملامح المزيفة والتشوهات المعلقة هناك. بهذا يقوم بودريار بنقد الوضع عبر الخطوط الفنية والكشف عن الوهم الدائر حول عقل المتلقي. وهكذا انتشرت أعماله في الأوساط العلمية والإعلامية فيما بعد. وتثير مسألة القوة الخارقة التي تنشأ من خلال الاصطناع للصورة ما تشكله من رعب اجتماعي تتسارع بدورها في التحولات المعاصرة وربما تغرس التردد ثم الانطباق الإيماني في نفوس الأفراد والجماعات وهذا سبيل آخر لإزاحة الواقع الأصلي وتثبيت الصورة المركبة المزيفة عن الواقع. يقول ماكلوهان (Marshall Macluhan) «إننا نعيش في عصر التغيرات العاصفة، حيث يشكل التغير الاجتماعي نفسه الشكل الوحيد للثبات، إننا نقيم علاقاتنا وفقًا لمحاور متعددة في إطار هذا التغير المتسارع»[14].

ثالثًا: تدمير المعنى في المرجعية المغتالة

في هذا الاتجاه يحلل بودريار الظاهرة الإعلامية وعلاقتها باختفاء الواقع وكيفية صوغ النموذج الاصطناعي للمتلقي، وصعقه بواقع بديل مجرد من المعنى الأصلي. هي أساليب اتصالية تقنية اهتم بها بوصفه سوسيولوجيًا يعكس بدوره تحليلاته عن الظاهرة الاتصالية، التي أكدت اغتيال الواقع. ويظهر بحسب تعبير بودريار أن هذا المفهوم تلاشىت فيه العلاقة بين الدال والمدلول نتيجة التكرار وتعدد النسخ للصور الإعلامية، فأدى إلى اختصار البعد الاجتماعي في صورة مشفرة إعلاميًا، أي نسخ صورة عن نسخة أخرى من دون إثبات المرجعية الحقيقية الأصلية. وفي توضيح له يشير إلى أنه «عندما يكتفي الرمز بذاته ويكون هو مرجعية نفسه يصبح ما يدل عليه هذا الرمز من خارج الواقع، وبذلك يختفي الواقع ويظهر ما «فوق الواقع»»[15]. أثر هذا البعد في الحقل الاجتماعي، إذ أدى هذا التغيير إلى طبيعة اقتناء الأشياء التي تجاوزت وظيفتها الأصلية الحيوية والتمكن من استخدام مهمة أو غاية أخرى مضافة إلى الوظيفة الأولى، وهو الأمر الذي أعطى للمقتنيات صورة ثانية بغية استهلاكها نظرًا إلى ازدواجية الوظيفة لكثير من الأشياء: منها مثلًا، السيارة تبقى تراهن بين وظيفتها كوسيلة نقل أو تأخذ البعد الثاني للوظيفة يتعلق بالمكانة الاجتماعية. ويحيط بذلك مولز (A. Moles) بفكرة ما تؤديه الصورة بأنها تدعم الاتصال المرئي وتجسّد كل ما هو موجود في هذا العالم.

هنا يقسم الغذامي مراحل الصيغ التعبيرية في الثقافة البشرية، بالاعتماد على المنظور الجذري لتصور الإنسان، إذ تحدد كلًّا من المرحلة الشفاهية، ثم مرحلة التدوين، وتتبعها أشكال الكتابة كمرحلة ثالثة، ثم تختم بمرحلة ثقافة الصورة التي ارتبطت بعصر تكنولوجيات الاتصال. كما صاحب كل مرحلة من هذه المراحل آليات توظف عبرها الخصائص والمميزات تبعًا لكل مرحلة، على الرغم من أن الصيغ مكملة لبعضها البعض، من دون أن تتلاشى آثار كل مرحلة سابقة عن الأخرى. وحول ظهور تجاوزات فعلية حسب وظيفة كل صيغة في التمشهد البشري إزاء الحقب الزمنية المتعاقبة[16]، يقدّر بودريار أن الوضع وصل إلى حد الهول زاحمت بدايته نهايته، وأن الكارثة مسحت الإرث  التقليدي والعبر الإنسانية والمنطق العقلاني. فالتغيير الانقلابي يفاجئ العقل نتيجة السرعة في التحولات والاصطدام بالنهاية «الافتراضية»، كأنما العيش في ضفة ثانية. فالتحولات عميقة زمانية ومكانية، لكن تعبر في الحقيقة عن هوة فراغ فصرنا لا نعي التاريخ في هذه التجاوزات التكنولوجية، كون الواقع توقف عن التعدد، بل أصبحت سمته التبدد والتلاشي والإلغاء بإزالة الفهم العقلاني للواقع وتحولاته التاريخية، أي انفصال المعنى عن المبنى وتضخيم المصطنع في نظر الآخر، وفي المقابل إخفاء أو ابتلاع الحدث وفسخ معناه وسحب تراتباته الوجودية[17]. من جهة محددة غير منفصلة عن الواقع، يبين تفسير كل من كريس هوروكس وزوران جيفتك تقديريًا مقولة المحاكاة عند بودريار التي أصيبت بها الجامعات من خلال تزييف الشهادات العلمية فأصبحت مدمرة ومبتذلة مثل الأوراق الأخرى. وقد أصيبت هذه الشهادة في المعنى الحقيقي للمعرفة المكافئة لها، وأن فضاء التدريس أصيب هو الآخر بوعكة صحية، فكل هذا الصخب صار ترديدًا لحنين قد سبق يوم كان للعلم سلطان حيث لم يعد للشهادة قيمة واقعية، فأجبرت كذلك على موت الواقع، ولقتل الواقع يكفي تدمير المعنى الحقيقي للمعرفة المكافئة للشهادة العلمية[18].

وفي المعنى نفسه ينزع بودريار إلى فكرة نهاية الأيديولوجيا، ونهاية لتاريخ هذه الأخيرة اعتمد فيها على ما يطرحه كل من ليوتار وبعض الفلاسفة الماركسيين، جاء هذا بعد تطور النموذج الاقتصادي وإلغاء الشروط والمعايير الثابتة كالعملة وقيمتها، معتقدًا أن فرصة تجديد السببية والارتقاء عموديًا مرفوضة، وهو الأمر نفسه الذي أدى به إلى الاقتراب من مفهوم الديمومة الذي لا يتفق مع البعد التاريخي. فنظرة بودريار نحو الواقع أكثر تدميرًا للمعنى الحقيقي باحثًا عن ثورة التغيير قبل حدوث النهاية المأسوية التي تعكس افتراضًا غائبًا أو إدراكًا وهميًا وهو لم يتحقق بعد، رغم الأمل المتصاعد نحو المستقبل[19]. ورغم حديثه عن الأيديولوجيات، فهو لا يمعن في الخطاب وخصوصياته بقدر ما يشدد على السلوك، لأنه يرى أن موقف الأيديولوجي يبدو أنه صعب المراس في تحديد ماهيته وخصوصًا في اضطراب نمط رمزيته، وهو ما جاء في رده على مفهوم الإرهاب الذي يرفض أيضًا أن يربطه بدين، أو وثنية مقابل الرد على حجم الهيمنة الإمبريالية التي تتبع أسلوب السيطرة بكل الأدوات الممكنة لإرضاخ كل الرموز الثقافية المتعددة لقاعدة واحدة. ويؤكد بودريار مرة أخرى أن لوسائل الاتصال ممارسة في دعم محور العنف بكل أنواعه، المادية منها والمعنوية، وبفعل هذا الأخير يجعل مقاربة ثنائية في تحطيم رمزية العنفوان الذي يمتلكه النظام؛ فهذه الممارسة أصبحت مادة دسمة لوسائل الإعلام تكرس هيمنتها وفعلها الرمزي وتجعل من الإرهاب موضوعًا يجرّم فعل خلفياته القانون، كما تؤدي بذلك دور التعرية لحجم الخسائر المادية التي التقطتها الصورة. وبتهويل منها لمنطق رعب الآخر كخلاصة لصدمة شهدتها المعمورة في موقعة 11 أيلول/سبتمبر 2001، وتحت أنظار العالم تمت عملية الانهيار كسابقة لكسر شوكة «القوة» والتقدير لهذا بروز ما خفي من هشاشة النظام الليبرالي من خلال ما تعكسه وسائل الإعلام لازدواجية أخلاقيات الآخر المختلف[20]، منتقدًا في الوقت نفسه مبدأ «صراع الحضارات»، الذي يعجز عن المداولة الديمقراطية. فهو يؤمن بالاختلاف من دون السيطرة على الموقف، حيث يريد أن يستولي على مرجعية الحداثة وتطبيقاتها الكونية من دون أن يدفع ثمنًا باهظًا[21]. ويعود بنا والتر بنيامين (Walter Benjamin) إلى تحليله أن النسخة تحل محل الأصل، إلا أن بودريار يفرق بين ما هو مصطنع وبين درجة النسخة كما ذكرت سابقًا، وهو ما أدى إلى زوال الأصل واختفاء الحقيقة. يظهر فقط الاصطناعي، وهو الشيء الذي تداوله نيتشه أيضًا بأن الحقيقة تصبح كقناع، وعندما تنزع هذه الأقنعة يذهب الاعتبار نهائيًا[22]. ويذكر أولريش بيك كذلك في هذا المقام أنه في بداية القرن الحادي والعشرين عايشنا مولد مجتمع المخاطر العالمي متمثلًا بالتهديدات الكونية بدءًا من الإرهاب وصولًا إلى التغير المناخي، الأمر الذي يوضح لكل منا أن المجتمع سواء كان عبارة عن دول أو أفراد يتعين عليهما اتخاذ قرارات تنطوي على مخاطرة من شأنها أن تحدد موقف الإنسانية في الحاضر وفي المستقبل باتجاه ما يواجهها من أخطار[23].

رابعًا: الرمز المنطوي على ذاته والواقع المتناقض

من وجهة أخرى يختلف بودريار مع ديبور حول مفهوم المجتمع المشهدي وعلاقته بمفهوم «فوق الواقعية»، حيث يرى بودريار أن مجتمع المشهدي هو مرحلة تمهيدية فقط لما فوق الواقع، إذ نجد المجتمع المشهدي يظهر من خلال توجهه وبإمكان نقده من حيث الصور والشكل، كما أنه يدرك طابع وجوده. بذلك تتبين حالة انفصال وإبراز مسافة بين المجتمع والواقع كما يحددها بحسب تعبيره، في حين أن مفهومه لما فوق الواقع راهن مكتفٍ بذاته من دون انفصاله عن الواقع مما يتبين اعتبار المسافة في هذا المجال، وهو ما يوضح أيضًا عدم إمكان البعد النقدي، وبحكم هذا التدبيج فهي تمامًا بحسب رأيه أن فوق الواقع هو تفسير للمجتمع المشهدي، الذي لا يعي ذاته وما نعيه أن عبارة فوق الواقع ابتلعت الحدث كصورة أو مشهد المكتفية بذاتها تمكن من إبراز البعد الاجتماعي وبإقصاء أي علاقة بين الدال والمدلول أو الرمز والمرموز إليه، أي نفي أي مرجعية ثابتة. هنا تتشابه عملية النفي مع تلاشي التناقض كما شرعها أورويل في روايته 84 بعنوان الحرب هي السلم أو الحرية هي العبودية[24]. وهنا يثبت بودريار ما يطرحه رولان بارت حول الصورة وبلاغتها، إذ يشتغل على موقع التضمينات في شبكة الدلالة من النص الموجود على الصورة، كما يهتم بواقع الرسالة وطبيعة إدراكها من قبل المتلقي[25]، لينطلق بودريار في تحليله أن الرمز يكتفي بذاته، لذلك يختفي الواقع أو يكون الرمز هو في حد ذاته الواقع، نتيجة لانعدام العلاقة بين الرمز والمرموز إليه، ليبقى فقط الرمز المرتكز ويظهر هذا المؤشر في (اللغة… الصورة) فيصبح رمز المرجعية الأصلية الذي كان الواقع يحتويها، ومنه صار الواقع هو الرمز الذي اكتفى بذاته، فهذا التفسير يسقط على مقولته المشهورة «المصطنع ليس إطلاقًا هو ما يخفي الواقع، بل إن الواقع هو الذي يخفي عدم وجود واقع المصطنع الحقيقي»[26] ، يبدو أن مفهوم فوق الواقع تتحدد طبيعته من خلال القناعة الزائفة الغالبية للفئات الاجتماعية ويشير في ذلك بقوله «الحرب هي السلام» كما طرحها أورويل في روايته 1984 بمعنى توافق التضاد تتضمن إقناعًا من جانب الكثير وهو وضع مأسوي لتمييز حقيقة الواقع ونتائجه لما تفعله القوة الخارقة للإعلام. بتقدير أكثر وضوحًا، فإن الواقع يذوب ويصبح متلاشيًا في الإعلام، والمثال الذي قدمه بودريار في حرب الخليج الثانية التي أشرنا إليها سابقًا أنها لم تقع حسب تعبيره، وإنما تبدو أنها حرب إلكترونية هدفها زرع الرعب لدى الآخر والتأثير بغض النظر عن حجم الخسائر. تلكم ميزة ما بعد الحداثة يكمن فيها التعدد الرمزي والاختلاف المشهدي والسفر نحو الافتراضي.

في كل هذا لم يطرح بودريار مسألة أثر كل ذلك في المجتمعات، وبخاصة النامية منها وكيفية استغلالها بواسطة الميديا، كون الافتراضي حاول أن يزيح الواقع ومشهديته ويفرض سبلًا اصطناعية لما تسمى «فوق الواقع» ثم ما مدى أثر العالم الرقمي في البيئة؟ وفي تركيزه على البناء الوهمي والعيش في الخيال، وأن الاتصال هو كل شيء للمجتمعات الحديثة كما لم يركز على الأشخاص والمسؤولين عن هذه الميــديا ومن يتحكم في هذه الأجهزة وإدارتها، وكذا من يتحمل المسؤولية وطبيعة أيديولوجيتها؟ إلى جانب فلسفة أخرى، ما مدى انفصال هذا الفهم عن البعد الماركسي الذي سيج الجهاز بطرحه للاغتراب الإنساني وأثر التشيؤ والمسائل اللامادية وسلعنة الأفكار. ترى هل يراوغ بودريار حقيقة الاستلاب بمفهومه المتحول العصري خلافًا لطبيعة المفهوم الماركسي[27]، أم أن هذا مجرد استخدام للتلوين اللغوي يتشكل بموازاة اختلاف الواقع الذي يعتقد جاك دريدا فيه «أن النبرة في الغالب عبارة عن التحام جسدي مع اللغة بعامة، فهي تحيل إلى ما هو أبعد من التنبير في حد ذاته… إنني أجد في اللغة ملاذي الأخير…»[28]. في هذه الحالة يسعى بودريار إلى توسيع قيمة المعنى ويحتفظ بالبناء إزاء المفهوم الماركسي، وعلى الرغم من أن تمدد الرمز قد يتعسف في إفراط الواقع، فإن بودريار يشترك مع ما ذهبت إليه الماركسية في نقدها للرأسمالية، إذ يكشف عن احتواء الدلالة السوسرية وتأثرها بنسقها الرمزي، فيما كان ملمحًا كبيرًا لفكر رولان بارت وما تناولته الدراسات اللغوية والاجتماعية والثقافية[29].

والسؤال الذي تكرر في سياقات متعددة، هو كيف يمنح الناس المعنى للأشياء التى لا صوت لها؟ وحقيقة أنه سؤال يصب في عمق السيميولوجيا الاجتماعية بغية البحث عن أنساق تتشكل من العلامات حمولتها التزاوج والتعارض بما يكتنفه المجتمع من فضاءات رمزية تفصح عما تملكه من معاني دالة. هذه المؤشرات تؤهل الباحث السيميولوجي بأن يركز على زاوية التحليل لما هو موجود من الأنسجة الرئيسية والناشئة في النص الاجتماعي حتى يبرز مطبخ المعنى. كذلك يرصد السوسيولوجي هنا قيمة الرمز إزاء الظاهرة الاجتماعية، فالعلامة كما يؤكدها محسن بوعزيزي أنها ليست منفردة أو ساكنة، بل هي تتساوق بين البيئات الاجتماعية، وهي كما وصفها نتاج فعل تمفصلي للزمن وسياق للمواقف المتباينة وامتداد لدور اجتماعي، تتمدد في الفضاء العمومي نتيجة لمدى فاعلية الفعل الاجتماعي والثقافي. وللإشارة فإن السيميولوجيا المعنية في محور الصورة وقراءتها، هي التي تفوق حدود اللغة لتتوافق مع الظواهر، أي هناك سيميولوجيا فوق اللسانيات، رغم صعوبتها بمكان على حد تعبير سوسير، وهي شاكلة من شاكلات الكشف عن البنية النصية، التي تؤكد حالة الارتباط بين السيميولوجيا والسوسيولوجيا، توظف التحولات الطبيعية من النسق المغلق والمتجدد في ذاته، إلى راهن التجاوز الأفقي نحو النسق المفتوح بحثًا عن عقدة الربط التي تجعل من بنية الظاهرة الاجتماعية تتماهى مع سياقات إنتاجها[30].

بهذا الوصف اهتم بورديو بالعلامة وعدَّها ميزة أساسية في المعترك الاجتماعي، تبرز من خلالها صفة التبادل بين الأفراد والمؤسسات وكذا بين الفئات والطبقات المختلفة، كما يعرض على لسانه أن العلامة في معرض تبادلها اجتماعيًا تأخذ شكل «شبح».

ويكتسي هذا المفهوم عامة نموذج النهايات المرتقبة المقموعة الجذور والأسس الاجتماعية، حيث تتباين من ظاهرها عمق الفوارق بين الحقيقة والزيف، إذ ينبذ في معرضها الواقعية الفاقدة لروح الرهان، الذي اقتلعت مظانّه، حيث يصف هذا الشبح الذي يظهر باختلاف أشكاله في هيئة جهاز مفاهيمي يكرس الزيف والتحريف للمعنى تصبح حينها حياة فاقدة لطعم الأشياء، وفضاءً اجتماعيًا فاقًدا لعمق الفهم، لتبقى سمة التضليل متموقعة في سبيل خدمة المجالات الاستعراضية للقوى المنتجة ورمز الهيمنة المالية[31]. كما تبقى ظلالها تتمركز فوق الواقع لإزالة الحقيقة بغية تفكيك الروابط التي تجمع بين المفهوم وواقعه، وذلك بتحول جغرافية التصنيع والمشهديات وإزاحة التقليدية وبناء علامات الإفراط في النماذج الواقعية. يستند بودريار في ذلك إلى المفهوم السويسري وركائزه في المكون العلاماتي، كما يقترب من أثر الاتصال في بناء عمليات العلاقات والتشكيل الرمزي الاجتماعي وإبعاد وسيلة. وهو ما يعكس رأي ماكلوهان في هذا الاتجاه، وهي مسألة في غاية الأهمية، أين يقع إزاحة الواقعية وتغييب مشهدها. كما حدث مع البرجين عند إزالة المعمارية والهندسة التكنولوجية التي قهرت العالم بوهم المعجزات[32]. لذلك نحن نعيش هوة بين الواقعية الحقيقية وبين ما تعنيه تلك الرمزية، إذ تشير إلى حلقة مفقودة شكلت حالة غير طبيعية للحياة غير منتهية الأبعاد منزعها المادية، مسح بذلك الواقع من الرؤية وعوّض بصورة مشابهة «فوق الواقعية» دكت العقول لرهان غير طبيعي.

خامسًا: الواقعية المفرطة والتحيز الإعلامي

رغم التنوع الفكري لبودريار وما يحمله من تميز، فإنه يعيب عليه أنه منح للخيال بعدًا كبيرًا في تشكيل واقعية متطابقة مع صيرورة البيئة الاجتماعية بواسطة الميــديا، وهو ما كان للأيديولوجيا أيضًا إنتاج وعي متعالٍ يهيمن عليه الاصطناع المبني على الأجهزة الإعلامية لتوحيد الرؤية الثقافية للمجتمعات، رغم ما يشهده العالم من تضادٍّ وتعددٍ في الأفكار والرؤى في هذه المسألة. فقد نجد أن الرقمنة أدّت دورًا مهمًا في قلب المفاهيم من أن يجعل حرب الخليج حربًا إعلامية لا حربًا ميدانية بواسطتها، فنشأ نوع من التضليل للرأي العام وأصبح الغموض مهيمنًا على الواقع المتصارع الذي أكد وجوب بروز التناقضات والاختلالات، فأصبح فيها ما يشكل مدارات لما فوق الواقعية خلافًا للواقع الاجتماعي الذي يندر فيه الصراع ويتسم بالوضوح وعدم الحجب عن الأنظار، في حين أن الواقعية المفرطة تأخذ بعدًا نزاعيًا في واقع مضطرب[33].

بهذه الصيغة يستقي بودريار نصًا من كتابات ماركس ليعكس هذا التوجه الذي يؤكد أن الواقع المزدوج مفاده أن يكون هناك تفريق بين المسائل المادية القاضية بشروط الإنتاج وعلاقاته تحدد المسار المنهجي للعلوم الطبيعية كما يذكر ماركس، أي ما يدور في محور الأفكار التي تعكس مدى الاختلاف والنزاع الذي يتطلب من كل مناضل إعطاء حلول بأسلوب متباين وفق إحداثيات قوة الإنتاج وعلاقتها الاجتماعية التي تعكس صورة الوعي المستمد من جوهر الواقع المادي[34].

هذا الموضوع الخاص بالنزاع لا يمكن أن يجد حلًا في ضوء العلوم الدقيقة، ولا يمكن التحكم فيه بدقة في ظل البحوث العلمية والإنسانية نظرًا إلى تشّكله بصورة الوعي وطابعه الفكري، وهو ما نحا إلى موضوع نزاعي، وبالتالي لا يظهر ما دامت العلوم لا تتحكم فيه؛ أي أنه يسلك طريقة الحجب سواء بواسطة الطريقة التقليدية أو المعرفة أو حتى بوسائل الإعلام والاتصال الحديثة، والسبب في ذلك أنه موضوع نزاع ونضال مستمرّين بين أفراد المجتمع، ويظهر ذلك في العلاقات العالمية كصراع دائم. بذلك تكون هذه المظاهر محل نزاع على الرأسمال الرمزي أو المادي، وبالتالي في معرض غموض بين الحجب والإخفاء. في هذا فإن النظام العالمي يخفي الكثير نتيجة الصراع الواقعي في المجتمع بحيث يخلق أزمة، نظرًا إلى إخفاء الحقائق بواسطة شتى الأمور وبخاصة بوسائل الإعلام.

باختصار، إن الواقع الذي يتسم بالنزاع الجاد والصراعات وما يشكل نضالًا دائمًا قد يكون موضوعه غامضًا أو حدثًا لا يظهر عن حقيقة كدقة العلمية يمكن أن يكون في نظر الآخر مجهولًا أو يكون موضوعه معرضًا للحجب والإخفاء بأي وسيلة كانت تقليدية أو تقنية حديثة[35]، وبخاصة أن لغة العالم الجديدة لها دور في العملية الاقتصادية والأخلاقية وتنزع نواة حقوق السيادة للدولة الحديثة، وتنفتح لتقع في قبضة المسؤولية الشاملة[36]. وتبقى الأيديولوجيا فعلًا سحريًا يخلقه الفاعلون الاجتماعيون عبر آليات الميــديا التي تعدّ وسيلة فاقدة لذاتيتها. ويوضح بيار بورديو في السياق نفسه، أنه إذا كان من الممكن عدّ العلم محايدًا فإن استخدامات العلم وتطبيقاته ليست محايدة، وخصوصًا في ما يتعلق بتكنولوجيا الاتصال والمعلومات، حيث إن توظيف المضمون الأيديولوجي لهذه التكنولوجيا يجد أوضح مثالٍ له في الدور الذي يؤديه التلفزيون، وكذا مجالات الإنتاج الثقافي الأخرى، وهو الأمر الأخطر في نظره[37] إذ يتم حجب الواقع بواسطة هذه الأيديولوجيا، وذلك بغرس فكر مختلف عنه أو متنازع عليه من جانب حركة الأفراد الذين يبثون خلافاتهم الأيديولوجية عبر هذه الوسائط الإعلامية بصفة محكمة، حسب تعبير هربرت شيلّر. ويطرح بودريار من جهته صفة المبادرة الإعلامية أنها رغم تحولاتها السيبرانية إلا أنها تنتج معنى مغايرًا من تلقاء ذاتها، في حين أن إدارة هذه الوسائل تتبرأ من هذه الأطروحات الإعلامية بمعنى أن بودريار يبرئ الليبرالية المتوحشة من عدوانها كما في حرب الخليج، والأمثلة كثيرة في هذا المقام.

وينكشف عبر ذلك أن مفهومًا لما فوق الواقعية هو من إنتاج الأيديولوجيين وليس من الإعلام خالصًا، فليس هناك إعلام مستقل. وما كل هذه الخروق الإعلامية تعبر فقط عن تقسيم العمل، وضبط المهنية وهي رموز غير عادلة في حقيقتها[38]. وما يستنتج من هذه المواقف لبودريار أن الإعلام ليس مؤسسة مستقلة أو حيادية إنما فعله من فعل المسيّرين من وراء الستار مثلما تقوم به المؤسسات الكبرى العابرة للقارات التي تختزل سوقها في رهان السلاح وإنتاج النفط والترويج الإعلامي. باختصار، إن من يملك وسائل الإنتاج المادية سيتحكم في دور الإنتاج الفكري لهذه الوسائل وعلاقاتها وما يترتب عنها من الهيمنة الطبقية السائدة عبر التاريخ، وهو ما يتطابق مع المفهوم الماركسي لمقولته المشهورة «الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي». وبدءاً من ذلك فإن مفهوم بودريار «لما فوق الواقع» خلقته هذه الشركات الفاعلة في هذا الحقل التجاري مع التميز لوسائل الإعلام بكثافة تقنيتها في ردم المسافة بين الحقيقة والخيال[39].

خاتمة

يبدو من وجهة نظر بودريار أن عنف العالم كرّس حالة حركية معاكسة، أجبرت على تحرر بعض القوى، ناتجة من رفاهية سطحية متعدية ومتعددة الصور والثقافات. فهو ينزع بفكره نحو التجاوز أو عدم الوقوف على الأطلال، لأن التكنولوجيا الحديثة فرضت تغيرًا جذريًا يتواكب مع التطور الاجتماعي ومتطلبات الحياة. لذلك يرى بودريار أنه ليس هناك ممارسات فنية ثقافية منطوية على ذاتها أو تشكل انعزالًا مطلقًا للفلسفة الاجتماعية. فقد ساهم بودريار في البعد التفكيكي واستطاع أن يواكب التفاعل ما بعد الحداثي وأن ينزع غموضًا بتأويلات بارزة وأساسية للعلامة والكشف عن تجاوزها الإطار المركزي حيث يتكون الواقع غير الحقيقي من تضاعف التشبيهات التي تعمل بطريقة آلية لتوليد الصورة المجازية الفائقة والبالغة التجاوز، والتي لها سلطة تعيد المشهد بعد حقبة زمنية في ضوء حرارة رموز الحدث. فالمتأمل للصورة التي تحدد أبعاد واقعنا، يرى أن عمق الصور يتوقف على مدى قلب الحقائق الواقعية أو مدى قيمة صدقها ورصد الحقيقة، لكن الإعلام له أيديولوجيته، يخطط بأن يخدم وجهات نظر معينة تملك أسلوب التأثير والإقناع، فتسعى في ذلك قوة الإعلام الى حجب المعلومات المضادة لهذه الأيديولوجيا. وما يزيد الوثوق في هذه الصورة وأثرها العام هو أنها تؤخذ من المجالات الاجتماعية والثقافية. فهنا يكون توجه الصورة ليس منفردًا أو منعزلًا عن سياق ماجريات الوقائع التي يؤلفها تفاعل المجتمع، وبالتالي قطعًا إن المعالجة الإعلامية ليست حيادية عن المشهد، إذ تقوم بطبع أثرها على تكوينات الأفراد والجماعات، وعند فصل الرمز عن مرموزه، يكشف عن اختفاء الواقع الحقيقي بعدما يكون هذا الرمز قد اكتفى ذاتيًا. فهيمنة الصورة على العقل تبدأ بمؤشر إعلان الخبر إلا أنها لم تصبح حاملة له كحدث، بل صانعة لفعل جديد. لذلك فإن بودريار ينتقد هذه الزاوية ويكشف عن زيف أمانة الميــديا كوسيط، وهي التي تتكون من بنية شديدة القدرة على الزيف الذي يقدر تفسيراتها إلى الحد الذي يتبدد المعنى فيها نتيجة تراكم الوقائع وتعدد مضامينها، فيصبح ميدان الإعلام، على حد تعبيره، بؤرة ابتلاع منحى القصد وخلق معنى بديل مركب.