توطئة

دفعنا إلى ترجمة هذا المقال رغم قِصره عدّة أسباب يمكن أن نُجْمِلها في النقاط التالية:

1- الثراء الكبير الذي ينطوي عليه هذا المقال.

2- أنه يضع الإصبعَ على مكمن الدَّاء ويقدّم الحلول اللاَّزمة لعلاج أدوائنا العُضال.

3- يَسْكُن الهمُّ الفكري الثقافي كلّ المثقفين الحقيقيين فأن يشترك الجابري مع محمد أركون في نفس الاهتمامات وعين المشاغل، رغم اضطرابهما في بيئتيْن مختلفتيْن يوحي لنا بأكثر من فكرة تُجْمِلها قولة أحمد شوقي: “كلنا في الهمِّ شرْقُ”:

نصحتُ ونحن مختلفون دارًا                                ولكنْ كلُّنا في الهمِّ شرقُ

ويجمعنا إذا اختلفتْ بـــــلادُ                                   بيانٌ غيرُ مختلفٍ ونطـقُ

فكل شيء يجمعنا بما في ذلك الهموم والمشاكل لكنَّ السياسةَ تأبى إلاَّ أن تفرِّقنا وتعمل على تجزئتنا حتى يذهب ريحُنا ولا تكون لنا شَوْكةٌ، لأنَّ الذئب إنَّما يأكل من الغنم القاصية.

4/ يهيْمن على العرب المشهدُ السياسيُّ ويُطْبِقُ عليهم أنفاسهم الأمر الذي سبَّبَ في تخلُّفهم وارتكاسهم وتراجعهم في حين تقدّمت شعوبُ الأرضِ قاطبةً. ويرى الجابري جازِمًا أنّ الاحتكام إلى الديمقراطية هو السبيلُ الأمثلُ للخلاص والانعتاق من أزمتنا التي طال أمدُها وأصبحت داءً عضالًا ومرضًا فتَّاكًا يصعبُ برْؤه. وهو يستند إلى التّاريخ القديم يمْتَحُ منه الدروسَ ويستقي منه العِبَرَ، فأوْقفه على أنّ أزمتنا بدأت ولمَّا يمضِ على نشْأة الدولة الإسلامية أكثرُ من عقود أربعةٍ. فقد وقع الانقلابُ على النظام الشوري الذي ساد طيلة هذه الحقبة الزمنية القصيرة. ثمّ جاء بنو أميَّة بطريقة بعيدة من السياسة الحقّ والأخلاق الإسلامية السمحة فاستطاعوا أنْ ينقلِبوا على المشروع الإسلاميِّ الواعد الذي رسمه القرآنُ ووضعتْ أسسَه السنّةُ النبويةُ ولم يحِدْ عنه الخلفاءُ الرَّاشدون.

ويُنْحِي عابدُ الجابري باللائمة على المثقفين الذين تخلَّوْا عن أدْوارهم الرّيادية وهم النّخبةُ والقاطرةُ التي تجرُّ جميع العربات، مما سبّب في مشكلة أخرى تتمثّل في غياب المثقَّف العضوي بين ظهرانينا. وانقسم المثقّفون عندنا إلى قسمين يؤوبان في الحصيلة إلى النتيجة السيئة نفسها:

– القسم الأول يسير في ركاب السلطة الغاشمة الظالمة المستبدَّة ويعيش على الفتات الذي تلقي به إليه، لأنه فضّل السلامة وآثر الحياةَ الدّنيا ونَعيمَها على الآخرةِ فباء بالخسران المبين.

– القسم الثاني عارضَ الحكمَ الفاسدَ فسامتْه السُّلْطةُ الغاشمةُ شتّى أنواع الابتلاء والتنكيل فانكفأ على نفسه يجترُّ أفكارَهُ بعد أنْ عدِمَ النصيرَ من أبناء شعبه الذين رام تفتيح عيونهم على الواقع دون زيفٍ، فبقِي في الميدان وحيدًا يستشعرُ الغُرْبةَ وأُفْرِدَ إفرادَ البعير المعبَّد على حدِّ ملفوظِ طرفة بن العبد في معلّقته:

إلى أنْ تحامتني العشيرةُ كلُّها                           وأُفْرِدْتُ إفرادَ البعيرِ المعبّدِ

وقد اختار الجابري من التاريخ الإسلاميِّ عَلَميْن بارزينِ من أعلام الفكر والثقافةِ وقفا وَقْفة شجاعةً في وجه سلْطانٍ جائر فذاقا الأمرَّيْن ولكنهما ظلاَّ وفييْن لمبادئهما وكسبا احترام الجميع وأَكْبروا فيهما شجاعتيْهما، فتركا في التاريخ بصمات لا تمَّحي هذان العلمان هما أحمد بن حنبل (ت 855 م) وأبو الوليد بن رشد (ت 1198م).

إنَّ الطريف في فكر الجابري، رغم تشبُّعه بالفكر الغربي، أنه بقي متجذِّرًا في أصالته مؤمنًا بالطاقات التي يزخر بها تراثُه، لذلك لمْ يعْمدْ مثل غيره من المثقّفين المنبتِّين المنبهرين بالثقافة الغربية إلى البحث عن الحلول الجاهزة السّهلة لأدوائنا خاصة فيما يتعلّقُ بمجال الديمقراطية. فقدْ آمن أنّ القرآن والسنّة النبوية والفكرَ الفلسفيَّ الحُرَّ في الثقافةِ الإسلاميةِ خاصَّةً في الجُزْءِ الغربي من الوطن الإسلاميِّ يعُجُّ بالحلول، وأنَّ الديمقراطية بلبُوسها الإسلاميِّ تبُزُّ الديمقراطية المفروضةَ المسقَطَةَ المستوردة من الفكر الغربيّ والتي تحمل بلا أدْنى شكٍّ السَّمْتَ الغربي ليس أقلَّه تلبُّسها بالعَلْمانيةِ وامتزاجها بالتوجُّهِ الليبرالي المتوحِّشِ. ففي المبدأِ القرآنيِّ للشورى والاستشارة ما يكفينا لو تمكّنَّا من أنْ نسْقِطهما على واقعنا المعاصر. والمثقّفون وحدهم هم مَنْ يُوكَلُ إليهم القيامُ بدورٍ فعَّالٍ للمواءمة بين متطلِّبات العالم المعاصر والتقاليد العربية الإسلاميةِ، شريطة أنْ ينْأوْا بأنفُسهم عن السير في ركاب السلطة المستبدّة والحكم العضوض. إنّه يطلُبُ منهم تحديدًا أن يكون البُعْدُ العقلانيُّ العلميُّ الذي ميَّز فلسفة أسلافهم ابن رشد وابن حزم وابن باجَّة قديمًا ديدنَهمْ وهدفَهم الأسمى حتى يُكْتَبَ لهم النّجاحُ في أداء رسالتهم على أكْملِ وجْهٍ.

وإذا كان الغربُ – وإن أنكر ذلك – مدينًا في نهضته إلى ابن رشد ونظرته العقلية الثاقبة فإن الأوْلى أن نولِّي وجوهنا شطْرَ فلسفته العقليةِ لأنه حسب الجابري أملُنا الوحيدُ لبناء مستقبل الدّول العربيةِ وإعادة تشكيل نهضتها بتأسيس “رشدية جديدة”.

لهذه الأسباب ولغيرها عمدْنا إلى ترجمة هذا المقال القصير في حجمه العميق في جوهره ومضمونه لأنه يضع الإصبع على مكمن الدّاء ويلخِّص بأمانة جُماع فلسفة محمد عابد الجابري كما عرضها في مشروعه الذي اختار له عنوانًا لافتًا “نقد العقل العربي”. ألا هل بلَّغْتُ اللهم فاشهدْ!

النّصّ المترجم

محمد عابد الجابري([1]) المتوفَّى حديثًا([2]) (1935 – 2010) الفيلسوف المغربي الذي طبقت شهرتُه الآفاق هو مؤلِّف العديد من الكتب الفلسفية والتاريخية الفلسفية ذات القيمة الكبرى. ولكن للأسف لم يتِمَّ ترجمة سوى القليلِ منها إلى اللغة الإنجليزية. كان الهدف الأسمى لهذا الفيلسوف الذي درَّس سنوات عديدةً في جامعة محمد الخامس بالرّباط مثل غيره من المؤلِّفين المذكورين في هذا المقال ([3]) إيجادَ تناغمٍ بين التراث والحداثة في العالم الإسلامي المعاصر والفلسفة. وحَسبَ الجابري، كان التضاربُ الذي بَدَا أنه أعان المسلمين وقبل ذلك جميعَ العربِ على التّوفيق بشكل منسجِمٍ (متناغم) بين الأحداث المعاصرة وبين الإرْثِ الإسلامي التقليديِّ الذي سُمِّيَ “التراث” وظهر فعْلاً في العصور الوسطى، هذه الأزمةُ في بُعْدها السياسي وليدةُ قرونٍ عديدةٍ من هيمنة السلطة التي مثَّلها الخلفاءُ والسلاطينُ [الذين أعقبوا الخلافة الرَّاشدة]”ملوكُ المدينةِ البشريةِ”([4]) منذ السلالة الأموية التي استندت إلى [العقيدة الجبرية] نِشْدانًا لشرعية حكمها، فهم [يُمثِّلون] ظلَّ الله على الأرض، مما كرَّس سلطتهم الاستبدادية القمعية.

وقد تفاقم الوضعُ لاحقًا (ازداد هذا الوضع لاحقا سوءًا) بدخول الاستعمار الغربي والديكتاتوريات([5]) التي حَكَمَتْ خلال القرن العشرين ممَّا أدَّى إلى الجمود السياسي وتخلُّف المجتمعات العربية الإسلامية.

ولا سبيل إلى الخروج من هذا المأزق – حسب الجابري – إلا بانتهاج الديمقراطية سبيلاً للحكم. وقدْ حدَّد المؤلِّفُ مبادئها الأساسيةَ من القرآن ذاته ومن حديث الرسول r وأحكامه وأفعاله. وبمزيد التفصيل، فإن السبيل السويَّ للديمقراطية في العالم الإسلاميِّ الذي يبُزُّ الديمقراطية المستوردةَ أو المفروضة بمواصفاتها الغربية البيِّنة، يجبُ أنْ تتأسَّسَ تحديدًا في المبدإ القرآني للشورى أو الاستشارة الذي يقدِّمُ للمسلمين كيفية امتلاكِ ناصية الديمقراطية بالرجوع إلى تراثهم الثقافيِّ وتقاليدهم الدينيةِ.

إنَّ الأمرَ، في نظر الفيلسوف المغربي، موكولٌ تحديدًا للمثقَّفين العربِ حتَّى يضطلعوا بدور فعَّالٍ للمواءمةِ بين العالم الحديث والتقاليد الإسلاميةِ. لقدْ توجّه إليهم الجابري في كثير من أعماله، وخاصة في كتابٍ أصْدره سنة 1995 ([6]) درس فيه حالتين من الاضطهاد الفكريِّ حدثتَا في القرنين التاسع والثاني عشر للميلاد اِمْتُحِن في الأولى الإمامُ البارزُ ابنُ حنبل ونُكِبَ في الثانية ابنُ رُشْدٍ الذي حضَّ معاصريه من المثقَّفين على اتِّخاذِ موقفٍ مُشرِّفٍ (نيِّر، تقدميٍّ) وتوَسَّل إليهم أنْ لا يقتدوا بالنماذج التي تتواطأُ مع السلطة وعدَّ ذلك خطيئةً طالما اجْتُرِحتْ في عالم الفكر العربي الإسلامي في القرون الخاليةِ.

ويعتقدُ الجابريُّ [جازمًا] من منظورٍ علميٍّ فلسفيٍّ أنَّ المشاكلَ الحاليةَ التي تُعانيها المدرسةُ الفكريةُ العربيةُ الإسلاميةُ في إقامة علاقةٍ متناغمةٍ متوازنةٍ مع ما يتطلَّبُه العالَمُ المعاصرُ (الحديث) تعودُ إلى التغييبِ التدْريجيِّ للبُعْد العقلانيِّ العلميِّ الذي شكَّلَ مصدرَ إلهامٍ لفلاسفةٍ [أفذاذٍ] مثل أبن رُشد ([7]) وابن حزمٍ ([8]) وابن باجّة ([9]) الذين يرى الجابري [معهم] أن الدين الإسلاميَّ ينتشر بشكل أسْلسَ.

لم ينجحْ أنصارُ المذهب العقليِّ والمنهجيةِ الفلسفيةِ العلميةِ الذين مثَّلهم هؤلاء المفكِّرون الأندلسيون الثلاثةُ المدافعون عن استقلالية العلم عن الدين والمتكلِّمون المقتنعون باستحالة تطبيق الوسائلِ المعرفيةِ البشرية على [الله] المتعالي، لم ينجحوا في السيطرة على التوجُّه نحو الغنوصيةِ ([10]) واللاعقلانيةِ الروحانية للفلسفة الإسلاميةِ التي تطوَّرتْ في الشَّرْق.

وحسب رأي الجابري، أدَّى انتصارُ هذه الفلسفة الإسلاميةِ اللاعقلانيةِ على مرِّ العصور إلى الظلامية اللاّعقلانية التي استغلَّتِها السلطةُ والسياسة الظالمة لصالحها مما أفضى إلى تشويه الرسائلِ الأصيلة للدين الإسلاميِّ [الحنيفِ] وحرم من تفسير الإسلام التفسيرَ المنهجيَّ الصارمَ.

وليس من قبيل الصُّدْفة أنْ رأى الجابري في ابن رشد أملًا لمستقبل الدّول العربية التي لنْ تنهضَ من جديد تحديدًا، إلاَّ بتأسيس الرّشدية الجديدة([11]).

إن الجابري في نهاية المطاف، هو صاحب المشروع الواسع الذي أطلق عليه عنوان “نقد العقل العربي” وقد ظهر أول كتبه في هذا المشروع متزامنا مع محاولة محمد أركون ([12]) الإصلاحي المسلم الآخر وهو من جذور جزائرية وقد توفي مؤخَّرًا ([13]) وقد وسمها بـ”نقد الفكر الإسلامي”. وينقسم مشروع الجابري إلى أربعة كتب [أساسية]:

  • تكوين العقل العربي 1984.
  • بنية العقل العربي 1986.
  • العقل السياسي العربي 1990.
  • العقل الأخلاقي العربي 2001.

ومثِّل هذا العملُ الذي أنْجَزَهُ الجابريُّ إحدى أكثر المحاولات [الجادَّة] اكْتمالاً في البحث المعرفيِّ الذي شهده التطوُّرُ التاريخيُّ النّظري للفلسفة العربية الإسلامية في مُخْتَلَف مفاصلها المنهجية واللاهوتية والسياسية والأخلاقية… إلخ. وتُرْجم الكتاب الأول إلى الإيطالية عن طريق فلترينللي FELTRINELLI، سنة 1996 La Resone Arabia

وحملتْ المجموعةُ (= المشروع) عنوان “نقد العقل العربي” وقد نشرتْ مجموعةُ نصوص الجابري في فرنسا تحمل عنوان:

Introduction à la critique de la raison Arabe

مقدِّمةٌ في نقد العقل العربي ” عن دار La Decouverte “الاكتشاف ” سنة 1995

وقد تُرْجِم له إلى اللّغة الإنكليزية كتب: “الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون في الفكر الإسلامي” و”تكوين العقل العربي: النّصّ والتراث وبناء الحداثة في العالم العربي وصدرت عن دار ج. ب. توريس وشريكه تباعًا 2008 -2010.

يُرْجى الرُّجوعُ إلى مقال فريد ألماير: فتح أبواب الاجتهاد 2011 ([14])

كتب ذات صلة:

تكوين العقل العربي

بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية

العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته

العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية