مقدمة

خرجت الدولة الوطنية «الحديثة» في أفريقيا من رحم الاستعمار الأوروبي الذي بدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر بالتكالب «المؤسسي» على القارة الأفريقية عقب مؤتمر برلين (1884 – 1885) وما ترتب عليه من تكوين دول وطنية كبيرة متعددة الإثنيات. وكانت نتائج هذا التحرك الاندماجي على شعوب القارة شديدة الوطأة حيث عانت مجموعات، أو ما اصطلح عليه أحياناً بجنسيات إثنية، مواجهة عمليات الدمج مع غيرها في هوية سياسية موحدة، وهي «الدولة الوطنية»، إضافة إلى حالات تفرق الإثنيات المتجانسة على عدة دول كما كانت حال الشعب الصومالي. ولم تحظ هذه العملية المعقدة بالتقدير الكافي، وبخاصة من جهة أثرها في الحقائق الاجتماعية المعقدة على الأرض وكذا في العلاقات الاجتماعية – السياسية والاقتصادية القائمة وبين المجموعات الإثنية المختلفة‏[1]، وإشكاليات المخرج النهائي لها في شكل الدولة الوطنية.

وهكذا فقد خلف الواقع الاستعماري وراءه رقعاً متداخلة «إثنياً» من الدول التي تعاهدت لاحقاً على المحافظة على حدودها، وقد مثلت مشكلة الصراع في القرن الأفريقي بوجه خاص ومستدام تحدياً تاريخياً لهذه الحلول المفروضة استعمارياً، وفي قلبها فكرة أن الاستقرار هو المبدأ الأساسي للنظام ما بعد الاستعماري وقوامه «ما من بقايا حق في تقرير المصير تبقى عند أية فئة وجدت داخل الدول بعد مرحلة الاستعمار أو قطعتها حدود هذه الدولة»؛ وأن عملية تقرير المصير – حسب المنظّر البارز حينذاك روبرت إيمرسون – لم تكن «عملية مستمرة بل كانت له وظيفة فحسب: منح الاستقلال لمن هم تحت حكم الاستعمار»‏[2].

وكان الصومال النموذج الأكثر إثارة لمشكلات الإثنيات العابرة للحدود الاستعمارية، ومأزق بناء الدولة الوطنية، والتدخلات الإقليمية والدولية التي لم تتوقف منذ استقلاله في عام 1960 وقادت إلى مرور الدولة بمراحل الفشل والسقوط والحرب الأهلية وفشل مساعي إعادة البناء واستمرار التهميش الإقليمي والدولي؛ وصولاً إلى مرحلة الرئيس الحالي محمد عبد الله محمد فرماجو التي تشهد جهوداً حقيقية لتعزيز الدولة الوطنية في الصومال ومواصلة المضيّ قدماً في هذا المسار بالرغم من استمرار تحديات كبيرة أمام هذه العملية.

أولاً: بناء الدولة الوطنية الصومالية: صيرورة كولونيالية؟

قادت مرحلة الاستعمار إلى تكوين المستعمرات في أفريقيا عندما كانت القوى الأوروبية تستولي على الأراضي الأفريقية وتحطم السيادة الوطنية عليها. ويمكن القول إن مؤتمر برلين كان نقطة البدء المؤثرة في هذا السياق وبدء ما عرف بالتكالب الأوروبي على أفريقيا، ووضع خرائط الدول الوطنية فيها، بعد أن كانت الهيمنة الأوروبية توصف بـ «نطاقات النفوذ» (Spheres of Influence) مثل المستوطنات البريطانية في ساحل الذهب (1850) ولاغوس (1861) التي لم تأخذ شكلها النهائي كدول مستعمرة إلا بعد بدء عام 1885‏[3].

وبدأت هذه التحركات الاستعمارية في الصومال بصورة محددة في آب/أغسطس 1892 عندما استأجر الإيطاليون في المنطقة من سلطان زنجبار موانئ بنادر على الساحل الصومالي الجنوبي لمدة خمسين عاماً قامت على إدارتها شركتا فينسنزو فيلوناردي (Vincenzo Filonardi) (أول إداري إيطالي في البنادر). كان أول بند أصدره الإيطاليون في الصومال بخصوص الهيمنة على أراضي الصومال كأراضٍ عامة مملوكة للدولة المادة الأولى من التنظيمات المؤقتة (Provisional Regulations) التي أصدرها فيلوناردي في عام 1895 والتي تنص على أن «جميع الأراضي غير المأهولة التي لا تخص أي مالك بصورة قانونية تخص الحكومة الإيطالية الملكية». وهي المادة التي نسيت، أو على الأقل تم تجاهلها، من جانب المسؤولين الإيطاليين المعنيين بملكية الأراضي في الصومال خلال توسعاتهم. وأعيد إصدار هذه المادة بتعديل طفيف في عام 1911 من خلال مرسوم ملكي إيطالي‏[4].

وفي كانون الثاني/يناير 1905 تنازلت سلطنة زنجبار عن سيادتها على موانئ بنادر لإيطاليا مقابل مبلغ 133 ألف جنيه استرليني، وفي عام 1907 قام الإمبراطور منليك ملك الحبشة بمنح إيطاليا الأراضي الداخلية في منطقة بنادر بموجب اتفاق صيغ لاحقاً في 16 كانون الثاني/يناير 1908، ثم تنازلت إنكلترا لإيطاليا في عام 1924 عن منطقة الجوبا بما فيها قسمايو (وكانت جزءاً من كينيا الحالية)؛ وبذلك تم لإيطاليا الاستيلاء على إقليم الصومال فيما عدا منطقة الأوغادين التي استولت عليها عقب نجاح هجومها على الحبشة بقيادة الجنرال جرازياني في عام 1935، وخلال الحرب العالمية الثانية قامت القوات البريطانية في كانون الثاني/يناير 1941 بدخول «الصومال الإيطالي» من طريق قسمايو وتم خلال تلك السنة احتلال الإقليم كله. وقامت بريطانيا بعقد اتفاقية مع إثيوبيا في 31 كانون الثاني/يناير 1942 وضعت بمقتضاها منطقة الأوغادين تحت الإدارة العسكرية البريطانية التي سلمتها فيما بعد إلى الحكومة الإثيوبية بموجب اتفاق صدِّق عليه في 19 كانون الأول/ديسمبر 1944. وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1949 قراراً أوصت فيه بوضع «إقليم الصومال» تحت الإدارة الإيطالية لمدة عشرة أعوام تبدأ من تاريخ إقرار الجمعية لاتفاقية الوصاية في 2 كانون الأول/ديسمبر 1950 يستكمل في نهايتها سيادته واستقلاله‏[5].

سعت بريطانيا – مما جسد تضارب المصالح الاستعمارية وأثرها في تكوين الدولة الوطنية الصومالية – لإدخال الصومال بعد استقلاله في رابطة الكومنولث البريطانية، ولم تمانع في منح الاستقلال لإقليم هرجيسا الخاضع لها (الصومال الإنكليزي)، على أن يتحد إقليما الصومال في دولة مستقلة واحدة مع بقاء نفوذها – بطبيعة الحال – في الدولة الجديدة، ووجدت الفكرة تأييداً شعبيّاً ساحقاً في الإقليمين‏[6]، وكان الجهـد الوطني الصومالي قبيل خروج المستعمر متحمساً نحو إنجاز الاستقلال السياسي، وقيام «الدولة الوطنية» الصومالية، وكان القادة الصوماليون يرون أن الاستعمار مفروض في المقام الأول للافتئات على الحياة الاجتماعية والاقتصادية لأمتهم المستقلة؛ وأن تقدمهم في هذه المجـالات يعتمـد على تحررهم السياسي ومأسسة دولة وطنية تعمل كقاطرة لتحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي. وعبَّر عن تلك النقطة بوضوح عبد الله عيسى رئيس رابطة الشباب الصومالي (التي أسست في عام 1943 كنادٍ للشباب) في عام 1954: «لقد أظهرت التجربة الحديثة أن الدول المستقلة سياسيّاً قادرة على مراعاة ظروف شعوبها في المقام الأول، وعلى نحو متسارع أكثر من الدول الخاضعة للإدارة الاستعمارية التي تجري الأمور فيها ببطء شديد جداً. وقد حققت دول عديدة كانت قد نالت استقلالها مؤخراً تقـدماً أكبر كثيراً – بعد سنوات قليلة من الاستقلال – من الدول التي لا تزال خاضعة لهيمنة واستعمار أجنبيين. وتبدو الإدارة الاستعمارية العاملة في هذه القارة تواجه مشكلات عند العمل على تحسن ظروف السكان المحليين الذين يقيمون بها»‏[7].

وفي 29 شباط/فبراير 1956 أجريت الانتخابات التشريعية في الصومال الإيطالي وانفرد حزب وحدة الشباب الصومالي (المنبثق من رابطة الشباب) بنشر برنامجه الانتخابي الذي تضمن: تحرير جميع الصوماليين في الوطن الصومالي الكبير (بما في ذلك إقليم الصومال الكيني، وأوغادين بإثيوبيا)، وأن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، واللغة العربية اللغة الرسمية للدولة، تأييد قيام جبهة وطنية مع سائر الأحزاب، وأن الصومال جزء من العالم العربي والإسلامي؛ فيما عد تجسيداً واضحاً لطبيعة الدولة الصومالية المرتقبة عند الاستقلال. وبالفعل فاز الحزب بثلاثة وأربعين مقعداً من المقاعد الستين التي تنافست عليها الأحزاب، تلاه حزب ديجل ومريفله، الذي مثل القبيلة التي كانت تحتل منطقة جوبا العليا وبعض بلاد منطقة البنادر، 13 مقعداً، والحزب الديمقراطي (الذي كانت ترعاه الإدارة الإيطالية) بثلاثة مقاعد وحيدة وحزب أخير بمقعد واحد‏[8]. وظل «الشباب الصومالي» الحزب الرئيس في الصومال الإيطالي وبقية أنحاء الصومال لاحقاً. وارتبطت قياداته بشيوخ الطريقة القادرية في مقديشو، وهو ما أكسبه قاعدة شعبية واسعة. وكانت النخبة الموجودة في مقديشو هي عماد الكيان المؤسسي للحزب الذي توسع وأنشأ مدارس وجمعيات نشرت التعليم والثقـافة وسـط الصوماليين خارج العاصـمة، ورسخت لديهم فكرة العمـل الحزبي والارتباط السياسي بجمعيات وأندية وطنية‏[9].

ورأى البعض أن الدولة السياسية التي تكونت في الصومال بالاستقلال في عام 1960 لم تشمل وجود نظام أهلي أو تعزز الشعور بالدولة الوطنية، وأنه كانت حالة شاذة حتى بالمقاييس الأفريقية. فمن جهة كان الصومال من الدول القليلة في أفريقيا التي يشترك شعبها في مجموعة من الجذور الثقافية المشتركة الكثيرة (نفس اللغة والإسلام السني، بل وأغلبية على المذهب الشافعي تحديداً)، ومن جهة أخرى كانت هناك اختلافات كبيرة جداً بين العشائر الصومالية والعشائر الفرعية التي تشكل التعريف الأولي للهوية‏[10]، ورغم الإقرار بالسمات المشتركة بين الصوماليين والعلاقات المتبادلة بينهم فإن قطاعات فكرية لافتة في الغرب رأت أن الصومال – بصورة كبيرة – لا يجسد أمة يمكن أن تتطور بمسار معيّن إلى دولة وطنية متماسكة‏[11].

وعزز هذه التصورات رد فعل قطاعات البدو داخل المجتمع الصومالي إزاء نشأة الدولة الصومالية الحديثة؛ فقد حدث صدام للثقافات داخل الصومال نتيجة لاختلاف مفاهيم القانون وعلاقته بالفرد عن «المفهوم الأوروبي» الذي يرى الدولة مسؤولة عن حريات الأفراد؛ وهكذا فإنها لم تقرَّ بالنظام البدوي في العدالة القائم على المسؤولية الجماعية؛ مخالفة لما جرت عليه الأمور على مر القرون في المنطقة الساحلية الصومالية التي شهدت العديد من الحكام الوافدين من خارج المنطقة بمن فيهم العمانيون والزنجباريون وأشراف مُخا (باليمن)، والأتراك العثمانيون. وكان هناك رابط واحد يجمع هؤلاء الحكام، وهو عدم العمل على تفكيك أسلوب الحياة البدوي أو التدخل في السياسة العشائرية – الأُسرية؛ لمعرفتهم بطبيعة المجتمع الصومالي‏[12]. ولم يخفف من هذه النزعة العشائرية بصورة لافتة إلا الانتخابات البرلمانية في عام 1969 حيث خاض نحو 70 حزباً سياسياً الانتخابات بأكثر من ألف مرشح (على أسس عشائرية) للفوز في البرلمان المكون من 123 مقعداً، لكن التجربة لم تكتمل بعد أن اغتيل الرئيس عبد الرشيد شارماركي في خضم عنف عشائري اندلع بين الدارود مريحان والهاوية، وكان تدخل الجيش بعدها مباشرة راجعاً إلى ثلاثة دوافع: أولها القلق من خفض الحكومة المتكرر في الإنفاق العسكري، ونشر الجنود لأغراض سياسية محلية (غير وطنية)، وإقالة كبار ضباط الجيش. وثانيها معارضة الجيش لسياسة القيادة المدنية المسالمة تجاه إثيوبيا وكينيا لاحتواء هاتين الدولتين لشتات الدارود. ثالثها أن مهندس الانقلاب، سياد بري، أراد تأمين هيمنة عشيرته الفرعية الدارود ميرحان في الجيش‏[13].

ولم تستطع جمهـورية الصـومال عقب قيامها أن تغفـل مسـألة الصوماليين في الدولتين الجارتين، الذين اقترب عددهم من عدد سكان الجمهورية نفسها، وكانت قضية سياسية في المقام الأول لدى الدولة حديثة الاستقلال. وفي المقابل فإن إثيوبيا وكينيا لم يكن باستطاعتهما الموافقة على المطالب الصومالية في إقليم أوجادين وإقليم الحدود الشمالية لاعتبارات السيادة الوطنية لكل منهما. وسببت هذه الاختلافات العميقة قيام الدول الثلاث بتجربة الحلول العسكرية. وبما أن أيّاً منها لم تكن دولة قوية بما يكفي للحسم العسكري، فإنها كانت مضطرة إلى السعي للحصول على تحالف سياسي مع إحدى القوى العظمى. وبهذه الطريقة أصبح الصراع في القرن الأفريقي واقعاً في شرك تعقيدات سياسة الحرب الباردة‏[14]، وهو ما أوقع مسألة الدولة الوطنية الصومالية في فخ استمرار الأسر في واقع الدولة الكولونيالية من جهة الارتباط بالأدوار الإقليمية والدولية في المقام الأول.

ثانياً: الصومال بين فشل الدولة وسقوطها

أدّت الحركة الوطنية الأفريقية وحق تقرير المصير كما تم إعلانه على المستوى الدولي دوراً حاسماً في حصول الدول الأفريقية على استقلالها. ولم يرد تعريف محدد لكلمة «دولة» في ميثاق الأمم المتحدة رغم استخدامه نحو 34 مرة. أما الصيغة الكلاسيكية لمعايير الدولة (Statehood) فقد أوضحته اتفاقية مونتفيديو (Montevideo Convention): المادة 1 – يجب أن تملك الدولة كشخصية بالقانون الدولي السمات التالية: (أ) سكان مقيمون؛ (ب) إقليم محدد؛ (ج) حكومة؛ (د) قدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى‏[15].

وقد عرف المفكر النيجيري البارز كلود آكي (Claude Ake) الدولة – في سياق نقده للتجربة الأفريقية – على أنها مجموعة من التفاعلات والعلاقات بين الطبقات والمجموعات الاجتماعية التي تنظمها السلطة السياسية وتبقيها قائمة. ويعتبرها أداة أساسية للسلطة السياسية في مجتمع طبقي. وبالرغم من أنه يقر بهيمنة أخرى خارج «رأسمالية الدولة» فإنه يصور الدولة – في تماهٍ تام مع التفسير الماركسي الذي يرى أن الدولة تقوم على استحواذ طبقة ما على سائر الطبقات – على أنها في حد ذاتها ظاهرة رأسمالية؛ ويضع خصوصيات نمط الإنتاج الرأسمالي كوضع مثالي تماماً لتطور هيمنة الدولة. وأن عملية تعميم الإنتاج السلعي وعلاقات التبادل التي تسم هذا النمط الإنتاجي تسمح بدرجة مرتفعة من الاستقلال الذاتي (Autonomization) للطبقة المهيمنة. ويظهر ذلك بتجسيد العلاقة بين الاستقلال الذاتي المتعارف عليه للتبادل السلعي (الذي يعزز الدولة الوطنية عبر تفاعل مكونات المجتمع) والاستقلال الذاتي للطبقة المهيمنة‏[16]. واصطلحت تعريفات بالأكاديميا التقليدية على أن الدولة بمنزلة صيرورة تاريخية وحركة سوسيولوجية، تصنعهما المجتمعات من أجل ضمان وجودها وتفوقها بين الكيانات النظيرة لها؛ فالدولة ذات طبيعة بيروقراطية على رأي هيغل. ويرى البعض أنه لا يمكن أن تكون هناك دولة بكل المقاييس القانونية والسياسية والثقافية والتاريخية، إلا إذا شارك «الجميع» في بنائها من دون إقصاء أو تهميش؛ بمعنى أن يكون للدولة كيان معتبر في الوعي السياسي، ولا يرى فيها سلطة يسعى إلى الاستحواذ عليها بوصفها هدفاً في حد ذاته؛ بل بوصفها وسيلة من أجل خدمة المجتمع نفسه‏[17].

وفي ما يخص الدولة الصومالية، فإن المتخصص البارز في الشأن الصومالي إيوان ميردين لويس (I. M. Lewis) رأى – في تعميم لا يخلو من تشوهات منهجية ومقصد تنميط فكرة فشل بناء الدولة الوطنية في الصومال لأسباب داخلية بحتة – أن الحركة تتم من الأمة إلى الدولة، وليس كأغلب أجزاء أفريقيا من الدولة إلى الأمة. ونتيجة لذلك فإن الحالة الصومالية ليست حالة أن الأمة هي المصطنعة، ولكن الدولة‏[18]. وكانت النزعة الوطنية في الصومال – منذ فرض الوصاية على أقاليمه – تتخذ شكـلاً ظل قائماً في الدولة الجديدة بعد الاستقلال: مطالبة بصومال كبير موحد من خمسة مناطق تحت حكومة واحدة، وهو المطلب الذي شجعه البريطانيون في مرحلة سابقة، وتحديداً في عام 1946 عندما سعت بريطانيا لفرض الوصاية على الإقليم الصومالي، وتأكيد وزير الخارجية البريطاني حينذاك إرنست بيفين (E. Bevin) أن «توحيد هذه المناطق سيحسن من فرص تمتع البدو بحياة اقتصادية جيدة»‏[19]، وقاد في النهاية إلى استمرار الخلل في بنية الدولة الوطنية الصومالية بوصفها كياناً ولد ناقصاً أو مبتور الأطراف.

ويشير مفهوم «فشل الدولة» (State Failure)، الرائج أفريقياً، إلى تآكل قدرة الدولة على تلبية التوقعات المنوطة بها بخصوص مهماتها الجوهرية؛ بمعنى أن فشل الدولة يعني تفكك سلطة الدولة، وكذلك التفكك الكلي للسلطة العامة وخوض كل مكونات المجتمع صراعاً ضد بعضها بعضاً. وقد أدرج الصومال مراراً (بين العديد من الدول الأفريقية) ضمن الدول الفاشلة‏[20]. ويشبه مفهوم فشل الدولة مفهوماً آخر وهو سقوط الدولة من حيث الخلاف حول مضمونه. فالأول، وفق ج. ك. كيه (G. K. Kieh) في دراسته عن «فشل الدولة، سقوط الدولة، وإعادة بناء الدولة: قضايا مفهومية ونظرية»، مفهوم مرتبط بالأداء ويشير إلى «عدم قدرة دولة والقائمين عليها بتلبية الحاجات الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية لمواطنيها على نحو كاف. بينما يشير مفهوم سقوط الدولة إلى عجزها عن إعادة إنتاج نفسها، ويحدث ذلك عند تداعي النظام السياسي برمته داخل الدولة بما في ذلك أبنية الدولة وسلطتها‏[21].

إلى جانب فشل الدولة، لا يزال الصومال يواجه أزمة احتمالات تفككه، إذ تتفكك الدول في أحيان كثيرة بسبب حرب داخلية، وقد يحدث ذلك بسبب مطلب جماعات إثنية معينة داخل الدول متعددة الإثنيات والمكونة سياسياً بصورة مصطنعة بحقها في تقرير مصيرها. ومع انهيار الدولة يتحول الأفراد بشكل متزايد إلى جماعات قائمة على الصلات الإثنية أو الدينية أو القرابية. وعد الصومال نموذجاً فريداً لتفكك الدولة من جراء عدم القدرة على حكمها، وذلك لأسباب تمتد تاريخياً لهذا الصراع «الإثني». كما استفادت القوى الأوروبية من الاختلافات العشائرية داخل الصومال، وطبقت مبدأ فرِّق تسد بسهولة كبيرة مع وجود الهاوية في إقليم مقديشو والإسحاق في هرجيسا، واختيار جماعات من البدو غير المستقرين للتجنيد في الجهاز العسكري والأمني في ظل الحكم الاستعماري (وبخاصة من الدارود). وعززت هذه العملية الاختلافات العشائرية وسمحت للقوى الاستعمارية بمواصلة السيطرة على الصومال‏[22]، وبخاصة أن المجتمع الصومالي التقليدي كان أكبر اتساعاً من دولة الصومال التي كانت مستعمرة سابقاً، حيث توجد أعداد كبيرة من الصوماليين في إثيوبيا وكينيا وجيبوتي، وهو ما أدى إلى نشوء حركة انفصالية ضاغطة في المنطقة‏[23]، إضافة إلى مساعي الانفصال في إقليم «جمهورية أرض الصومال» داخل دولة الصومال الفدرالية.

وبينما أكد عدد كبير من المتخصصين في الشأن الصومالي مركزية علاقات القرابة والقبلية في فهم السياسة الصومالية المعاصرة وجنوحها نحو التفتت والفوضى، رأى آخرون، بعد الإقرار بأهمية الثقافة في تقييم التطورات في السياسة الصومالية بعد سياد بري، أن أهمية العلاقات التقليدية قد تغيرت أكثر فأكثر بفضل تطور التفاعلات بين البشر‏[24]؛ كما رأى غيرهم، بدقة كبيرة في واقع الأمر، أن إحدى نقاط ضعف المقاربة «التقليدية» الافتقار إلى خصوصية تاريخية في استخدام مفاهيمها الرئيسة، ولا سيّما النزعة الرعوية (Pastoralism) والثقافة. علاوة على ذلك، فإن مصطلحين مثل العشائرية والقبلية محددان بصورة فضفاضة، ويستخدمان أحياناً بترادف من دون إمعان نظر في معناهما ومحتواهما الاجتماعي‏[25]؛ وهو ما يقود إلى الالتباس في تفسير الحالة الصومالية وتجاوز التأثيرات الخارجية التي تعد عامـلاً يوازن، إن لم يثقل، التأثيرات الداخلية في استمرار أزمة الدولة الوطنية في الصومال.

على سبيل المثال بحلول نهاية ثمانينيات القرن العشرين غذت سياسات سياد بري في الشمال، كتعويض عن خسارته المواجهة مع إثيوبيا بهزيمة مذلة مرة أخرى، حالة التمرد ضده خاصة بين «الاسحاق» كبرى عشائر الشمال الذين شعروا باستبعادهم من السياسة وموارد الدولة. وعلى وجه التحديد كانت سياسات سياد لبسط سيطرته على صادرات الماشية، بالتنسيق مع الدول المستوردة، ومبيعات القات بدلاً من تجار الاسحاق وإعادة توطينه للاجئين الأوغادينيين في المناطق التي يهيمن عليها الاسحاق قد اعتبرت تهديداً من قبل حكومة الجنوب لمصالح الشمال، ومحاولة لتحجيم قوة الاسحاق الاقتصادية والسياسية، وهو ما عززه بري بتوجيه أوامر بقصف مدن وقرى شمالية في عام 1988‏[26].

كما كان لسياسات التحرير الاقتصادي التي سعى الصومال لتطبيقها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي نتائجه الوخيمة على اقتصاد الدولة وحياة الصوماليين. فقد عمق المشروع من تآكل شرعية نظام الحكم ودفع الاقتصاد الرسمي إلى التراجع. علاوة على ذلك فإن العائدات من الصادرات كانت مربحة لأغلبية محددة من المستثمرين الأجانب، وهو ما حرم الصومال الأموال الضرورية لتمكنه من إعادة الاستثمار. ورغم أن السياسات الليبرالية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لم تكن الأسباب الوحيدة لسقوط الدولة الصومالية واقتصادها الرسمي، فإنه لا يمكن إنكار أن المنظمتين الدوليتين أدّتا دوراً رئيساً في تدمير إمكانات الاستقرار الاقتصادي في الصومال، وتزايد اغتراب السكان عن حكومتهم‏[27].

وقد تناول كثير من الباحثين الصومال في سياق عرض نماذج للدول الفاشلة التي تتضمن داخلياً العديد من الخصائص، مثل غياب الحكومة فعلياً وهو ما يتمثل بعجز الدولة الفاشلة عن الحفاظ على القانون والنظام والقيام بالوظائف التشريعية والإدارية؛ وفقدان الدولة احتكارها التام للاستخدام المشروع للقوة، واستغلال القطاع الخاص لغياب حكومة في الدولة الفاشلة والقيام ببعض مهمات الحكومة مثل السيطرة على الموارد الطبيعية والعائدات. إضافة إلى عوامل أخرى ضمن التأثير الخارجي، من بينها خروج أعداد كبيرة من اللاجئين لدول جوار الدولة الفاشلة؛ وتراجع قدرة الدولة الفاشلة على دعم العلاقات الدولية مع الدول الأخرى؛ والتراجع الحاد في قدرة الدولة الفاشلة على احترام التزاماتها الدولية، ويقود هذا الأثر السلبي في المسؤولية الدولية للدولة الفاشلة إلى فرض تهديد على كفاءة القانون الدولي‏[28].

ثالثاً: مساعي إعادة بناء الدولة الوطنية

كانت تجربة الصومال من أهم التجارب المؤثرة في تشكيل مواقف العلماء وصناع القرار نحو «بناء الدولة»، وكان يشار إلى الصومال منذ فشل «عملية الأمم المتحدة» (1993) دائماً بوصفه أحد أبرز النماذج التي لا يمكن للدول الأجنبية أن تفرض عليها السلام والديمقراطية‏[29]. كما كان من قبيل التناقض اللافت ظهور الصومال عند نهاية الحكم الاستعماري كإحدى أكثر الدول الأفريقية تناغماً من النواحي الإثنية والثقافية والدينية واللغوية، لكن بعد سقوط الدولة الصومالية في عام 1991 تدافعت العشائر والعشائر الفرعية لتولي مهمات التنظيمات السياسية الإقليمية. ووسط حالة التفكك هذه بدأ نموذج انفصالي «للدولة الوطنية» يظهر في «جمهورية أرض الصومال» (المستعمرة البريطانية السابقة)‏[30].

وقد انخرطت الحكومة الفدرالية الانتقالية وداعموها الغربيون منذ قيامها في عام 2012 في بناء الدولة في الصومال عبر محاولة إرساء المؤسسات الضرورية لقيام حكومة وطنية. وتميزت هذه العملية برمتها عن بناء الأمة (Nation-building) التي تتعلق بتكوين هوية وطنية وربما تشمل وضع لغة وطنية أو عادات وطنية. وكان الهدف تحويل «الدولة الفاشلة» إلى دولة ديمقراطية. لكن ظلت هناك مشكلتان رئيسيتان بخصوص هذه الفكرة، أولاهما أن مفهوم الدولة الفاشلة نفسه به قصور موروث؛ وثانيتهما أن الديمقراطية لن تكون فعالة في الصومال من دون إحداث تغييرات ملموسة في البنية التحتية والثقافة الصومالية معاً. ومن ثم رأى البعض ضرورة تطوير مفهوم غير تقليدي عن الدولة (الصومالية) أولاً؛ ثم العمل داخل حدود المجتمع الصومالي لتقوية البلاد، وهو ما يمثل وضع العمل الأساسي لدولة ديمقراطية‏[31].

وبينما عُدّ تجسيداً لعرقلة مساعي إعادة بناء الدولة الوطنية في الصومال، عجز نظام الرئيس السابق حسن شيخ محمود عن تنظيم انتخابات شعبية مباشرة في الصومال، كما نص الدستور الصومالي المؤقت، وتقرر وقتها إجراء الانتخابات البرلمانية لعام 2016 بطريقة غير مباشرة وفق نظام 4.5، أي أربع قبائل كبيرة ونصف قبيلة (التي تمثل القبائل الصغيرة). وتقرر بمقتضى هذا النظام انتخاب 14025 مندوباً (يتم اختيارهم من مختلف شرائح المجتمع الصومالي وعلى أساس قبلي) ممثلي القبائل في غرفتَي البرلمان: مجلس الشيوخ (54) عضواً، ومجلس النواب (275) عضواً. وكما نص النموذج الانتخابي الذي اتفق عليه «المنتدى الاستشاري الوطني» تحتم انتخاب المرشح الواحد لمجلس النواب 51 شخصاً من مندوبي العشائر، وذلك في عملية معقدة أتاحت للمال السياسي (أحياناً من حكومات دول أجنبية) أداء دور بارز في تحديد الأشخاص الذين ينتخبون لغرفتي البرلمان‏[32]. وكان من ضمن مخرجات الاتفاق – الذي توصلت إليه الأطراف الصومالية برعاية دولية بحضور الحكومة الصومالية والبرلمان وقادة الأقاليم والمناطق المختلفة – أن ينتخب المجلسان رئيس البلاد الذي يعين بدوره رئيس الوزراء‏[33].

كما تواجه مساعي تقوية «الدولة الوطنية» مشكلة خطيرة جداً ولها تشابكاتها الإقليمية المعقدة وتتمثل بالمساعي الانفصالية (بخاصة الدعم الإثيوبي والخليجي)؛ إذ يتمتع إقليم «جمهورية أرض الصومال» بملامح دولة مستقلة نوعاً ما، فهناك جوازات سفر خاصة به، وأحياناً تكون ذات مقبولية أكبر من جوازات سفر الحكومة الفدرالية نفسها. كما توجد قوة شرطة تقوم بأغلب المهمات المتوقعة من جهاز شرطة وطني وإن كان بطريقة أكثر بدائية. ويحافظ «الجيش» على الأمن ويبسط سيطرته على أغلب أراضي «أرض الصومال»، ويدحض جهاز الاستخبارات بانتظام محاولات إرهابية مختلفة، كما يدير قسم الجمارك بوزارة المالية موانئ أرض الصومال. ولأرض الصومال عملته الخاصة «شلن أرض الصومال»، ولديها شركات اتصالات خاصة «تيليصوم» (Telesom) وتقدم خدمات البنوك المركزية والتجارية عبر البنك المركزي لأرض الصومال، ويعتمد اقتصاد «الجمهورية» على العائدات من الشركات الكبرى. وتشترك ولاية «بونتلاند» مع الكثير من خصائص أرض الصومال؛ إذ تعقد انتخابات متعددة حزبياً، ولها دستورها، وقوات الأمن والشرطة الخاصة بها. والفارق بينهما أن بونتلاند لا تسعى للاستقلال مثل «أرض الصومال»، لكنها تتطلع لدور أكبر في صومال فدرالي‏[34].

وفي ظل مواجهة الحكومة الصومالية عقبات لا يستهان بها، بادرت المملكة المتحدة إلى عقد قمم دولية ودورية حول الصومال في شباط/فبراير 2012 وأيار/مايو 2013، وأيار/مايو 2017 كانت أهم مخرجاتهم تعزيز خطط الحكومة الصومالية لتكوين الأمن الوطني وتطوير القوات المسلحة، وتأكيد التزام الشركاء الدوليين بالعمل مع الحكومة الصومالية على مكافحة القرصنة وتعزيز خطة الحكومة الفدرالية «استراتيجية الموارد والأمن البحريين» (Maritime Resource and Security Strategy) التي وضعت بالتنسيق مع أرض الصومال والحكومات المحلية الأخرى. وتطوير القضاء الصومالي والعمل على مكافحة إرهاب الشباب‏[35]. وقد ركز مؤتمر لندن على عدة قضايا مثلت مواجهتها والتغلب عليها خريطة طريق نحو مستقبل أفضل للصومال وصولاً إلى التمكن من إجراء انتخابات مباشرة في عام 2020. وكان المضمون الرئيس لمؤتمر لندن هو التوصل لاتفاق شراكة جديدة بين الشركاء الدوليين وممثلي الحكومة الفدرالية والولايات الصومالية. كما تقرر أن يحكم منتدى الشراكة رفيع المستوى (High Level Partnership Forum) اتفاق الشراكة الذي ركز على ثلاثة موضوعات وهي تحسين الأمن، والإصلاح السياسي والحوكمة (وجوهره عقد انتخابات مباشرة في عام 2020، وما تتضمنه هذه الخطوة من اشتراطات مسبقة أهمها إقامة نظام قضائي ذي صدقية وآلية تنفيذ قوية، وهو ما يبدو أمراً بعيد المنال حالياً في رأي عدد كبير من المتابعين)، والتنمية الاقتصادية (وتركز على العمل المشترك بين الحكومة الفدرالية والولايات الإقليمية والقطاع الخاص والمانحين الدوليين لبدء مرحلة جديدة في الاقتصاد الوطني‏)[36]. ووفقاً للوثائق الرسمية للمؤتمر‏[37] فإنه وضع خريطة طريق لتعافي الدولة الوطنية الصومالية على عدة صعد أهمها:

أ – تحسن الوضع الأمني

أكد المؤتمر أن تحسن الوضع الأمني أمر حيوي لمنع عودة الصراع المفتوح في الصومال، ولتمكين تحقق تطور الوضع السياسي والاقتصادي الأوسع نطاقاً. وركز المؤتمر على بنية الأمن الصومالي التي يجب أن تتفق عليها الحكومة الفدرالية مع الولايات المشاركة في الاتحاد بما في ذلك النموذج المنتظر للجيش الوطني الصومالي، وكيفية مواجهة الإرهاب مع حماية حقوق الإنسان في الوقت نفسه.

ب – الإصلاح السياسي والحوكمة

هدف المؤتمر إلى تزايد التزام المجتمع الدولي بالإصلاح السياسي والحوكمة في الصومال والمساعدة على بناء دولة فدرالية وديمقراطية أكثر شمولاً – ووضع طريق واضح نحو انتخابات ديمقراطية مباشرة (شخص واحد، صوت واحد) في عام 2020. ويستدعي ذلك جمع القادة الفدراليين والإقليميين معاً للاتفاق على الإصلاحات الدستورية الضرورية والعمل معاً على نحوٍ أكثر فعالية وتناول مسألة توفير العائدات وتوزيع الموارد وتكوين البيئة السليمة للنمو.

ج – التنمية الاقتصادية

يُعد دعم التعافي الاقتصادي للصومال أولوية مشتركة، وهي تحقيق اقتصاد قوي يوفر للصوماليين سبل العيش، والوظائف، ويحقق عائدات محلية سوف تكون أساسية للتنمية المستدامة والاستقرار في البلاد. وعمل المؤتمر على تأمين التزامات من الحكومة والقطاع الخاص الصومالي والمانحين الدوليين للعمل معاً لتحقيق مجموعة مكثفة من أولويات التعافي الاقتصادي في السنوات التالية.

د – الاستجابة الإنسانية

عقد مؤتمر لندن في وقت قدر فيه أن نصف سكان الصومال لا يتحصلون على مصدر معتبر للطعام، وعمل المؤتمر على إثارة الاستجابة الدولية إزاء أزمة الجفاف الواقعة والحاجات الإنسانية الملحّة. وهناك حاجة ملحة إلى استمرار الدعم الدولي لمنع تفشي المجاعة، ومن دون هذا الدعم فإنه يمكن وقوع تراجع في التقدم السياسي والأمني الذي حققته الصومال منذ عام 2012.

هـ – شراكة جديدة من أجل الصومال

عمل المؤتمر على الاتفاق على شراكة جديدة من أجل الصومال بين المجتمع الدولي والصومال تتضمن شروط التأييد الدولي لانتقال الصومال إلى أن يكون بلداً أكثر سلاماً وازدهاراً بحلول عام 2020 بما في ذلك قضايا مثل الانتخابات والترتيبات الدستورية والتنمية الاقتصادية والتزامات مواجهة الإرهاب. وأن تقوم هذه الشراكة على مبدأ المحاسبية المتبادلة (Mutual Accountability).

غير أن هذه المساعي ظلت تواجه عدة تحديات أهمها:

(1) معضلة استعادة الأمن ومواجهة الإرهاب: مثلت استعادة الأمن ومواجهة الإرهاب في الصومال بنداً دائماً على أجندة العلاقات الثنائية للصومال وكذلك في المحافل الدولية المعنية بحل الأزمة الصومالية، سواء من جانب الاتحاد الأفريقي أو من جانب الاتحاد الأوروبي. وعقب تولي الرئيس محمد فرماجو وقع قادة الصومال في 18 نيسان/أبريل 2017 «الاتفاق الأمني» الذي وأسفر عن تأسيس جهاز الأمن الوطني والتزموا خلاله بالمبادرة إلى توفير الأمن في البلاد بما في ذلك تأمين المناطق المستردة، غير أنه لوحظ أن العلاقة بين اتفاق الشراكة الذي دشنه مؤتمر لندن وهذا الاتفاق الأمني توازي النظام الدستوري الصومالي في الدستور المؤقت لجمهورية الصومال الفدرالية، وتتسلق على وظائف الحكومة الفدرالية والولايات الإقليمية. كما أنها تتداخل مع استجابة ومحاسبية مؤسسات الدولة الصومالية. وتقلل كفاءة حكم القانون وتعيق العلاقة بين الدولة الصومالية ومواطنيها‏[38]. كما تعارض عقد منتدى الزعامة الوطنية (National Leadership Forum) اجتماعاً برئاسة الرئيس فرماجو مع المبدأ الأساسي في المادة 3 (4) من الدستور المؤقت التي تطالب بالفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الحكومة الفدرالية لتمكين المحاسبة والكفاءة والاستجابة لمصالح الشعب. كما أسس المنتدى – في ممارسة منه للسلطتين التنفيذية والتشريعية – مجلس الأمن الوطني (National Security Council) المكون من أعضاء المنتدى وستة وزراء فدراليين وحاكم إقليم بنادر. كما أسس بدوره جهاز الأمن الوطني الصومالي (Somali National Security Architecture (NSA)) كحجر أساس لفدرلة الأمن من دون إطار تنظيمي واضح. ورخص جهاز الأمن الوطني الصومالي بعمل قوة قوامها 18 ألف جندي، وقوة شرطة قوامها 38 ألف شرطي وبناء للقيادة والسيطرة. وأمر بنزع سلاح أية قوى أمنية ليست جزءاً من السلطات المرخص لها. وهو ما يعتبره البعض تجاوزاً للدستور المؤقت الذي ينظم عمل قوات الأمن ومهماتها. فالمادة 54 تخصص جميع السلطات المتعلقة بالدفاع الوطني للحكومة الفدرالية، وتقول المادة 90 (ب) إن الرئيس يكون قائد أركان القوات المسلحة‏[39]. ورغم هذه الاعتراضات «القانونية» فإن السلطة التنفيذية تعمل على الإسراع بإنجاز تقدم على الصعيد الأمني والعسكري للاستفادة من مكتسباتها على الأرض في مواجهة تنظيم الشباب وحالة التآزر القبلي التي تعززها المشاركة في منتدى الزعامة الوطنية.

وفي تطور لافت أيضاً في مسار تحسن الوضع الأمني والعسكري سعت الحكومة الفدرالية والاتحاد الأفريقي منذ نهاية تموز/يوليو 2017 لمناقشة سبل نقل مهمات أمن الصومال من البعثة الأفريقية (أميصوم) إلى قوات الأمن الصومالية، وركز الممثل الخاص للاتحاد الأفريقي في الصومال فرنسيسكو ماديرا (Francisco C. Madeira) على أهمية تجهيز وتيسير عمل قوات الأمن الوطنية الصومالية (Somali National Security Forces (SNSF)) لتقويتها فعلياً ولضمان انتقال سلس، وذلك من خلال تشجيعها على المشاركة في جميع المجالات‏[40]، حيث تدخل الحكومة الصومالية في سباق مع الزمن للاستعداد لسحب الاتحاد الأفريقي قواته من الصومال لأسباب سياسية ولوجستية في أسرع وقت ممكن حتى لا تتمكن حركة الشباب من إعادة تموضعها في المناطق التي سيطرت عليها أميصوم، وفي ظل تخوفات من نمو نفوذ داعش في الصومال‏[41].

(2) تحقيق التوافق الوطني والاستقرار السياسي: أكدت وثيقة الشراكة الجديدة من أجل الصومال أن الانقسام في الاختصاصات والسلطات بين الحكومة الفدرالية والولايات المكونة للاتحاد والاتفاقات المشتركة حول الفدرالية المالية، ومسؤوليات تحقيق الدخل، والإدارة العامة، وتقديم الخدمات العامة بما فيها الأمن وإدارة الموارد الوطنية لصالح جميع الصوماليين هي الجوانب المعيقة الأبرز أمام بناء مؤسسات فاعلة للدولة‏[42]. ويشير كثير من المحللين إلى أن العامل الأول في التغلب على تحديات إعادة بناء الدولة يتمثل بالعامل الداخلي وترتيب البيت الصومالي، بما يمكن الدولة من الاستجابة للمشروطيات الدولية والقيام بواجباتها نحو استعادة الأمن والاستقرار، ومواجهة ناجعة للإرهاب، وترتيب عملية سياسية مباشرة في عام 2020، وتحقيق تعافٍ اقتصادي، واستعادة وضع الصومال الدولة إقليمياً ودولياً.

(3) التعافي الاقتصادي: سبق أن طالب تقرير للبنك الدولي حول الصومال (تشرين الأول/أكتوبر 2015) بالتشديد على الحاجة إلى إعادة وضع الإطار السياسي والدستوري للصومال من أجل تكوين حكومة فدرالية متكاملة تسيطر على الأراضي الصومالية كأساس للتماسك الاقتصادي والتنمية والإدارة. ويستدعي ذلك إتمام الدستور الانتقالي لمعاجلة مشكلات الفدرالية العشائرية (Clan Federalization)‏[43]. ورغم الانتقادات التي توجه لحكومة حسن علي خيري وما يطلقه عليها الأهالي من أنها حكومة الشركة (نسبة إلى شركة صوما أويل آند غاز التي يردد الصوماليون أنها منحت خيري نسبة 1 بالمئة من أسهمها مقابل تيسير عملها في البلاد، وأن تعيينه جاء بدفع من الشركة، التي تؤكد على موقعها الرسمي أنه لا يوجد في قائمة المساهمين بها أي صوماليين مستفيدين من الشركة أو الشركات المساهمة فيها وأهمها شركة وينتر سكاي للاستثمارات المحدودة، بنسبة 51.1 بالمئة، وصوما أويل آند غاز ليميتد، بنسبة 36.6 بالمئة، وآيدن هارتلي بنسبة 5.5 بالمئة)‏[44] فإنها تمكنت من عقد اتفاقات اقتصادية كبيرة وبارزة أهمها ما توصلت إليه مع السعودية باستيراد الأخيرة لمليون رأس من الماشية من الصومال سنوياً بعد فترة طويلة من تذبذب استيراد السعودية للماشية الصومالية واستخدامها كعقاب سياسي أحياناً.

رابعاً: مستقبل «الدولة الوطنية» في الصومال: التشابكات الدولية والإقليمية

هناك صورة قاتمة إلى حد ما للمواقف الإقليمية والدولية إزاء تحديات إعادة بناء الدولة الوطنية في الصومال:

1 – فإثيوبيا – التهديد الأكبر تاريخياً أمام الدولة الصومالية – تخترق الصومال عسكرياً من خلال وجود «غير رسمي» لقواتها في الصومال إضافة إلى قيادتها لقوات الاتحاد الأفريقي «أميصوم» في المخالفة لقواعد الاتحاد الأفريقي نفسه التي اشترطت عدم مشاركة قوات من دول الجوار في «أميصوم». ويرى صوماليون أن الوجود الكبير والملحوظ على الأرض للقوات الإثيوبية يعوق فعلياً جهود الحكومة في بسط سيطرتها على الأراضي الإقليمية ويمكن لسياسات التدخل الإثيوبي المستمر في الشأن الصومالي ويقلل من فرص رسوخ صورة الحكومة المركزية كفاعل قوي على الأرض. ويجمل البعض دور إثيوبيا في الصومال في عبارة واحدة مانعة «أنها تعمل دائماً ضد استقرار الصومال». وتتصور إثيوبيا مستقبل الصومال كدولة هشة مخترقة من جهة «أرض الصومال» (التي تتمتع بعلاقات ودية واستراتيجية مع إثيوبيا وتخترقها القوات العسكرية الإثيوبية بالتوافق مع حكومة الولاية)، وبحاجة مستمرة إلى وصاية إثيوبية لتقويم الأوضاع بها، ويدعم هذا التصور الإثيوبي ما تحققه إثيوبيا من سيطرة على التنظيم الإقليمي الأبرز في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا وهو «إيجاد» ونجاح أديس أبابا في الانفراد بتوجيه سياساته تجاه قضايا عديدة مثل جنوب السودان وأزمة الصومال والسودان مؤخراً.

2 – أما كينيا فعلى الرغم من جنوح قيادتها الحالية إلى التركيز على قضايا التنمية في كينيا وجذب الاستثمارات الأجنبية وغض الطرف نسبياً عن التدخل المباشر في الشأن الصومالي (بعد غزو كينيا لجنوب الصومال في عام 2012) فإن هناك أطماعاً كينية مستمرة في موارد الصومال خاصة البترولية وبدفع من شركات البترول الدولية (من بينها شركة توتال الفرنسية) أو وكلاءها في الخليج العربي.

3 – وفي ما يتعلق بمصر فإنها في موقف لا تحسد عليه، ويرى الصوماليون أن ثمة تقصيراً مصرياً واضحاً وأن مصر الكبيرة يجب ألّا تكتفي بتنسيق دورها وفق السياسات السعودية والإماراتية في الصومال. وبطبيعة الحال فإن مصر، التي تتحسس كثيراً من دور إثيوبيا في القرن الأفريقي برمّته، تتحرك وفق معطيات محدودة وتلجأ إلى العمل غير المباشر من خلال شركائها الخليجيون ومقايضة دورها في دعم المواقف السعودية والإماراتية ضد إيران وتدخّلها في اليمن بالسماح لمصر بتنفيذ أجندتها في الصومال التي تربطها بمصر صلات تاريخية واستراتيجية حيوية جداً. وفي رأي البعض فإن تصور مصر لمسألة إعادة بناء الدولة في الصومال تقوم على تفهم الأمر الواقع وتفتت أبنية الدولة الصومالية والتعويل على استكمال الخطوات «البطيئة» التي تقوم بها مؤسسات الدولة في الصومال، والتركيز على إعادة بناء البنية الأساسية وتقديم مصر الخبرات والمساعدات الفنية للصومال بدعم خليجي (مرهون بطبيعة الحال بمشروطيات جديدة لم تألفها مصر وتدفعها إلى التشديد مراراً على موقفها الذي كان مفروغاً منه بالوقوف في صف صومالي موحد).

4 – وقد عدت السعودية والإمارات حياد الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو في أزمتهما مع قطر خروجاً صومالياً عن «المحور السني»، وتراجعاً عن الموقف «المتقدم» الذي أخذته مقديشو سابقاً بقطع علاقاتها مع طهران على خلفية الخلافات بين الأخيرة والرياض. وتطور الإمارات علاقات مع «أرض بونت» بمنأى عن الحكومة المركزية في مقديشو، وهو ما أثار حفيظة الأخيرة وسعت لتسوية الأزمة مع الإمارات حفاظاً على المصالح الاقتصادية للصومال من علاقاته مع الإمارات. ولم تؤكد التصريحات الرسمية مناقشة الوجود العسكري الإماراتي في إقليم أرض الصومال الذي تم قبل سنوات بتنسيق إماراتي – إثيوبي وتجاهل واضح لمقديشو. أما السعودية فإنها تواصل مشاركتها الضعيفة في دعم الصومال اقتصادياً مقارنة ببقية شركاء الصومال، ولا سيما الأوروبيين. وتعمد السعودية في تصورها إلى استغلال الحاجة الاقتصادية للصومال بصورة دائمة في كسب مواقفها السياسية أو الحصول على تنازلات من مقديشو. يتضح ذلك عند ملاحظة أن الاستثمارات السعودية في دول جوار الصومال (وبخاصة إثيوبيا وكينيا) تنبئ بعلاقات وثيقة واتساق في المواقف السعودية – الإقليمية في القرن الأفريقي تجاه الصومال، كما يعزز ذلك ما تتسم به السياسة السعودية والإماراتية في الصومال من تنحية أي بعد قومي عربي والاتساق أكثر مع سياسات كينيا وإثيوبيا.

5 – يؤدي الاتحاد الأوروبي الدور الأبرز، بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، في دعم دولة الصومال في عدة ملفات أهمها محاربة الإرهاب وتأمين طرق الملاحة المارة قبالة سواحل الصومال وجهود إعادة بناء الدولة. وتقوم سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الصومال على «مقاربة شاملة» تربط بين القضايا الأمنية والتنموية، وتركز على التواصل مع الحكومة الفدرالية المركزية، وتعزيز فكرة وحدة الدولة الصومالية. يملك الاتحاد الأوروبي عدة أدوات مؤسسية في سبيل تنفيذ هذه المقاربة الشاملة، أهمها البرنامج التأشيري الوطني للصومال (National Indicative Programme for Somalia الذي يغطي الحقبة 2014 – 2020)، ويفصل أوجه إنفاق المساعدات والدعم الأوروبي للصومال المقدم من صندوق التنمية الأوروبي. وتمثل مساهمة الاتحاد الأوروبي في دعم قوات بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (أميصوم) من خلال تمويل رواتب الجنود المشاركين في القوة (22 ألف جندي من خمس دول أفريقية) العمود الفقري لجهود المجتمع الدولي لمحاربة الإرهاب والتطرف في الصومال، ومساعدته على بناء قواته المسلحة الموحدة.

لكن تظل علاقة الاتحاد الأوروبي بالصومال محكومة بالشراكة الاستراتيجية مع الاتحاد الأفريقي الذي يتراجع دوره في الشأن الصومالي بوضوح، ويقتصر أحياناً على تمرير المخصصات للجنود الأفارقة (وهو ما ظهر في أزمة تأخر مستحقات هؤلاء الجنود لمدة ستة أشهر في منتصف عام 2016 بسبب مشاكل فنية)، كما أن هذه الشراكة سببت – على غير المفترض – نوعاً من عدم فاعلية جهود الاتحاد الأوروبي في القطاع الأمني بسبب هيمنة توجهات دول مثل إثيوبيا على سياسات الاتحاد الأفريقي في الصومال (وهو ما اتضح في تضمين الجنود الإثيوبيين الموجودين في الأراضي الصومالية منذ الاحتلال الإثيوبي لمقديشو ضمن أميصوم ومنحهم رواتب من مخصصات الاتحاد الأوروبي من دون التقيد بالمهمات المفترض في أميصوم القيام بها وتلقي الأوامر مباشرة من أديس أبابا). كما يظل العجز المؤسسي في الصومال من معوقات جهود الاتحاد الأوروبي ودافعاً له لسحب بعض مشروعاته من الصومال أو وقفها بسبب شبهات فساد تطال القائمين على هذه المشروعات من الطرف الصومالي (سواء على مستوى الأقاليم أم على مستوى الحكومة الفدرالية).

ورغم تعدد الفاعلين الدوليين في الشأن الصومالي، ضمن الاهتمام الدولي المتزايد بمنطقة القرن الأفريقي، فإن دور الاتحاد الأوروبي يظل هو الأبرز من ناحية الإمكانات الفعلية أو المحتملة على المديين المتوسط والبعيد، ويظل الزخم الأكبر في تفاعل الفاعلين الدوليين في الشأن الصومالي، وبخاصة من قبل الصين والهند وتركيا إضافة إلى الحليف الاستراتيجي في المنطقة: الولايات المتحدة الأمريكية. ومع تراكم الكثير من المعوقات مثل اقتراب النهاية المتوقعة للبرنامج التأشيري الوطني للصومال في عام 2020، وهو العام نفسه المحدد لسحب قوات أميصوم من الصومال، وسحب بعض الدول (مثل ألمانيا في شباط/فبراير 2018) جنودها من بعثة التدريب العسكري الأوروبية، والمشكلات المتعلقة برواتب جنود أميصوم (التي وصلت إلى درجة سعي الاتحاد الأوروبي لتقديم هذه الرواتب مباشرة للجنود من دون التنسيق مع الاتحاد الأفريقي أو حكومات الدول الخمس التي تسهم بالقوات)، يظل لدور الاتحاد الأوروبي في الصومال أهميته الفائقة لحكومة مقديشو ولتنسيق الأدوار الدولية في الصومال إن جاز التعبير، ومساعي المجتمع الدولي لمساعدة الصومال ومحاربة الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي ككل.

6 – تقود بريطانيا – التي تَعُد نفسها الوصي على الصومال في مجلس الأمن بالأمم المتحدة – جهداً ملحوظاً لترسيم خريطة طريق صومالية نحو عام 2020. ويرجع الاهتمام الكبير لبريطانيا بالصومال إلى ممارسة لندن دوراً كبيراً في الحرب ضد الشباب وسعيها لحشد تعبئة ودعم أكبر من الدول الإقليمية المساهمة بقوات في «أميصوم» وبناء قدرات قوات الأمن الصومالية. وكان هناك تغيران رئيسيان أثّرا في سياسة بريطانيا في الصومال (وانتهاجها نهجاً أكثر استقلالية عن بقية دول الاتحاد الأوروبي) ووقعا في عام 2016 وهما انتخاب دونالد ترامب وقرار الشعب البريطاني الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما قاد بطبيعة الحال إلى تراجعات كبيرة في التعاون بين الصومال ودول الاتحاد الأوروبي وبخاصة بعد تقارب بريطانيا مع الولايات المتحدة والنرويج في مواجهة دول أخرى بالاتحاد مثل ألمانيا وإيطاليا فرنسا والسويد (المانح الأول للصومال)‏[45]. ويرى صوماليون أن بريطانيا تهدف إلى «تبريد» مسيرة إعادة بناء الدولة في الصومال ريثما تتمكن من إعادة تموضعها داخل البلاد، والعمل في سياق سياسة بريطانية في القرن الأفريقي (فيه عدة دول كانت مستعمرات بريطانية سابقة ولا تزال تحتفظ فيها بنفوذ كبير أهمها كينيا) تمكن الاستثمارات البريطانية (ولا سيما في مجال قطاع البترول والغاز) من الحفاظ على حصصها في السوق ومضاعفتها ومنافسة شركات الطاقة الفرنسية (توتال) والإيطالية (إيني). في المقابل لمحت مصادر في دول شرق أفريقية إلى أن بريطانيا «تقوم بمناورات جديدة للاضطلاع بدور جديد في الصومال وليبيا، بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، تسعى (من خلاله) لتهميش دور الاتحاد الأوروبي في المنطقة»، وهو ما تجسد في حزيران/يونيو 2019 بإقدام بريطانيا على تقديم برامج تدريب عسكري للصومال بصورة منفصلة عن مظلة الاتحاد الأوروبي.

خاتمة

مر الصومال بتحديات تاريخية في مراحل تكوينه كدولة وطنية استمر تأثيرها في دولة ما بعد الاستعمار، كما واجه أزمات فشل الدولة وسقوطها ومخاطر تفككها طول العقود السبعة التي تلت استقلاله بصورة لافتة للنظر كثيراً، ويمكن التوصل إلى ما يلي في ضوء هذه التجربة الاستثنائية:

– أن بنية الدولة الوطنية الصومالية تعاني بالأساس خلـلاً كبيراً نتيجة وجود أجزاء «صومالية» (إثنياً وثقافياً واجتماعياً) في دول الجوار (منها أوغادين الذي يحتل ثلث مساحة دولة كبيرة وهي إثيوبيا).

– أن السياسات العشائرية الطابع في الصومال تتراجع إلى حد ما في انتظار خطوات ملموسة على صعيد الإصلاح السياسي وإجراء الانتخابات المقبلة 2020 بمنأى عن صيغة 4.5 العشائرية، وهذا سيدفع إلى تعزيز بنية الدولة الوطنية.

– أن التدخلات الإقليمية والدولية تؤدي دوراً بارزاً، وربما الأقوى، في استمرار أزمة الدولة الوطنية الصومالية حيث تتمتع هذه التدخلات بمشروطيات سياسية مرتفعة، وتصل أحياناً إلى دعم المطالب الانفصالية لجمهورية أرض الصومال، وهو ما قاد جامعة الدول العربية إلى إدانة التدخل الإماراتي – مثـلاً – في الصومال بصورة صريحة وغير معتادة في واقع الأمر، وبناء على شكوى صومالية رسمية (في آذار/مارس 2018) على خلفية عقد سعي أبو ظبي لإدارة ميناء بربرة وإقامة قاعدة عسكرية في أرض الصومال بالتنسيق مع إثيوبيا ومنح الأخيرة ممراً آمناً داخل الأراضي الصومالية بمقتضى اتفاق ميناء بربرة بقيمة 442 مليون دولار.

كتب ذات صلة:

الدين والدولة والديمقراطية من زاوية أركونية

المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية (من منظور مختلف)

الدولة الوطنية المعاصرة: أزمة الاندماج والتفكيك