مقدمة:

أصبحت التنمية بمفهومها الشامل هدفاً لكل شعوب العالم غنيها وفقيرها، كل يسعى لتحقيقها بحسب قدراته وموارده وإمكاناته. وقد زاد الاهتمام بالتنمية كطريقة ومنهجية علمية تستهدف تحسين مستوى المعيشة للإنسان في المجتمعات الحديثة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية خاصة.

إن التنمية في جوهرها عملية حضارية متكاملة تمثل نقلة نوعية على مستوى المجتمع كله وبجميع طبقاته الاجتماعية، والتنمية تستهدف الارتقاء بفكر الإنسان واستثمار قدراته الكامنة وتحقيق الحياة الكريمة له. وهي بالتالي تكتسي أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية. وعلى عكس ما كان يعتقده بعض الاقتصاديين فإن تحقيق التنمية يتطلب توجيه الاهتمام ليس للنمو الاقتصادي فقط ولكن للمسائل الاجتماعية والبيئية والثقافية أيضاً، وهذا انطلاقاً من المبدأ القائم على أن التنمية عملية شاملة لا تقتصر فقط على الجانب الكمّي (النمو) وإلا فإنها ستتعرض لمخاطر في الأمد البعيد، ولتجنب ذلك وقع التطرق إلى ما أصبح متعارفاً عليه باسم التنمية المستدامة. فالمعنى العيني للتنمية المستدامة ليس كما يفهمها البعض على أنها تنحصر في المجال البيئي، بل يدخل ضمن اهتماماتها المجالات الاجتماعية التي تشمل الاهتمام برفع مستوى المعيشة كماً ونوعاً.

يبرز من بين أبعاد التنمية المستدامة (الاجتماعي والاقتصادي والبيئي)، البعد الاجتماعي خاصة، كبعد جديد لقياس مستوى التنمية من خلال التركيز على زيادة الإنتاج، وهذا الأخير لا يكون إلا بتوفير فرص عمل ملائمة لمجموع طالبيه، الذين هم في تزايد مستمر وبخاصة في الدول النامية.

اهتمت كل دول العالم، وكذلك بعض الهيئات الدولية، بدراسة وتحليل الاقتصادات، بغرض التعرف إلى مستويات النمو والتطور، فاضطرت إلى اللجوء إلى استعمال مجموعة من المؤشرات. ولعل قياس البطالة ومعدلات التشغيل للحكم على الحالة الراهنة للتنمية المستدامة بالمقارنة مع التحديات التي تطرحها هذه الأخيرة هي من بين أهم المؤشرات الكمية.

تسعى هذه الدراسة للتعرف إلى مدى أهمية التحكم في ظاهرة البطالة وخلق فرص شغل في تحقيق التنمية المستدامة وعلاقتهما بالفقر. لذلك سنحاول دراسة الحالة الراهنة للتنمية المستدامة بتونس، وعلاقة البطالة بالفقر.

لدراسة هذه الإشكالية، ينطلق البحث من فرضية أساسية وهي: التقليص من البطالة يسهم في النهوض برفاهية الأفراد والمجتمعات ما يمكن من استدامة التنمية. وفي هذا الإطار سيتم دراسة النقاط التالية:

– تعريف التنمية المستدامة ومؤشرات قياسها.

– العمل والبطالة ضمن مؤشرات قياس التنمية الاجتماعية المستدامة.

– واقع العمل، البطالة وعلاقتها بالفقر في تونس.

أولاً: التنمية المستدامة

 

1 – تعريف التنمية المستدامة

تهدف التنمية إلى تغيير البناء الاجتماعي وتعديل الأدوار والمراكز، وتطوير الإمكانات المتعددة الجوانب، بعد رصدها وتوجيهها نحو تحقيق التغيير في المعطيات الفكرية والقيمية، من خلال تكافل القوى البشرية لترجمة الخطط العلمية التنموية إلى مشروعات فاعلة تؤدي مخرجاتها إلى إحداث التغييرات المرجوة. هذه التغييرات تسببت في نتائج ليست كلها إيجابية، حيث شهدت نهاية القرن العشرين تنامي الوعي – لدى جميع الدول – بالقضايا البيئية والاجتماعية الناتجة من النمو الاقتصادي، فبرزت طفرة من المفاهيم حول التنمية المستدامة. فقد أورد «فوك وبرزارد»[1] سنة 1996 أكثر من ثمانين تعريفاً مختلفاً – وأحياناً – متناقضاً.

من أهم التعريفات وأوسعها انتشاراً، ذلك الوارد في تقرير برونتلاند[2]، الذي عرّفها بأنها «التنمية التي تلبي حاجات الجيل الحاضر من دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها»[3]. فهي إذاً تنمية تراعي حق الأجيال القادمة في الثروات الطبيعية للمجال الحيوي لكوكب الأرض، كما أنها تضع الحاجات الأساسية للإنسان في المقام الأول، وهو جوهر وروح معنى التنمية المستدامة التي سنركز عليها في هذا البحث. وأولوياتها هي تلبية حاجات الإنسان من الغذاء والمسكن والملبس وحق العمل والتعليم والحصول على الخدمات الصحية بصفة دائمة، وكل ما يتصل بتحسين نوعية حياته المادية والاجتماعية. وهو ما نقصده في قول الأبعاد الاجتماعية في التنمية المستدامة[4].

من خلال هذه المفاهيم يمكن أن نستخلص أن التنمية المستدامة ترتكز على ثلاثة أبعاد: اقتصادية واجتماعية وبيئية؛ كما اهتمت في بعض المواضع بالتنوع الثقافي كأحد مكونات التنمية المستدامة.

– بالنسبة إلى البعد الاجتماعي، وهو الذي يعنينا في هذا البحث، فمفاده أنه يمكن للفقراء الحصول، بالحظوظ نفسها، على الموارد التي تسمح لهم بتحقيق الرفاهية؛ ولا يكون ذلك إلا بالحصول على شغل. يستند مفهوم التنمية المستدامة إلى مجموعة من الأسس الرامية إلى تحقيق أهدافها وهي أسس اقتصادية وبيئية وتقنية واجتماعية. ويشير هذا الأخير إلى العلاقة بين الطبيعة والبشر، وإلى النهوض برفاهية الناس، وتحسين سبل الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية الأساسية، والوفاء بالحد الأدنى من معايير الأمن، واحترام حقوق الإنسان. كما يشير إلى تنمية الثقافات المختلفة، والتنوع، والتعددية، والمشاركة الفعلية للمواطن في صياغة القرار. كما يجب ألّا ترتكز التنمية إزاء هذا المفهوم على قيمة عائدات النمو الاقتصادي بقدر ارتكازها على النوعية وكيفية توزيع تلك العائدات، وما يترتب عن ذلك من تحسين للظروف المعيشية للمواطنين. معنى ذلك أنه لا بد من أن يشتمل مفهوم العائد من التنمية ليشمل كل ما يعود على المجتمع بالنفع، بحيث لا يقتصر ذلك المفهوم على العائد والتكلفة المادية استناداً إلى مردود الآثار الاقتصادية والبيئية فقط غير المباشرة وما يترتب عليها من تكلفة اجتماعية.

2 – مؤشرات قياس التنمية المستدامة

قبل الإشارة إلى أبرز المؤشرات الأساسية للتنمية المستدامة، لا بد من أن نوضح بعض النقاط الأساسية التي تعتبر نقاطاً وخصائص مشتركة بين كل عمل تنموي، وهي على التوالي:

– التنمية عملية وليست حالة، وبالتالي فإنها مستمرة ومتصاعدة، تعبيراً عن تجدد حاجات المجتمع.

– التنمية عملية مجتمعية، يجب أن تسهم فيها كل الفئات والقطاعات والجماعات، ولا يجوز اعتمادها على فئة قليلة أو مورد واحد.

– التنمية عملية واعية، وهذا يعني أنها ليست عملية عشوائية، وإنما عملية محددة الغايات، ذات استراتيجية طويلة المدى، وأهداف مرحلية وخطط وبرامج.

– التنمية عملية موجهة بموجب إرادة تنموية، تعي الغايات المجتمعية وتلتزم بتحقيقها، وتمتلك القدرة على تحقيق الاستخدام الكفء لموارد المجتمع، إنتاجاً وتوزيعاً.

– التنمية ظاهرة كلية، تحدث تحوُّلات هيكلية، وهذا يمثل إحدى السمات التي تميّز عملية التنمية الشاملة عن عملية النمو الاقتصادي. وهذه التحولات تشمل الإطار السياسي والاجتماعي والثقافي، مثلما هي القدرة والتقنية والبناء المادي للقاعدة الإنتاجية. ويقاس الوضع القائم للتنمية المستدامة في أي دولة بالاعتماد على مجموعة من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والمؤسسية. هذه المؤشرات تعكس مدى نجاح الدول في تحقيق التنمية المستدامة، وهي تقيّم بشكل رئيسي حالة الدول من خلال معايير كمية يمكن حسابها ومتابعة تغيراتها وتوجهاتها.

كما أن مثل هذه المؤشرات من شأنها أن تسهم في إعطاء صورة واضحة عن حالة التنمية المستدامة في الدولة، هذه المؤشرات هي كالآتي:

أ – المؤشرات الاقتصادية

وهي: نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي؛ نسبة إجمالي الاستثمار من الناتج المحلي الإجمالي؛ مجموع الدين الخارجي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي؛ صافي المساعدة الإنمائية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.

ب – المؤشرات الاجتماعية

وهي: مؤشر الفقر؛ معدل البطالة؛ نوعية الحياة؛ التعليم؛ معدل النمو السكاني؛ النسبة المئوية لسكان المناطق الحضرية.

ج – المؤشرات البيئية

وهي: متوسط نصيب الفرد من الموارد المائية؛ متوسط نصيب الفرد من إجمالي الأراضي المزروعة؛ كمية الأسمدة المستخدمة سنوياً؛ الأراضي الزراعية الصالحة والمصابة بالتصحر؛ التغير في مساحة الغابات.

د – المؤشرات المؤسسية

وهي: خطوط الهاتف الرئيسة لكل 100 نسمة؛ المشتركون في الهاتف النقال لكل 100 نسمة؛ الحواسيب الشخصية لكل 100 نسمة؛ مستخدمو الإنترنت لكل 100 نسمة.

ثانياً: البعد الاجتماعي في التنمية المستدامة

إن الاهتمام بمفهوم التنمية ليس جديداً حيث يُرجعه المهتمون إلى القرن التاسع عشر؛ لكن الاهتمام بقضية استدامة التنمية يعتبر حديثاً. وقد تزايد هذا الاهتمام خلال العقود الأخيرة. فمن المنظور الاقتصادي، تعني الاستدامة استمرارية النمو الاقتصادي وتطويره لأطول فترة ممكنة، أما قياس هذا النمو فيكون عادة بمعدلات الدخل والاستهلاك، ويتضمن ذلك الكثير من مقومات العيش مثل الدخل والطعام والمسكن والنقل والملبس والصحة والتعليم. أما في بعدها الاجتماعي، فالاستدامة تعني الاهتمام بتوفير فرص الحصول على العمل والخدمات العامة وأهمها الصحة والتعليم والعدالة. من هنا فالاستدامة هي «كيفية تحقيق النمو الذي يأخذ بعين الاعتبار الجانب الإنساني بكل أبعاده، الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية. ولن يتم ذلك دون القضاء على كل أشكال الإخلالات والفوارق سواء كانت داخل نفس المجتمع أي بين مختلف الفئات التي تشكله أو بين دول الشمال والجنوب أو بين مختلف الأجيال»[5].

وهناك من يرى أن فكرة الاستدامة تعتمد على مؤشرين: الأول، بيئي ويسمى «البصمة الإيكولوجية»؛ والثاني، اجتماعي ويسمى «مؤشر التنمية الاجتماعية». فالبصمة الإيكولوجية تسمح بقياس المساحة المستغلة من أجل التنمية. أما مؤشر التنمية الاجتماعية فيشمل الفقر والبطالة ونوعية الحياة والتعليم والنمو السكاني. فالاقتصادات التي تمتاز بالاستدامة هي تلك التي تسعى إلى توفير الشرطين معاً واحترامهما. فلا يمكن تحقيق التنمية الاجتماعية من دون الوصول بالإنسان إلى حد أدنى لمستوى المعيشة لا ينبغي أن ينزل عنه، ويكون ذلك بتوفير التعليم والصحة والمسكن الملائم والعمل المناسب لقدرات الإنسان، وكذلك الأمن والتأمين الاجتماعي، والقضاء على الاستغلال وعدم تكافؤ الفرص.

وبالرغم من هذا الاهتمام المتزايد بتحقيق الاستدامة إلا «أن الواقع الحالي للدول خاصة منها النامية لا يسمح بتحقيق تلك التنمية المستدامة، نظراً لتفاقم الفقر بكل أشكاله ومكوناته وتفاقم الأمية والبطالة وارتفاع نسبة الوفيات وغيرها»[6].

ومن الاستدامة يتضح أن المسألة الاجتماعية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنمو والتطور الاقتصادي وأن تحقيق التنمية المستدامة يمر عبر معالجة المسائل الاجتماعية، ومن بينها – وأهمها – مشكلتا العمل والبطالة. فيمكن اعتبار هذين الأخيرين بمنزلة الحلقة المفقودة في معادلة استدامة التنمية وعلاقتهما بالأمن والاستقرار الاجتماعي، وانعدام ذلك يعتبر تجاوزاً لحقوق الإنسان وانعدام الكرامة وتصاعد خطر التوترات الاجتماعية والعنف.

ومن ثم فإن السعي للوصول إلى المستوى اللائق بالطبقة العاملة المنتجة، يكون حجر الزاوية في التنمية والقضاء على الفقر[7]. إن تحسين معدلات النمو الاقتصادي يشمل من بين ما يشمله الحد من الفقر. ولن يكون بمقدور أي نمو في الاقتصاد أن يحد من الفقر بشكل فعال إلا من خلال نمو الإنتاج وانخفاض البطالة.

و«الاستدامة الاجتماعية» هي أحد مكونات التنمية البشرية، وهي تهدف إلى توفير الشروط التي تسمح للأجيال المستقبلية بالمحافظة على الكرامة الإنسانية، ويتطلب ذلك جهداً عند الأجيال الحاضرة، ما يسهم في توفير عناصر النمو على المدى الطويل لأجيال المستقبل.

يرتبط الفقر ارتباطاً وثيقاً بالعمل والبطالة. فقد أقر مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية في سنة 1995 الذي انعقد بـ «كوبنهاغن» بشأن التنمية الاجتماعية «وجود الصلة بين القضاء على الفقر والعمالة»[8]. كما أنه يوجد ارتباط مباشر بين المكونات النوعية للعمالة من حيث درجة التأهيل والتكوين والتدرب والكفاءة وبين الفقر وإنتاجية العمل؛ «فتحسين الإنتاجية مصدر حيوي للتحسينات المستدامة وغير التضخمية في مستويات المعيشة وفرص العمل والحد من الفقر»[9].

ثالثاً: واقع العمل والبطالة في تونس

 

1 – أسباب تفاقم ظاهرة البطالة في تونس

يرجع معظم المختصين تفاقم ظاهرة البطالة في تونس إلى الأسباب الآتية:

– ضعف القطاعات الاقتصادية التي تحتاج إلى يد عاملة كثيفة وعلى رأسها قطاع الصناعات التحويلية نتيجة ضعف تنافسيتها أمام المنافسة الأجنبية. إن أول مشكلة تعانيها تونس – في ما يتعلق بسوق العمل – هي عدم قدرة القطاع المهيكل، وعلى وجه الخصوص القطاع الصناعي، على خلق فرص عمل، وذلك نتيجة التدني الشديد في معدلات نموه، ما انعكس سلباً على القدرة على خلق مناصب الشغل وأدى إلى فقدان بعضها.

– تزايد ظاهرة تسريح العمال نتيجة سياسة إعادة هيكلة القطاع الاقتصادي العام، تحت ضغط ما يسمى: تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي؛ الذي فرضه كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث تم تسريح حوالى 12.000عامل خلال الفترة 2000 – 2008 ولا سيَّما في القطاع الخاص.

تميز سوق العمل بتونس منذ العشرية الأولى من القرن الحالي بارتفاع كبير في نسبة البطالة وصلت في بعض الأحيان إلى أكثر من 19.5 بالمئة. ولمعرفة طبيعة ظاهرة البطالة في تونس، لا بد من أن نفهم أن المؤشرات الحالية حول معدلات العمالة، ونسب البطالة في تونس تشير إلى أنه من الصعب الوصول إلى نتائج إيجابية في مجال تحقيق التنمية المستدامة، لأن ذلك يتطلب خفض نسب البطالة بحيث يؤدي إلى التحكم في تفاقم الفقر؛ وهي فرصة لا تتوافر على الأمد القريب.

الجدول الرقم (1)

نسبة البطالة في تونس حسب الجنس (2010 – 2014)

السنةالجنس
20142013201220112010
12.713.214.315.2ذكور
21.522.625.327.818.9إناث
15.215.819.821.514.9المجموع

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء (تونس) (تموز/يوليو 2014).

يوضح تحليل واقع البطالة في تونس أن الوضع معقد، وهي مشكلة مستمرة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، وذلك نتيجة طبيعية للنمط التنموي التابع، حيث أجبرت تونس على الانخراط في برنامج التكيُّف الهيكلي، حال الكثير من دول العالم الثالث من أجل جدولة ديونها بشروط تستهدف ما أصبح يعرف بـ «استرداد التّكلفة» (La Récupération des coûts)، على المدى القصير، من خلال التّفويت في المؤسّسات العموميّة، والضّغط على الإنفاق العمومي في المجالات الحيويّة، ورفع الدّعم عن المواد الأساسيّة التي تمثّل قوام نفقات الاستهلاك للفقراء، وتحرير التّجارة الخارجيّة.

ونتيجة لهذه السياسة تراكمت الديون حتى بلغت 10.480 مليار يورو سنة 2006، أي ما يعادل 59.68 بالمئة من الناتج الإجمالي الخام. وتقدر اليوم (سنة 2014) بـ20 مليار يورو تقريباً.

كما انعكست هذه الإجراءات الاقتصادية سلباً على الوضع المعيشي للمواطن، تقشّفاً وتدهوراً في القدرة الشّرائيّة بفعل التّرفيع في الأسعار، وتقليصاً في فرص الشّغل، وارتفاعاً في نسبة البطالة، وتزايداً في الفوارق الاجتماعيّة. وهو المناخ الذي ولّد التّوتّرات والاحتجاجات الاجتماعيّة منذ السّبعينيات، ولا تزال شروط إنتاجها قائمة حتّى في المسارات الجديدة لاستحقاقات الحراك الشعبي الحالي.

2 – خصائص سوق العمل في تونس

بلغ معدل البطالة سنة 2014 نسبة 15 بالمئة تقريباً (12.7 بالمئة ذكور و21.5 إناث). وكان هذا المعدل على الوتيرة نفسها خلال السنوات السابقة، وهو ما وضع من بين الدول التي تعاني أزمة البطالة مقارنة بعدد سكانها من جهة، وغياب الموارد الطبيعية من جهة أخرى. لقد بقي معدل البطالة مرتفعاً ومتقارباً خلال كامل العشرية الأخيرة؛ فقد كان في سنة 2006 في حدود 12.5 بالمئة، وفي سنة 2012 في حدود 19.8 بالمئة.

تدل الإحصاءات اليوم على أن معدلات البطالة ليست هي نفسها التي كانت تمتاز بها فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وذلك على المستويين الكمي والنوعي.

إن تفاقم ظاهرة البطالة في تونس مسّ كل الفئات الاجتماعية ولا سيّما الشباب وأصحاب الشهادات العلمية. فمن مجموع العاطلين من العمل، البالغ عددهم سنة 2014 قرابة 800 ألف شخص، نجد أن أكثر من 65 بالمئة منهم تقل أعمارهم عن 30 سنة. وهو ما جعل مسألة البطالة مشكلاً هيكلياً بالأساس، من خلال ارتفاع نسبة العاطلين من العمل من أصحاب الشهادات العليا. ونظراً إلى تفاقم الوضع أصبحت قضية خلق فرص الشغل في تونس هي أساس كل سياسات التنمية المنتهجة.

الجدول الرقم (2)

نسبة البطالة من بين حاملي الشهادات العليا (2010 – 2014)

السنةالجنس
20142013201220112010
21.222.019.523.115.8ذكور
40.843.545.84432.9اناث
31.432.732.633.523.3المجموع

المصدر: المسح الوطني حول السكن والتشغيل (تونس: المعهد الوطني للإحصاء، 2015).

إن الوضع الحالي هو نتاج للأزمات المتتالية التي عرفها الاقتصاد التونسي في الثمانينيات، بل قد يعود إلى عقود ماضية تتلخص أساساً في النمط التنموي المتَّبع منذ الاستقلال، حيث خضعت تونس لأزمات متعددة ومتتالية (1978 – 1982 – 1987) خلفت آثاراً سلبية بليغة في اقتصادها.

تشير مختلف التقارير خلال الفترة نفسها، حول الوضع الاجتماعي والاقتصادي في تونس إلى ارتفاع نسبة الفقر، بالرغم من التحسن في بعض مؤشرات التنمية (الصحة والتربية وانخفاض في نسبة الوفيات، بالإضافة إلى المساواة بين الجنسين) وتبقى نسبة الفقر مرتفعة بالمناطق الريفية ولدى النساء والشباب خاصة، وسنوضح ذلك في موضع لاحق.

إن المتمعن جيداً في الإحصاءات الخاصة بالعمالة، يلاحظ مرور الاقتصاد التونسي في هذا المجال عبر مرحلتين كبيرتين وهما: الأولى، مرحلة التجربة الاشتراكية ما قبل 1972، وتعرف هذه الفترة بالحقبة الاشتراكية (التعاضد) التي كانت تتمحور أساساً على بناء اقتصاد مبني على الصناعة والزراعات الكبرى كقطاعات يمكن أن تحدث التنمية الاقتصادية تحت رعاية الدولة. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة وقع فيها الاعتماد على اقتصاد السوق وانتهاج النهج الليبرالي على مستوى الاجتماعي فأصبح من الصعب التحكم في معدل البطالة.

 

نلاحظ أيضاً أن العمالة تتوزع على مختلف النشاطات الاقتصادية بصفة غير متوازنة، حيث يحظى قطاع الخدمات بنصيب الأسد منها بنسبة 51.3 بالمئة من جملة القطاعات الأخرى. الجدير بالذكر أن طالب الشغل في تونس يخير العمل في القطاع العام وخاصة في مجال الخدمات وهذا مرتبط بعقلية الاستقرار، وهو إرث من الحقبة السابقة (التعاضدية) حين كان الموظف يتمتع بجراية قارّةٍ ومرتبة ومكانة اجتماعية ورأس مال رمزي اجتماعي كقيمة مضافة في المجتمع التقليدي، وهو ما يمكن أن نلخصه من خلال الجدول الرقم (3):

الجدول الرقم (3)

توزع المشتغلين حسب قطاع النشاط الاقتصادي

(الوحدة: الألف)

20142013201220112010القطاع     السنة
503.5514.1532.1522.2575.8الفلاحة والصيد البحري
637.5624.2601.4575.3598.2الصناعات المعملية(*)
499.1483.3461.0465.5474.0الصناعات غير المعملية
1741.21692.61626.71575.81599.4الخدمات
11.212.212.916.330.0غير مصرح به
3392.53326.63234.33155.23277.4المجموع

(*) المقصود بالصناعات المعملية مجموع النشاطات الآتية: صناعات غذائية؛ مواد البناء والخزف والبلور؛ صناعات ميكانيكية وكهربائية؛ صناعات كيميائية؛ صناعات النسيج والملابس والأحذية وصناعات معملية أخرى. أما بالنسبة إلى الصناعات غير المعملية فالمقصود هو مجموع المناجم والطاقات والبناء والأشغال العامة، أما الخدمات فهي تشمل مجموع التجارة والنقل والاتصالات والنزل والمطاعم، البنوك والتأمين،خدمات اجتماعية وثقافية والتربية والصحة والخدمات الإدارية.

المصدر: المصدر نفسه.

3 – خصائص البطالة في تونس

تتميز البطالة في تونس بأنها:

– تمس الفئات الشابة: حيث إن 68 بالمئة من معدل البطالة تمس الفئات التي تقل أعمارها عن 30 سنة، فإلى نهاية سنة 2014، بلغ عدد طالبي العمل الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة حوالى 544 ألف شخص.

– حوالى 73.5 بالمئة من البطالين من فئة المقصيين من النظام المدرسي أي أن البطالة تمس من ليس لديهم مؤهل دراسي كافٍ يسمح لهم بالالتحاق بمناصب الشغل المطروحة.

– البطالة موجودة في المناطق الحضرية كما في المناطق الريفية حيث بلغت نسبة البطالين القاطنين في الأرياف سنة 2012 حوالى 49 بالمئة بعدما كانت 36.3 بالمئة في نهاية سنة 2010.

– بالرغم من تراجع نسبة البطالة ابتداء من سنة 2012 إلى يومنا هذا، فإن سوق العمل في تونس يتصف بتأثيره السلبي في الاقتصاد الوطني من خلال تفاقم العمل غير الرسمي، غير المهيكل، فهناك دراسات ترى أن هذا القطاع غير المهيكل يستوعب 44 بالمئة من اليد العاملة النشيطة[10].

– يتضح من خلال استغلال المعطيات الخاصة بحالة العمالة، أن عدد العمال الدائمين سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص لا يمثل إلا 63 بالمئة وأن عدد العمال الأحرار أي في السوق الموازي المعروف بالقطاع غير المهيكل يمثل 37 بالمئة من مجموع اليد العاملة النشطة.

– إن عدد العاطلات من العمل من النساء بلغ 247.7 ألف بنسبة بطالة في حدود 23.3 بالمئة مقابل 398.4 ألف عاطل من العمل من الذكور بنسبة 13.9 بالمئة. نلاحظ التفاوت أيضاً على المستوى الجهوي حيث نجد أن أقل نسبة بطالة في إقليم تونس الكبرى بنسبة 17 بالمئة، بينما تم تسجيل أعلى نسبة بطالة في الجنوب الشرقي بنسبة 23.5 بالمئة . كما أن عدد العاطلين من العمل بين حاملي الشهادات العليا سجل ارتفاعاً بأكثر من 3 آلاف ليكون في حدود 231 ألفاً مقابل 228 ألف عاطل خلال الثلاثية الرابعة من سنة 2012، وهو ما يعادل نسبة بطالة تساوي 33.2 بالمئة تتوزع على 22.6 بالمئة لدى الذكور و45.3 بالمئة لدى الإناث.

ونشير إلى أن شهادة التقني السامي أو ما يعادلها تعتبر الاختصاص الذي أحدث أكبر عدد من مواطن الشغل في صفوف حاملي الشهائد العليا بتوفير أكثر من 76 ألف موطن عمل. وبالمقابل فإن شهادات تعليم عالٍ أخرى مثل الطبيب والصيدلي والمهندس… هي من أقل الاختصاصات الموفرة لمواطن الشغل. وهو ما يوضحه الجدول الرقم (4):

الجدول الرقم (4)

توزيع العاطلين من بين حاملي شهادات التعليم العالي حسب نوعها (2010 – 2014)

السنةالشهادة العلمية
20142013201220112010
66.270.879.087.157.9شهادة تقني سامٍ أو ما يعادلها
40.337.734.932.021.1الإجازة في الإنسانيات
33.837.131.930.822.9الإجازة في الحقوق والتصرف والاقتصاد
71.463.446.336.927.2الإجازة في العلوم الصحيحة (رياضيات، فيزياء، كيمياء…)
29.626.418.115.59.9شهادات تعليم عالٍ أخرى (هندسة، طبيب، صيدلي)
241.3234.9210.2202.3139.0المجموع

المصدر: المصدر نفسه.

رابعاً: البطالة والفقر

حسب المعهد الوطني للإحصاء، تبلغ نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى المدقع 3.08 بالمئة أي حوالى 400 ألف تونسي، في حين تبلغ نسبة التونسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى 11.4 بالمئة، أي قرابة مليون و200 ألف شخص. وقد تراجعت نسبة الفقر من 32.04 بالمئة إلى 15.02 بالمئة سنة 2014. والفقير هو كل شخص يقل دخله عن الدولار في اليوم. غير أن البنك الدولي عرف الدول الفقيرة بأنها الدول منخفضة الدخل أي التي يقل فيها دخل الفرد عن 600 دولار سنوياً أي حوالى 1200 دينار تونسي.

فمن أهم الأسباب التي يمكن أن نذكرها والمتعلقة بظاهرة الفقر في تونس هو غياب التوزيع العادل للثروات بين الجهات، مما ساهم في اتساع الهوة وانقسام المجتمع إلى فقير وغني، وأن ما تسمى الطبقة الوسطى في حالة تقلص لصالح طبقة الفقراء ومحدودي الدخل. هذا فضلاً عن تفاقم محدودية الدخل الفردي للعائلات الفقيرة والمتوسطة وارتفاع معدل عبء الإعالة وعدم المساواة في توزيع الأصول المادية بين السكان وبين الجهات، وبخاصة الداخلية التي تتميز بأكبر نسبة للفقر وانخفاض معدل النمو السنوي في نصيب الفرد من الناتج الوطني الإجمالي. نتيجة لذلك لا يمكن تحقيق التنمية، وبخاصة في جانبها الاجتماعي، لأن هذه الحالة لا تسمح بتوفير الرفاهية لأفراد المجتمع طالما واصلوا المعاناة من هاتين المشكلتين (ضعف الدخل والبطالة المستمرة).

يقدر المعهد الوطني للإحصاء نسبة الفقر بمختلف جهات تونس لسنة 2010 على النحو التالي: أعلى نسبة بجهة الوسط الغربي 32.3 بالمئة، تليها جهة الشمال الغربي بنسبة 25.7 حيث تبلغ نسبة السكان تحت خط الفقر الأعلى في ولايات الشمال الغربي بولاية جندوبة، ثم نجد جهة الجنوب الغربي حيث تصل نسبة الفقر إلى 21.5 بالمئة. ثم الجنوب الشرقي إلى 17.9 بالمئة و10.03 بالمئة بالشمال الشرقي، و9.1 بالمئة بإقليم تونس الكبرى.

هذه إذاً خارطة الفقر في تونس حسب الجهات الكبرى للبلاد، ويعود ارتفاع نسبة الفقر في تونس إلى ارتفاع نسبة العاطلين من العمل حيث بلغت نسبة البطالة خلال الثلاثي الأول من سنة 2014 قرابة 15 بالمئة مقابل 15.3 خلال الثلاثي الرابع من سنة 2013 لتشهد بالتالي نسبة تراجع قدرت بـ 0.1 نقطة وفق إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء، ويقدر عدد العاطلين من العمل وفق ما أفرزته نتائج المسح الوطني حول السكان والتشغيل الذي أنجزه المعهد بالنسبة للثلاثي الأول من سنة 2014 نحو 605.8 ألف من مجموع السكان النشطين، الذين بلغ عددهم 3 ملايين و998 ألفاً.

الفقر إذاً ظاهرة تتأثر شديد التأثر بالأوضاع التي يعيشها بلد ما كالصراعات والتجاذبات والحروب، حيث نجد أكثر الدول فقراً في العالم هي أقلها استقراراً وأكثرها حروباً وصراعات عرقية وسياسية، نظراً إلى عدم وجود سياسات اقتصادية محكمة ومدروسة تقوم بالتوزيع العادل للثروات بين السكان وتقليص التفاوت بين الجهات.

وإذا أردنا أن نرسم خارطة للعلاقة بين البطالة والفقر بتونس، فإننا نلاحظ أن معدل الفقر في تونس[11]، حسب المقياس العالمي الذي حدد عتبة الفقر بدخل 2 دولار للفرد الواحد يومياً، هو 24.7 بالمئة. وتبقى هذه الأرقام رغم فظاعتها محل شك، إذا علمنا بوجود مليون بطال حسب المعهد الوطني للإحصاء بتاريخ 2/11/2011، حيث بلغت البطالة بولاية قفصة مثلاً 46 بالمئة والقيروان 41 بالمئة وسيدي بوزيد 40 بالمئة والقصرين 39 بالمئة، وهي الولايات نفسها التي تعاني نسبة بطالة عالية كما ورد في جزء سابق. أما عن نسب الفقر فهي تتوزع حسب الولايات كما يرد في الجدول الرقم (5):

الجدول الرقم (5)

نسبة الفقر والبطالة حسب المحافظات

المحافظةنسبة الفقر
2011
النسبة العامة
للبطالة 2010
تونس13.414.2
أريانة10.110.8
بن عروس12.812.2
منوبة11.015.3
نابل17.811.4
بنزرت23.812.8
زغوان31.09.4
سوسة14.913.0
المنستير15.86.1
المهدية29.812.2
صفاقس17.87.4
جندوبة41.017.7
الكاف42.012.4
سليانة50.115.6
القيروان34.010.6
القصرين46.420.7
سيدي بوزيد42.314.7
قفصة30.928.3
توزر38.717.0
قبلي32.817.5
قابس28.918.1
مدنين24.513.9
تطاوين38.328.8

 

فالعلاقة بين البطالة والفقر وإن بدت في منطقها من البديهيات، حيث يعدُّ فقيراً كل من ليس له عمل كمورد رزق لتلبية حاجاته الأساسية، إلا أنه توجد متغيرات أخرى تؤثر في هذه البديهية ومن أهمها المجال الحضري، حيث يمكن أن تكون العلاقة سببية بامتياز بين البطالة والفقر، إلا انه في المجال الريفي لا تكون هذه العلاقة واضحة بحكم العلاقات الاجتماعية وحالة التضامن الموجودة بين سكان هذا المجال. كذلك يوجد متغير ثانٍ هو مدى حضور القطاع اللاشكلي، إذ يقلص هذا الأخير من حدة الفقر بالرغم من أنه يمثل بطالة مقنعة.

ويمكن أن ترتبط مشاكل البطالة بمشاكل الفقر؛ فالواقع أن إحدى الأدوات المهمة في علاج الفقر هي توفير فرص للشغل المنتج بالأجر الكافي لمجموع المحتاجين. ولكن توفير العمل لا يمكن أن يكون العامل الوحيد لتحقيق الرفاهية والتنمية.

يجب أن لا يخفي الارتباط بين البطالة والفقر عن أعيننا أن مشكلتي البطالة والفقر موضوع منفصل ويجب عدم الخلط بينهما. لأن بمجرد توفير فرص للعمل لا يمكن تلقائياً علاج مشاكل الفقر؛ فمن الشائع أن يحصل رب العائلة على عمل، ولكنه يعيش هو وأسرته في حالة من الخصاصة والحاجة، وبخاصة إذا كان (رب العائلة) لا يملك أي مهارات أو أي أصول مالية أو عينية أو كانت له أسرة ممتدة. ولأسباب تقريباً متشابهة لا يكفي مجرد خلق فرص العمل لنتمكن من القول إنه يوجد توزيع عادل للثروة، لأن أحد الأسباب الرئيسية للتفاوت في توزيع المداخيل هو اللاتكافؤ في توزيع الثروات. وإن ساعدت زيادة فرص الشغل في التساوي في توزيع المداخيل من العمل المنتج، فإنها لن تكون كذلك في التساوي في توزيع الدخل من الثروة.

تكبر ظاهرة الفقر وتمتد أكثر بخاصة في المناطق الريفية لولايات الوسط الغربي والشمال الغربي ليلتجئ المواطن الفقير والعاطل من العمل إلى طرق أخرى لا تخدم مصلحة الاقتصاد الوطني كالتهريب، والعمل الموازي ليصل الأمر إلى حد العبث بالثروات البيئية مثل قص أشجار الغابات وبيعها في السوق السوداء، بحثاً عن قوته اليومي، وهروباً من الجوع والتشرد الذي يهدده.

إن انعدام الحوكمة الرشيدة، قد يعرض الثروات الطبيعية للاستنزاف، وبالتالي إلى عدم القدرة على الوفاء بحاجات الأجيال المقبلة، لذلك وجب إيجاد علاقة أخلاقية تربط بين الإنسان ومحيطه، يتحقق عندها صون للبيئة والمجتمع. ولن يكون هذا ممكناً إلا بتحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، من خلال ضمان الفرص المتكافئة للعمل أولاً، ثم في مجالات التعليم والصحة والتنمية ثانياً، حتى نتمكن من تقليص نسبة الفقر. تفتقد تونس استراتيجية واضحة المعالم للحد من ظاهرة الفقر، وهي استراتيجية تتطلب أولاً توفير مواطن شغل قارة للعاطلين من العمل وثانياً توزيعاً عادلاً للثروة[12].

خاتمة

يتفق جميع الباحثين الذين خاضوا في دراسة مشكلة البطالة أنه من الصعب توضيح العلاقة الموجودة بين البطالة والفقر، ذلك أن البطالة تؤدي إلى زيادة نسب الفقر، فأُسر العاطلين من العمل تصبح أسَراً محتاجة إذا كان رب العائلة لا يشتغل، وبالرغم من أن الإحصاءات الرسمية في تونس لا توفر الأرقام حول عدد العاملين بالقطاع اللاشكلي «غير المهيكل» باعتباره يمثل ما يعرف بالبطالة المقنعة (Chômage déguisé)، إلا أن ما تم تقديمه من أرقام في هذا البحث يوضح أن عدد العاطلين من العمل في تزايد مستمر، وهذا ما يؤكد صحة الفرضية الرئيسية التي بنيت عليها الدراسة والمتمثلة بأن التقليص من تفاقم ظاهرة البطالة هو عامل أساسي يساعد على النهوض برفاهية الأفراد والمجتمعات، فالمؤشرات الحالية حول معدلات الشغل ونسب البطالة في تونس تشير إلى أنه من الصعب تحقيق نتائج إيجابية في مجال تحقيق التنمية المستدامة.

إن فرصة تونس في تحقيق ذلك مهددة، لأنه من أجل تحقيق هذا الهدف، يلزم خفض نسب البطالة، ما يؤدي إلى التحكم في تفاقم الفقر، فطالما أن معدلات البطالة عالية في تونس؛ وطالما أن مداخيل الأفراد ضعيفة؛ فإن الرفاهية ستظل دائماً مفقودة. وفي مثل هذه الظروف يستحيل الوصول إلى تحقيق الاستدامة الاجتماعية. هذه الأخيرة يكون لها مضمون عيني عندما تتكامل كل دول العالم فيما بينها، فتتحسن الظروف المعيشية لجميع سكان العالم، بالشكل الذي يحافظ على الموارد الطبيعية، وتجنيبها أن تكون عرضة للهدر والاستنزاف غير المبرر.

إن مظاهر التخلف في تونس وبقية البلدان العربية والعالم الثالث، متداخلة ومتشعِّبة ومتفاوتة، ذلك أن التخلف في هذه المجتمعات له بعد هيكلي، أي في البناء الاجتماعي (تخلف القوى المنتجة)، وبعضها الآخر يتعلق بالبناء الثقافي والرمزي وهو ما يسميه محمود الذوادي «التخلف الآخر» أي مختلف أشكال الإدراك والوعي الاجتماعي. كما أنها يمكن أن تتمظهر في علاقة بالدولة القطرية (الدولة الوطنية) وبعضها الآخر قومي، ويغلب عليه الطابع الاقتصادي حيناً والطابع الاجتماعي والثقافي أحياناً أخرى، بعضها تقليدي وبعضها الآخر في علاقة بالحداثة. وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى اختلاط السبب مع النتيجة، والكمّ مع الكيف، والمهم مع الأقل أهمية، والداخل مع الخارج؛ ما يؤدي إلى ضياع البوصلة. فعموماً يجب أن تعمل الدول النامية على البحث عن التكامل الإقليمي والقومي حتى تستطيع الخروج من حالة التخلف المفروضة عليها من قبل الدول الغنية، وذلك يكون بالنهوض بالقوى المنتجة – ونقصد عنصرها الأساسي «الإنسان» – وهو أمر يجد تجسيده الملموس في تلك العلاقة غير المتكافئة بين الإنسان والبيئة الطبيعية التي يعيش فيها، وهو ما من شأنه أن يؤثر في العوامل الأساسية الأخرى مثل تطوير العلاقات الاجتماعية حتى لا تبقى رهينة العلاقات التقليدية (الإقطاعية والقبلية والطائفية)، لأن في ذلك تفككاً اجتماعياً يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الانقسام الأفقي والعمودي. وعلى هذه المجتمعات أيضاً أن تنمي البنية الثقافية التي تعتبر سبباً ونتيجة للانتشار الواسع للأميِّة في معناها الأبجدي والوظيفي وما ينتج منه من تخلف حضاري يمكن أن يزيد التبعية الفكرية للآخر. من دون أن نغفل عن الدور الأساسي الذي يجب أن تؤديه النخب السياسية والمدنية (الأهلية) في هذه الدول من أجل التنمية بمختلف مستوياتها، وبخاصة في بعدها الزمني (الاستدامة).

ولتحقيق هذه المعادلة الصعبة، يتطلب الأمر التركيز على ثلاثة مجالات رئيسة ترتبط بتحقيق مفهوم التنمية المستدامة على المستوى الدولي، وهي:

1 – تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة، من خلال خلق ترابط بين الأنظمة والقوانين الاقتصادية العالمية، بما يكفل النمو الاقتصادي المسؤول والطويل الأمد لجميع الدول والمجتمعات من دون استثناء أو تمييز.

2 – المحافظة على الموارد البيئية والطبيعية للأجيال المقبلة، التي تتطلب البحث المستمر عن الحلول الكفيلة بالحد من الاستهلاك غير المبرر وغير المرشد للموارد الاقتصادية، هذا إضافة إلى الحد من العوامل الملوثة للبيئة.

3 – تحقيق التنمية الاجتماعية، من خلال إيجاد فرص العمل وتوفير الغذاء والتعليم والرعاية الصحية للجميع، ويكون ذلك بإرساء عدالة اجتماعية حقيقية في الداخل والعمل على التكامل الاقتصادي خاصة في بعدها الإقليمي والقومي لأن هذه الدول غير قادرة بمفردها أن تحل مشكلة التخلف.

 

قد يهمكم أيضاً  التفاوت التنموي في تونس.. قبل الثورة وبعدها

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #تونس #النمو #الاستدامة #النمو_الاقتصادي #التنمية_الاجتماعية_في_تونس #التنمية_المستدامة_بتونس #الشغل_بتونس #البطالة_في_تونس #دراسات

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 442 في كانون الأول/ديسمبر 2015.

(**) حافظ بن عمر: أستاذ علم الاجتماع في جامعة قابس – تونس.

مــراجع

الذوادي، محمود. التخلف الآخر: عولمة أزمة الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث. تونس: الأطلسية للنشر، 2002.

رزيق، كمال. «التنمية المستدامة في الوطن العربي من خلال الحكم الصالح والديمقراطية.» علوم إنسانية: السنة 3، العدد 25، تشرين الثاني/نوفمبر 2005.

ريحان، ريمان محمد. «تنمية المجتمعات الجديدة: التمكين كأداة فاعلة في عمليات التنمية الحضرية المستدامة.» (أطروحة دكتوراه، كلية الهندسة، جامعة القاهرة، 2002).

الزهراني، سعود بن حسين. مشكلات التنمية الاجتماعية في المملكة العربية السعودية خلال فترة التخطيط التنموي. ط 2. الباحة، السعودية: النادي الأدبي، 2005.

سليمان، أحمية. «السياسة العامة في مجال التشغيل ومكافحة البطالة في الجزائر.» ورقة قُدِّمت إلى: الملتقى العلمي حول السياسات العامة ودورها في بناء الدولة وتنمية المجتمع، كلية الحقوق والعلوم السياسية جامعة الطاهر مولاي سعيدة، 26 – 27 نيسان/أبريل 2009.

عبد الخالق، عبد الله. «التنمية المستديمة والعلاقة بين البيئة والتنمية.» المستقبل العربي: السنة 15، العدد 167، كانون الثاني/يناير 1993.

فيانا، ميلو فانيا. التنمية المتواصلة: قراءة في السكان والاستهلاك والبيئة. القاهرة: الجمعية المصرية للنشر والمعرفة، 1994.

قرقب، محمد. «عرض حول التوجيه والإرشاد في برامج وأجهزة التشغيل بالجزائر.» ورقة قُدِّمت إلى: الندوة الإقليمية عن دور الإرشاد والتوجيه المهني في تشغيل الشباب، طرابلس: 11 – 13/7/2005.

قرين، محمد الأمين. «المؤشرات البيئية للتنمية المستدامة.» ورقة قُدِّمَت إلى: مؤتمر التنمية المستدامة، جامعة سبها، ليبيا، 2008.

المسح الوطني حول السكن والتشغيل. تونس: المعهد الوطني للإحصاء، 2004 – 2014.

المؤتمر العربي الأول حول تشغيل الشباب، وزارة العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي بالجزائر، 15 – 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2009.

وليم، راكز هاويت. «نحو عالم مستديم.» مجلة العلوم (الكويت): العدد 1، 1990.

Barbara, Ingham. Economics and Development. London: McGraw-Hill Book Company, 1995.

Christian, Brodhag. «Développement durable: Responsabilité sociétale des entreprises.» Congrès international avec exposition d’innovations le management durable en action, Université de Genève, 4-6 Septembre 2004.

Djilali, Sari. «Interactions entre perspectives d’emploi et dynamique Socio-économique chez les jeunes: Le cas algérien». <http://iussp2005.princeton.edu/papers/50434>.

«FEMISE 2005.» Profil Algérie, Institut de la méditerranée: janvier 2006.

Fourcade, Bernard. «Les Observatoires de l’emploi et de la formation professionnelle, outils de gestion des transformations du marché du travail, Les cas de l’Algérie et de la Tunisie.» Les Notes du LIRHE, note no. 333, décembre 2000.

«Glossaire pour le développement durable.» Agora 21: Institut de l’énergie et de l’environnement de la francophonie – Ecole nationale supérieure des mines de saint Etienne: Septembre 2002.

Meadows, Donella [et al.]. The Limits to Growth: A Report to the Club of Rome’s Project on the Predicament of Mankind. New York: Universe Books, 1972.

Observatoire de la Responsabilité Sociale de l’Entreprise, développement durable et entreprises, AFNOR.

«Rapport mondial sur le développement humain.» PNUD.

«Situation de l’emploi et du chômage à la fin du mois d’Octobre 2006.» Office national des Statistiques: 2006.

[1] R. Fowke and Deo Prasad, «Sustainable Development: Cities and Local Government,» Australian Planner (1996).

[2] نُشِرَ من قِبَل اللجنة غير الحكومية التي أنشأتها الأمم المتحدة في أواسط ثمانينيات القرن العشرين بزعامة غروهارلن برونتلاند لتقديم تقرير عن القضايا البيئية.

[3] World Commission on Environment and Development (WCED), Our Common Future (Oxford: Oxford University Press, 1987).

[4] سعد عبد الله العوضي، البيئة والتنمية المستدامة (عمّان: الجمعية العربية لحماية البيئة، 2003).

[5] محمد عبد البديع، «اقتصاد حماية البيئة،» مصر المعاصرة (الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع – القاهرة)، العددان 419 – 420 (كانون الثاني/يناير 1990).

[6] Saïda Henni, «Inégalités sociales, croissance et développement durable,» Université de bordeaux IV (septembre 2004), p. 2.

[7] نور الدين هرمز، «النمو والعمالة والفقر في البلدان النامية،» مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية، سلسلة العلوم الاقتصادية والقانونية، السنة 29، العدد 1 (2007)، ص 3.

[8] Saïda Henini, «Pauvreté de capacité et développement durable en Algérie,» papier présenter à: The International Conférence on the Capability Approch, Enhancing Human Security, University of Pavia, Italy (September 2004), p. 9.

[9] هرمز، المصدر نفسه، ص 17.

[10] إذا تمّ حصر الإحصاءات لمثل هذه الظاهرة، أي معرفة حجم القطاع غير المهيكل، لأعطت للبطالة صورة أخرى أشدّ تشاؤماً مما هي معروفة عنه الآن. أظهرت النتائج التفصيلية للتعداد العام للسكان لسنة 2014 التي أفصح عنها المعهد الوطني للإحصاء، جملة من الاستنتاجات التي يتعيّن الوقوف عندها وتحليلها. ومن أهم هذه الاستنتاجات أن 33.7 بالمئة من التونسيين (الشريحة العمرية 18 – 59 سنة) أي مليون و33 ألف شخص يعملون في القطاع الموازي وليس لديهم تغطية اجتماعية على خلفية أن التعداد أظهر أن 65.4 بالمئة من التونسيين المشتغلين وعددهم أكثر من مليونين و300 ألف شخص منخرطون في الصناديق الاجتماعية.

حسب دراسة قام بها الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة عمالية بتونس، فإن المؤسسات المنتمية إلى القطاع غير المهيكل وبالتالي غير خاضعة للجباية تقدر بـ 370 ألف مؤسسة.

[11] وزارة الشؤون الاجتماعية (أيار/مايو 2011).

[12] تؤكّد دراسات وزارة الشؤون الاجتماعية أن تونس تحتاج سنوياً إلى 7000 مليون دينار للقضاء على هذه الظاهرة، عكس ما هو متاح لها الآن والذي لا يلبّي الحاجة وهو 5000 مليون دينار.


حافظ بن عمر

أستاذ علم الاجتماع في جامعة قابس- تونس.

مقالات الكاتب
Avatar
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز

Privacy Preference Center