مقدمة:

ركّز الإعلام العربي والدولي خلال موجة الانتفاضات العربية على قضية الديمقراطية والحريات الشخصية حصراً، إذْ غاب عن تحليل ماجريات الأمور الثورية أي إشارة إلى طرق الوصول إلى نمط تنموي متجدد، مستقل عن النموذج النيوليبرالي الذي تعمّمه مؤسسات التمويل الدولية، كما الإقليمية العربية أو الإسلامية. وحسب علمنا فلم نرَ حزباً سياسياً، إسلامياً كان أم مدنياً، قد ركّز في برامجه وشعاراته على هذه القضية المركزية لكي تصل الثورات العربية إلى برّ الأمان. ما شهدناه هو فقط وعود بتحسين مستويات المعيشة، تجسّدت بشكل مجزأ وفوضوي بزيادات أجور هنا وهناك تحت ضغط العمال ونقاباتهم، دون أن تقابلها أي خطة للنهوض الإنتاجي بغية كسر حلقة الاقتصاد الريْعي الذي تتميّز به الاقتصادات العربية.

إنَّ هذه الحلقة السلبية الأثر، هي التي تحول دون دخول الاقتصاد العربي منذ عقود في عالم الإنتاج والعلم والمعرفة، وبالتالي في نموذج اقتصادي فعّال، على غرار دول شرق آسيا، يمكن أن يوفّر فرص العمل الكافية لاستيعاب كل العاطلين من العمل في المساهمة في الإنتاج لكي تدخل الاقتصادات العربية في حالة تنافسية حقيقية في الأسواق الدولية.

والجدير بالملاحظة أن الحكومات الجديدة في كل من مصر وتونس لم تطور بعد أهدافاً تنموية بديلة من شأنها أن تؤمِّن فرص العمل المفقودة. ومثل هذه السياسات يجب أن تركز على استراتيجية لتوطين العلم والتكنولوجيا لدى كل الفئات الاجتماعية، بما فيها بالأولوية الفئات الريفية والفئات المدينية الفقيرة. وهذا هو ما فعلته دول شرق آسيا واليابان كأولوية في سياساتها التحديثية الهادفة إلى تطوير قدرة إنتاجية، مستقلة نسبياً عن مصادر العلم والتكنولوجيا الغربية، لكي تتمكن من بناء نشاطات اقتصادية حديثة الطابع تنتج السلع والخدمات المطلوبة على النطاق الدولي بقدرة تنافسية من ناحية السعر والجودة.

كما أنَّ حكومات تلك البلدان صاغت الأهداف المرحلية والقطاعية في هذه العملية ورسمتها بشراكة قوية بين كبار المسؤولين عن الدولة ومنظمات أرباب العمل، وكذلك، في بعض الأحيان، مع الجامعات ومعاهد التعليم المهني والتقني. وقد تم في هذه العملية تكريس الموارد المالية اللازمة من قروض طويلة الأمد وميسّرة ومن مساعدات مباشرة من قبَل الدولة لتشجيع الأبحاث والتطوير والابتكار والريادة في الأعمال الصناعية والخدماتية الحديثة الطابع (إلكترونيات، برمجيات، معلوماتية، اتصالات سلكية ولاسلكية… إلخ) كما في الصناعات الثقيلة التقليدية، أيْ صناعة التجهيزات الرأسمالية ووسائل النقل كالسفن والسيارات والطائرات في حالتي الصين والبرازيل.

أما في الوطن العربي، لم تغيِّر الوصفات النابعة من «وفاق واشنطن» (Washington Consensus) منذ أكثر من ثلاثة عقود شيئاً في حجم حيّز الفقر ولا في حجم البطالة، وبخاصة لدى العنصر الشاب المتعلّم. ذلك أنَ سياسة محاربة الفقر الوحيدة الناجحة تكمن في عملية توطين العلم والتكنولوجيا والدخول في عالم الإنتاج المكثف للسلع والخدمات المطلوبة في الاقتصاد المعوْلَم، الذي أصبح سوقاً واحداً محرراً إلى حد بعيد. ومن يتخلّف عن مثل هذا التحوّل فمحكوم عليه البقاء في اقتصاد الريْع وفي الاتكال على المساعدات الخارجية، مع كل ما يستتبع ذلك من قيود سياسية أو اقتصادية ومالية لمصادر المساعدات (سواءٌ كانت مساعدات من دولة إلى دولة أو مساعدات من مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية)، إضافة إلى الاتكال على تحويلات المغتربين والحركة السياحية في حالة العديد من الاقتصادات العربية.

ولا عجب أن الاقتصادات العربية حيث تأثرت بالانتفاضات الشعبية وبالتغييرات السياسية، تعاني مزيداً من التبعية المالية تجاه المصادر الخارجية وزيادة البطالة بدلاً من تراجعها، نظراً إلى ما يسبّبه عدم الاستقرار السياسي والانعدام التام لأي رؤية تنموية بديلة من إقفال مؤسسات اقتصادية أو تسريح عمال وعدم الإقدام على الاستثمار، الداخلي كما الخارجي، حتى في القطاعات الريْعية الطابع مثل التطوير العقاري أو المرافق السياحية. وبالتالي تقع الحكومات الجديدة في تبعية أكثر شدة بالنسبة إلى مصادر التمويل الخارجي، نظراً إلى عدم صوغ سياسات عامة بديلة اقتصادية واجتماعية وتنفيذها على نحو متسارع، من أجل استنفار كل القدرات البشرية المتوافرة لدى الفئات الشعبية كما لدى أصحاب المهارات والكفاءات، التي يجب انخراطها في عملية تبديل المسار التنموي والدخول الجدي في عالم الإنتاج خارج آليات الاقتصاد الريْعي الطابع؛ وبالتالي النجاح في القضاء التدريجي على النموذج الاقتصادي الاجتماعي السائد، وهو الذي يحول دون مثل هذا الاستنفار، وهو عنصر رئيسي في عملية التغيير الجوهري لا الشكلي.

نلاحظ هنا أن الاقتصادات العربية تتميز جميعها، وبدرجات متفاوتة، بالاتكال على مصادر ريع مختلفة وعلى رأسها تصدير المواد الأولية، وبوجه خاص النفط والغاز والفوسفات وبعض المنتوجات الزراعية، إضافة إلى الريوع العقارية وتلك العائدة إلى طرق المواصلات (قناة السويس، مرافق المواصلات الكبرى بما فيها قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية، حق مرور أنابيب النفط والغاز… إلخ.) إضافة إلى المساعدات الخارجية وتحويلات المغتربين الغزيرة[1].

نذكر في هذا المضمار أنَّ الولوج إلى مجتمع العلم والتكنولوجيا وتوطينه والمساهمة في ابتكارات جديدة هو عمل جماعي يجب أن تنخرط فيه كل الفئات الاجتماعية من أدناها إلى أعلاها. فالنجاح في التكنولوجيا لا يمكن في ظروف اليوم أن يكون نجاحاً فردياً، بلْ النجاح الفردي هو نتاج بناء وتنظيم القدرات الجماعية. والفشل الذريع في الاقتصادات العربية هو تجاهل هذه الناحية في عملية التنمية وتجزئة موضوع التنمية إلى قطاعات منفصل بعضها عن البعض وكأن لا شأن للواحدة مع الأخرى.

وفي الواقع، فإن التاريخ الاقتصادي للوطن العربي في الفترة الأخيرة هو تاريخ لنموذج «النمو المشوّه» المتعمّم الذي لم ينتبه إليه سوى القلة، وهو الذي يفسر إلى حد كبير البعد الاقتصادي ـ الاجتماعي المهم للثورات العربية. ففي ظل هذا النموذج ازدهر الفساد ونشأت العلاقات غير الصحية المتعددة الأوجه بين المؤسسة السياسية ومؤسسة الأعمال. ولقد ساد الصمت المطبق حول هذه الظاهرة سواء في الإعلام أو في البحث الأكاديمي أو في التقارير التقنية للمنظّمات الماليّة الإقليمية أو للاتحاد الأوروبي أو في المنظمات المالية الدولية العربيّة.

نبحث في القسم الأول من هذه الدراسة عناصر هذا النمو المشوّه ثم نبحث في القسم الثاني سبل التحوّل من هذا النمو السيئ إلى النمو الصالح.

أولاً: ثمانية مؤشرات رئيسية لنموذج النمو العربي المشوّه

اتّسم النمو الاقتصادي العربي والأداء الاجتماعي المرافق له، مقارنة بالبلدان الناشئة الناجحة، بمعدل منخفض من نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد (باستثناء البلدان العربية المصدرة للنفط ذات العدد القليل من السكان)، ومعدّل مرتفع جداً من تزايد البطالة، على الرغم من غناها بالموارد الطبيعية. ويمكن أن نشير هنا إلى ثمانية مؤشرات تدل بما لا لبس فيها إلى الأداء الناقص للاقتصادات العربية.

1 ـ أدنى معدل من السكان العاملين إلى العدد الإجمالي للسكان

تُظهر إحصاءات منظمة العمل الدولية أنّ نسبة السكّان العاملين إلى العدد الإجمالي للسكان في البلدان العربية التي تبلغ في المتوسط 45 بالمئة، تتعارض بحدّة مع المعدل العالمي الذي يبلغ 61.2 بالمئة ومع معدل شرق آسيا الذي يصل إلى 70 بالمئة. إلى ذلك، فإن إحصاءات العمالة في البلدان العربية تظهر انخفاضاً كبيراً في معدل مساهمة النساء في أسواق العمل ونسبة عالية جداً من العمل غير الرسمي التي تنتج عائدات ضئيلة جداً. وتبلغ هذه النسبة 70 بالمئة من مجموع العمالة في المغرب و48 بالمئة في مصر[2].

2 ـ أعلى معدل بطالة بين السكّان العاملين في سن العمل

إذا كان معدّل البطالة الإجمالي في الوطن العربي لا يبدو مرتفعاً جداً (نحو 10 بالمئة) رغم أنه الأعلى في العالم (باستثناء إسبانيا وأوروبا الوسطى)، فإن معدل البطالة بين الشباب (بين 15 و35 سنة) هو أعلى كثيراً (نحو 25 بالمئة) في حين تراوح هذه النسبة في أماكن أخرى من العالم النامي بين 8,9 بالمئة و15,7 بالمئة. ومن الخصائص الأخرى لبطالة الشباب في البلدان العربية، النسبة العالية جداً من البطالة في صفوف خريجي التعليم العالي والثانوي. وهكذا قفزت نسبة العاطلين من العمل وسط ذوي التعليم العالي من 3.8 بالمئة عام 1994 إلى 17,5 بالمئة عام 2006، في حين ارتفعت نسبة الباحثين عن عمل من ذوي التعليم العالي من 23 بالمئة عام 2001 إلى 55 بالمئة عام 2007، بينما كانت نسبة عروض العمل أدنى كثيراً من ذلك. وتقدّر نسبة غير العاملين من ذوي التعليم الثانوي في مصر بنحو 80 بالمئة من مجموع العاطلين من العمل. وهي تبلغ في المغرب 29,6 بالمئة مقابل 37,8 في الجزائر و42,5 بالمئة في تونس[3].

3 ـ ركود الأجور الحقيقية ومؤشرات الفقر

أضف إلى ذلك أنّ منظمة العمل الدولية تقول إن الأجور الحقيقية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم ترتفع إلّا قليلاً، هذا إذا كانت قد ارتفعت أصلاً، فضلاً عن أنّ إنتاجية العمال التي يستند إليها في تحديد الأجور الحقيقية ارتفعت بنسبة أقل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أي مكان آخر في العالم باستثناء أوروبا الوسطى وآسيا الوسطى اللتين خضعتا لإعادة بناء اقتصادي شامل، فالحد الأدنى الرسمي للأجور في عيّنة من خمسة بلدان: أربعة عربية وتركيا (الجزائر والأردن والمغرب وسورية وتركيا) منخفض بحدة، إذ يراوح بين 164 دولاراً أمريكياً شهرياً في سورية و 425 دولاراً في تركيا، في حين يبلغ الحد الأدنى للأجور للعمل غير الزراعي في المغرب 235 دولاراً ولا يتعدى 152 دولاراً للعمل الزراعي[4].

ويقدر مصدر إحصائي آخر أنّ المعدل السنوي للدخل الفردي في المناطق الريفية في البلدان العربية لم يزد على 320 دولاراً في عام 2008 في حين بلغ معدل الناتج المحلي الإجمالي للفرد للعام نفسه (بما في ذلك البلدان المصدرة للنفط في شبه الجزيرة العربية) 5858 دولاراً[5].

إلى ذلك، تؤكد الإحصاءات المتوافرة حول الفقر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن عدد الناس الذين يعيشون في حال الفقر قد غولي كثيراً في التقليل من حجمه. ذلك أنّ حصة الناتج المحلي الإجمالي مقابلة باستهلاك الفرد يومياً محسوباً بالدولار الأمريكي يظهر مدى الفقر على المستوى الوطني في بلدان عدة عربية، فهي تراوح بين 2,34 دولار في موريتانيا و11,05 دولار في الأردن، على الرغم من أن الاستهلاك اليومي للفرد يبلغ نحو 5 دولارات في معظم الحالات (باستثناء لبنان الذي يصل فيه إلى 22,36 دولار بسبب النسبة المرتفعة لتحويلات المغتربين في الناتج المحلي الإجمالي).

وذكر تقرير حديث يعرض التقدم في تحقيق أهداف التنمية الألفية في البلدان العربية[6] أنه برغم كون نحو 5 في المئة فقط من السكان في الوطن العربي يقعون ضمن تصنيف الفقر المدقع، إذا عنينا بذلك من يقل دخلهم عن 1,25 دولار يومياً، فإن الرقم يصل إلى 21 بالمئة إذا أخذنا بتعريف للفقر يشمل أولئك الذين يقل دخلهم عن دولارين يومياً. إلى ذلك، فإن 22 بالمئة من السكان في هذه المنطقة لا يحصلون على الرعاية الصحية الأساسية أو على التعليم أو على مستوى معيشة محترم. وأشار التقرير نفسه إلى أنّ سوء التغذية لدى الأطفال لا يزال مرتفعاً وأن أهداف التنمية للألفية على هذا المستوى لا تزال بعيدة من التحقق. إلى ذلك، وعلى الرغم من تحقيق تقدم جوهري في التعليم الابتدائي والثانوي فإن تمكين النساء لا يزال هدفاً بعيد المنال. وعلى الرغم من تقليص وفيات الأطفال إلى حدٍ كبير، فإن الإحصاءات الأخيرة تظهر نسبة تنذر بالخطر في وفيات الأمهات والولادة قبل الأوان.

إنّ معدلات الفقر مروعة جداً، لا لأنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غنية جداً بالموارد النفطية والفوسفات فحسب، بل لأنها أيضاً تملك أراضي خصبة شاسعة وموارد مائية (العراق ومصر ولبنان والمغرب والسودان وسورية وتونس).

4 ـ معدلات النموّ السنوية تعتمد إلى حدٍّ كبير على المتغيرات الخارجية

إن معدلات النمو في الاقتصادات العربية مرتبطة إلى حدّ بعيد بالمتغيرات الخارجية، وهذه المتغيرات هي:

ـ أسعار النفط.

ـ تساقط الأمطار الذي يؤثر في الإنتاج الزراعي.

ـ عائدات السياحة.

ـ تحويلات المغتربين.

ـ المساعدات الخارجية.

وهذا ما يجعل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي شديد التقلب، في البلدان المصدرة للنفط والبلدان غير المصدرة له؛ وقد باتت التغييرات في أسعار النفط (والفوسفات والمواد الكيميائية بشكل هامشي) المحدد الرئيسي لمعدلات النمو الإجمالية في المنطقة. ويعود ذلك إلى أنّ البلدان المصدرة للنفط تعتمد إلى حدٍ مهم على البلدان العربية الأخرى لتأمين اليد العاملة، وإلى أن الطلب على العمالة المهاجرة يزداد مع ارتفاع أسعار النفط وينخفض مع انخفاضها. وهكذا فإن الازدهار في البلدان العربية المصدرة للنفط بفعل ارتفاع مفاجئ في أسعار النفط يؤدي إلى الاستثمار الخارجي المباشر للأغنياء العرب من هذه البلدان. وبالتالي فإن معدلات النمو في البلدان العربية غير المصدرة للنفط باتت تعتمد على الاستثمارات العربية الخارجية المباشرة، وعلى تحويلات المغتربين التي تأتي أيضاً من المهاجرين العرب في أوروبا والولايات المتحدة وكندا.

إلى ذلك، فإن غياب البنية التحتية المائية الملائمة والإدارة المائية في البلدان ذات الإمكانيات الزراعية مثل المغرب وسورية وتونس (إضافة إلى مصر والعراق والسودان)، جعل الدخل الزراعي يعتمد على الكمية السنوية لتساقط الأمطار. أخيراً، فإن السياحة الجماهيرية من أوروبا ومن البلدان العربية الغنيّة المصدّرة للنفط هي أيضاً مصدر مهم للدخل يعتمد إلى حد كبير على الاستقرار السياسي الداخلي وعلى تقلّب الناتج الإجمالي المحلي في البلدان التي يقدم منها السائحون.

وفي الواقع، إن المحرك الرئيسي للنمو في البلدان العربية ليس محلي المركز (التجديد الصناعي، والتنويع الاقتصادي، والخدمات ذات القيمة المضافة المرتفعة التي يمكن تصديرها) بل يعتمد إلى حد كبير على متغيرات خارجيّة لا علاقة لها بالدينامية الاقتصادية المحلية.

5 ـ الهجرة ونزوح الأدمغة كمؤشر رئيسي على النمو القاصر

ينجم تزايد ظاهرة الهجرة عن ارتفاع معدل البطالة، في البلدان العربية. وبحسب دراسة لمنظمة العمل الدولية، فإن تدفق المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخصوصاً البلدان الواقعة جنوب المتوسط، هو أحد السمات الرئيسيّة للنمو المنحرف وما ينتج من ذلك من تشويه لأسواق العمل. إذ بلغ عام 2007 المجموع المتراكم لعدد المهاجرين من خمسة بلدان عربية: الجزائر ومصر ولبنان والمغرب وتونس 8,1 مليون نسمة. ويتوزع هؤلاء المهاجرون كما يأتي: 55,44 بالمئة في أوروبا (وبصفة رئيسية في بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا)، و23,76 بالمئة في البلدان العربية المصدرة للنفط التي توظف عمالاً غير مَهَرَة والمديرين والكوادر الإدارية، و7,33 بالمئة في بلدان الاغتراب التقليدية (أستراليا وكندا ونيوزيلندا والولايات المتحدة)، أمّا البقية فهاجروا إلى بلدان أخرى في أفريقيا جنوب الصحراء أو بلدان في أمريكا الوسطى والجنوبية[7].

يذكر، أنّه بين عامي 1998 و2007 تضاعف عدد المهاجرين من البلدان العربية الخمسة بالرغم من الإجراءات التقييديّة التي اتخذها عدد من الحكومات الأوروبية. فارتفع العدد من 90,800 مهاجر في عام 1998 إلى 195,600 في عام 2007 وبلغ العدد الإجمالي من المهاجرين الجدد في خلال هذه السنوات 1,550,000 منهم نحو 100 ألف طالب من البلدان الخمسة المذكورة إضافة إلى العراق، علماً أن عدداً كبيراً منهم (قدّر مؤخراً بـ 54 بالمئة) لا يعودون إلى بلدانهم. والحقيقة أنّ هذه الطفرة تكتسب على نحوٍ متزايد شكل هجرة الأدمغة واليد العاملة المؤهلة. ولقد أدى ذلك إلى مزيد من الانحدار في الإنتاجية والى أن تصبح الهجرة واحدة من ملامح النمو المشوّه موضع اهتمامنا[8].

بالطبع، ليست البلدان العربية هي الوحيدة التي تواجه مثل هذه الظاهرة، فهي موجودة أيضاً في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا الوسطى والجنوبية وآسيا. ولقد تحدث العديد من الدراسات على نحوٍ إيجابي عن مزايا الهجرة وعن الدور الإيجابي لتحويلات المهاجرين لبلدان منشئهم في الحدّ من مشاكل الفقر والبطالة. ولكن بات جليّاً الآن أنّ البلدان التي شجعت بل حتى نظّمت الهجرة الكثيفة لمواطنيها بغية الاستفادة من تحويلاتهم لم تكن اقتصاداتها هي التي نمت أسرع من غيرها. وفي واقع الأمر فإنه في 11 بلداً معنياً بوجه خاص بتصدير اليد العاملة (الجزائر وبنغلادش ومصر والهند ولبنان والمغرب ونيجيريا والفيليبين وسيريلانكا والسودان وتونس) ازداد إجمالي تحويلات المهاجرين 800 بالمئة بين عامي 1990 و2007 ووصل إلى 800 مليار دولار، في حين أنّ معدل زيادة الدخل الإجمالي المحلي للفرد لم يتعدَّ خلال هذه الفترة 170 بالمئة، وكان هذا الدخل في سبعة من هذه البلدان أقل من 2000 دولار في السنة في عام 2008 ومنها 4 بلدان أقل من 1000 دولار[9]. وبالتالي فإن هذه الإحصاءات تظهر بوضوح غياب أي تأثير إيجابي للهجرة في البلدان المصدِّرة للقوى العاملة.

وفي الفترة نفسها، تلقّت مجموعة البلدان التي صدّرت الموارد الطبيعية والبشرية أكثر من 190 مليار دولار كمساعدات تنموية، أي أن هذه البلدان استفادت بين عامي 1990 و2008 من نحو 1000 مليار دولار من الموارد الخارجية من دون أن يدخل أي منها في دائرة حميدة من تنمية قائمة على سياسة ديناميّة لتملك التكنولوجيا، وذلك بخلاف الدول الآسيوية التي، بدلاً من أن تشجع الهجرة، اعتمدت على سياسة تعبئة فاعلة للموارد البشرية المحلية واستفادت من انتشار العولمة بتنمية قدرتها على تصدير السلع والخدمات ومن ثم تلبية الطلب المحلي.

إنّ حالتَي نيجيريا، التي بلغت حصة الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي 1370 دولاراً في عام 2008، والجزائر التي ارتفع نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي إلى 4845 دولاراً في العام نفسه (بعد جمود على مستوى أدنى من 2000 دولار على مدى 10 سنوات قبل أن يتحرك صعوداً أخيراً بفعل ارتفاع أسعار النفط)، تعبّران بشكل مأساوي عن فشل نموذج اقتصادي مبني على تصدير مواد أولية ويد عاملة. ذلك أنّ أيّاً منهما لم يتمكن من رفع مستوى المعيشة على نحوٍ جوهري، على الرغم من تدفق الموارد المالية من قطاع الطاقة، بخلاف بلدان أخرى لم يكن لديها مثل هذا الدخل ذي القاعدة الريعية. وإندونيسيا هي أيضاً مثال على ذلك. فعلى الرغم من كونها مصدراً رئيسياً للنفط والخشب وعلى الرغم من مواردها الطبيعية الهائلة، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 1990 و 2003 كان منخفضاً إلى حد أنه راوح بين 640 و1000 دولار.

وكما في الحالة الجزائرية، لم يرتفع نصيب الفرد الإندونيسي من الناتج المحلي الإجمالي على نحوٍ جوهري إلا بعد الطفرة المذهلة في ارتفاع أسعار النفط منذ عام 2005، ما رفع دخل الفرد إلى مستوى 2246 دولاراً في عام 2008. وعلى سبيل المقارنة، فإنّه في العام 2008 كانت 3 اقتصادات، لا تملك أي موارد طبيعية، إلّا أنّها لم تشجع هجرة مواردها البشرية، تحظى بمتوسط سنوي لحصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يفوق كثيراً تلك التي ذكرناها: جمهورية كوريا الجنوبية حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي هو 19,115 دولار؛ وسنغافورة بمستوى 37,597 دولار للفرد؛ وتايوان بـ 16,988 دولار للفرد.

وفي الواقع، تلقّت بلدان عربية في شرق المتوسط وجنوبه بين عامي 1970 و2009 ما يعادل 396 مليار دولار. وازداد تدفق تحويلات المهاجرين في شكل متواصل خلال السنوات العشر الأخيرة. فارتفعت من 10 مليارات سنوياً في عام 2000 إلى 27 ملياراً في حلول عام 2009. وقد أصبحت تمثّل جزءاً متزايداً على نحو مضطرد من الناتج المحلي الإجمالي في الدول المعنيّة، إذ بلغت نحو 20 بالمئة في لبنان و6 بالمئة في مصر و9 بالمئة في المغرب وذلك بحسب إحصاءات البنك الدولي.

إلى ذلك، فإن البيانات المتوافرة حول استخدامات تحويلات المهاجرين تظهر أنّها عندما لا تستخدم في زيادة الاستهلاك، فإنّها تتجه إلى امتلاك أو شيْد المساكن أو إلى الأعمال التجارية الصغيرة، الأمر الذي يزيد من تركُّز الاستثمار المحلي في قطاع العقارات أو في قطاع التجارة المحلية[10].

أمّا بالنسبة إلى هجرة الأدمغة، فإنّها تتشكل غالباً من الطلاب الذين يدرسون في الخارج ولا يعودون إلى بلادهم بعد الانتهاء من الدراسة. إضافة إلى عدد من أصحاب المهن الحرّة غير العاملين، أو غير الراضين عن ظروف عملهم (كالأطباء والمهندسين وعلماء الأحياء…) ممّن يقرّرون مغادرة بلدانهم. ولقد قدّرت مؤخراً مؤسسة للتوظيف تعمل في بلدان مجلس التعاون الخليجي ومتخصصة في العمالة المؤهلة، أنّ 54 بالمئة من الطلاب العرب في الخارج لم يعودوا إلى بلادهم وأنّ 70 ألف خريج جامعي يهاجرون من البلدان العربية كل عام[11]. وما له دلالته كذلك أنّ 120,602 طالب عربي تسجلوا في جامعات أجنبية في عام 1999 وهو رقم أعلى من عدد الطلاب الصينيين (106,036) أو الهنود ( 52,932) الذين كانوا يدرسون في الخارج في تلك السنة[12]. وكذلك يقدّر عدد العلماء والأطباء والمهندسين العرب الذين يغادرون الوطن العربي ولا يعودون إلى بلادهم بـ 100 ألف سنوياً، وهو ما يكلّف دولهم مليار دولار سنوياً[13]. وتشير دراسة أخرى إلى أنّ هجرة 450 ألف «دماغ» من الوطن العربي كلّفت البلدان التي هاجروا منها أكثر من 200 مليار دولار[14].

6 ـ  التمركز العالي للاستثمار في قطاعات قليلة بما يعوق تنويع الاقتصاد

على الرغم من النمو الكبير للاستثمار الأجنبي في المنطقة العربية، فإن ذلك لم يؤدِّ إلى نهضة اقتصادات المنطقة، بل إنّ هذه الاستثمارات ظلّت أقل من مثيلاتها في الاقتصادات الناشئة الأخرى. إلى ذلك، فإنها شجعت على تركز الاستثمارات في عدد قليل من القطاعات، بعضها ذات قيمة مضافة متدنية ومخاطره ضئيلة (النفط، الغاز، القطاعات البتروكيميائية، الأبنية الفخمة والسياحة). وهذا يبدو واضحاً من البيانات المتوافرة حول بعض اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. على سبيل المثال، يلاحظ تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) في عام 2008 أنّ القطاعات التي جذبت أكبر نسبة من الاستثمارات الأجنبية هي قطاعات الطاقة والصناعات المرتبطة بها وقطاع الخدمات (وخصوصاً الخدمات المالية) وقطاع العقارات[15].

ففي ذلك العام (2008)، جذب قطاع الطاقة والصناعات المرتبطة بها في السعودية 41,2 بالمئة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مقابل 20,8 بالمئة لقطاع العقارات و25,5 بالمئة في قطاع الخدمات و6,9 بالمئة فقط للأنشطة الأخرى. وهكذا لم تجذب الصناعات الأخرى إلّا 5,6 بالمئة من إجمالي الاستثمارات. وفي الإمارات العربية المتحدة كانت بنية الاستثمارات الأجنبية المباشرة أكثر تمركزاً. ففي العام 2006، ذهب 60 بالمئة من الاستثمارات إلى قطاعين فقط: قطاع البناء (29 بالمئة) والوساطة المالية والتأمينيّة (34,4 بالمئة). وفي العام نفسه، لم يتعدّ ما توجّه إلى القطاع الصناعي نسبة 10 بالمئة. وفي لبنان ذهب 50 بالمئة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية إلى قطاع العقارات في حين جذبت السياحة والخدمات المالية 33 بالمئة. ولقد جذب قطاع النفط في مصر 57 بالمئة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في عام 2008. وجذب قطاع الفنادق في العام نفسه في الأردن 36 بالمئة، وجذبت المناطق الصناعية الحرة 56 بالمئة.

أمّا في المغرب فكان القطاع الذي جذب إليه الحصة الكبرى من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العام 2001 هو قطاع البريد والاتصالات (81 بالمئة) وذلك بسبب خصخصة هذا القطاع وإطلاق نظام الهاتف الخلوي، بينما جذب قطاع العقارات 31 بالمئة في عام 2002. وقد حدث الأمر نفسه في تونس، إذ أدّت خصخصة قطاع الهاتف إلى جذب 45,2 بالمئة من المجموع المتراكم من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بين عامي 2002 و2006.

7 ـ  المستوى المنخفض جداً للإنفاق على البحوث والتطوير وغياب نظام وطني لدعم الابتكار

تعاني معظم البلدان العربية المستوى المتدني للبحوث والتطوير (R&D)، وتَشَتّت أنظمة تملك العلوم والتكنولوجيا وتوطينها وتجذرها في مجتمعاتها. لذا لا نستغرب أن تعاني الاقتصادات العربية أكثر المعدلات الإنتاجية انخفاضاً بسبب نوعية نموِّها، ويبدو ذلك بشكل خاص من خلال مقارنة عدد براءات الاختراع المسجلة من قبل أفراد أو شركات في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعدد تلك البراءات في بلدان أخرى. فبين عامي 1963 و2009، بلغ العدد الإجمالي المسجل من براءات الاختراعات لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 568 براءة، في حين سجلت جمهورية كوريا الجنوبية 66,729 اختراعاً وسجلت تايوان 77,285. وإذا أخذنا في الاعتبار أن كل هذه الدول كانت في المرحلة من النمو متعادلة مع تلك السائدة في الوطن العربي قبل 50 سنة فقط، فإن هذه الأرقام تظهر مدى ضآلة الابتكار في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

كذلك يعكس المستوى المتدني من الإنفاق على البحوث والتطوير مدى العجز في الاهتمام بتوطين العلم والتكنولوجيا والإقدام على الإنجاز الابتكاري، إذ يبلغ هذا المستوى ما لا يمثل أكثر من 0,5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في معظم بلدان المنطقة العربية مقابل نسبة 1,9 بالمئة و2,5 بالمئة في البلدان الأكثر دينامية وابتكاراً. ويظهر ذلك أيضاً في العدد القليل من المجلات والمنشورات العلمية في منطقة الشرق الأوسط.

وهذا ما يفسّر أسباب انخفاض المحتوى التكنولوجي في صادرات المنطقة، فهو يراوح حسب أنواع السلع بين 0,3 بالمئة و9 بالمئة من إجمالي صادرات المنطقة، وهو بالتالي يتباين بحدَّة مع نسبة الصادرات التكنولوجية الكورية وهي 32 بالمئة والماليزية (47,1 بالمئة) والسنغافورية (49,1 بالمئة) والتايلاندية (26,2 بالمئة)[16].

ثمة دليل آخر على مدى افتقار المنطقة إلى الابتكار يتمثل، كما أوضحنا سابقاً، بـ «هجرة الأدمغة». وكان هناك وعي واهتمام بهذه المشكلة منذ سنوات إلا أنّ تشجيع الهجرة في السنوات الأخيرة عبر السياسات العامة التي قُدّمت بوصفها وسيلة لمكافحة البطالة بين الخريجين الجامعيين وكذالك السياسة التي اتبعها العديد من الحكومات العربية، ساهمت في تقليل الاهتمام بهذه المشكلة أو التغافل عنها.

وخلصت دراسة لهذه المسألة إلى أنّ الدول جنوب المتوسط وشرقه، بالاستثناء الجزئي لتركيا، لا تملك استراتيجية لتعبئة رأس المال البشري بما ينمّي بعض القطاعات التكنولوجية، وخصوصاً تلك التي تشكل القوة الدافعة خلف العولمة الاقتصادية.

لا يعود النقص في العلوم والتكنولوجيا إلى عدم وجود جامعات؛ فالمنطقة العربية لديها العديد من المؤسسات التعليمية والجامعية وبعضها من مستوى رفيع، بل يعود إلى عدم انخراطها في نظام ابتكار وطني يحظى بدعم الدولة القوي بالتشارك مع القطاع الخاص والقطاع التربوي. وقد وفر العديد من الدراسات والتقارير التي أجريت مؤخراً حول التأخر العلمي والتكنولوجي في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أدلة كثيرة على أنّ مؤسسات العلوم التكنولوجية القائمة هي ذات طاقة إنتاجية ضئيلة[17]، فهي جميعاً معزولة عن بعضها بدلاً من أن تشكّل شبكة متطورة مندمجة في كل أقسام الاقتصاد بحيث توفر له القدرة على الابتكار.

إلى ذلك، ونظراً إلى عدم وجود أهداف علمية وتكنولوجية قومية محددة ولا سياسات عامة لدعمها، فإنّه يبدو أنّ تشتّت مؤسسات العلوم والتطوير يعيد إنتاج نفسه على نحوٍ دائم. وهكذا، فإن فائدتها لا تظهر مباشرة والتمويل الذي يكرّس لها هو بالتالي منخفض. كما أنّ التواصل شبه منعدم بين المؤسسات التعليمية وجمعيات وأرباب العمل ونقابات أصحاب المهن الحرة والنقابات العمالية، ولا توجد آلية للتشاور بين الدولة وأرباب العمل وجمعيات أصحاب المهن الحرة ونقابات العمال والفلاحين. ويمكن أن يعزى ذلك إلى غياب هدف وطني يتمثل بامتلاك التكنولوجيا الصناعية ونشرها لدى سائر فئات المجتمع، وكذلك انعدام وجود استراتيجية صناعية شاملة أو سياسة بحوث وتطوير لتحقيق هذه الأهداف.

الفجوة المعرفية وتشرذم المؤسسات العلمية العربية القليلة وضعف أنظمة العلم والتكنولوجيا

لفت التقرير السنوي لليونسكو حول حال العلم في العالم 2005 الانتباه إلى الفجوة المعرفية في الوطن العربي، كما يتبيَّن من المؤشرات التالية مدى المستوى المنخفض لترجمة ونشر المقالات والكتب العلمية، والغياب شبه الكامل لاستشهاد المنشورات العلمية الأخرى بمقالات علمية من الوطن العربي وانعدام الابتكار التكنولوجي، كما يعكسه العدد الضئيل جداً من براءات الاختراع المسجلة في الوطن العربي والإنفاق الضئيل على البحوث والتطوير، وهو ما جعل المنطقة الأقل اهتماماً بالبحوث والتطوير في العالم، وخصوصاً عندما يقارن ذلك بالإنفاق العسكري، هذا إضافة إلى الإنفاق المتدني على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتعليم العالي. كما لا بدّ من ذكر انعدام استقلالية الجامعات وجمود البرامج التعليمية غير الملائمة لاقتصاد دولي معولم قائم على المعرفة، فضلاً عن عدم ربط المستويات المختلفة من التعليم بالخبرة المهنية وبتطوير الموارد البشرية في القطاعين العام والخاص. ولا بدّ أيضاً من الإشارة إلى العدد الكبير جداً من الأميين في بعض البلدان، والتوزيع السيئ للطلاب الجامعيين على الفروع المعرفية، وخصوصاً تلك المتعلقة بالعلم والتكنولوجيا والمستوى المتدني لتعليم اللغات الأجنبية.

وركز تقرير اليونسكو لعام 2010 على وصف هذا الخلل في أنظمة العلم والتكنولوجيا. فكشف أنّه على الرغم من أن بعض البلدان العربية أنشأت مؤسسات علم وتكنولوجيا ما إن حصلت على الاستقلال، فإنّه ليس لديها أي سياسة أو استراتيجية وطنية في هذا الحقل. وعلى الرغم من وجود سياسات قطاعية للزراعة والمياه والبيئة، فإن الموازنات المخصَّصة لتنفيذها نادراً ما تكون كافية. وإلى ذلك، فقد أنشأت العديد من البلدان العربية، بحسب هذا التقرير، مدناً صناعية ذات بنية تحتية جيدة، إلّا أنّ سبعة منها فقط لديها أكاديمية علوم، إذ كما يقول التقرير، «إنّ اللامبالاة التي أظهرها صانعو القرار إزاء العلوم والتكنولوجيا تشكل مساهماً رئيسياً في حالة السبات والخمول الحالية في مجالي العلم والتكنولوجيا».

كما أشار تقرير اليونسكو لعام 2010 مرة أخرى إلى العدد القليل لبراءات الاختراع المسجلة في المنطقة العربية، وإلى العدد الضئيل من الأعمال والمقالات العلمية المنشورة، وإلى العدد الكبير من الأميين والمستوى المتدني من الصادرات ذات المحتوى التكنولوجي، وإلى أن تطوير أنظمة التعليم الجامعي يتحكم العرض به أكثر كثيراً من الطلب. وقد حلل التقرير مواطن الخلل في هذه الأنظمة والأهداف المتناقضة التي يفترض أنها تسعى للتوصل إليها. وخلص إلى أنه على الرغم من أنّ معظم البلدان العربية تملك عناصر متفرقة من العلوم والتكنولوجيا وأنظمة الابتكار منذ أربعة عقود على الأقل، «لم يتغير سوى القليل على مستوى تأثير العلوم والمؤسسات العلمية في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية أو في توليد المزيد من المعارف». كما يخلص التقرير إلى أنّ ثمّة حاجة إلى جهد هائل للحاق بما حققته على مستوى العلوم والتكنولوجيا دول أخرى كانت قبلاً على المستوى نفسه من تطور البلدان العربية في هذا المجال، كالبرازيل والصين والهند وأيرلندا والمكسيك والجمهورية الكورية. أما القطاع الخاص، فيشير التقرير إلى ضآلة اهتمامه بالعلوم والتكنولوجيا وأنّه أكثر انجذاباً إلى التجارة بالبضائع والخدمات من الأنشطة الإنتاجية الفعلية.

وأخيراً، وكما ورد في تقرير 2005 أو في استنتاجات التحليل الذي قام به أنطوان زحلان، أشار تقرير اليونسكو لعام 2010 مرة أخرى إلى مشكلة تشتت أنظمة العلوم والتكنولوجيا في البلدان العربية المنوط تطويرها بجهد أفراد وليس مؤسسات. ويحض التقرير القارئ على أن يبقي في ذهنه أنّ الاقتصاد الريعي عامل رئيسي في الجمود العلمي والتكنولوجي في المنطقة.

كذلك تجدر الإشارة إلى التقرير الدوري عن حال المعرفة في الوطن العربي الذي نشرته مؤخراً مؤسسة محمد بن راشد المكتوم وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي[18]. وكان التقرير الأول لعام 2009 قد أجرى تحليلاً معمقاً حول المعوقات السياسية والمؤسسية الرئيسية التي تحول دون التراكم المعرفي في البلدان العربية. وقد عرض التقرير المؤشرات والموضوعات المعروفة المتعلقة بالجمود العلمي والتكنولوجي في المنطقة، واقترح طرائق ووسائل لتعويض العجز المعرفي في الوطن العربي بما يحدث تغييراً في الحال المروّعة للعلم والتكنولوجيا في المنطقة. كذلك احتوى التقرير على ملحق إحصائي موثق على نحو جيّد حول المؤشرات ذات الصلة.

وأخيراً، نشرت مؤسّسة التمويل الدولية مؤخراً تقريراً مشتركاً مع بنك التنمية الإسلامي حول بطالة الشباب وتكييف أنظمة التعلّيم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحسب مقتضيات التنمية. ويقدّر التقرير تكلفة بطالة الشباب في المنطقة بنحو 50 مليار دولار في السنة[19].

8 ـ  العجز في التجارة الخارجية عارض رئيسي آخر من عوارض النمو السيئ

يشير تحليل التجارة الخارجية للبلدان العربية إلى إحدى النتائج المهمة الأخرى للخلل في نموذج النمو والتنمية السيئة التي نجمت عنه، ذلك أن العجز في الميزان التجاري بلغ نحو 67 مليار دولار للعام 2009 لسبعة بلدان عربية (الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب وسورية وتونس)، وذلك على الرغم من صادرات النفط لهذه المجموعة من الدول التي بلغت 57 مليار دولار في السنة نفسها. وبكلمات أخرى إذا لم يحسب المرء صادرات الطاقة، فإن العجز لهذه المجموعة من البلدان يصل إلى 127 مليار دولار، أي ما يساوي 675 دولاراً للفرد سنوياً.

ويظهر تحليل دقيق لمعطيات التجارة الخارجية لهذه المجموعة من البلدان أن قطاعاتها الصناعية تعتمد كلياً على بلدان أخرى، ذلك أن عجزها في مجال التجارة في السلع والتجهيزات الصناعية يتعدى الـ 82 مليار دولار في تلك السنة، في حين لم يتعدَّ معدل تغطية الواردات الصناعية الـ 35 بالمئة. وهو رقم ينخفض أكثر إذا استثني منه المنتجات المحولة من الموارد الطبيعية والصناعات المرتبطة بها، مثل المنتجات الكيميائية غير العضوية والأسمدة التي تقدّر صادراتها بـ 5 مليارات دولار. وذلك فضلاً عن كون جزء كبير من صادرات السلع المصنعة لهذه البلدان ناتجاً من أنشطة العقود من الباطن (Sous Traitance) أي 23,9 مليار دولار. وهذه السلع هي أساساً الملابس والسلع الملحقة بها والأحذية والنسيج والأقمشة والآلات والأدوات الكهربائية وأدوات التجميل.

أما التبعية الأكثر خطورة فهي العائدة إلى النسبة المتدنية جداً لتغطية تبادل المنتجات الطبية والأدوية مع الخارج، إذ إن الصادرات في هذه السلع والمواد لا تتعدى 19.3 بالمئة من الاستيراد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى آليات النقل ومعداته التي تبلغ نسبة التغطية 17,8 بالمئة. أمّا المعدات المهنية والعلمية فتبلغ تغطيتها 18,6 بالمئة بينما تبلغ تغطية الأجهزة الفوتوغرافية والسلع البصرية والساعات 13,1 بالمئة. كما يمكن أن يشير المرء إلى اعتماد كبير في المواد البلاستيكية في شكلها الأولي، ذلك أن تغطيتها لا تزيد على 14,8 بالمئة، فضلاً عن الاعتماد الكبير نسبياً في قطاع مركبات الطرق (تغطية بنسبة 6,7 بالمئة) والآلات والأدوات المتخصصة (5,4 بالمئة) وآليات وأدوات صناعة المعادن (3,4 بالمئة) وغيرها من التجهيزات الصناعية وقطع الغيار (6,5 بالمئة) وآلات ومعدات توليد الكهرباء (10,4 بالمئة).

تجدر الإشارة أيضاً إلى أن العجز في الميزان التجاري للبلدان موضوع التحليل مرتفع جداً على مستوى المنتجات الغذائية (12,16 مليار دولار)، وكذلك بالنسبة إلى الزيوت الحيوانية والنباتية والدهون والشموع (1,64 مليار دولار)، على الرغم من غنى سورية ولبنان والمغرب ومصر وتونس بالموارد الزراعية.

ومن المثير للاهتمام أن نقارن هذا الأداء السلبي بأداء الاقتصادات الأربعة في جنوب شرق آسيا التي اتبعت سياسات صناعية دينامية وإبداعية. وهذه البلدان هي جمهورية كورية الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وتايوان. وقد تمكنت هذه البلدان الأربعة التي يبلغ مجموع عدد سكانها 104,8 مليون نسمة، وهو عدد يساوي تقريباً عدد سكان أربع دول فقط في المشرق العربي وهي مصر والأردن ولبنان وسورية، من تحقيق فائض في الميزان التجاري بلغ 127 مليار دولار. وقد بلغ مقدار الفائض الذي حققته في المنتجات الصناعية 257 مليار دولار في مقابل عجز مقداره 80 مليار دولار تحملّته مجموعة البلدان العربية السبعة المذكورة سابقاً. بينما بلغ ما حققته البلدان الآسيوية المذكورة في تجارة آليات النقل ووسائله من فائض 178 مليار دولار في مقابل عجز بنحو 46 مليار دولار لدى البلدان العربية السبعة. وسجلت البلدان الآسيوية الأربعة في الوقت نفسه عجزاً قدره 99 مليار دولار في تجارة الوقود في مقابل فائض بـ 33 ملياراً لدى البلدان العربية السبعة. وهكذا فإن مجمل الفائض في الميزان التجاري بلغ في الحصيلة العامة لدى الدول الآسيوية الأربع 127 مليار دولار في مقابل عجز بقيمة الـ 67 مليار دولار في البلدان العربية السبعة بالرغم من الفائض في صادراتها من الطاقة.

وتُظهر كل هذه المؤشرات والمقارنات بين أرقام التجارة الخارجية مدى ضآلة التصنيع في البلدان العربية؛ الأمر الذي يفسّر أن يكون التبادل التجاري بين هذه البلدان منخفضاً جداً. إنّ نسبة التجارة العربية البينية من إجمالي التجارة الخارجية العربية لا تزال ضئيلة، وتراوح بين 8 و9 بالمئة للصادرات و10 و 13 بالمئة للواردات (بما في ذلك النفط والغاز)، وفي بعض البلدان تكون نسبة الصادرات أكبر كثيراً، فهي تبلغ في لبنان 47 بالمئة في عام 2008، وفي الأردن 41,7 بالمئة، وفي سورية 40,1 بالمئة بينما لا تبيع تونس إلى البلدان العربية الأخرى إلا 9,7 بالمئة من إجمالي صادراتها، بينما لا تزيد صادرات الجزائر وليبيا وموريتانيا والمغرب إلى البلدان العربية الأخرى على 3,7 بالمئة[20].

أمّا في ما يتعلّق ببنية التجارة العربية البينية، فإن نسبة التجارة في منتوجات الطاقة تكاد تناهز 60 بالمئة من إجمالي الصادرات في مقابل 13 بالمئة للصادرات الغذائية، و9 إلى 10 بالمئة في المنتجات الكيميائية و 12 إلى 13 بالمئة للسلع المصنّعة و 4 إلى 5 بالمئة لآليات النقل ومعداته[21]. وهكذا فإن مستوى التبادل التجاري العربي البيني متدنٍ جداً، وخصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار إنشاء منطقة التبادل الحر العربية. وهذا ما يظهر أنّ جمود الهياكل الاقتصادية الذي وصفناه أعلاه هو عائق رئيسي في وجه نمو إنتاجية هذه البلدان وتنويعها.

الاقتصادات الريعية والنظم الديمقراطية متعارضان

يمكن لهذا التشخيص المختصر أن يتلخص في السمة الغالبة على الاقتصادات العربية المتمثلة بقاعدتها الريعية التي تحول دون الدينامية والتنويع الاقتصادي والتصنيع الحقيقي وأنشطة الخدمات ذات القيمة المضافة المرتفعة. وليس من السهل التخلص من مصيدة النمو المشوّه الذي يعتمد أساساً على عائدات ريعية دولتية وفردية تتمحور حول تصدير المواد الأولية، ونشاطات السياحة، والاستثمارات العقارية، والاستيراد، وأنشطة التجارة المحلية. وقد ساهمت هذه الأنشطة في جمود البنية الاجتماعية الاقتصادية المتّسمة بانعدام الدينامية والتنويع والتفاوت في الدخل بين المناطق المختلفة في البلد الواحد. ويظهر هذا التفاوت في الدخل في الهوة المتزايدة بين سكان المناطق الريفية التي ما زال يعيش فيها قسم كبير من السكان في البلدان والعائلات الميسورة مادياً في المراكز المدينية الكبيرة.

وأظهر التاريخ أن الاقتصادات ذات القاعدة الريعية أنتجت على الدوام أنظمة سياسية استبدادية، تعتبر النخب الحاكمة فيها الموارد الطبيعية والبشرية بمنزلة ملكية إقطاعية موروثة لها تستطيع التصرف بها كما يحلو لها. وكان صعود الديمقراطية في أوروبا عبارة عن مسيرة طويلة على طريق تفكيك الدولة الوراثية (الباترومونيالية) وتغيير ثقافتها الاقتصادية والسياسية لوضع أسس الحريات الفردية ومساءلة النخبة الحاكمة من قبل مواطنيها.

وما حدث مؤخراً في الوطن العربي من ثورات شعبية شاركت فيها شرائح المجتمع كافة وكل الفئات العمرية يشكل لحظة تاريخية مهمة تفسح في المجال أمام الانتقال من النمو المشوّه إلى النمو الإيجابي ومن الدكتاتورية إلى النظم الديمقراطية.

وسنحاول أن نرى الآن كيف يتم التحول من نموذج اقتصادي إلى آخر جديد مبني على الدينامية والتنويع والتعبئة الكاملة للموارد البشرية المهمة. إنّ مستقبل الثورات العربية على مستوى بناء نظم ديمقراطية يعتمد على إمكان انتقالها من نموذج نمو قاصر قائم على الريع إلى نموذج صالح يعتمد على الابتكار والدينامية والعدالة والتنمية المستدامة. وكما سنرى فإن المهمة ليست سهلة.

ثانياً: التحول من النمو المشوّه إلى النمو الصالح

نبحث هنا في ماهية التغييرات المطلوبة على صعيد السياسة الاقتصادية الإجمالية والسياسات القطاعية للتخلص من النظام ذي القاعدة الريعية. ذلك أنه ليس هناك أي شك في أن التحدّي الأكبر الذي تواجهه الثورات العربيّة هو تغيير نموذج النمو السيئ القائم على الاقتصاد الريعي، الذي يشكّل قاعدة الفساد المعمّم والدولة الإقطاعية الطابع (Patrimonial) والأنظمة السياسيّة الاستبدادية. هذا النموذج السيئ للنمو هو الذي أدخل ومارس عدداً من السلوكات الاجتماعيّة ـ السياسيّة المتعارضة مع الإنتاجيّة والمنافسة النزيهة والتنويع الاقتصادي والقيام بالمشاريع الريادية والابتكارية.

إن هيمنة التفكير النيوليبرالي لم تمنع حتى الآن أي تحليل معمّق للنموذج الريعي فحسب، بل يمكن القول أيضاً إنّ طريقة تطبيق إجماع واشنطن في معظم الاقتصادات العربية عبر برامج المساعدات الدولية هي على الأرجح مسؤولة ـ جزئياً على الأقل ـ عن الزيادة في الفساد والتهميش الاجتماعي لقطاعات كبيرة من السكان المدنيين والريفيين وعن الهدر الضخم للموارد الطبيعيّة والبشريّة. لذلك فإن الاستمرار في قبول المساعدات المالية المشروطة بتحقيق المزيد من المرونة في سوق العمل وتخفيف آليات وإجراءات المراقبة القانونية وعدم حماية الموارد الطبيعيّة والبشرية، إنما هو وصفة لمفاقمة الصعوبات قد تؤدي إلى أن تنحو القطاعات المهمّشة من السكان إلى التطرف السياسي أو الديني والمذهبي.

ويجب تطوير أساليب جديدة من التفكير حول الإصلاحات الاقتصادية التي يمكن أن تساعد على قيام تحوّل حقيقي إلى الديمقراطية ودولة القانون وذلك كبديل من التفكير النيوليبرالي التقليدي الجامد والمجرّد وبالتالي البعيد من الواقع الميداني وحاجاته. إنّ تحليل النمو المشوّه الذي أجريناه في هذه الدراسة، وكذلك المقترحات التي تقدّمنا بها لتحوّل حقيقي في نموذج النمو العربي يساهمان في مساعدة المواطنين العرب على الحصول على حياة أفضل تستنفر فيها عقولهم ومواهبهم وطاقاتهم في سبيل القيام بالتنويع الاقتصادي عبر توزيع إنتاجي لمصادر الريع المختلفة وتشجيع قطاعات الأعمال المبدعة والمنتجة في إطار الأهداف الوطنيّة لتملك العلم والتكنولوجيا وتوفير شروط حياة أفضل لكل مواطن.

وفي الحصيلة، لا يمكن تطوير حياة ديمقراطية حقيقيّة في البلدان التي تقوم قاعدتها الاقتصادية على التدفّقات الريعيّة غير الموزّعة بشكل صحيح وغير المستثمرة في الاقتصاد على نحوٍ يراعي متطلبات المجتمع، وهو ما يحول دون تعزيز العدالة الاجتماعية والعمالة الكاملة على قاعدة الإنتاجيّة وتنويع القدرات في إنتاج السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية.

ومن أجل الانتقال من النموذج التنموي المشوّه إلى النموذج الصالح يتوجب على الحكومات العربية تغيير السياسات الاقتصادية العامة في المحاور الأساسية الستة التالية:

1 ـ مكافحة الفساد وتشجيع المساءلة والمسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص

كشفت الثورات العربيّة حجم الفساد المرتبط بطبيعة الأنظمة السياسيّة عبر توزيع الريع على دائرة مغلقة من رجال الأعمال المقربين من رئيس الدولة وكبار المسؤولين. ولا يمكن أن يكافح الفساد بالاكتفاء بتحميل مسؤوليته إلى المسؤولين في الدولة. ذلك أنّ كل صفقة يشوبها الفساد لا بدّ من أن تكون بين شريكين: رجل أعمال من جهة ومسؤول حكومي من الجهة الأخرى. لذلك، فقد بات من الضروري أن نركّز على الطرفين وأن نسنّ القوانين التي تسمح باكتشاف، ومن ثمّ معاقبة، أي سلوك مسيء من قبل رجال الأعمال في القطاع الخاص المقرّبين من بعض الدوائر الحكوميّة والذين ينتهزون ذلك للحصول على امتيازات خاصّة أو معلومات سريّة. إن هذا لا يشكّل انتهاكاً لمبدأ المنافسة العادلة فحسب، بل إنّه يسبّب أيضاً هدراً اقتصاديّاً ويبقي وتيرة الإنتاجية منخفضة.

كذلك يجب أن يُحمّل القطاع الخاص على تحسس مسؤوليّاته الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أنّ إدارة مؤسّسة أعمال لا تقتصر على امتلاك «آلة ربح» وزيادة أرباحها إلى أقصى حد ممكن. فشركات القطاع الخاص هي أيضاً جزء من المجتمع وتدين له بالعمل من أجل منفعته في ما يتعلق بنوعية الإنتاج والخدمات، كما يتوجب عليها تدريب الموارد البشرية وتوفير فرص العمل اللائقة. ويجب عليهم ألّا يدفعوا الموارد البشرية والطبيعيّة في البلاد إلى التقهقر بتبخيس ثمنها والمساهمة في تدهور البيئة، وذلك عبر توفير وظائف ورواتب محترمة لموظّفيهم وعمّالهم واحترام مقتضيات الحفاظ على البيئة ودفع الثمن المناسب لاستغلال الموارد الطبيعية.

ويجب أن يصبح القضاء في البلدان العربيّة متدرباً وقادراً على إصدار الأحكام في انتهاك لقواعد المنافسة النزيهة أو التعدي على الموارد الطبيعيّة والبيئة وسوء استخدام النفوذ عبر علاقات خاصة مع المسؤولين الحكوميين.

إنّ سلوكاً أفضل للقطاع الخاص وإقدامه على تحمل مسؤولياته الاجتماعيّة من شأنه أن يحسِن كثيراً من إنتاجيّة الاقتصاد وأن يقلّل إلى حد كبير من ممارسات الفساد بين كبار المسؤولين ورجال الأعمال الأغنياء.

2 ـ تنويع الاستثمارات والحد من هجرة الأدمغة

وهذا شأن ملح آخر لا بدّ من معالجته. أشرنا في ما سبق إلى التمركز الشديد في الاستثمارات المحليّة والأجنبيّة في عدد قليل من القطاعات الإنتاجية والخدمية ذات الأرباح المرتفعة وذات القيمة المضافة المتدنية والقدرة التوظيفيّة الضئيلة (العقارات، المصارف، تجارة التوزيع على المستوى المحلي إضافة إلى قطاعات الطاقة والبتروكيميائيات التقليديّة). وبالتالي فإن تنويع الاستثمارات في العديد من الأنشطة الإنتاجية الأخرى سيؤدي إلى الحد من البطالة وهجرة أصحاب المهارات والمؤهلات العلميّة والمهنية العالية. وهناك العديد من الحقول يمكن للقطاع الخاص أن ينشط فيها بدعم من الدولة، كما في نموذج النمو في آسيا الشرقيّة، ونذكر منها على سبيل المثال:

أ ـ إنتاج الطاقة البديلة والمتجددة (الشمسيّة والريح والماء).

ب ـ إنتاج المعدّات الخاصة باستغلال مصادر الطاقة البديلة (ألواح شمسيّة) أو لمعالجة النفايات أو لتنقية المياه.

ج ـ استقطاب عقود من الباطن (In Sourcing) للبحوث والتطوير من دول أخرى متطوّرة تكنولوجياً قي قطاعات تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات والأبحاث الطبية والصحية بما فيه صناعة الأدوية.

د ـ تنمية المناطق الريفية والمنتجات الغذائية الماكروبيوتيكيّة.

ه ـ تنمية الصناعات الميكانيكيّة والمعدّات والتجهيزات بغية تقليص الاعتماد الكلّي على استيرادها من الخارج.

و ـ مكافحة التصحّر عبر إعادة التحريج.

3 ـ دمج القطاع اللاشكلي بالقطاع الحديث

هناك حاجة ملحّة إلى العمل من أجل التكامل في الاقتصادات العربية بين المؤسسّات اللاشكلية والعائليّة الصغيرة والشركات العاملة في القطاع الحديث عبر التعاقد معها على القيام بأجزاء صغيرة من عمليّة الإنتاج، مثلما تمّ بنجاح في العديد من البلدان الأخرى. ويتطلب هذا من الشركة المحليّة الحديثة أن تحدّد أي أجزاء من الإنتاج يمكن إسنادها إلى المؤسسات الصغيرة وما هي التدريبات والمعدات التي يتعيّن توفيرها لها.

وإذا أخذنا في الاعتبار حجم القطاع اللاشكلي والدور الذي يضطلع به في التوظيف، فإن هذه مهمة ملحّة: وهي تتطلّب سياسة فاعلة تخطّط لها جمعيّات الأعمال الرئيسيّة (جمعيّة الصناعيين، غرفة التجارة والصناعة والزراعة)، إضافة إلى نقابات المهن الحرّة كنقابة المهندسين.

4 ـ الشراكة بين القطاعين العام والخاص في تعريف الأهداف الوطنيّة للتمكّن من مجموعة من التكنولوجيّات

تحتاج البلدان في زمن العولمة الاقتصادية إلى التقدّم في التمكّن من العلوم والتكنولوجيا في حقول رئيسيّة من الصناعات والخدمات الحديثة لكي تستطيع القيام بالتنويع الاقتصادي والتوظيف الكامل لمواردها البشريّة المؤهلة. ويتطلّب ذلك تحديد الأهداف الوطنيّة في مجالي العلوم والتكنولوجيا عبر التوافق بين الدولة والقطاع التربوي والقطاع الخاص. كذلك يجب أن يتم وضع نظام وطني للابتكار يموّله القطاعان العام والخاص في آن.

ونظراً إلى التأخر في مجالي العلم والتكنولوجيا في المجتمعات العربية كافة وغياب الترابط بين التعليم والمهارات التقنيّة والابتكار أو تشرذم أنظمة الابتكار ومؤسّسات البحوث والتطوير، فإن هذا الحقل يتطلّب اهتماماً وتمويلاً كبيرين. ذلك أنّ تحقيق إنتاجية الاقتصاد والزيادة في تصدير السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية يتطلّبان أن تسارع الاقتصادات العربية إلى تبنّي هذه السياسات.

5 ـ القضاء على جيوب الأميّة والاهتمام بتنمية المناطق الريفيّة

لعلّ من المشين حقاً أن يكون الوطن العربي لا يزال يعاني وجود جيوب واسعة من الأميّة في بعض البلدان المهمة كمصر والمغرب واليمن والسودان وموريتانيا. وعلى الدول المعنيّة أن تتبنّى خطة تمحو فيها الأميّة في خلال سنوات قليلة. ويمكن أن تكلّف المنظمات غير الحكوميّة المعنية بمكافحة الفقر بتطبيق هذه الخطة.

تتركز الأميّة في المناطق الريفية، وهو يوفّر سبباً إضافيّاً لدفع البلدان العربية إلى أن تكون أكثر فاعلية في تبنّي سياسات خاصة لزيادة الاستثمارات في هذه المناطق وتحسين وضعها. فالسكان الريفيّون في الوطن العربي لم يشهدوا أي تحسّن في وضعهم الاقتصادي ـ الاجتماعي في العقود الأخيرة. ولقد حدّ ذلك من ديناميّة النمو الإجماليّة في الوطن العربي.

6 ـ إعادة النظر في النظام الضريبي بحيث تتساوى معدلات الربح في القطاعات التكنولوجية التي سيتم تطويرها والقطاعات التقليديّة ذات الربح المرتفع

تعدّ الأنظمة الضريبيّة العربية غير ملائمة للقضاء على السمات السلبية الرئيسيّة للاقتصاد الريعيّ. ولا يكاد يوجد أي ضريبة على الأرباح الرأسمالية، وبخاصة الماليّة والعقاريّة منها. أمّا الضرائب على العوائد الريعيّة من الاستثمار في الأسهم أو السندات فهي منخفضة إن وجدت.

تجدر الإشارة هنا إلى أن تحت غطاء قوانين تشجيع الاستثمار تعطى إعفاءات ضريبية لأنواع من الأعمال لا تتطلّب أخذ أي مخاطرة اقتصادية أو تكنولوجيّة. وفي البلدان العربية الغنيّة المصدّرة للنفط في الجزيرة العربية لا يوجد ضرائب دخل أو هي موجودة في السعودية على شكل زكاة فقط.

ولا يوجد في البلدان العربية أي ضريبة دخل على المؤشرات الخارجيّة للثروة كملكيّة العقارات وعدد السيارات واليخوت أو الطائرات الخاصة، وذلك في وقت يزداد فيه باطّراد أعداد أصحاب الملايين والمليارات.

لذلك يجب أن تتجدّد النظم الضريبيّة في شكل كلّي بما يدفع الشركات الخاصة والأجنبية إلى الاستثمار بالأنشطة ذات القيمة المضافة العالية الجديدة والإنفاق على البحوث والتطوّير في سياق الأهداف الوطنيّة ونظام متكامل للابتكار يعد وينفّذ في إطار التعاون بين القطاعين العام والخاص وبالتنسيق مع القطاع التربوي.

خلاصة

إن البدء بعملية الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج هو المدخل الوحيد في الحالة العربية إلى تأسيس حياة ديمقراطية بكل معنى الكلمة. وهي عملية ليست بالسهلة، إذ تتطلب مواجهة قوى الضغط الداخلية كما قوى الضغط الخارجية. القوى الداخلية متمثلة بقطاع أرباب العمل التي تزدهر أعمالهم من خلال الاستفادة القصوى من اقتصاد الريع بشكل احتكاري أو شبه احتكاري والاستثمار فيه، نظراً إلى ما تدرّه القطاعات الريعية من أرباح طائلة من دون جهد ابتكاري يُذكر ومن دون الإنفاق على الأبحاث والتطوير. أما القوى الخارجية فهي متمثلة بكبريات مؤسسات التمويل الدولية وكذلك المساعدات الرسمية الثنائية الطابع التي تعمل حسب مبادئ «وفاق واشنطن»، وهي مبادئ لا تزال سائدة ويجب تعديلها لإدخال مبادئ أكثر صوابية بالنسبة إلى المعالجة الجدية لسيئات الاقتصاد الريعي التي يعانيها النموذج التنموي العربي.

إن وصول الثورات العربية إلى برّ الأمان يكون بالنجاح في إنجاز حالة كاملة من تشغيل القوى العاملة والتوزيع العادل لمنافع تحديث ونموّ الاقتصاد الوطني، وهذا هو المدخل الوحيد المتوافر لتحقيق الديمقراطية في الوطن العربي. أما الفشل في الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج فهو يعني أن الوطن العربي قد يشهد مستقبلاً موجات ثورية جديدة ومزيداً من حالات فتنة خطيرة مدمرة كما تشهده بعض البلدان العربية حالياً.

 

للمزيد حول الاقتصاد السياسي إقرؤوا  الاقتصاد السياسي للتخلف مع إشارة خاصة إلى السودان وفنزويلا

قد يهمكم أيضاً  الثروة النفطية والمشروع الاقتصادي الوطني في العراق: بديل الاقتصاد السياسي للريع النفطي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الاقتصاد_السياسي #النمو_في_العالم_العربي #التنمية_في_العالم_العربي #الديمقراطية_في_العالم_العربي #دراسات