شهد التاريخ السياسي العربي المعاصر، خلال الأعوام الستين الماضية، انقلابين جذريين أنتج كل منهما تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية وأيديولوجية هائلة. وقصة الوطن العربي في هاتين المرحلتين ليست فريدة، بل هي جزء من «قصة العالم» عموماً، وقصة «مجتمعات الجنوب» خصوصاً، على الرغم من فرادة وخصوصية التجربة العربية عموماً وتجربة كل بلد على حدة، لأسباب متعددة سيتم مقاربة بعضها في هذه المحاولة. هذه الدراسة تعيد قراءة التجربة العربية وتقارن المرحلتين المتمايزتين اقتصادياً وسياسياً وأيديولوجياً: الأولى، حقبة انحسار الاستعمار وصعود الاشتراكية العربية (1952 – 1970)؛ والثانية، حقبة «عولمة الاستعمار» أو «الرأسمالية النيوليبرالية» (1980 – 2011) التي سأجادل أنها مهّدت ووضعت الأسس للنفق المظلم الذي دخله الوطن العربي منذ نهاية عام 2010. هدف هذه المقارنة أساساً هو محاولة تقديم نقد سياسي وتاريخي للحالة العربية الراهنة باستعادة نموذج وتجربة الرئيس جمال عبد الناصر لتستنتج أن أمتنا أمام خيارين: الاشتراكية أو البربرية.

مقدمة: قصة العالم

قبل أكثر من عقد من الزمن، جادل دايفيد هارفي في افتتاحية كتابه موجز تاريخ النيوليبرالية أن «مؤرخي المستقبل سينظرون إلى الأعوام 1978 – 1980 كنقطة تحول ثوري في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للعالم»‏[1]. وتبرير هذا الزعم يختصره إلى حد كبير غلاف الكتاب والصور الأربعة للشخصيات التي أدت في ذلك الوقت دوراً محورياً في تبني وعولمة السياسات النيوليبرالية (رونالد ريغان، دينغ شياو بينغ، مارغريت تاتشر، أوغستو بينوشيه)، وتختصره كذلك مقدمة الكتاب التي تضيف اسماً خامساً أدى دوراً مهماً أيضاً هو بول فولكر، رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي في عهدَي كارتر وريغان والنيوليبرالي الأول في هذا الموقع الحساس جداً لأمريكا وللعالم. بعد أربعة عقود من تلك السنوات الحاسمة التي أرَّخ لها هارفي، يبدو الآن، وبأثر رجعي، أنه كان محقاً جداً: النيوليبرالية غيَرت العالم فعـلاً. لكن تبعاتها لم تكن اقتصادية بحتة، بل أسست كذلك، وبعد أربعة عقود، لسيادة وتعميم أيديولوجيا بديلة وكانت (النيوليبرالية) الحامل الأساسي لها؛ كما أسست لغياب الهيمنة المضادة والبديل العضوي للرأسمالية النيوليبرالية بتقويضها للحامل الاقتصادي. هكذا بدأت حقبة اليمين عالمياً، وهكذا أيضاً أسست النيوليبرالية للأزمة الكبرى التي حلت بالوطن العربي منذ نهاية عام 2010.

ربما يكون كتاب هارفي من أهم ما كُتب عن النيوليبرالية، لكن الكتاب كذلك، وبأثر رجعي الآن، يضيء أيضاً في الفصلين الأول («الحرية مجرد كلمة أخرى»)‏[2]، والثاني («بناء التوافق/الإجماع»)‏[3] تحديداً، على مدخل ضروري لفهم حالة العالم بعد أربعة عقود من السياسات النيوليبرالية. ففيهما يناقش هارفي «كيف اخترقت النيوليبرالية الشعور/الحس/الوعي العام» وأعادت تكوينه لمصلحة مفاهيمها الأساسية، ويناقش الاستراتيجيات التي اتبعها أقطاب هذا التوجه والأدوات التي استُخدمت من الجامعات إلى وسائل الإعلام لتحويل أفكار النيوليبرالية إلى «تيار عام» وقضية «إجماع عام».

وفي هذين القسمين يتكرر مراراً اسم الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي ونظريته حول استراتيجيات الهيمنة، فيعيد هارفي على مسامعنا: «من أجل سيادة أي اتجاه فكري يتوجب تطوير جهاز مفاهيمي يكون جذاباً ومتوافقاً مع حدسنا وغرائزنا، ومنسجماً كذلك مع قيمنا ورغباتنا وكذلك مع الإمكانيات الكامنة مع المجتمع الذي نعيش فيه. وإذا كان هذا الجهاز المفاهيمي ناجحاً يصبح متأصـلاً في إحساسنا الجمعي ومسلّماً به جدلاً ولا يكون عرضة للشك»‏[4].

لهذا، يقول هارفي، لاحقاً: «اتخذ مؤسسو الفكر النيوليبرالي المثل السياسية لـ «كرامة الإنسان» و«حرية الفرد» على أنها المثل الأساسية والقيم المحورية للحضارة». بهذا الخيار، كانوا حكماء جداً، وخصوصاً في وضعهم جهاز الدولة، الذي من المفترض أن يضع القيود على رأس المال، كنقيض للفرد وحريته وتصويره كخطر يهدد هذه القيم الإنسانية. حكماء فعـلاً لأنهم لو خَيّروا الناس بين إعادة توزيع الثروة وتركيزها في القمة على حساب إفقار الأغلبية (وهي النتيجة الأساسية والهدف الأساسي لتطبيق السياسات النيوليبرالية) لما اختاروها. فأي «مشروع صريح يدور حول عودة القوة الاقتصادية إلى نخبة صغيرة لن يحظى بالكثير من الدعم الشعبي. أما المحاولة المبرمجة للدفاع عن قضية حرية الفرد فقد تلقى القبول لدى قاعدة جماهيرية واسعة، وبذلك يتم [تحت ستار هذه القيم الإنسانية وحرية الفرد] تمويه حملة استعادة السلطة الطبقية»‏[5]. لو أردنا ترجمة ذلك بتبسيط أكثر: يخبرنا هارفي أن البشر لا تولَد نيوليبرالية الهوى، بل تصبح كذلك بفعل استهداف وعيها وإعادة تكوينه. تصبح كذلك بفعل حملة مبرمجة تعمل تحت ستار حرية الفرد و«القيم النبيلة» من أجل الوصول إلى حرية رأس المال. تصبح كذلك عبر حملة مبرمجة تستهدف أصلاً تجييش الناس ضد القيود التي تفرضها الدولة على رأس المال (الذي يتوحش لاحقاً) باسم حرية الأفراد والقيم الإنسانية.

رؤية غرامشي، التي يقتبسها هارفي، تطورت أكثر فيما بعد، وتحديداً لدى المفكر الفرنسي لويس ألتوسير في تمييزه بين «أدوات الدولة الأيديولوجية» و«أدوات الدولة السياسية» لتفسير آليات إعادة التثقيف وإعادة إنتاج الوعي العام والجمعي من أجل إعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية‏[6]. وفي حقبة الرأسمالية النيوليبرالية انتشرت، «سياسة الهوية» بكثافة. والهويات التي تم إنتاجها في سياق الصراع على إعادة توزيع الثروة وتوزيع الدخل العام مثل «الطائفة» و«المذهب» و«العرق» و«الإثنية»، والهويات «الجندرية» و«الجنسية» كانت فعّالة لمصلحة النظام بوضعها كنقيض للطبقة، وبالتالي تقسيمها وتشتيتها وإضعاف أي مقاومة فعّالة ممكنة للمنظومة النيوليبرالية. وفي الوطن العربي، كما سنرى لاحقاً، كانت التجزئة أهم آليات (وتبعات) الهيمنة الإمبريالية والنيوليبرالية. وهذا كان ممكناً بسبب الطبيعة التاريخية والاجتماعية لـ «الهوية»؛ ففي الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية: نحو سياسة ديمقراطية راديكالية يجادل آرنستو لاكلو وشانتيل موفيه أن الاستراتيجيات الثورية (وغير الثورية، أو الرجعية، أيضاً) ممكنة لأن هوية أي جماعة أو مجتمع ليست عابرة للتاريخ، ولا يمكن أن تكون، وليست معطى مسبقاً، بل هي مرنة، متحركة، سائلة، غير ثابتة، ولاجوهرانية الطابع أيضاً‏[7]. هذا يعني، باختصار، أنّ مشاريع تشكيل الهوية المضادة للاستعمار ممكنة تاريخياً؛ لكنه يعني أيضاً، أن مشاريع هويات التجزئة والفتنة والحروب الأهلية ممكنة كذلك، لهذا فإن رفض ومقاومة هويات الفتنة ليست مسألة أخلاقية فحسب، بل هي سياسية وتاريخية.

هذا يعني، بحسب لاكلو وموفيه، أيضاً، أنه إذا أعطتنا التجربة والظروف حالة ما، أو دليـلاً على أن جماعة اجتماعية معيَّنة أصبحت راديكالية (ثورية)، أو العكس، وهي مختلفة عمّا تتوقعه أو تتضمنه مفاهيم الماركسية الكلاسيكية (ليست طبقة عاملة)، فيجب إذاً إعادة النظر في المفاهيم الأساسية للنظرية في ظل التجربة الجديدة. ويجب عدم الخجل من إعادة التفكير في النموذج، وحتى التخلي عن أي إفتراضات مسبقة مهما بدت عزيزة أو «مقدسة». وهذه القضية مهمة في سياق النقاش هنا، لأننا بحاجة إلى تفسير كيف شكلت بعض الجماعات التي كانت رافداً لحركة التحرر العربية سابقاً، رافداً للجماعات المتوحِّشة التي تدمر مجتمعاتنا وأوطاننا.

في النتيجة، غيّرت النيوليبرالية العالم فعـلاً. لكنها، أسست كذلك، وبعد أربعة عقود، لأيديولوجيا بديلة؛ كما أسست لغياب الهيمنة المضادة والبديل العضوي للرأسمالية النيوليبرالية. ومع غياب البديل العضوي المضاد، الذي جرى تسخيفه وشيطنته منهجياً باستخدام الدعاية والشعارات (الاشتراكية نظام تسلّطي)، بدأت حقبة اليمين التي أسست لها النيوليبرالية تنتج ملامح بروتوفاشية في الغرب. أما في الوطن العربي، فلقد كانت هذه الحقبة دامية في كل الأحوال. فمن التدخل العسكري المباشر، كما في العراق وليبيا واليمن، إلى الصراعات الأهلية المدعومة من الخارج، كانت النتيجة مئات ألوف الضحايا ودماراً هائـلاً أصاب الوطن العربي. قصة العالم في حقبة الرأسمالية النيوليبرالية هي واحدة عموماً وتتلخص بقضيتين أساسيتين: إعادة توزيع الدخل القومي لمصلحة الشريحة الأغنى في الوقت الذي يتراجع فيه معدل النمو عالمياً ووطنياً مقارنة بالمرحلة السابقة ويتراجع فيه أيضاً معدل إنتاجية العامل لأسباب بنيوية متعلِّقة بطبيعة الرأسمالية النيوليبرالية، كما سأوثق لاحقاً في الوطن العربي. لكن العالم – والوطن – العربي شهد نقطة تحوُّل ثوري في تاريخه الاقتصادي والاجتماعي والأيديولوجي تسبق المرحلة التي يؤرخ لها هارفي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً منذ منتصف الخمسينيات.

أولاً: المضمون الاجتماعي للوحدة:
كيف وقفت العروبة على قدميها

«لا يمكن لمصر إلا أن تكون عربية». هذه، ربما تكون خلاصة أكثر من أربعة آلاف صفحة هي مجمل صفحات الأجزاء الأربعة لعمل المفكر المصري جمال حمدان الموسوعي، شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان‏[8]؛ ففيها يقدم الباحث العربي الراحل جمال حمدان عرضاً عبقرياً لعلاقة جغرافيا مصر بتاريخها، لتفاعل الزمان والمكان الذي أنتج «مجالها التاريخي»، لمكان ومكانة مصر التي أنتجتها «الملحمة الكبرى للجغرافيا» التي أرَّخ لها حمدان بعبقرية. ربما يظن القارئ المتخصص، محقاً، أن عمل حمدان الفذَّ هذا يذكِّر بعمل فرناند بروديل الشهير بأجزائه الثلاثة: البحر المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني‏[9] ومقولته الأساسية «المدى الطويل» التي تقدم تفسيراً وشرحاً لسيرورة التاريخ ومنعطفاته ومكانيته. لكن حمدان تجاوز بروديل كثيراً بعمله الفذ باستدخاله للهوية الحضارية (العربية) التي أنتجها تفاعل جغرافيا مصر بتاريخها وزمانها بمكانها (عمل بروديل لاحقاً عن الهوية الفرنسية لم يكتمل، كما أن فهمه العميق في سياقه الأوروبي ربما سيضعه حقاً ضمن تقليد وسلسلة أنتجت لنا صامويل هنتنغتون وخرافة صراع الحضارات كما يجادل البعض). لهذا جادلت في مكان آخر أن من يريد فهم أسباب سقوط وفشل تجربة الإخوان المسلمين، وأسباب استمرار تداول اسم جمال عبد الناصر وأهميته والحنين إلى تجربته رغم مرور أكثر من أربعين عاماً على رحيله، عليه أن يبدأ بقراءة جمال حمدان أولاً (وكذلك محمد شفيق غربال تكوين مصر عبر العصور؛ حسين مؤنس مصر ورسالتها؛ صبحي وحيدة في أصول المسألة المصرية وغيرهم الكثير من مفكري مصر). كان حمدان، حتى وفاته، وبلا منازع، أفضل من قدّم الفكرة (وللفكرة) العربية التي أنتجتها «الملحمة الكبرى للجغرافيا». لكن قراءة حمدان في عمله هذا وأعماله الأخرى (وخصوصاً أعماله عن جغرافيا المدن والمدينة العربية) بسبب طبيعتها الأكاديمية تقتصر للأسف على المتخصصين في أفضل الأحوال. فهذه الأعمال تتضمن فيما تتضمن اعترافاً، أو دوراً، أو استدخالاً للعوامل غير الاجتماعية في فهم التاريخ وكتابته وتركيبه وإدراكه (شكل الأرض، الإيكولوجيا، المياه، البحار، الأنهار، الرياح… إلخ).

لم تكن الصيغة العروبية التي أدركها وطوَّرها تدريجاً وطبعت الرؤية السياسية للرئيس جمال عبد الناصر بعيدة من أعمال وكتابات عباقرة مصر ومفكريها ومؤرخيها الذين أسست أعمالهم (عن قصد أو عن غير قصد) منذ محمد علي لأيديولوجيا عربية مصرية‏[10]. لكن هذه الفكرة لم تصبح تياراً عاماً وفلسفة حكم إلا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر (وسيادتها ربما تفسر جزئياً النجاح النسبي لتجربة ناصر وفشل كل من لحقه حين تخلى عنها بدلاً من تطويرها). فما قاله عبد الناصر في فلسفة الثورة، مثـلاً، أن «رفح ليست آخر حدودنا»‏[11]، وأن «قتال العرب في فلسطين هو دفاع عن النفس»، وأنه «لم يعد هناك مفر أمام كل دولة من أن تجيل البصر حولها وتبحث عن وضعها وظروفها في المكان، وترى ماذا تستطيع أن تفعل وما هو مجالها الحيوي وميدان نشاطها ودورها الإيجابي في هذا العالم المضطرب»‏[12]، لم يكن نتيجة لخلفية ناصر العسكرية ودراسته لـ «لتاريخ حملات فلسطين ومشاكل البحر» أو دراسته لتاريخ المنطقة فقط، بل نتيجة فهمه العميق لتاريخ وجغرافيا مصر ذاتها ولحالة العالم في زمنه. لهذا كان عند عبد الناصر وحمدان ووحيدة وغربال ومؤنس: حب المصري لمصر يقاس بمدى عروبته، والمصري الأكثر مصرية هو المصري الأكثر عروبية.

هذا يعني أنهم – كما يقول ياسين الحافظ – أدركوا أن الوحدة العربية هي أولاً عملية تاريخية، وثانياً هي مؤسسة على شرط إدراك آليات الهيمنة الاستعمارية (التجزئة، المصادر، البترول، الكيان الصهيوني)، وليست مجرد اتفاق سياسي بين دولتين (ولهذا بالضبط تتصادم مشاريع الوحدة بالضرورة مع الاستعمار)‏[13]. بمعنى أن عبد الناصر، ولاحقاً الأحزاب القومية العربية والقومية العربية اليسارية (سورية، العراق، الجزائر، ليبيا، اليمن) أدركوا البعد الاستراتيجي للوحدة وأهمية الجغرافيا السياسية وفهموا حقائق التاريخ والجغرافيا والمكان والزمان/و«المجال الجغرافي» كما سماه فرناند بروديل، أو ما أنتجته «الملحمة الكبرى للجغرافيا» حسب جمال حمدان. وأهمية هذه الرؤية القصوى كانت في وعي وإدراك طبيعة السيطرة الإمبريالية والإدراك أنه لا يمكن تحقيق الاستقلال والسيادة، وخصوصاً في عصر الإمبراطوريات الكبرى، إلا عبر الوحدة. كانت الوحدة في مواجهة الكيان الصهيوني تحديداً، وبالتالي وبالضرورة في مواجهة الإمبريالية الغربية، تستند إلى قاعدة بسيطة، أجملتها في مكان آخر بعبارة «كلما كبر العرب صغرت «إسرائيل»»‏[14].

لكنهم أدركوا، لاحقاً، أن ذلك لوحده ليس كافياً لتحقيق الوحدة. كانت العروبة حتى ذلك الوقت تفتقد الروح. العروبة حتى ذلك الوقت، وبتلك الصيغة كانت تقف على رأسها. فتلك الرؤية كانت تفتقد آلية تحقيقها أولاً، وكانت قاصرة لأنها استندت أساساً إلى كون الوحدة «فكرة مطلقة». فالتجزئة «ليست حدوداً سياسية نجمت عن تعدد الدول الاستعمارية التي حكمت الوطن العربي، وحسب. إنها أكبر من ذلك كثيراً، فلقد أرسلت وترسل جذورها في الإنتاج وعلاقات الإنتاج»‏[15]. لهذا، فكما كان للتجزئة مضمون طبقي واقتصادي – اجتماعي، كان لا بد لمشروع الوحدة أن يتميز بمضمون طبقي مضاد. لهذا فمأثرة عبد الناصر الكبرى كانت في تبني نموذج اشتراكي عالمثالثي أسس لإطلاق آلية لتطور اقتصادي تلقائي باتجاه الوحدة كانت العروبة تفتقدها حتى تلك اللحظة. هكذا وقفت العروبة على رأسها بعد أن كانت تقف على قدميها. الجمع بين الجيوسياسي والاقتصادي – الاجتماعي يحسب كتفوق للرؤية العروبية على رؤية اليسار الماركسي التقليدي حينها: فهو بقي أسيراً للأفق القطري ولم يرَ ولم يعادِ الإمبريالية إلا من زاوية الأوضاع الاجتماعية – الاقتصادية فقط، ولم يكن يدرك مركزية التقسيم والتجزئة وجدليتها كآلية إمبريالية ضرورية للهيمنة والاستغلال وأيضاً كنتيجة لها.

وحين اصطدمت الأفكار والمشاريع الوحدوية العربية بالبنية الاجتماعية القديمة القائمة، أدرك القوميون العرب مركزية التنمية وأهمية تفكيك البنى التقليدية القائمة والمرتبطة موضوعياً بالحالة الاستعمارية، وأهمية إطلاق آلية لتطور اقتصادي تلقائي باتجاه الوحدة. ولأنه لم تكن هناك وصفة جاهزة طبعاً للنموذج؛ لهذا كانت سياسات عبد الناصر تحديداً «تجريبية» في هذا المجال‏[16]، كما وصفها الحافظ، أو «ماركسية موضوعية»‏[17]، كما وصفها عبد الله العروي، وهذا كان أكثر فاعلية في الحقيقة من أي التزام أيديولوجي مسبق.

الفكرة (الاشتراكية العربية رغم طبيعتها التجريبية حينها) تبدو اليوم وعلى الرغم من فاعليتها الهائلة بسيطة؛ ولا تمثل حتى نظرية جديدة على الإطلاق بقدر ما تعتمد على نقطة محاسبية (من محاسب) تتعلق بكيفية النظر إلى الاقتصاد القومي وإدارته تم تبنيها في الجنوب عقب مؤتمر باندونغ: يجب منع تسريب فائض القيمة إلى الخارج. يجب إغلاق كل الأبواب ومنع تسريب أي فائض أو أي قيمة مضافة للخارج. بل يتوجب تحريكها وتوسيعها في الداخل وإعادة توزيعها بما يسمح بزيادة حصة الأكثر فقراً وبما يسمح لخلق بيئة شعبية حاضنة للمشروع القومي وتعزيزها مادياً وأيديولوجياً. هذا يفترض بالضرورة دوراً مركزياً لجهاز الدولة في السيطرة والتحكم بالاقتصاد الكلي والإشراف عليه بفاعلية صارمة، وتحديداً الإشراف على السياسة النقدية والسياسة الضريبية لتحقيق هدف عدم تسريب القيمة (القوة الشرائية التعادلية/الأسعار الحقيقية التبادلية ينصف الاشتراكية العربية: ففي سورية، مثـلاً، حيث المواد الغذائية تنتج محلياً، يمكن للدولار أن يشتري أكثر كثيراً من لبنان حيث تستورد أغلبية السلة الغذائية. لهذا «فإنه حين يتم تحرير الأسعار من حركة الأسعار الدولية ويتم تحديدها وفقاً لمعطيات الإنتاج في السوق الوطنية، فإن العائد يكون ذا قيمة أكبر نسبة إلى السعر»).

لكن الاشتراكية العربية لم تطلق آلية اقتصادية باتجاه الوحدة فقط، ولكنها مثلت أيضاً الحامل الضروري لوعي وحدوي تاريخي يتبناه قطاع واسع من الشارع العربي الذي شكل الحاضنة الشعبية الضرورية لحماية المشروع الوحدوي وتحقيق أهدافه. وهذا يتضح من توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي/الوطني والارتفاع المضطرد لحصة الطبقة الأفقر والشرائح الشعبية في الأقطار العربية التي تبنت هذا النهج. في الحقيقة، إن مجمل الأداء الاقتصادي خلال مرحلة الاشتراكية العربية 1960 – 1980 (معدل النمو السنوي، معدل ارتفاع الدخل الفردي، البطالة، الديون، نسبة خدمة الديون من الناتج القومي)، كما سنرى في الجداول أدناه، تؤكد تفوق الأداء عن المرحلة التي تلتها.

لكن بعد حرب 1967، تعرضت الاشتراكية العربية لعملية تفكيك منهجية وتمت إعادة دمج الوطن العربي في النظام الرأسمالي العالمي وفق شروط الهزيمة. وهذا التفكيك، وعلى الرغم من تبعاته الاقتصادية المباشرة التي يمكن قياسها إمبيريقياً بسهولة، كانت له تبعات ثقافية ومعرفية كارثية أسست لما حل بالوطن العربي عقب عام 2010. فتقويض الأسس الاشتراكية للوحدة قادت إلى مصاب معرفي وأسس لوضع الطائفة والمذهب في مقابل الطبقة فسهّل استدامة المنظومة الجديدة وساهم في إشعال الحروب الأهلية المدعومة من الخارج. أكثر من ذلك، كان للمصاب المعرفي الذي أصاب العقل السياسي العربي دور كبير في قلب الكثير من المفاهيم رأساً على عقب. هكذا أصبح طلب تدخل القوى الاستعمارية في بلادنا مطلباً «ثورياً»، كما يراه البعض، بعدما كان الكل يجمع أنه يطابق التعريف المعجمي للخيانة العظمى.

ثانياً: النيوليبرالية: الاستعمار المعولم

منذ مطلع الثمانينيات، وبخلاف مرحلة الاشتراكية العربية التي سادت فيها أولوية العام على الخاص، ساد الخاص على العام، وبينما حدثت زيادة في إنتاجية الأيدي العاملة وارتفاع في الأجور (وتمت حماية حصة الطبقة العاملة من الناتج القومي) وتساوت تقريباً زيادة الطلب على اليد العاملة مع نمو القوة العاملة في المرحلة الأولى، حصل النقيض تماماً في المرحلة الثانية.

فبعد ثلاثة عقود من السياسات النيوليبرالية، كانت النتائج كارثية: «50 بالمئة من سكان الوطن العربي يعيشون بأقل من دولارين في اليوم (حد الفقر) وينفقون أكثر من نصف دخلهم على المواد الغذائية الأساسية»، كما يشير «التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2005»‏[18]. لكن عتبة الدولارين للدخل، والدولار للإنفاق على المواد الغذائية الأساسية، يجب أن تقرأ أيضاً في سياق ظروف الوطن العربي الخاصة وظروف كل بلد على حدة، كون (بعض) بلادنا هي أكثر بلاد الأرض تبعية (واستيراداً) حين يتعلق الأمر بالمواد الغذائية. ففي سورية، مثـلاً، حيث المواد الغذائية تنتج محلياً، يمكن للدولار أن يشتري أكثر كثيراً مما يشتري في لبنان حيث يتم استيراد أغلبية السلة الغذائية. لهذا «فإنه حين يتم تحرير الأسعار من حركة الأسعار الدولية ويتم تحديدها وفقاً لمعطيات الإنتاج في السوق الوطنية، فإن العائد يكون ذا قيمة أكبر نسبة إلى السعر». وبالتالي، حين يُنفَق نصف كل دولار على الأغذية المستوردة التي يتم تحديد أسعارها دولياً (كما في العراق ولبنان وليبيا مثـلاً) كما يفيد مقياس «تعادل القوة الشرائية» (Purchasing Power Parity) يعني أن ما تشتريه العملة الوطنية في الداخل هو ذاته ما يشتريه الدولار في الخارج.

وفي حين كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في المنطقة ككل ينمو سنوياً بمعدل معقول خلال السبعينيات (4.33 بالمئة)، انخفض المعدل (3.43 بالمئة) في الثمانينيات ونما بمعدل منخفض جداً خلال التسعينيات (0.34 بالمئة). ومع اندلاع الأزمات والحروب بعد عام 2011 انخفض الى ما دون الصفر – فأصبح سلبياً.

متوسط النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي،
ومعدل نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الحقيقي
(معدل نمو الإنتاجية للعامل محسوبة بوحدة العملة المحلية الثابتة)

متوسط النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي1960 – 19791980 – 2011
سورية3.8 بالمئة1.2 بالمئة
العراق6.8 بالمئة2.1 بالمئة
مصر3.5 بالمئة2.3 بالمئة

 

معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي1960 – 19791980 – 2011
سورية7.1 بالمئة4 بالمئة
العراق10 بالمئة4.9 بالمئة
مصر5.5 بالمئة4.3 بالمئة

 

معدل نمو الإنتاجية للعامل
محسوبة بوحدة العملة المحلية الثابتة
1960 – 19791980 – 2011
سورية3.3 بالمئة2.2 بالمئة
العراق8.6 بالمئة1.2 بالمئة
مصر4.5 بالمئة0.5 بالمئة

 

معدل المدى الوسطي لمعدلات البطالة للفترتين 1960 – 1979 و1980 – 2011

1960 – 19791980 – 2013
مصر5.2 بالمئة13.2 بالمئة
سورية4.2 بالمئة10.9 بالمئة

 

قبل عام 1980، تم حساب المعدلات باستخدام عشر (10) ملاحظات متتالية على الأقل للعراق و15 لمصر و20 لسورية، استناداً إلى البيانات المتاحة. وبعد عام 1980، كان الأداء الاقتصادي لسورية ومصر يعتمدان أكثر على النفط. ومعدل الناتج لكل عامل في العصر النيوليبرالي يتضخم من عائدات النفط، وهذا يعني في الواقع أنها أقل كثيراً.

المصدر:  Ali Kadri, The Unmaking of Arab Socialism (New York: Anthem Press, 2016), p. 74.

ماذا حصل؟

لم تفشل العملية التنموية في الوطن العربي، بل تعرضت قدرات وإمكانيات الوطن العربي على النمو لعملية اجتثاث‏[19]. ما حصل في الوطن العربي، وله، خلال العقود الثلاثة الماضية فقط، وهي عمر اختراق النيوليبرالية لبلادنا، يشي بأن الوطن العربي خضع (أو أُخضع بالقوة غالباً) لعملية «تنمية معكوسة» عبر تجريده من قدراته وإمكانياته على النمو. تاريخ التنمية المعكوسة في الوطن العربي هو هو تاريخ النيوليبرالية في بلادنا.

كل المؤشرات الاقتصادية (الفقر طويل الأمد، ارتفاع معدلات البطالة ومستويات اللامساواة، تدفق الموارد الحقيقية والمالية، الاستعمار العسكري وغيرها الكثير مقارنة بالمعايير العالمية) تؤكد أن ما حصل خلال العقود الثلاثة الماضية هو «عملية تفكيك متعمد ومنهجي لقدرة الوطن العربي» على التحول هيكلياً وبالتالي اجتثاث قدرته على النمو، كما جادل علي قادري في التنمية المعكوسة‏[20].

وفوق ذلك كله، وخلال «العقود الخمسة الماضية، كان الوطن العربي ساحة لأعلى نسبة تواتر للحرب على وجه الأرض». فمنذ نهاية الحرب الباردة تحديداً، كما يقول بيري أندرسون في مقدمة عدد (تشرين الثاني/نوفمبر – كانون الأول/ديسمبر 2015) من نيو لفت ريفيو، «أن الدول العربية شكلت منطقة للتدخل العسكري الغربي لا مثيل لها في عالم ما بعد الحرب الباردة»‏[21]. والحرب هنا ليست مجرد الوجه العنيف والوحشي لرأس المال العالمي فقط، بل هي أيضاً إحدى آليات تراكمه. الحروب المتتالية في وطننا العربي، وعليه، كانت دوماً آلية دمجه في منظومة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، والأهم كانت الآلية التي أعادت تكوين وتطويع الطبقات المهيمنة (المهزومة) في الوطن العربي، كما يحصل عادة بعد كل حرب، وفق مصالح الغرب ووفق شروط الهزيمة. في الحصيلة فرضت الحرب على المهزوم دائماً شروطها وفقد الوطن العربي تدريجاً سيادته وحتى أساسيات مفهومه للأمن القومي (المعنى الحقيقي للتنمية) عبر إخضاعه لسياسات نيوليبرالية.

ودورة الحرب هي دورة اقتصادية – اجتماعية أساساً لا تفسرها أدبيات تاريخ الحروب، ولا العلم العسكري المتخصص الذي لا يعمل إلا على تشييء مفهوم الحرب (رغم متعة قراءتها أحياناً)[22]. لهذا السبب بالضبط يمكن ملاحظة نزعة تاريخية متميزة في تطور الرأسمالية نحو تدمير الإنسان وتدمير المجتمعات وربما العالم لاحقاً، فالقتل في الحروب لا يولد الربح وتراكم رأس المال فقط، بل يعمل أيضاً على تغطية العجز (الكبير أحياناً) الناتج من عمليات الاستهلاك غير العسكرية، أو أن الحرب في حالة الاقتصاد الرأسمالي تسهم في تسديد العجز الناتج من أزمة الاقتصاد غير العسكري (المدني).

فصراع الهيمنة الذي يقود إلى الحروب في جانب أساسي منه هو في الجوهر صراع وقتال من أجل أسلوب وطريقة حياة وآليات تمويلهما. هو صراع من أجل استدامة هيمنة وإعادة إنتاج النموذج الغربي الإمبريالي والحفاظ على آليات تدفق الثروة والفائض للغرب من كلّ أركان الأرض. هكذا بالضبط يمكن فهم أهمية ووظيفة الحرب والصراعات وأحزمة الموت وعدم الاستقرار الذي يشهده العالم (وتحديداً الوطن العربي). لهذا، فإن كان كتاب لينين عن الإمبريالية‏[23] هو الكتاب الأهم فعـلاً لفهم طبيعة الصراع الدائر في العالم، فإن قانون القيمة عند ماركس هو الآلية التي تكشف جوهر الصراع‏[24]، لأن كل عالم اجتماع أو مؤرخ أو حتى عالم اقتصاد أو سياسة جدي يعرف أنه لا يوجد حقاً نظرية اجتماعية جدية إلا إذا كانت مبنية على نظرية القيمة. لهذا بالضبط لا يمكن إدراك حقيقة ما يجري في العالم والآليات التي تحكم وتضبط عملياته وتحولاته استناداً إلى سردية أليسون الأمريكية ومن دون الاستناد إلى رؤية اقتصادية – سياسية.

صحيح أن الحرب والإنتاج العسكري بحد ذاته لا ينتج شيئاً (أو لا ينتج شيئاً مفيداً، ويمكن للبشرية العيش والاستمرار من دونه، بل إن فرص العيش والاستمرار أكبر من دونه). لكن العسكرة والحروب تعمل باستمرار على إعادة جدولة قانون القيمة أو إعادة جدولة العلاقة مع القيمة باستمرار عبر سحق قيمة الإنسان الجنوبي تحديداً وقيمة قوة عمله. باختصار: لهذا يتم تبادل سلع الدول القوية بأضعاف قيمتها الحقيقية، وتبادلها بأضعاف، وأحياناً عشرات أضعاف، قيمة السلع المنتجة في دول الجنوب (هكذا أصبح الشمال غنياً والجنوب فقيراً)‏[25]. هذا أحد الأسباب التي دفعت بالرأسمالية العالمية إلى تحويل مجتمعات الجنوب (والوطن العربي تحديداً وحتى العالم حين يكون ذلك ضرورياً) إلى حقل رماية مفتوح خلال القرون الثلاثة الماضية. علاقات السوق والتبادل هي بجوهرها علاقات طبقية وعلاقات قوة، وهو ما يفسر كون السعر دائماً أعلى كثيراً في حالة سلع دول الشمال (أو أقل كثيراً في حالة سلع دول الجنوب) من القيمة الحقيقية للسلعة.

والتاريخ الاقتصادي لوطننا العربي في العقود الأخيرة لوحده كفيل بأن ينسف كل افتراضات الاقتصاد النيوليبرالي رأساً على عقب، وهو شاهد حي على تاريخ اجتثاث مقدرات التنمية في بلادنا وما لحق بنا من كوارث. لم يعمل الانفتاح على زيادة الإنتاجية كما يَفْترِض ويَعِدْ أنبياء النيوليبرالية ورسل رأس المال. العكس بالضبط هو ما حصل في الوطن العربي، كما تؤكد دراسة «انخفاض الإنتاجية في الوطن العربي»‏[26].

فعلى مدى «العقود الثلاثة الماضية نما الطلب على اليد العاملة بمعدل أقل كثيراً من نمو القوة العاملة، في حين أنه في الستينيات والسبعينيات (سنوات تدخل الدولة وإدارتها للاقتصاد) كان نمو الطلب على اليد العاملة متساوياً تقريباً مع معدل عرض العمل. علاوة على ذلك، منذ بداية الثمانينيات (بداية اختراق النيوليبرالية لبلادنا) لم يكن هناك أي تحولات كبرى في التكوين القطاعي أو تكوين الشركات في الوطن العربي، الذي كان من شأنه (لو حصل) أن يسمح بمرونة أكبر للطلب على العمل أو لحصول استبدال أكبر بين العمل/رأس المال». لهذا، لم تكن شركات أكبر مع تكنولوجيا أفضل هي التي تقود النمو من خلال استبدال العمل بآلات أكثر كفاءة (كما ترسم الدعاية الصورة)، بل «كانت ظروف السوق الحرة التي تقبل بها فقط المجتمعات المهزومة هي التي قادت إلى تسريح العمل»‏[27]. في المقلب الآخر، وعلى النقيض من ذلك تماماً، «أثبت القطاع العام «غير الكفء» (وفق هذه الأدبيات) جدارته. كان فعالاً اجتماعياً لأنه استمر بالعمل بكفاءة «كوسادة» للرعاية الاجتماعية لمجمل السكان».

ثالثاً: فلسفة الثورة: العروبة والعروبة المضادة

ربما تكون مأثرة جمال عبد الناصر الأهم هي فكرته الثورية التي استطاعت تجاوز الأيديولوجيات الوطنية الانعزالية والهويات ماقبل الحديثة وأدخلت العرب التاريخ كأمة، لكنها جعلت منه الزعيم العالمي الأخطر أيضاً. فعلى مدى حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، كان جمال عبد الناصر «عدو إسرائيل الأشد خطورة»، حسب تقديرات النخب السياسية والعسكرية والاستخبارية الصهيونية في الكيان الغاصب حينها، كما نقل عنهم نحمان بن يهودا‏[28]. وهذا الخطر، كما يبدو وكما نعرف اليوم، لم يكن فعـلاً في قدرات مصر العسكرية حينها، أو في إمكان أن تمثل القوة العسكرية المصرية تهديداً وجودياً للكيان الصهيوني. لكن الفكرة التي كوّنت محور ثورة عبد الناصر، لم تكن تخيف هذه النخب فحسب، بل تقلق أيضاً النخب الإمبراطورية في بريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة. لهذا ليس غريباً أن يصرخ أنطوني أيدين، رئيس الوزراء الإنكليزي وخليفة تشرشل، غاضباً في معاونيه، كما نقل عنه روبرت درايفوس في لعبة الشياطين: «ما هذا الكلام الفارغ عن عزل ناصر، أو «تحييده» كما يسمى ذلك؟ أنا أريده مدمراً، ألا تفهمون؟ أنا أريده مقتولاً، ولا يهمني إن كان هناك فوضى شاملة في مصر»‏[29].

ففي مصر، لم تكتفِ الإمبريالية الإنكليزية بوضع حاجز جغرافي يعرقل إمكان تحقيق الوحدة العربية بنبش مشروع نابوليون وزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، كما يقول ياسين الحافظ، بل عملت بعد احتلال مصر في نهاية القرن التاسع عشر على «تشجيع أيديولوجيا قومية مصرية مهمتها تكريس عزلة مصر التي فرضتها الإمبريالية بقوة السلاح بقضائها على مشروع محمد علي الوحدوي»‏[30]. لم تكن الإشكالية الوحيدة والأساسية لهذه النزعة القومية المصرية أنها أفرزت وعمّمت وعياً مصرياً ملتبساً وقاصراً لقضية فلسطين فقط (فعلى اعتبار أن مصر تُمثل وحدها أمة مستقلة كما تصور تلك الأيديولوجيا، كان الموقف الرسمي وموقف النخب عموماً من مأساة فلسطين محدوداً بالتعاطف مع مأساة جار يتعرض للاضطهاد عند الوطنيين المصريين، أو تضامن مع شعب يتشارك معه في الدين عند بعض المسلمين والمسيحيين)، بل أسّست أيضاً لشيوع وصعود وهم خطير آخر يتمثل بإمكان تحقيق المصريين لحريتهم الكاملة وحدهم فقط في عالم تهيمن عليه إمبراطوريات عملاقة – وهذا كان أيضاً بعضاً من أوهام القراءة الخاطئة لثورة عرابي وثورة 1919.

لم يكن على الاستعمار الإنكليزي بعد زرعه الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي وفصل مصر وسورية جغرافياً عقب إدراكه لخطر مشروع محمد علي الوحدوي سوى التأسيس أيضاً للمسار المضاد الذي سيسير فيه شعب مصر المستعمَر بوعي (مزوّر، كما يجدر القول الآن) نحو تجذير استعماره وتبعيته بنفسه عبر تشجيع ودعم تعميم الأيديولوجيا الوطنية. فهذه الأيديولوجيا الانعزالية التي لم يكن ممكناً لها أن تقود إلى تحرير واستقلال حقيقيين لمصر، لم يكن في إمكانها كذلك أن ترى في الكيان الصهيوني عدواً حقيقياً، إن لم نقل وجودياً، فلم يكن ممكناً لها أن تعي حقيقة هذا الكيان ومعنى وتبعات وجوده على الاستقلال المصري أصـلاً.
ثم جاءت ثورة عبد الناصر الذي كان يصرّ دوماً على النظر إلى ما خلف الحدود، وتحديداً خلف أو ما بعد سيناء، أو ما سماه عبد الناصر «حقائق الزمان والمكان». لهذا السبب كتب عبد الناصر «رفح ليست آخر حدود بلادنا»، وكتب أيضاً أنه «لم يعد هناك مفرّ أمام كل دولة من أن تجيل البصر حولها وتبحث عن وضعها وظروفها في المكان، وترى ماذا تستطيع أن تفعل فيه وما هو مجالها الحيوي وميدان نشاطها ودورها الإيجابي في هذا العالم المضطرب»‏[31]. وفي فلسفة الثورة لخّص عبد الناصر رؤيته الجديدة بجملة واحدة مثلت انقلاباً على تاريخ طويل من هيمنة الأيديولوجيا الانعزالية وأوهام الوعي الذاتي المصري المشوَّه (الذي مثّل أساس السياسة المصرية حينها والنظرة إلى الداخل والخارج) ومثّلت أيضاً مدخـلاً واقعياً لإمكان التحرر والاستقلال الحقيقي لمصر: «لقد مضى عهد العزلة»‏[32]. وفي الجزء الثالث والأخير من فلسفة الثورة يَشرح عبد الناصر بإسهاب رؤيته الجديدة عبر عرضه للدوائر الثلاث (العربية، الأفريقية، والإسلامية) التي تطورت وتحولت نظرته لها مع تطور وعيه إلى حقيقتين مترابطتين: الأولى، طبيعة المشروع الإمبريالي الغربي؛ والثانية طبيعة علاقته بالمشروع الصهيوني على أرض فلسطين.

لم تكن «إسرائيل» عند عبد الناصر «إلا أثراً من آثار الاستعمار»، وكان يرى أن فكرة «إسرائيل» ذاتها لم تكن ممكنة إطلاقاً لولا الدور الذي أداه الاستعمار الإنكليزي، وإلا لبقيت مجرد «خيال مجنون ليس له أمل في أي واقع». ربما لهذا السبب جادل عبد الناصر أنّ: «الاستعمار هو القوة الكبرى التي تفرض على المنطقة كلها حصاراً قاتـلاً غير مرئي، أقوى وأقسى مئة مرة من «الحصار الذي كان يحيط بخنادقنا في «الفالوجة» وبجيوشنا وحكوماتنا في العواصم التي كنا نتلقى منها الأوامر». ولم يكن عبد الناصر، كما يدلل تأريخه الزمني وعرضه التاريخي لحقائق المكان تحديداً (القسمان الثاني والثالث من فلسفة الثورة)، بحاجة إلى أكثر من قراءة تاريخ مصر والمنطقة مستفيداً من خلفيته العسكرية من جهة، وقراءة تاريخ تأسيس الكيان الصهيوني من جهة أخرى (قرأ عبد الناصر مذكرات حاييم وايزمن: التجربة والخطأ بتمعن واقتبس منها بكثافة في فلسفة الثورة) ليستنتج: «لما بدأت أزمة فلسطين، كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة، وهو ليس انسياقاً وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس». هذا الاستنتاج من عبد الناصر يُفَنِّد رؤى الجهلة في التاريخ الذين امتهنوا تسخيف واقعية الأفكار العروبية وتصويرها على أنها غرائزية وغير عقلانية. فحين كان عبد الناصر طالباً في المدرسة الثانوية يخرج في تظاهرات الاحتجاج السنوي على وعد بلفور، كانت العاطفة حينها هي الدافع وراء تلك الحماسة، كما قال. لكن وعي وإدراك عبد الناصر للمعنى الحقيقي لوعد بلفور وتبعاته على فلسطين، كما على مصر نفسها والمنطقة ككل، تغيّر حين أصبح طالباً في الكلية الحربية ودرس تاريخ حملات فلسطين ومشاكل البحر، ودرس، كما قال، «تاريخ المنطقة وظروفها التي جعلت منها في القرن الأخير فريسة سهلة تتخاطفها أنياب مجموعة من الوحوش الجائعة». كان قتال العرب في فلسطين دفاعاً عن النفس، كما قال عبد الناصر، وسيبقى قتال العرب في فلسطين الدفاع عن النفس في المستقبل‏[33].

لم تكُ ثورة عبد الناصر إذاً في إطاحته ورفاقه النظام الملكي العفن، على أهمية الحدث وعظمتِه، لم تكُ في تأميمه قناة السويس، على أهمية الحدث التاريخية الكبيرة؛ ولا في بناء السد العالي، على أهميته الاقتصادية والتنموية؛ ولا حتى في الإصلاح الزراعي الذي أتاح التأسيس لحاضنة شعبية لها مصلحة في العروبة. إن ثورة عبد الناصر الكبرى، كما لخصها ياسين الحافظ، كانت في «الانعطافة التي أحدثها بإعادة مصر إلى إطارها الطبيعي كقوة فاعلة»، وهذه الرؤية «تعطي صورة واضحة عن رؤية عبد الناصر التاريخية التي تفوقت على سائر رؤى مفكري وساسة مصر ما قبل 1952». هذه الانعطافة كانت أساس وعي عربي جديد في مصر والوطن العربي يمثل المسار المضاد للوطنيات المحلية الانعزالية التي دعمها ولا يزال الاستعمار الغربي على طريق تشكيل تيار عام جديد في الوطن العربي. ولم يكن تأميم قناة السويس وبناء السد العالي والإصلاح الزراعي إلا من تبعات هذه الانعطافة، وكانت المشاركة في حرب اليمن كذلك – يذكر محمد حسنين هيكل أنه كان شخصياً ضد المشاركة في حرب اليمن ويعترف بأنه كان على خطأ – فبعد استغاثة ثورة اليمن الوليدة، كان عبد الناصر يرى أنّه لا يمكن «أن نترك الثورة اليمنية وحدها يسهل ضربها»، وكان يرى أيضاً أن ترك الثورة اليمنية وحدها قد يؤثر في الحركة العربية العامة»‏[34].

1 – كتلة عبد الناصر التاريخية

كان خيار عبد الناصر العمل من أجل «توحيد الكفاح»، أو «الكفاح الواحد» كما سماه‏[35]، وهي سياسة هدفت الى تجنيد كل الطاقات الممكنة والمتوافرة، لا للأمة العربية التي كانت دائرته الأولى والأهم فحسب، بل وأفريقيا (الدائرة الأفريقية)، العالم الإسلامي (الدائرة الإسلامية) وما بعد (منظومة عدم الانحياز). وبلغة أنطونيو غرامشي، كان خيار عبد الناصر بناء «الكتلة التاريخية» القادرة على تحرير مصر والمنطقة، لأن كـلاً منا لن يستطيع أن يتحرر وينتصر وحده في عالم تحكمه الإمبراطوريات الكبرى – لن تتحرر مصر أو أي قطر عربي وحده، ولن يتحرروا من دون تحرير فلسطين، وما دام هناك كيان صهيوني على أرضها. ربما نختلف على الصيغة الأكثر فاعلية للأفكار العروبية، لكن جوهرها كما طرحه عبد الناصر لا يؤكد واقعيتها الشديدة وعقلانيتها فحسب، بل أيضاً ضرورتها الملحة لإنجاز تحرير الأمة، وعجز الدولة القطرية عن أن تنجز شيئاً (تنمية، تحرير، عدالة) على مدار سبعين عاماً مردّه الأساسي بنيتها المصممة للوصول إلى هذا الفشل، وليس الحكام المستبدون إلا تجلٍّ لواقع وحالة هذه الدولة وفكرتها التي لا تختلف في جوهرها عن الفكرة العنصرية التي اعتمد الاستعمار عليها لتفتيت مجتمعات الجنوب.

كان أتباع عبد الناصر في العالم مدركين، كما يبدو، أهمية الحلف العالمي ضد الاستعمار الذي سعى له عبد الناصر. فباتريس لومومبا، شهيد الثورة العالمية كما سماه تشي غيفارا، كان ناصرياً. وفي رسالته الأخيرة التي كتبها قبل اغتياله البشع (بربطه إلى شجرة وإطلاق النار عليه ثم تقطيع جثته وتذويبها بحامض الأسيد) إلى زوجته بولين ورفاقه، يختم لومومبا شهادته بـ: «عاشت أفريقيا»، وليس «عاش الكونغو». وكلما قرأ المرء المزيد عن لومومبا، ضحية «أهم اغتيال سياسي في القرن العشرين»، كما قال لودو دو فيته في كتابه اغتيال لومومبا‏[36]، لا يشعر فقط أنه كان تلميذاً نجيباً لجمال عبد الناصر، بل يمكنه أن يرى شبح الزعيم العربي وجوهر فلسفة الثورة وعبقرية الفكرة الناصرية في كل أسطر شهادته وتفاصيل حياته القصيرة‏[37]. هكذا حاول لومومبا الخروج بالكونغو وأفريقيا من وحل مشابه لذلك الذي أصاب مجتمعات الجنوب ودفع حياته ثمناً لذلك. ربما لهذا السبب كتب عبد الناصر إلى الرئيس الغاني كوامي نكروما عقب اغتيال لومومبا: «إنني أقضي ليالي طويلة في الدموع، وأشعر بالنار في قلبي كلما تذكرت أن قواتنا كانت هناك ضمن إطار الأمم المتحدة، وأن الحرية التي ذهبنا لحمايتها قد اغتيلت على مرمى حجر منا». وكانت الكونغو و«الجريمة الوحشية التي وقعت فيه باغتيال باتريس لومومبا» أيضاً محور الرسالة الأولى التي أرسلها عبد الناصر إلى الرئيس الأمريكي الجديد حينها جون كنيدي‏[38].

اللافت للنظر أن الرئيس عبد الناصر لم يلتقِ باتريس لومومبا إلا مرة واحدة يتيمة (أثناء انعقاد مؤتمر القمة الأفريقية في عام 1958 في أكرا في غانا، ولم يكن حينها قد انتُخب رئيساً للوزراء وكانت الكونغو لا تزال تحت الاستعمار). لكن اختيار لومومبا لاحقاً لعبد الناصر تحديداً، من دون كل زعماء أفريقيا والعالم، لرعاية أبنائه بعد اغتياله من جهة، والرعاية الأبوية الفريدة التي وفرها عبد الناصر لهم حتى وفاته من جهة أخرى، تشير إلى أن ما كان يربط الزعيمين أكبر من مجرد احترام أو تقدير. كانا يتشاركان في فكرة الثورة، ويتشاركان أيضاً في فكرة ضرورة تأسيس الكتلة التاريخية المضادة للاستعمار، وليست «عاشت أفريقيا» آخر عبارة خطّها لومومبا إلا «الدائرة الأفريقية» الناصرية التي تطورت أهميتها تدريجاً ونضج معناها أكثر منذ أن كتب عبد الناصر فلسفة الثورة وحتى وفاته (نشرت مجلة اليوم السابع ولأربعة أيام متتالية منذ 30 أيلول/سبتمبر 2010 حتى الثالث من تشرين الأول/أكتوبر لقاء مع باتريس لومومبا الابن، يروي فيه تفاصيل تهريبهم إلى مصر في عملية استخبارية جريئة، وتفاصيل طفولته هو وإخوته في كنف الأب جمال عبد الناصر والأم تحية عبد الناصر، كما سماهما).

والثائر البوليفاري الراحل هوغو تشافيز أعلن في لقاء تلفزيوني معه في 4 آب/أغسطس 2006 (أثناء حرب تموز/يوليو) ليس فقط «أشعر أني عربي»، بل أيضاً «أنا ناصري». وهذا حقاً صحيح، فسيمون بوليفار هو عبد الناصر أمريكا اللاتينية. مدرسة عبد الناصر إذاً مدرسة ثورة عالمية، ومن يسمع كلمة الثائر العالمي تشي غيفارا في الأمم المتحدة في عام 1964، يردّد مراراً «أمريكا اللاتينية»، رغم كونه متحدثاً باسم الحكومة الكوبية، سيستنتج أنّه كان أيضاً يفكّر بطريقة دوائر عبد الناصر وبوليفار.

لكن ثورة عبد الناصر والانعطافة التاريخية التي قادها لم يكن لها طبعاً أن تمر من دون أن تفجر التناقضات الكامنة في المجتمع العربي، والأهم من دون أن تخرج إلى العلن قوى التجزئة التي كانت مصالحها المرتبطة بالاستعمار وشروط وجودها على نقيض مع المشروع العربي الوحدوي. لذلك كان ياسين الحافظ محقاً حين رأى أنّ «المحاولة الوحدوية الناصرية كشفت عن قوى البنى التجزيئية والمصالح التي أفرزتها والأيديولوجيا التي صاغتها»‏[39]. طبعاً كشفت التجربة كذلك عن قصور ورومانسية الوعي الوحدوي حينها، كما أشار الحافظ، وهذا موضوع يمكن ويجب مناقشته في سياقه التاريخي ومن دون مبالغة في جلد الذات، وخصوصاً أن الإدراك الناصري لمعنى وحقيقة الإمبريالية الغربية وطبيعة علاقتها بالكيان الصهيوني استغرق نضوجه وقتاً ليس قليـلاً. إلا «أنّ هذه المحاولة وضعت العرب في عصر الوحدة»، أي أنها انتزعت شرعية المشروع الوحدوي، وبالتالي «وسعت الاحتمالات الوحدوية».

وما ساعد وسرّع في خروج تناقضات المجتمع العربي وقوى التجزئة أن ثورة عبد الناصر لم تكن تهدف إلى التحرر الوطني فقط، بل والاجتماعي كذلك. كان عبد الناصر يقود ثورتين في آن واحد، الأولى ضد الاستعمار الغربي، والثانية ضد الإقطاع ورأس المال المحلي، وهو ما جرّ عليه تحالف بعض العرب، والكيان الصهيوني، والإمبراطوريات الغربية، وكلهم يبغي التخلص منه شخصياً في سلسلة من محاولات الاغتيال يطول الحديث عنها. ومشروع الهوية العربية الذي روّج له عبد الناصر لا يمكنه فقط أن يوفر الأساس الفكري والسياسي للكتلة التاريخية، بل يمكنه أيضاً أن يمثِّل مساراً للخروج من الأزمات والفتن التي يخلقها مشروع الهويات المحلية وماقبل الدولاتية كالطائفية والمذهبية.

2 – الغزو الأيديولوجي: الطائفة ضد الطبقة

قدرة النظام الرأسمالي العالمي على التطور وضمان استمرار تدفق الثروة من الجنوب إلى الشمال تتطلب دائماً ابتكار آليات جديدة، وأحياناً شيطانية ومتوحشة وعنيفة، وتفترض أدواراً مهمة للشرائح المهيمنة والنخب في الجنوب، كما تفترض هيمنة سياسية، ثقافية، ومعرفية أوروبية على العالم ـ آخرها طبعاً كان الليبرالية. لهذا السبب انتهت حركات التحرر من الاستعمار التي تبنت هذا النموذج في مجتمعات الجنوب، وبلا أي استثناء تقريباً، إلى جملة من الـ «مجندين للاستعمار، كما جادل دايفيد سكوت في كتاب عبقري (على الرغم من دفعه إلى الإحباط) يحمل نفس العنوان‏[40].

هم مجندون وليسوا مجرد تابعين أو متطوعين إذاً، والسبب طبعاً، ليس طبيعة بنية المنظومة الاقتصادية الرأسمالية العالمية فقط، بل تحديداً استنادها إلى عملية تبادل ثقافي ومعرفي غير متكافئة بين الشمال والجنوب تشكل أساس عملية الهيمنة التي شَرَحَ أحد آلياتها الأنثروبولوجي الماركسي ستانلي دياموند في البحث عن البدائي: «التبادل الثقافي كان دائماً موضوع هيمنة. فإما أن تقوم الحضارة مباشرة بتدمير الثقافة البدائية التي ترى أنها تقف في طريق حقها التاريخي، وإما يتم إضعاف الاقتصاد البدائي بفعل اقتصاد المتحضر بحيث لا يمكنه الاستمرار كحامل للثقافة التقليدية»‏[41]. في سعيها للهيمنة، إذاً، تقوم المنظومة الرأسمالية بكسر العمود الفقري للثقافات المحلية ولمشاريع التحرر غير الأوروبية بالقضاء، بالقوة أحياناً كما في حالة العراق (وسورية الآن) على أساسها الاقتصادي.

لهذا بالضبط، تعرَّض الوطن العربي منذ منتصف السبعينيات (كجزء من حملة تصفية تراث الاشتراكية العربي)‏[42] لغزو كاسح للمجال الأيديولوجي قاد إلى ما يشبه إعادة تثقيف جماعي لقطاعات واسعة من الناس أسس له فقدان الأساس الاقتصادي للفكرة القومية والوطنية التي قام عليها التحرر الوطني والتوجهات الوحدوية. والغزو الأيديولوجي عادة يسبق العنف والحروب في ترتيب الأولويات ويؤسس لها، وأحياناً تكون تبعاته أخطر منها بتقويضه للفكرة الوطنية. مثـلاً: تراجع النمو في سورية ومصر في أثناء الحروب 1967 و1973 بمعدل 1 بالمئة فقط. أما في مرحلة النيوليبرالية فالنسبة كانت أعلى من ذلك في فترة تطبيق النموذج الاقتصادي النيوليبرالي.

وفي الوطن العربي كان الانقسام الهوياتي هو النتيجة الأهم لتبعات تقويض الفكرة الوطنية بسبب إعادة توزيع الدخل الوطني والغزو الأيديولوجي الذي تبع ذلك. وعلى الرغم من أن مرحلة الاقطاع (ما قبل الرأسمالية) هي الرحم الذي يحدث فيه تمثيل وإنتاج الهويات الطائفية والمذهبية، إلا أن الهوية الطائفية الحديثة والتقسيمية والأهم التي يكون وجودها على حساب العمل/العمال بالمعنى السياسي (أي بوصفها فاعـلاً سياسياً ليست نتيجة لأصولها ما قبل الرأسمالية، بل كونها نتاجاً للعلاقات الكولونيالية الرأسمالية، كما يشير مهدي عامل).

اللافت للنظر الآن أن إعادة بناء الهوية الثقافية كهوية تقسيمية طائفية هي السردية الرئيسية والتيار العام في العلوم الاجتماعية هذه الأيام (أصبحت بمنزلة الموضة) للمؤسسات الرئيسية التي تستخدم خبراء الهوية بصورة جماعية ومكثفة (ليست دوائر الاقتصاد في الجامعات وحدها تعمل في تعميم السردية النيوليبرالية، بل والعلوم الاجتماعية كذلك). هذا يعمل بقوة على تعزيز الانقسام الأيديولوجي للطبقة العاملة وللمجتمع من خلال وضع الهوية الطبقية في مقابل الطبقة (غريس لي – غوك: الثورة الأمريكية القادمة). في حالتنا هذا يصبح أحد أخطر أنواع الاستشراق الجديد‏[43].

الهوية، طبعاً، هي حالة سائلة ومتغيرة ولا خاصية جوهرانية أصيلة لها. وبغض النظر عن حقيقة أنها تحد من قدرة الطبقة العاملة على الحصول على حصة أعلى من الناتج الاجتماعي، أو حتى على المحافظة على حصتها، فإنها تفتقر كذلك إلى إطار تحليلي أو سياسي يفسر العلاقات البينية للأفراد والجماعات. لكن، هذا هو الخطير: حين تصبح هذه الهوية وقيمها الثقافية نقطة تجمع سياسي فإنها تصبح كأشكال طائفية جديدة (هويات طائفية) ذخيرة اقتصادية وأيديولوجية فعالة لرأس المال وضد المجتمع عموماً والطبقة العاملة خصوصاً. بهذا أصبحت صيغة «الطائفة ضد الطبقة» المعادلة السحرية للنيوليبرالية لإعادة توزيع الدخل الوطني على حساب الأفقر ولمصلحة الأغنى. هكذا كانت الهوية آلية للتجزئة، وبالتالي للهيمنة الإمبريالية.

وفي مرحلة التراجع السياسي والأيديولوجي للاشتراكية والأيديولوجيا القومية تسارعت حدة إعادة بناء الهوية وتسارع معها الانهيار السياسي للطبقة العاملة، وتسارع مع كل ذلك ارتفاع حصة رأس المال من الناتج الاجتماعي على حساب الشعب والفقراء تحديداً. وغياب الوعي المضاد في هذه الحالة سيقود إلى استدامة الانحدار والتراجع التي تزيد التفكك الاجتماعي عبر الخطوط الطائفية والمذهبية والعرقية. هكذا إذاً تم التأسيس للحروب الأهلية: أولاً عبر الاقتصاد الذي قوَّض حامل الفكرة الوطنية والقومية، ثم استتبع ذلك بحملات غزو أيديولوجية مضادة لسد الفراغ الأيديولوجي الناتج من تقويض الفكرة الوطنية والقومية. وفي كل الأحوال أدت الجامعات الغربية والخبراء والمنظمات غير الحكومية دوراً فعالاً في إعادة اختراع الهويات وتسييسها فكانت الحرب الأهلية.

خاتمة: الاندماج الإقليمي

الشعار المخادع الجديد للمؤسسات المالية الدولية هو: «النمو الاجتماعي الشامل»: لا يَنْتُج نمو من دون تعويض الطبقة العاملة‏[44]. لكن، حين يكون جوهر النيوليبرالية كأيديولوجيا في تمكين القطاع الخاص على الصعيد الاجتماعي (أولوية الخاص على العام) فمن غير المحتمل أن يحصل أي انسياب للأسفل (للعمال والفقراء، كما يجري الزعم دائماً)، ولا تكون هذه الفكرة أكثر من دعاية في الحد الأدنى. ثم إن الثروة القائمة على الربح تعتمد أساساً على خفض التكاليف وزيادة الإنتاجية بشكل متزامن، لكن الإنتاجية تراجعت في الوطن العربي. بالتالي، فإن الثروة المتراكمة في هذا النموذج (وخصوصاً في غياب ارتفاع الإنتاجية) كانت قائمة أساساً على إعادة التوزيع وخفض حصة الطبقة العاملة من الناتج المحلي الإجمالي باضطراد. لهذا شهدت حصة الأجور من الناتج القومي في الوطن العربي انخفاضاً مطرداً منذ عام 1980 ووصلت الى أدني المعدلات في العالم بحسب منظمة العمل الدولية.

الصيغة المقترحة لتجاوز الأزمة التي أنتجتها هذه السياسات تستند إلى المسلمات التالية:

أولاً: بما أن الصيغة العروبية والوحدوية بأفق اشتراكي (تجريبي لأنه لا يوجد وصفة جاهزة تتناسب والقرن الحادي والعشرين) هي الصيغة المثلى وفق المقارنة أعلاه، فإن الظروف العربية الراهنة وظروف بعض الأقطار العربية الكبرى (مصر تحديداً) تمنع الشروع في هذا البرنامج في المدى القريب. لهذا ينبغي التفكير في بديل في المديين القريب والمتوسط، وهو ما يقدم صيغة الاندماج الإقليمي على سواها.

ثانياً: في البيئة الدولية المعولمة، لا يبدو أنه يمكن للتنمية السليمة أن تتجذَّر أو أن تنجح في بلد واحد، وخصوصاً إذا كان في منطقة أو إقليم ذات أهمية كبرى للقوى الإمبريالية. هذا يقدم خيار الاندماج الإقليمي في المنطقة على ما عداه.

والمقصود أساساً في خيار الاندماج الإقليمي المقترح هنا هو ترسيخ التنمية في إطار للسياسات الإقليمية تدعمه تدابير مشتركة تكفل المصلحة المشتركة في الإقليم، وهذا مشروط أيضاً بجملة من العوامل يبدو أهمها على الإطلاق أن يكون نطاق وحجم التنسيق الاقتصادي المنظم والهادف مع السياسة القائمة على الحقوق، التي تربط الوطني بالإقليمي، ويهدفان أساساً إلى انتشال السكان من مستوى الفقر المدقع. وهذه يمكن أن تكون فعّالة حسب مدى مساهمة ومشاركة الأيدي العاملة (لا رأس المال) في صياغة السياسات الاقتصادية للدولة، وأيضاً، وهو الأهم (ويتم تجاهله في أدبيات التيار الاقتصادي العام) هو السيادة والأمن، والمقصود بالأمن هنا هو الأمن المالي والاقتصادي العام الذي يمثّل جوهر السيادة.

السردية أعلاه ليست مجرد مقاربة أكاديمية مقارنة بين نموذجين أو مرحلتين تاريخيتين، بقدر ما هي محاولة لتشخيص الخيارات التي تواجهها الأمة العربية هذه الأيام. وهذه الخيارات، كما السردية، ليست مجرد استنتاج أو جملة توصيات عملية بقدر ما هي خيارات ذات تبعات وجودية حقيقية تواجهها أمتنا العربية. فبعد سبع سنين من الحريق الكارثي الذي أصاب الوطن العربي، وبعد أربعين عاماً من سيادة هذا النموذج في أغلب بلدان الوطن العربي، ستكون تبعات الاستمرار في النهج نفسه أكثر كارثية مما رأينا حتى الآن. بالنسبة إلى العرب، كأمة، وللوطن العربي، وحتى للصيغ القطرية القائمة، أصبحت القضية وجودية. فتبعات الاستمرار في هذا النهج بعد تجربة ما سمّي «الربيع العربي» ستكون أكبر كثيراً من أن تستطيع شعوبنا تحمل دفعها، وأمامنا كأمة خياران لا ثالث لهما: الاشتراكية أو البربرية.