مقدمة:

أظهرت أزمة المديونية، التي تعرضت لها الجزائر في سنة 1993 من جديد، مدى هشاشة الاقتصاد الجزائري الناتجة من تفكك هيكله الاقتصادي، المعتمد بدرجة أساسية على إنتاج وتصدير النفط من جهة، وعلى إشباع معظم حاجاته على الواردات من جهة أخرى، إذ جعلت هذه السمة الاقتصاد الجزائري عرضة لهزات وتقلبات الاقتصاد العالمي، وبخاصة تقلبات سوق المواد الأولية. لذا، فإن وتيرة التنمية في بلادنا تعتمد اعتماداً مباشراً وقوياً على دينامية نمو الاقتصاد العالمي.

لقد أوصلت أزمة المديونية الجزائر إلى حالة العجز عن دفع مستحقات ديونها، وكانت هذه فرصة سانحة للدول المصنّعة الدائنة أن تطالب الجزائر، من خلال المؤسسات المالية الدولية، بضرورة إجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية جذرية تكون بمنزلة المضاد الحيوي الذي يمكّن الاقتصاد الجزائري من اكتساب مناعة ضد التأثيرات السلبية للاقتصاد العالمي وتؤهله للاندماج الإيجابي في التقسيم الدولي للعمل. شرعت الجزائر ـ فعلاً ـ منذ 1994 في إجراء سلسلة جديدة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الشاملة. نحاول في هذا البحث تحليل الأشواط التي قطعتها بلادنا في تطبيق هذه الإصلاحات، وما تبقى فعله والعقبات التي تقف في وجه ذلك.

لجأت الجزائر في فترة السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات ـ فترة التصنيع المكثف ـ إلى مصادر التمويل الخارجية، كمصدر إضافي لتمويل تنفيذ مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكن اللجوء المكثف إلى استعمال هذه الموارد مع تدهور شروط الحصول عليها أدى إلى ارتفاع سريع للمديونية، وأدخل البلاد في أزمة مديونية خانقة، بلغت ذروتها مع نهاية سنة 1993 وبداية 1994. في هذه الفترة وصل الاقتصاد الجزائري إلى حافة الانهيار المالي، حيث توقفت الدولة موقتاً عن دفع مستحقات ديونها الخارجية، حينها وصلت مستحقات خدمة الدين (8,4 مليار دولار) إلى مستوى عادلَ تقريباً العائدات من الصادرات (9 مليارات دولار).

إن استفحال أزمة المديونية كان نتاج التفاعل المتزامن لعاملين رئيسيين هما: حلول آجال تسديد جزء كبير من خدمة الديون، وبخاصة منها قصيرة الأجل، والانخفاض الحاد في أسعار النفط في السوق العالمية (أقل من 15 دولاراً للبرميل في سنة 1993)، وكان ذلك بسبب انخفاض الطلب العالمي على هذه المادة الخام نتيجة للكساد الذي أصاب الاقتصاد العالمي في الثمانينيات. إن تزامن حدوث هذين العاملين أدى إلى تراجع كبير في موارد الدولة من العملة الصعبة، ومن ثم إلى انخفاض كبير في قدرتها على الاستيراد، وهو ما أسفر عن شلل شبه تام للاقتصاد الوطني. ومن أجل تحقيق التوازن في ميزان المدفوعات، اضطرت الحكومة إلى تقليص حجم وارداتها بشكل حاد، الأمر الذي ترتب عنه انعكاسات سلبية اقتصادية واجتماعية كبيرة، إذ إن انخفاض الواردات من التجهيزات والحاجات الوسيطية، الموجهة بالخصوص إلى القطاع الصناعي، كانت نتيجته المباشرة تراجع مستويات الإنتاج والتصدير وارتفاع نسبة البطالة، أما تقليص الواردات من المنتجات الاستهلاكية فأدى إلى زيادة التضخم، نتيجة اختلال التوازن بين العرض والطلب العام، وترتب عن ذلك تدهور الظروف المعيشية للسكان. إن تراكم وتفاعل هذه العوامل دفع بالبلاد إلى الأزمة الاجتماعية والسياسية الخطيرة التي عرفتها في التسعينيات، والتي لا تزال تعاني آثارها إلى اليوم.

في الحصيلة، ونتيجة للآثار السلبية لأزمة المديونية، تُعتبر الفترة، من منتصف الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، عشرية ضائعة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجزائر.

كان لزاماً على الجزائر، من أجل الخروج من هذه الأزمة، اتخاذ إجراءات حاسمة من أجل الوصول إلى مستوى ما يسمى «القابلية على الاقتراض» (نسبة قيمة خدمة الدين/قيمة الصادرات يجب ألّا تتعدى 25 بالمئة). أمام هذا الوضع، لم يكن أمام الحكومة من خيار، سوى اللجوء إلى المؤسسات النقدية والمالية الدولية، من أجل إعادة جدولة الديون المستحقة، مقابل شروط صارمة تفرضها هذه المؤسسات تتعلق بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، تحت ضغط البلدان المصنّعة الدائنة.

أولاً: إعادة جدولة الديون الخارجية

بعد مفاوضات شاقة مع المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير)، ومع أهم دائنيها ممثلة بنادي باريس ولندن، تم توقيع اتفاقيتين: الأولى، في بداية سنة 1994 وسميت مخطط التثبيت الاقتصادي (Stand By)، يتم تنفيذها خلال سنة، وهي موجهة بالخصوص إلى إعادة الاستقرار إلى ميزان المدفوعات؛ أما الثانية (تحت اسم مخطط تسهيل التمويل الموسع) فوُقّعت في بداية سنة 1995، ويتم تنفيذها خلال الفترة 1995 ـ 1998، وكان هدفها إعادة هيكلة الاقتصاد الجزائري من أجل تهيئة شروط تنميته وتأهيله للعمل في إطار قواعد السوق.

أما الشروط الأساسية التي كان ينبغي على الطرف الجزائري تنفيذها في إطار الاتفاقيتين المذكورتين فهي التالية:

  •  كبح التضخم، وبخاصة من خلال التحكم في الطلب العام المتمثل بتجميد الزيادة في الأجور؛ التحكم في منح القروض البنكية؛ تقليص العجز في الميزانية العمومية؛ إلغاء كل أشكال الدعم وإعادة هيكلة نظام الإعانات التي تقدمها الدولة للمؤسسات والأفراد وتحرير أسعار السوق الداخلية.
  •  تحرير التجارة الخارجية.
  •  خفض سعر صرف الدينار بـ 100 بالمئة خلال سنة واحدة مع تحضير شروط تحويله الجزئي مع نهاية مدة الاتفاق.
  •  خوصصة المؤسسات الاقتصادية العمومية غير الناجعة أو فتح رأسمالها وتسريح جزء من عمالها، وهذا الإجراء الأخير هو محاولة لتخفيف عبء تكلفة كتلة الأجور في نشاط المؤسسات المذكورة .
  •  توفير شروط جلب الاستثمار وبخاصة الأجنبي بإصلاح النظام الضريبي، النظام البنكي، قانون الجمارك، التشريعات التجارية بما فيها قانون الصفقات العمومية وإعادة النظر في قانون الاستثمار.
  •  لكن الشرط الأهم والمؤلم هو خفض النفقات العمومية على الحاجات الاجتماعية بـمقدار 30 بالمئة.

 

في المقابل التزم صندوق النقد الدولي إعادة جدولة الديون الخارجية الجزائرية المستحقة من سنة 1994 إلى سنة 1998، وكذلك تقديم قروض للحكومة الجزائرية من أجل تثبيت الوضع المالي للبلاد، بلغت قيمة الديون المجدولة حوالى 14,7 مليار دولار، موزعة كالتالي:

ـ 5,8 مليار دولار، تم الاتفاق على جدولتها مع صندوق النقد الدولي، هي عبارة عن قروض متعددة الأطراف تلقتها الجزائر من الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي.

ـ 6,4 مليار دولار وهي قروض ثنائية حكومية جزؤها الأكبر مع فرنسا، تم الاتفاق على جدولتها مع نادي باريس الممثل للدائنين العموميين.

ـ أما الديون التجارية وقيمتها 2,5 مليار دولار فتم الاتفاق على جدولتها مع نادي لندن الممثل للبنوك التجارية الخاصة[1].

إضافة إلى الديون المجدولة، تلقت الجزائر أيضاً مبلغ 1,9 مليار دولار موجهاً إلى تدعيم مختلف عمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية المنصوص عليها في برنامج تسهيل التمويل الموسع. نتيجة لهذه العملية انخفضت نسبة خدمة الدين من 44 بالمئة في سنة 1995 إلى 31.2 بالمئة في سنة 1997 لترتفع من جديد في سنة 1998 (سنة نهاية اتفاق التعديل الهيكلي) إلى 39 بالمئة من القيمة الإجمالية للصادرات[2]. لكن هذا الارتفاع لم يكن ناتجاً من زيادة قيمة خدمة الدين بل من انخفاض عائدات الصادرات بسبب انخفاض أسعار النفط في تلك السنة.

من جهة أخرى، نلاحظ من خلال الجدول الرقم (2)، أن نسبة القابلية على الاقتراض (خدمة الدين/قيمة الصادرات)، التي حددت عتبتها بـ 25 بالمئة، لم تقع تحت هذه العتبة إلا بعد بداية الألفية الثانية. فبالرغم من أن قيمة خدمة الدين كانت تتأرجح بين 1.5 مليار دولار و5 مليارات دولار من سنة 2000 إلى 2005، إلا أن نسبة قابلية الاقتراض كانت في تحسن مستمر (انخفاض) وهذا راجع إلى ارتفاع قيمة الصادرات ـ التي تمثل المقام في الكسر الخاص بحساب هذه النسبة. وبعد سنة 2006 تحسنت أكثر هذه النسبة ـ قابلية الاقتراض ـ وعرفت أدنى مستوى لها خلال سنة 2010، يفسر الأمر هنا بسببين أساسيين هما: أولاً، انخفاض قيمة خدمة الدين من 2.67 مليار دولار سنة 2006، إلى أقل من مليار دولار (0.57)، سنة 2010؛ ثانياً، ارتفاع وتيرة تزايد قيمة الصادرات. وما يعاب على الصادرات هو أنها لا تزال تعاني هيمنة المحروقات عليها (95 بالمئة)، وذلك بالرغم من أن الصادرات خارج المحروقات تجاوزت المليار دولار ابتداءً من سنة 2006، لتصل إلى 1.52 مليار دولار خلال 2010 (انظر الجدول الرقم (3)).

ثانياً: محاربة التضخم

نتيجة لخفض سعر صرف الدينار مرتين ـ في نيسان/أبريل وأيلول/سبتمبر 1994 ـ واعتماد سعر صرف عائم، فقد الدينار الجزائري مع نهاية مدة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي نحو 60 بالمئة من قيمته. في آذار/مارس 1999، بلغ سعر الصرف الرسمي للدولار 64,55 دينار. تمثلت التحولات في ميدان التداول النقدي كذلك بتحرير كاملٍ لأسعار السوق الداخلية ابتداءً من سنة 1992، وأيضاً خفض، ثم في مرحلة ثانية إلغاء، الدعم والإعانات المقدمة من طرف الدولة إلى مختلف القطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية المختلفة.

بدءاً من سنة 1994، ألغت الحكومة الدعم الخاص بشراء التجهيزات الفلاحية والأسمدة، وخفضت بشكل كبير الإعانات المتعلقة بأسعار التجزئة الخاصة بالمواد الغذائية والسلع الاستهلاكية الأخرى ما عدا السكر والدقيق وزيت المائدة والأدوات المدرسية. وفي سنة 1998، أي مع نهاية مدة الاتفاق، ألغيت كل أشكال الدعم المقدمة سابقاً من طرف الدولة، واستُبدلت بأشكال الدعم المباشر للفئات الاجتماعية الفقيرة والمحرومة، منها: المنحة الموجهة للفئات الاجتماعية بدون دخل (Icsr) في إطار الشبكة الاجتماعية، وقد عوضت هذه المنحة في ما بعد بإعانة التضامن الجزافية للأفراد المسنّين من دون دخل ومنحة موجهة إلى أرباب الأسر النشطين الذين يوجدون في حالة بطالة.

إضافة إلى هذا، تم اعتماد نظام وطني لتشغيل وإدماج الشباب العاطل من العمل في إطار صندوق خاص يسيّر من طرف الجماعات المحلية. يهدف هذا النظام إلى توفير مناصب شغل موقتة للشباب العاطلين من العمل، من أجل القيام بأنشطة بسيطة ذات منفعة عامة على المستوى المحلي. دعم هذا النظام بنظام آخر موجّه بالخصوص لفئة الشباب الحاملين للشهادات والمتمثل بمنحهم قروضاً بشروط مخففة لإنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة.

وُجّهت هذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة بالخصوص إلى محاربة التضخم الذي وصل إلى معدلات قياسية في سنة 1992 و1993 (45 بالمئة). بدءاً من سنة 1994، أثمرت هذه الإجراءات في دفع معدل التضخم إلى الانخفاض تدريجاً، وأصبح مع نهاية سنة 1998 بحدود 10 بالمئة.

نشير في هذا المقام، إلى أن الانخفاض الكبير في معدل التضخم لم يكن ناتجاً من زيادة عرض السلع والخدمات (زيادة الإنتاج أو زيادة الواردات)، بل نتيجة لانكماش الطلب العام. إن الارتفاع الكبير والمستمر لأسعار عدد كبير من السلع والخدمات بدءاً من سنة 1992، سنة تحرير أسعار السوق الداخلية واستقرارها عند مستويات توازنية عالية، مع ارتفاع نسبي أقل للأجور أدى إلى انخفاض القدرة الشرائية لفئات اجتماعية واسعة، وبالتالي إلى تقليص حجم طلبها.

يضاف إلى هذا، ارتفاع معدل البطالة الناتج من تسريح عدد كبير من عمال المؤسسات الصناعية، وانخفاض معدل التوظيف بسبب كساد الاقتصاد الوطني. وساهم في انخفاض معدل التضخم كذلك، الاستقرار النسبي في سعر صرف العملة الوطنية نتيجة ارتفاع احتياطي الصرف، بفضل الموارد المالية المقتصدة من جراء عمليات إعادة جدولة الدين الخارجي وتحسُّن الميزان التجاري.

لمعرفة مدى تأثر القدرة الشرائية للمستهلكين العاديين في الجزائر، نستعرض الجدول الرقم (1)، الذي يبين تطور مؤشر أسعار الاستهلاك في الجزائر منذ سنة 1998 إلى غاية 2010:

الجدول الرقم (1)

تطور مؤشر أسعار المستهلك العادي في الجزائر

(الأرقام بالنسبة المئوية)

السنوات1998199920002001200220032004200520062007200820092010
مؤشر أسعار المستهلك4.952.60.34.21.42.5833.5621.642.3263.564.8625.743.9

المصدر: قاعدة المعطيات indexmundi، متوافرة على الموقع التالي: <http://www.indexmundi.com/algeria/inflation_rate_%28consumer_prices%29.html>. (شوهد بتاريخ 7/12/2012).

 

نلاحظ من خلال الجدول الرقم (1) أنه بعد تراجع مؤشر أسعار المستهلك سنة 2000، نحو 0.3 بالمئة، عاود الارتفاع مرة أخرى ليصل سنة 2009 إلى أعلى مستوى له خلال الفترة الموضحة (5.74 بالمئة).

ثالثاً: تطور المديونية الخارجية

تمكنت الجزائر ـ حسب معطيات البنك المركزي الجزائري ـ مع نهاية مدة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، من تحقيق الاستقرار في الوضع المالي وتنفيذ كل التزاماتها أمام دائنيها. لكن الخروج من المأزق المالي، ساهمت فيه أيضاً الظروف المواتية للسوق العالمية للنفط في فترة 1994 ـ 1996، إضافة إلى المساعدات الأجنبية. ونتيجة لانتعاش أسعار النفط في هذه الفترة، تحصّلت الجزائر على فائض مالي بمقدار 6 مليارات دولار فوق المداخيل التي كانت متوقعة حسب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

نشير هنا إلى أن استفحال الأزمة الأمنية في الجزائر في هذه الفترة، ترتب عنها استنزاف جزء من الموارد المالية على النفقات العسكرية، التي ارتفعت من 1,4 إلى 1,9 مليار دولار خارج النفقات الجارية على الأجهزة الأمنية المختلفة[3].

وترتب عن انخفاض أسعار النفط من 18 دولاراً إلى 11,5 دولار في السنوات اللاحقة، وبخاصة في سنة 1998، عنه خسارة مالية كبيرة (3 مليارات دولار في 1998) . لكن احتياطي الصرف في تلك الفترة كان قد وصل إلى 8 مليارات دولار، وهو ما مكّن الجزائر من تسديد مستحقات الديون خلال السنتين اللاحقتين، ونورد في ما يلي أهم مؤشرات هذا الوضع:

 

الجدول الرقم (2)

تطور مؤشرات المديونية والصادرات في الجزائر

 دولار: مليار دولار

المؤشرات


السنة

قيمة الدين الخارجي ( دولار)قيمة الصادرات ( دولار )قيمة خدمة الدين ( دولار)نسبة خدمة الدين/قيمة الصادرات (بالمئة)
198118.814.24.331
199026,612.5864
199128.512.49.274
199226.910.88.276
19932698.494
1994318.74.451
199532.510.54.644
199633.212.84.333.6
199731.613.64.2431.2
199830.79.23.639
199928.312.55.140
200025.321.94.520.5
200122.520.11.522.3
200223.520.34.120.1
200323.3524.474.317.7
200421.8232.22412.6
200517.246.335.512
20065.6154.742.674.8
20075.660.61.682.7
20085.5878.61.11.4
20095.4145.180.851.9
20105.4557.090.571

المصدر: قاعدة المعطيات indexmundi، متوافرة على الموقع التالي: <http://www.indexmundi.com>.

البنك الدولي: <http://data.albankaldawli.org/indicator/DT.TDS.DECT.EX.ZS>.

 

تم تقليص الدين الخارجي في سنة 2000، مقارنة بسنة 1999، في حدود 3 مليارات دولار، حيث انتقلت قيمته من 28,31 إلى 25,26 مليار دولار. وشكل هذا أدنى مستوى للمديونية الخارجية حتى نهاية العشرية الماضية. وإذ ارتفع الدين الخارجي الجزائري، في الفترة 1990 ـ 1996، من 26,59 إلى 33,23 مليار دولار، فإنه بدءاً من 1997 أخذ في الانخفاض التدريجي ليصل في سنة 2002 إلى 23,5 مليار دولار. وانخفضت، نتيجة ذلك، قيمة خدمات الدين من 5,1 مليار دولار في سنة 1999 إلى 4,1 مليار دولار في سنة 2002، الأمر الذي أدى إلى انخفاض نسبة خدمة الدين في الفترة نفسها من 40 بالمئة إلى 20,1 بالمئة من قيمة مداخيل الصادرات[4]. تتماشى هذه النسبة تماماً مع مستوى الأمن المالي، أو ما يسميه خبراء الأمم المتحدة «مستوى القابلية على الاقتراض»، المحدد بـ 25 بالمئة كحد أقصى من قيمة الصادرات. نلاحظ من خلال الجدول الرقم (2)، أن قيمة الدين الخارجي لازمت نحو الخمسة مليارات دولار من سنة 2006 إلى 2010، حيث عرفت نسبة القابلية على الاقتراض، خلال هذه الفترة، أحسن مستوياتها الدنيا لتستقر عند 1 بالمئة سنة 2010.

رابعاً: التجارة الخارجية

أدى الارتفاع التدريجي في قيمة الصادرات بدءاً من سنة 1996، متزامناً مع انخفاضٍ محسوس في قيمة الدين الخارجي وتقليصٍ في حجم الواردات، إلى تحرير جزء من الموارد المالية الناتجة من الصادرات، وسمح للحكومة الجزائرية بتسديد قيمة وارداتها اعتماداً على مواردها المالية الخاصة بالدرجة الأولى والامتناع عن اللجوء إلى الاقتراض. لكن هذه الإجراءات كان لها آثار سلبية من جهة أخرى، حيث أدت إلى تقليص الاستهلاك الداخلي، وإلى شلل المؤسسات الصناعية المعتمدة في نشاطها بدرجة كبيرة على المواد الأولية (المواد نصف المصنعة وقطع الغيار المستوردة من الخارج). وتميز ميزان التجارة الخارجية، بدءاً من سنة 1995، برصيد إيجابي على العموم (ما عدا سنة 1998)، وكان ذلك بسبب انهيار أسعار النفط في تلك السنة. أما في الفترة ما بين سنتي 2000 و2002 فتجاوزت عائدات الصادرات قيمة الواردات بأكثر من مرتين في المتوسط، ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية واستقرار مستوى الواردات.

يوضح تحليل هيكل الواردات في سنة 2001 أن بند «التجهيزات الصناعية والفلاحية» احتل المرتبة الأولى بنسبة 35,7 بالمئة مقابل 31,4 بالمئة في سنة 1996، ويأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية عنصر «المواد الغذائية» (أكثر من 27 بالمئة مقابل 27,8 بالمئة في سنة 1996). نشير هنا إلى أن الجزائر تنفق، من أجل اقتناء المواد الغذائية، في المتوسط نحو 2,5 ـ 3 مليار دولار سنوياً، وقد مثل هذا، إلى وقت ليس ببعيد، نحو ثلث عائدات الصادرات. تغطي الواردات نحو 70 بالمئة من حاجات الجزائر من المواد الغذائية، بما فيها 60 بالمئة من الحبوب (القمح بصفة أساسية)، 65 بالمئة من الحليب، 95 بالمئة من زيت المائدة و100 بالمئة من السكر. ويأتي في المرتبة الثالثة في هيكل الواردات بند «المواد الأولية والوسيطية»، ويليه في المرتبة الرابعة عنصر «المواد الاستهلاكية الصناعية» (الأجهزة الإلكترونية والمنزلية، الأدوية، السيارات… إلخ) 80 بالمئة من قيمة الواردات في سنة 2001 تم تسديدها نقداً باستعمال احتياطي الدولة من العملة الصعبة، 15 بالمئة عن طريق القروض وأقل من 1 بالمئة بواسطة الحسابات الشخصية من العملة الصعبة[5].

من ناحية أخرى، لا تزال الصادرات تعتمد بشكل رئيسي على المحروقات. ففي سنة 2010، شكلت المحروقات نحو 97.4 بالمئة من القيمة الإجمالية للصادرات. بينما لم تتجاوز قيمة الصادرات خارج المحروقات 1.52 مليار دولار، منها: 1.3 مليار دولار قيمة صادرات منتجات الصناعة الاستخراجية و0.22 مليار دولار مواد استهلاكية (خمور، تمور، حمضيات، فواكه جافة)[6].

من حيث التوزيع الجغرافي للواردات الجزائرية، نجد أنه في سنة 2005 احتل الاتحاد الأوروبي المرتبة الأولى بحصة إجمالية تعادل 63 بالمئة، بما فيها فرنسا 24 بالمئة، تليها إيطاليا بـ 10,52 بالمئة، وألمانيا بـ 8,04 بالمئة، فإسبانيا بـ 5.28 بالمئة، في حين بلغت مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في الواردات الجزائرية نحو 11,22 بالمئة، وكندا 3,43 بالمئة، وبقية الدول 36 بالمئة. أما صادرات الجزائر فاتجهت بالدرجة الأولى إلى إيطاليا (21,6 بالمئة)، فرنسا (12,3بالمئة)، الولايات المتحدة الأمريكية (13,9 بالمئة)، إسبانيا (10,17 بالمئة)، هولندا (8,53 بالمئة)، تركيا (6,76 بالمئة) وبقية الدول (26,74 بالمئة)[7].

نشير في هذا المقام إلى أن العلاقات التجارية الجزائرية مع روسيا (البلد الذي اعتبر كواحد من أهم الشركاء التجاريين للجزائر في فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات) تقلصت كثيراً، وهي حالياً في أدنى مستوى لها. ولم يتعدَّ التبادل التجاري بين البلدين في سنة 2000،  حدود 26,7 مليون دولار، أما في سنة 2005 فانخفض إلى 11,3 مليون دولار.

توضح مقارنة هيكل واردات الجزائر بهيكل صادراتها وتوزيعهما الجغرافي أن ثلثي الواردات الجزائرية تأتي من دول الاتحاد الأوروبي وتسدد قيمتها باليورو، بينما تتشكل صادرات الجزائر في معظمها من المحروقات التي توفر نحو 95 ـ 97 بالمئة من موارد الدولة الخارجية وتدفع قيمتها بالدولار (بما فيها 35 بالمئة قيمة صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي إلى السوق الأوروبية).

هذه المفارقة تجعل القدرة الشرائية للجزائر من السوق الأوروبية تتوقف على سعر صرف العملتين المذكورتين؛ إذ إنه في سنتي 2002 ـ 2003، نتيجة للارتفاع المحسوس في سعر صرف اليورو نسبة إلى الدولار، تعرض الاقتصاد الجزائري لخسارة مالية قدرت بـ 10 ـ 15 بالمئة. سمحت الموارد المالية الناتجة من تحسن الميزان التجاري الخارجي وخفض العجز في الميزانية العمومية، إضافة إلى الموارد المحررة نتيجة للعمليات المختلفة لإعادة الجدولة كلها، بخفض العجز في ميزان المدفوعات وارتفاع الاحتياطي من العملة الصعبة. وارتفعت قيمة الاحتياطي من 7 مليارات دولار خلال سنة 1999 إلى 21 مليار دولار في سنة 2002، وإلى 162.61 مليار دولار في سنة 2010.

تقسم المنتجات الاستهلاكية المستوردة طبقاً لقانون التعريفات الجمركية الساري المفعول إلى أساسية وثانوية وكمالية. توضع المنتجات الخاصة بكل فئة في قائمة خاصة تتغير من فترة إلى أخرى، وتخضع هذه الفئات لتعريفات جمركية مرتفعة نسبياً. فالسلع التي تعتبر كمالية مثلاً، يمكن أن تصل التعريفات المفروضة عليها إلى 200 بالمئة من قيمتها المعلنة، بينما تفرض تعريفات منخفضة نسبياً على المواد الوسيطية مثل: قطع الغيار، مواد نصف مصنعة موجهة بالخصوص إلى القطاع الصناعي والفلاحي ـ وبخاصة تلك الموجهة منها إلى تركيب الأجهزة الإلكترونية ـ الجرارات، الأجهزة الكهرومنزلية وغيرها؛ وذلك بهدف تشجيع وتطوير الصناعات التي تحل محل الواردات من منتجات السلع المذكورة.

كانت التجارة الخارجية وغيرها من العلاقات الاقتصادية الخارجية، إلى غاية نهاية الثمانينيات، تشكل واحدة من أهم الأنشطة التي تحتكرها الدولة كلياً، لكن بدءاً من سنة 1988 تم إدخال بعض التعديلات الجوهرية على قانون احتكار الدولة للتجارة الخارجية، تهدف هذه التعديلات إلى فتح المجال لاستعمال الإمكانات الاقتصادية المتنامية للقطاع الخاص الوطني.

لجأت الدولة، من أجل ترقية الصادرات خارج المحروقات، إلى رفع بعض الحواجز والقيود بهدف تشجيع المستثمرين الخواص الذين يرغبون في ترقية منتجاتهم في السوق العالمية، كما تم لاحقاً اعتماد قانون ترقية المؤسسات العمومية والخاصة العاملة في ميدان التجارة الخارجية، حيث نجد من بين أهم بنوده: حصر دور الدواوين والمؤسسات الحكومية العاملة في ميدان التجارة الخارجية واقتصاره على استيراد المنتجات الاستراتيجية فقط (مثل الأدوية، المواد الغذائية الضرورية وغيرها).

شرَعت الجزائر، في سنة 1996، في تنفيذ إجراءات الدخول إلى منظمة التجارة العالمية (O.M.C)، إذ إن التشريعات الجزائرية في بعض الميادين تتناسب مع الشروط الأساسية للمنظمة والمطبقة في أكثر من 144 دولةً عضواً في هذه المنظمة. لكن المشاكل المطروحة تبقى محصورة بالخصوص في: الإجراءات الجمركية والإدارية، مسائل التقييس والمعايرة، إثبات النوعية، تدابير حماية السوق الداخلية وتنظيم التجارة الخارجية؛ وتلح منظمة التجارة العالمية بالخصوص على الطرف الجزائري بإعادة النظر في قانوني التجارة والجمارك حتى يصبحا متلائمين مع مبادئ هذه المنظمة. وهذا سوف يخلق مزيداً من الصدقية والشفافية ووضوح الرؤية لدى المستثمرين الجزائريين بالدرجة الأولى، ثم يساهم في تخفيف الحواجز الإدارية، ويقلل من تعسف الهيئات الإدارية المكلفة بجهاز تنظيم التجارة الخارجية والداخلية على حد السواء.

بالرغم من تصريحات السلطات الجزائرية المختصة بأن 90 بالمئة من القاعدة القانونية التجارية الجزائرية متطابقة مع معايير منظمة التجارة العالمية، إلا أن نقاطاً سوداً لا تزال موجودة في هذا الميدان، وهي تثير باستمرار تساؤلات لدى فوج عمل المنظمة في جنيف المكلف دراسة ملف انضمام الجزائر إلى هذه المنظمة، كما تشكل عاملاً معرقلاً لتدفق الاستثمارات إلى السوق الجزائرية. من بين أهم هذه النقاط، عادة ما يشير خبراء منظمة التجارة العالمية إلى ثقل إجراءات التسجيل في السجل التجاري، وإلى عدم ملاءمة قانون المنافسة للظروف الجديدة للنشاط الاقتصادي. فمن أجل التسجيل في السجل التجاري مثلاً، يتطلب الأمر جمع 14 وثيقة، تستغرق عملية الحصول عليها عدة أشهر. ومن بين الميادين التي تتخلّف فيها الجزائر أيضاً عن المقاييس المحددة من طرف منظمة التجارة العالمية نجد معايير تعبئة وتغليف المنتجات (مصدر المنتج، مدة صلاحيته، تركيبه، كيفية استعماله… إلخ).

أدت هذه العوامل، وغيرها (قانون الضرائب، قانون العقار، قانون الاستثمار)، إلى تقليص كثير من المستثمرين المحليين أنشطتهم في السوق الرسمية الجزائرية واللجوء أكثر فأكثر إلى التوطن في الأسواق الأجنبية، بينما فضّل البعض الآخر الهروب من هذه السوق واللجوء إلى السوق الموازية المحلية. تشكل السوق التجارية الموازية الجزائرية في الوقت الحاضر نحو 30 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وبالرغم من كل محاولات إخراج هذه السوق من الظل وتشجيع إدماجها في الحياة الاقتصادية العادية، إلا أن الإجراءات المتخذة من أجل ذلك لا تزال دون المستوى المطلوب.

إن وجود عدة نصوص تشريعية غير متجانسة أحياناً، ومتعارضة بعضها مع بعض أحياناً أخرى، لا يرضي لجنة خبراء المنظمة المتفاوضة مع الطرف الجزائري، إذ إن عدم وجود قانون إطار للتجارة الخارجية مثلاً، يجعل التشريعات الموجودة (قانون التعريفات الجمركية، قانون الاستثمار، قانون المنافسة… إلخ) غير فعالة بسبب التناقضات الكثيرة الموجودة بينها.

لا تتوقف قائمة مطالب لجنة منظمة التجارة العالمية عند هذا الحد، بل تمتد إلى ميادين أخرى لا تقل أهمية عن قطاع التجارة، مثل التشريعات المتعلقة بتنظيم سوق العمل، القطاع الفلاحي، القطاع الصناعي العمومي، قطاع المحروقات، الإنتاج الفكري… إلخ.

عرف الميزان التجاري، من جهته، فوائض على طول السنوات العشرين الماضية، سوى عجزين قدِّرا بـ -0.3 و -0.1 مليار دولار سنتي 1994 و1998 على التوالي؛ وهذا راجع إلى تدهور الصادرات خلال هاتين السنتين، لأن الواردات كانت في زيادتها الطبيعية (انظر الجدول الرقم (3))، غير أنه بعد سنة 2000، عرف الفائض في الميزان التجاري قفزة نوعية (أكبر من 10 مليارات دولار)، ليبلغ الفائض سنة 2010، نحو 18.2 مليار دولار.

 

الجدول الرقم (3)

تطور بعض مؤشرات التجارة الخارجية في الجزائر

‏ دولار: مليار دولار

            المؤشرات


السنة

معدل النمو الاقتصاديقيمة الصادراتالواردات
(دولار)
الميزان التجاري (دولار)احتياطي الصرف
(دولار)
( دولار)بما فيها خارج المحروقات
1981314.211.32.83.4
19910.212.40.28.34.11.6
19922.210.80.39.11.71.3
19931.9 –90.58.30.71.5
19941.2 –8.70.490.3 –2.7
19953.7 –10.50.6100.52
19963.9 –12.80.89.43.44.4
19971.213.60.68.658.2
19983.69.20.59.30.1 –6.5
19993.212.50.69.23.47
20002.421.90.79.312.812
20012.720.10.69.810.418
20022.420.30.5610.49.921
20036.924.470.6713.3211.1533.13
20045.232.220.7817.9514.2743.25
20055.146.330.9019.8626.4756.3
2006254.741.1820.6934.0577.91
2007360.591.3326.3534.24110.32
20082.478.591.9337.9940.6143.24
20092.145.181.0637.047.78149.04
2010357.091.5238.8918.2162.61

المصدر: Marchés tropicaux et méditerranéens (Paris), no. 2975 (15/11/2002), et no. 3125 (2/5/2003), p. 244.

قاعدة معطيات Sherbrooke:            <http://perspective.usherbrooke.ca>

الوكالة الوطنية لتطوير الاستثمار:     <http://www.andi.dz/ar/?fc=b_commerce>.

 

خامساً: ترقية القطاع الخاص

اتخذت الحكومة ـ بموازاة الإجراءات المتخذة من أجل تحقيق الاستقرار المالي ـ تدابير إصلاحية أخرى موجهة إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الجزائري وتأهيله للعمل في إطار قواعد السوق. من بين هذه التدابير، ترقية القطاع الخاص الوطني. منذ منتصف الثمانينيات، بدأ الاهتمام بالقطاع الخاص وضرورة تشجيعه كي يؤدي دوراً أكبر في تنمية الاقتصاد الوطني، إلا أن تنشيط دور هذا القطاع بقي مع ذلك حبيس النظرة التقليدية السابقة، التي تعتبر أن هذا القطاع هو أداة إضافية فقط مكملة للقطاع العام، الذي بقي يحتفظ بسيطرته على معظم قطاعات النشاط الاقتصادي (نحو 80 بالمئة من النشاط الاقتصادي).

لقد حددت السياسة الحكومية في ذلك الوقت قطاع الأنشطة الإنتاجية كقطاع ذي أولوية يجب على الاستثمار الخاص التوجه إليه، حيث تم التركيز ـ بالخصوص ـ على تنمية المؤسسات الصناعية الصغيرة والمتوسطة، القادرة على خلق مناصب عمل جديدة تساعد على الحد من النزوح السكاني وتثبيت اليد العاملة في المناطق المحرومة والمعزولة؛ إضافة إلى المساهمة في إشباع الحاجات المحلية من السلع الضرورية وتطوير قطاع الخدمات. قبل هذه الفترة كان الميدان التقليدي لنشاط القطاع الخاص في الجزائر هو قطاع الصناعات الخفيفة (الألبسة، النسيج، المواد الغذائية، الأحذية والجلود)، وقطاع البناء والأشغال العمومية، وقطاع الفلاحة وقطاع الخدمات. تخصصت مؤسسات القطاع الخاص في إنتاج السلع الجاهزة وتركت ميادين تحويل المواد الأولية وإنتاج المواد نصف المصنعة، التي تتطلب استثماراً أكبر، للقطاع العام.

يتوجه نشاط القطاع الخاص الوطني ـ بصفة أساسية ـ إلى السوق الداخلية، لكن في السنوات الأخيرة، بدأ كثير من رجال الأعمال الجزائريين، وبخاصة العاملون في قطاع إنتاج مواد البناء والمواد الأولية الصناعية، يحاولون ترقية المنتجات الموجهة إلى التصدير، إما بالحصول على التكنولوجيا الأجنبية الحديثة، وإما بالدخول في اتفاقيات شراكة مع مؤسسات أجنبية. في فترة التسعينيات، بالرغم من الأزمة الحادة التي مرت بها الجزائر وبالرغم من العوائق البيروقراطية، حافظ القطاع الخاص على وتيرة مستقرة للنمو (6 بالمئة سنوياً في المتوسط) على النقيض من القطاع العام. في سنة 2001 وصل حجم التبادل التجاري لمؤسسات القطاع الخاص ـ من دون احتساب قطاعي الفلاحة والخدمات ـ إلى نحو 12 مليار دولار. يتشكل القطاع الخاص في الوقت الحاضر من 173 ألف مؤسسة (بما فيها 143 ألف مؤسسة فردية)، ويضمن أكثر من 50 بالمئة من القيمة المضافة الإجمالية[8]. كان بإمكان القطاع الخاص أن يتطور بوتيرة أسرع لولا الحواجز البيروقراطية الكبيرة والمتعددة التي لا تزال تعوقه. ففي سنة 2001، قدِّم أكثر من 7750 طلباً، من أجل إنشاء مؤسسات خاصة جديدة أو توسيع مؤسسات قائمة، لم تتمكن من تجاوز الهيئات الإدارية المختلفة، بالرغم من أن الأمر كان يتعلق بحجم استثمارات في حدود 7 مليارات دولار وخلق 1,6 مليون منصب شغل جديد[9].

أما في ما يتعلق بالاستثمارات الأجنبية، فبقيت على العموم حتى سنة 1996 في مرحلة التصريح بالنية، فالمستثمرون الأجانب بقوا في حالة ترقب وانتظار الإصلاحات الاقتصادية التي تقوم بها الحكومة الجزائرية والتي يدعمها صندوق النقد الدولي، بما فيها: تحرير الأسعار، خفض الضرائب، تعديل التعريفات الجمركية، خوصصة المؤسسات الصناعية وغيرها.

في سنة 1994 أُنشئت وكالة لترقية وتدعيم الاستثمارات (A.P.S.I)، من أجل حفز وجلب الاستثمارات خارج المحروقات. في الفترة ما بين سنتي 1996 ـ 2000، درست هذه الوكالة كل شهر نحو 400 ملف، منها 40 بالمئة مشاريع استثمار في قطاع الصناعة، وقد شكلت المشاريع الكبرى، التي لم تتعدَّ قيمة الواحد منها 500 مليون دينار، نحو 2 بالمئة من مجموع المشاريع المقترحة. بينما بلغت حصة المشاريع التي تراوح قيمتها بين 20 و100 مليون دينار نحو 50 بالمئة. نضيف هنا، أن 80 بالمئة من المستثمرين كانوا يهدفون إلى إنشاء مشاريع جديدة والباقي إلى توسيع المشاريع الحالية. في سنة 2000 شكلت الاستثمارات الآتية من دول أوروبا الغربية نحو 35 بالمئة، ومن الدول العربية ما نسبته 29 بالمئة، ومن الولايات المتحدة الأمريكية 28 بالمئة، و8 بالمئة من بقية الدول[10].

قامت الوكالة المذكورة بمحاولات من أجل مساعدة وحفز النشاط الاستثماري باتخاذ بعض الإجراءات كإعفاء المستثمرين من الضرائب على الأرباح أثناء السنوات الخمس الأولى للاستثمار، لكن تأثير هذه الإجراءات بقي محدوداً بسبب المناخ الاستثماري العام غير الملائم. على سبيل المثال، في الفترة 1993 ـ 2002 تمت دراسة نحو 5000 مشروع استثماري خارج قطاع النفط، بقيمة إجمالية تقدر بـ 35 مليار دولار، ولم تتعدَّ قيمة ما تم قبوله من هذه المشاريع فعلاً في الجزائر 650 مليون دولار[11]. إضافة إلى العوائق البيروقراطية والوضع السياسي غير المستقر، يعاني المستثمرون الأجانب أيضاً ثقل النظام البنكي وعبء النظام الضريبي اللذين لم يخضعا إلى الآن لإصلاحات جوهرية.

في سنة 2001، تم استبدال الوكالة الاستثمارية السابقة بهيئة جديدة هي الوكالة الوطنية لتنمية الاستثمارات (A.N.D.I)، وهي مؤسسة حكومية ذات هياكل أوسع من سابقتها، وتتوافر لها في الوقت الحاضر فروع في كل من الجزائر ووهران وعنابة وورقلة. إن اقتراب الوكالة الجديدة من مراكز القرار المحلية سيمكنها من الاستجابة والتكفل بالمشاريع الاستثمارية بصفة أسرع وأحسن. إضافة إلى هذا، تقع الوكالة الجديدة تحت سلطة رئيس الحكومة مباشرة، وهو ما يسهل عليها حل كثير من المشاكل عند دراسة المشاريع الاستثمارية المتقدمة، ومنها بخاصة ما يتعلق بالضرائب، والتعريفات الجمركية على الواردات، وتحويل الأرباح وغيرها.

سادساً: خوصصة مؤسسات القطاع العام

أحد المحاور الأساسية في الإصلاحات الاقتصادية المعلنة في الجزائر هو خوصصة الملكية الاقتصادية العامة للدولة. بدأ التنفيذ الفعلي لهذه العملية بعد الاتفاق الذي وقعته الجزائر مع صندوق النقد الدولي في أيار/مايو 1994، ونص على الأهمية البالغة لخوصصة المؤسسات الاقتصادية للدولة كإجراء ضروري وأساسي في التعديل الهيكلي للاقتصاد الجزائري.

في سنة 1995، تم توقيع القانون الخاص بإنشاء المجمعات الصناعية (الهولدنغ)، وهي هيئات تضم كل المؤسسات الصناعية التابعة للدولة ذات طبيعة النشاط المتماثلة. طُلب من المسؤولين عن هذه الهيئات إعادة هيكلة المؤسسات التابعة لهم وتحضير شروط خوصصتها. في سنة 1998 عرض للبيع أكثر من 300 مؤسسة، مست الخوصصة قطاعات اقتصادية مختلفة: البناء، الصناعات الغذائية والميكانيكية، الحديد والصلب، الاتصالات السلكية واللاسلكية، الصناعات الصيدلانية، الكيميائية، الاستخراجية وقطاع الخدمات.

في سنة 2000، أعلنت الحكومة الجزائرية عن خططها المتعلقة بخوصصة 184 مؤسسة أخرى خلال السنوات الثلاث الموالية، منها 121 مؤسسة يتم خوصصتها بالكامل و63 الباقية تخضع لخوصصة جزئية. مست الخوصصة الجزئية الرمز السابق لمرحلة التصنيع في السبعينيات (مركب الحديد والصلب بالحجار)، حيث تم بيع 70 بالمئة من أصوله إلى المؤسسة الهندية (I.S.P.A.T)، التي التزمت عدم تسريح 6000 عامل كانوا يشتغلون في المركب مقابل التزام الحكومة التكفل بالديون السابقة للمركب. بالرغم من المحاولات المتعددة لإحراز تقدم هذا الميدان في السنوات الأخيرة، إلا أنه لم تسجل أي تطورات بارزة.

سابعاً: إعادة هيكلة النظام البنكي

كان من بين العناصر الأساسية في برنامج الإصلاحات الاقتصادية أيضاً إعادة هيكلة النظام البنكي، الذي كان إلى وقت ليس ببعيد من ميادين النشاط المحتكرة من طرف الدولة، وتسير عملية الإصلاح في هذا القطاع بوتيرة أبطأ من كل المحاور الأخرى. إضافة إلى البنك المركزي، هناك سبعة بنوك تابعة للدولة تمارس نشاطها في الجزائر هي: بنك الجزائر الخارجي (ميدان نشاطه الأساسي هو قطاع النفط والغاز والبتروكيمياء)؛ البنك الوطني الجزائري (يتعامل بالخصوص مع بقية القطاعات الصناعية، التجارة والنقل)؛ القرض الشعبي الجزائري (متخصص في قطاعات البناء، السياحة، الصيد البحري والنشاط الحرفي)؛ بنك التنمية المحلية (أنشئ في سنة 1982 من أجل تمويل البرامج التنموية المحلية وبخاصة في المناطق المحرومة والمعزولة)؛ بنك التنمية الفلاحية (بدأ نشاطه سنة 1985 ويهدف بالخصوص إلى تمويل النشاط الفلاحي والصناعات الغذائية)؛ البنك الجزائري للتنمية (أنشئ سنة 1963 ويتخصص في العمليات الائتمانية طويلة الأجل، وفتح خطوط القروض بمشاركة البنوك الأجنبية، وكذلك تمويل المشاريع في إطار الاتفاقيات الحكومية الثنائية). إضافة إلى البنوك المذكورة، أسس في سنة 1964 الصندوق الوطني للتوفير والاحتياط، ومن مهامه الأساسية جمع مدخرات المواطنين والمؤسسات وتقديم القروض الموجهة إلى اقتناء أو بناء السكن الفردي والجماعي.

في سنة 1990 بدأت أولى محاولات الإصلاح في هذا القطاع، حيث قدمت الحكومة أولى التراخيص للبنوك الفرنسية، مثل البنك الوطني الباريسي (Banque national de Paris)، بنك سوسيتيه جنرال (Générale société) وبنك كريدي ليوني (Crédit lyonnais)، من أجل فتح فروع لها في الجزائر. حددت التراخيص الممنوحة دور هذه الفروع في تأدية دور الوسيط في عمليات التصدير والاستيراد التي تقوم بها الشركات والمؤسسات الأجنبية مع الجزائر وكذلك جمع وتحليل المعلومات حول الوضع الاقتصادي في الجزائر وفي العالم، ولم يرخص لهذه الفروع القيام بأي عمليات مالية أخرى في الجزائر خارج العمليات المشار إليها أعلاه. في بداية سنة 2000، أعلنت الحكومة الجزائرية رسمياً عن نيتها خوصصة قطاع البنوك والتأمين. قطاع التأمين، الذي أعلن رسمياً عن فتحه للاستثمار الأجنبي في سنة 1995، لم يفتح فعلياً إلا في سنة 1997. في سنة 1999 بلغ حجم التداول في هذا القطاع 16 مليار دولار، منها 70 بالمئة حققتها مؤسسات التأمين التابعة للدولة. حسب معطيات وزارة المالية، ستتم خوصصة البنوك الستة، التي تشكل في الوقت الحاضر أساس النظام البنكي الجزائري. في سنة 2000 تم فتح أربعة بنوك وطنية خاصة: بنك الخليفة (الذي تم تصفيته في ما بعد)، البنك التجاري والصناعي الجزائري (B.C.I.A)، بنك البركة و«يونيون بنك». كما بدأت بعض البنوك الأجنبية تمارس نشاطها، مثل: الأمريكي سيتي بنك (City Bank)، العربي (Arab banking corporation)، فرع البنك الفرنسي للتجارة الخارجية (Natecsis-bfce)، والبنك الفرنسي (BNPParibas).

وبالرغم من الخطوات الهامة التي تمت في ميدان تحرير قطاع البنوك، إلا أن هذه العملية ما زالت تسير ببطء شديد، وترتب على ذلك كبح مسار تطبيق الإصلاحات وتأخير فرص انطلاق الاقتصاد الجزائري لعدة سنوات أخرى.

ثامناً: الوضع الاقتصادي والاجتماعي الحالي

أدى تطبيق برنامج الإصلاحات في إطار اتفاقيتي «التثبيت الاقتصادي» و«تسهيل التمويل الموسع» إلى تحسن كبير في التوازنات المالية والاقتصادية الكبرى للجزائر تمثل بما يلي: انخفاض تدريجي ومحسوس في المديونية الخارجية مع انخفاض نسبة خدمة الدين؛ انتعاش معدلات النمو الاقتصادي؛ انخفاض كبير في معدل التضخم؛ فائض في الميزان التجاري؛ ارتفاع احتياطي الصرف وخفض العجز في ميزان المدفوعات. نشير هنا إلى أن النتائج الإيجابية المحققة في ميدان الاستقرار المالي والاقتصادي تمت بالرغم من الظروف الأمنية والسياسية المعقدة التي مرت بها الجزائر في فترة التسعينيات.

بالرغم من النجاحات المحققة، إلا أن الاقتصاد الجزائري لا يزال بحاجة إلى تحولات هيكلية أعمق وأوسع. حيث ينقسم حالياً إلى قسمين: واحد عصري ومستقر يتمثل بقطاع المحروقات، والآخر متخلف ومتأزم ويشمل باقي قطاعات النشاط الأخرى (قطاع النفط والغاز يوفر في المتوسط 95 بالمئة من مداخيل الدولة من العملة الصعبة ويساهم بـ 60 بالمئة في موارد الميزانية العمومية). في الوقت الحاضر يقيّم احتياطي النفط المؤكد بنحو 40 مليار برميل، وتعتبر تكلفة استخراج النفط في الجزائر واحدة من بين الأدنى في العالم، فهي لا تتجاوز 3 دولار/برميل، والجزائر عضو في منظمة أوبيك بحصة إنتاجية تصل حالياً إلى 820 ألف برميل/يوم. وتعتبر الجزائر رابع أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، وثالث أكبر منتج عالمي له، تبلغ الاحتياطيات المؤكدة منه حالياً 4500 مليار متر مكعب[12].

خلال التسعينيات ضاعفت الجزائر صادراتها من الغاز الطبيعي، حيث انتقلت الكميات المباعة في السوق العالمية من 30 مليار م3 سنة 1989 إلى 62 مليار م3 سنة 2004. منها 56 بالمئة تنقل إلى المستهلكين عن طريق الأنابيب و44 بالمئة في شكل مسال تنقل بواسطة البواخر[13]. تسعى الجزائر إلى رفع حصتها من الغاز الطبيعي المصدر إلى أوروبا لكنها تلقى منافسة شديدة، وبخاصة من طرف روسيا والنرويج، على اقتسام هذه السوق. تحتكر المؤسسة الحكومية سونطراك كل الأنشطة المتعلقة بالمحروقات، حيث تحتل هذه الشركة المركز الثاني عشر من بين أكبر شركات النفط والغاز العالمية، والمركز الأول في منطقة البحر الأبيض المتوسط. بلغ حجم التبادل التجاري لهذه الشركة سنة 2004 نحو 24 مليار دولار. وفي سنة 2002 عمل في الجزائر 18 من كبرى الشركات النفطية العالمية على رأسها الشركات الأمريكية مثل «أنداركو» (Anadarko)، موبيل (Mobil)، أموكو (Amoko)، لندي (Lende)، وفيليبس (Phillips). أما الشركات الأوروبية فهي: «ريبسول» (Repsol)، توتال (Total)، بي أكس پي (Bxp-Hamilton) وغيرها[14].

أما القطاعات الصناعية الأخرى ـ غير النفطية ـ فمعظمها يعاني اختلالات هيكلية وعجزاً مالياً ولا تزال إلى هذا الوقت عاجزة عن المساهمة بصفة فعالة في زيادة الثروة وتدعيم المجهود التنموي الوطني. لقد تمثل ذلك بانخفاض معدلات نمو هذا القطاع: -6,2 بالمئة سنة 1996، و-7,2 بالمئة سنة 1997، ليصل إلى -1,5 بالمئة سنة 1999، ثم تحسن قليلاً بعد ذلك ليصل إلى 2 بالمئة سنة 2008. تعمل معظم مؤسسات القطاع بأقل من نصف طاقتها الإنتاجية النظرية: 48,5 بالمئة سنة 1994 ونحو 45 بالمئة سنة 1998، لتصل إلى 42 بالمئة سنة 2005، ولم تتعدَّ مساهمتها في الناتج المحلي الخام مع نهاية سنة 2008 حدود 10 ـ 12 بالمئة مقابل 40 بالمئة لقطاع المحروقات[15]. ركود القطاع الصناعي صاحَبه أيضاً تخلف القطاع الزراعي، الذي لم تتجاوز حدود مساهمته تلبية الحاجات الوطنية من المواد الغذائية 30 بالمئة. حالياً لا تتجاوز حصة القطاع الفلاحي في الناتج المحلي الخام 9 بالمئة وذلك حتى في السنوات التي تميزت بغزارة المحصول[16].

في نهاية 1997، اعتمدت الحكومة الجزائرية مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للفترة ما بين سنتي 1998 ـ 2000، وكان من بين أهم أهداف هذا المخطط: رفع معدل النمو الاقتصادي ليصل مع نهاية فترة المخطط إلى 7 بالمئة، وزيادة حجم الصادرات خارج المحروقات من 0,5 مليار دولار في سنة 1998 إلى 2 مليار دولار في سنة 2000، أي ما يعادل 10 بالمئة من قيمة الصادرات، لكن ولأسباب مجهولة لم يتم تنفيذ هذا المخطط. مع نهاية سنة 2000 بلغ معدل النمو الاقتصادي 2,4 بالمئة فقط، كما انخفضت مساهمة القطاع الصناعي خارج المحروقات في الناتج المحلي الخام من 9,7 بالمئة إلى 7 بالمئة، والقطاع الفلاحي من 11,1 إلى 8,1 بالمئة. أما الصادرات خارج المحروقات فبقيت تراوح مكانها (نحو 0,5 ـ 0,7 مليار دولار)، أي نحو 2,5 ـ 4 بالمئة من القيمة الإجمالية للصادرات[17]. هذه الأرقام توضح أننا بعيدون كل البعد من أهداف الحكومة المتضمنة في المخطط السابق الإشارة إليه. فكل المحاولات الرامية إلى تنشيط القطاعات الاقتصادية الأخرى لكي تخفف من درجة تبعية الاقتصاد الوطني لقطاع النفط لم تأتِ بثمارها ولا يسعنا ـ للأسف ـ إلا أن نسجل زيادة تعميق هذه التبعية.

في سنة 2001 أعدت الحكومة مخططاً جديداً للتنمية تحت اسم «مخطط الدعم والإنعاش الاقتصادي» للفترة 2001 ـ 2004 ورصد لتنفيذه مبلغ 7 مليارات دولار، رُصد منها 8,6 بالمئة لتدعيم الإصلاحات، و12,4 بالمئة لإنعاش القطاع الفلاحي، و21,7 بالمئة لترقية المناطق النائية والمحرومة، و40,1 بالمئة خصصت للمشاريع الوطنية الكبرى، بينما خصص للحاجات الاجتماعية 17,2 بالمئة. أهم المحاور الأساسية لهذا المخطط هو البرنامج الوطني المعتمد سنة من قبل، الخاص بتنمية القطاع الفلاحي (Pnda). يهدف هذا البرنامج إلى زيادة الإنتاج في هذا القطاع، وتوسيع مساحة الأراضي الفلاحية، وتحسين الأوضاع الاجتماعية في المناطق الريفية، التي ما زال يقطن فيها نحو 42 بالمئة من السكان ويشتغل فيها 25 بالمئة من اليد العاملة النشطة. يعطي البرنامجان أهمية كبيرة لبناء وتجديد الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، ويوليان عناية خاصة لمكافحة البطالة من خلال خلق نحو 700 ألف منصب شغل جديد. في سنة 2002، أي بعد سنة من بداية تنفيذ هذا المخطط، انخفض الإنتاج الصناعي ـ خارج المحروقات ـ بـ 6,3 بالمئة مقارنة بسنة 2001. تجلى هذا الانخفاض بالخصوص في تدني الرقم القياسي للإنتاج في قطاع صناعة الحديد والصلب بنسبة 17,9 بالمئة، وفي الصناعة الميكانيكية بـ 10,4 بالمئة. يرجع ذلك إلى سوء تأقلم مؤسسات هذا القطاع مع الوضع المالي والاقتصادي المتغير المتميز بانخفاض مستوى الواردات من المنتجات الوسيطية، التي يعتمد عليها كثيراً هذا القطاع في نشاطه، نتيجة انخفاض المداخيل المالية من العملة الصعبة. واستمر الركود في بعض قطاعات الصناعة الخفيفة، حيث انخفض الإنتاج في فروع صناعة الخشب بنسبة 3,2 بالمئة، في الصناعة الورقية والسلولوجية بـ 13,4 بالمئة، وصناعة الفلين بـ 3,5 بالمئة. كما انخفضت القيمة المضافة وحجم التبادل التجاري لهذه القطاعات بنسبة 2 بالمئة و35 بالمئة على التوالي[18].

يفسر هذا الوضع بفقدان المؤسسات العمومية في القطاعات المذكورة لمكانتها في السوق الداخلية لمصلحة القطاع الخاص. قطاع الصناعات الغذائية، الذي تبلغ حصته في الناتج الصناعي الخام نحو 50 بالمئة، لم ينجُ هو أيضاً من الركود، حيث انخفض مستوى الإنتاج في سنة 2002 مقارنة بسنة 2001 بـنسبة 19 بالمئة تقريباً، وفي سنة 2005 بـ 10 بالمئة مقارنة بسنة 2004. استمر هذا الاتجاه السلبي طوال السنوات الثلاث الأخيرة. يرجع الاتجاه الانكماشي في هذا القطاع إلى المنافسة الشديدة التي يتلقاها من طرف المنتجات المستوردة ومؤسسات القطاع الخاص، التي اكتسبت تجربة كبيرة في إنتاج بعض المنتجات مثل: الدقيق، الزيت، المشروبات الغازية، إنتاج اللحوم ومشتقات الحليب وغيرها؛ للتدليل على تدهور وضع هذا القطاع العمومي. يكفي أن نشير إلى أن إنتاج الدقيق انخفض فيه بـ 36 بالمئة. بعض الانتعاش سجل في قطاعات الصناعة الإلكترونية والإلكتروتقنية حيث ارتفع معدل الإنتاج بنسبة 7,4 بالمئة و5 بالمئة على التوالي، هذه النتيجة الإيجابية ترجع إلى تحسين وضع تموين هذا القطاع بالتجهيزات والمواد الوسيطية الضرورية، وبخاصة من طريق الاستيراد، مع ذلك انخفضت القيمة المضافة وحجم التبادل التجاري في هذا القطاع بنسبة 2 بالمئة و7 بالمئة على التوالي.

أما ارتفاع معدل الإنتاج في قطاع صناعة مواد البناء بنسبة 3 بالمئة فهو ناتج بالدرجة الأولى من زيادة إنتاج الإسمنت 4 بالمئة. نشير هنا إلى أن المؤشرات العامة للإنتاج ارتفعت أيضاً في قطاعات الصناعات الجلدية والنسيجية (3,2 بالمئة)؛ والصناعات الكيميائية، والصيدلانية والأسمدة حيث بلغت في المتوسط 7,3 بالمئة.

من جهة أخرى، انخفض معدل الإنتاج في قطاع الفلاحة في سنة 2002 بنسبة 1,3 بالمئة، بالرغم من الإجراءات المتخذة في إطار البرنامج الوطني لتطوير القطاع الفلاحي، إلا أن اعتماد قطاع الفلاحة على الظروف المناخية بدرجة كبيرة من جهة، وضعف المعامل التقني للإنتاج من جهة أخرى، جعلاه بعيداً من التطلعات الوطنية في ما يتعلق بالأمن الغذائي. في سنة 2002 انخفض إنتاج الحبوب بنسبة 30 بالمئة (20 مليون قنطار فقط، مقابل 26 مليون قنطار في سنة 2001)، وبعد ارتفاعه إلى حدود 40 مليون قنطار سنة 2004 و43 مليون قنطار سنة 2007 انخفض من جديد إلى النصف في سنة 2008. يعادل الاستهلاك السنوي الفردي المتوسط من الحبوب في الجزائر 185 كلغ، وتعتبر الجزائر رابع أكبر مستورد للحبوب في العالم، في سنة 2005 تم استيراد نحو 6,7 مليون طن من الحبوب من السوق العالمية (نصفها من فرنسا) منها 1,7 مليون طن من الذرة و0,4 مليون طن من أعلاف مختلفة[19].

ما زالت مشكلة التشغيل تطرح نفسها بحدة منذ ثلاث عشريات تقريباً، في بداية الألفية 2,8 مليون شخص أو ما يعادل 30 بالمئة من السكان القادرين على العمل كانوا في حالة بطالة، منهم 62 بالمئة يعيشون في المدن والباقي في الأرياف. يفوق المؤشر السابق 50 بالمئة في أوساط الشباب في سن 18 ـ 30 سنة. بالرغم من الإجراءات الحكومية المتخذة اتجاه فئة الشباب في ميدان التشغيل في الوقت الحاضر، إلا أنها لم تؤدِ إلى حل جذري لمشكل البطالة. سياسة التقشف أو ما يسمى في اللغة الشعبية «سياسة شد الأحزمة»، التي تم انتهاجها تطبيقاً لتوصيات صندوق النقد الدولي، والتي تزامنت مع خفض كبير في سعر صرف الدينار وما ترتب عن ذلك من ارتفاع أغلب أسعار السلع، وبخاصة المستوردة منها أو ذات المكوّنات المستوردة، أدت إلى تدهور كبير في مستوى المعيشة للسكان، وبخاصة لدى الفئات المتوسطة والفقيرة، وإلى زيادة انتشار مظاهر الفقر المطلق والحرمان. انخفضت القدرة الشرائية للمواطنين في الفترة 1992 ـ 1998 بنسبة 50 بالمئة تقريباً. في سنة 2005، كان نحو 15 مليون شخص (يشكلون أكثر من نصف العدد الإجمالي للسكان)، يعيشون عند حد مستوى الفقر؛ وفي سنة 2002 بلغ دخل الفرد المتوسط السنوي 1750 دولاراً، منخفضاً بذلك بنسبة 8 بالمئة مقارنة بسنة 2001، ليرتفع من جديد في سنة 2004 إلى 2179 دولاراً. إن نحو 36 بالمئة من العدد الإجمالي للسكان لا يتجاوز دخلهم الفردي السنوي المتوسط 870 دولاراً[20].

لا نتكلم على الظروف المعيشية للجزائريين من دون التطرق إلى مشكلة السكن، إذ يقع السكن والتشغيل على رأس قائمة الحاجات الرئيسية للجزائريين، ويشكلان نواة الأزمة الاجتماعية التي تتخبط فيها بلادنا منذ أكثر من ثلاثة عقود. في سنة 1995 قدِّر العجز في ميدان السكن بنحو 2 مليون وحدة سكنية. في سنة 1998 كانت 30 بالمئة من المساكن غير متصلة بشبكة المياه، 62 بالمئة غير مزودة بالغاز، و35 بالمئة غير موصلة بشبكة الصرف الصحي و10 بالمئة لا تصلها الكهرباء[21]. وكان هناك نسبة كبيرة من السكان لا يستفيدون من تغطية صحية جيدة وفعالة، وبخاصة في المناطق الريفية، وهو ما أدى إلى ظهور بعض الأمراض التي كانت منسية مثل التيفوئيد، والسل، والتهاب السحايا وغيرها.

إن طول فترة عدم الاستقرار السياسي وتقليص النفقات العمومية لم تكن بعيدة من أن تنعكس على نظام التعليم، الذي كان في فترة ما بين السنتين 1960 ـ 1980 من أكثر الأنظمة فعالية في دول المغرب العربي، في الوقت الحاضر نحو 32 بالمئة من السكان هم أميون (40 بالمئة في أوساط النساء)، من الناحية المطْلقة، عدد الأشخاص الذين لا يعرفون القراءة والكتابة من سن الدراسة في الابتدائي وما فوق يشكل أكثر من 7 ملايين شخص. يجد كثير من الأطفال الذين يلتحقون بالمدرسة أنفسهم في ما بعد مضطرين إلى مغادرتها، في السنة الدراسية 2004 ـ 2005 وحدها ـ ولأسباب مختلفة ـ امتنع عن الدراسة أكثر من 500 ألف طفل، 3 بالمئة فقط من الأطفال الذين يلتحقون بالمدرسة ينجحون في شهادة البكالوريا، التي تشكل الوسيلة الوحيدة للالتحاق بالجامعة. من بين الأسباب الرئيسية لتدني نوعية ومردودية نظام التعليم، إضافة إلى قِدم البرامج والمناهج وشحة أو عدم ملاءمة الوسائل البيداغوجية المستعملة، نذكر أيضاً انخفاض مستوى التأهيل والتكوين لدى المعلمين والأساتذة. نحو 190 ألف معلم في مرحلة التعليم الابتدائي ليس لديهم حتى مستوى البكالوريا[22].

خاتمـة

لقد استطاعت الجزائر في ظرف قصير نسبياً تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي والتحكم في التوازنات الاقتصادية الكبرى (معدل تضخم منخفض نسبياً، مستوى مديونية مقبول، ارتفاع احتياطي الصرف، ميزان تجاري خارجي موجب، خفض العجز في ميزان المدفوعات… إلخ). لكن تحقيق هذه الأهداف كان في نظرنا ناتجاً إلى حد كبير من تحسن الوضع المالي للجزائر الناتج من التخلص من المديونية الخارجية وتحسن أسعار النفط في السوق العالمية، إضافة إلى تقليص النفقات العمومية وخفض مستوى الواردات. إن الاستقرار المالي والنقدي تحقق أيضاً نتيجة للسياسة الاقتصادية الحكومية التي تركزت ـ بالخصوص ـ على كبح الطلب العام وإهمال جانب العرض، بل حتى تقليصه (خفض الواردات). فالإجراءات النقدية والمالية التي تميزت بها السياسة الحكومية أدت إلى امتصاص الفجوة التضخمية، من خلال الحد من القدرة الشرائية دون حفز جانب الاستثمار والإنتاج وبالتالي العرض العام. أسفر ذلك في النهاية عن تدهور الوضع المعيشي للسكان (ارتفاع نسبة البطالة، انخفاض القدرة الشرائية، واتساع رقعة الفقر). يضاف إلى هذا الوضع الاجتماعي المتدهور، الاختلالات الهيكلية العميقة والعجز المالي المزمن للقطاع الاقتصادي العمومي، وبخاصة القطاع الصناعي.

اتسمت الإصلاحات الاقتصادية، التي شُرع فيها منذ بداية التسعينيات إلى حد الآن، بالبطء والتردد. ولم تستغل الظروف الإيجابية التي وفرها انفراج الوضع المالي للبلاد، الناتج من خفض مستوى المديونية الخارجية وتحسن أسعار النفط. فكل السياسات الاقتصادية المتبعة إلى حد الآن لم تؤدِّ إلى إنعاش الاستثمار وإرساء قواعد نهوض اقتصاد حقيقي ومستدام، حيث إن الاقتصاد الوطني لا يزال يتميز بهيكله المفكك أحادي الجانب المرتكز بالخصوص على المحروقات. لذا فإن طبيعة ووتيرة التنمية الاقتصادية للجزائر لا تزال تعتمد ـ إلى حد كبير ـ على دينامية الطلب على النفط في السوق العالمية. إن السنوات الضائعة في مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلادنا، نتيجة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية متعددة الجوانب التي تمر بها، تضعها حالياً في مرتبة غير مشرّفة في ميدان المنافسة الاقتصادية العالمية. فحسب تقرير الأمم المتحدة الخاص بالتنافسية في بلدان الوطن العربي، المقدم في التجمع الاقتصادي العالمي المنعقد في الدوحة في سنة 2005، يرتب المكانة التنافسية للجزائر داخل مجموعة البلدان العربية (16 دولة) كالتالي: في ميدان التطور التقني والعلمي ـ المرتبة 12، من حيث فعالية أداء هياكل ومؤسسات الدولة ـ المرتبة 9، في ميدان توافر الشروط الملائمة لجلب الاستثمارات ـ المرتبة 8، وحسب متوسط المؤشرات الأساسية المستعملة في الترتيب ـ المرتبة 10.

لذلك فإن توفير عوامل نهضة اقتصادية واجتماعية في الوقت الحاضر يتطلب في نظرنا ما يلي:

1 ـ الاستثمار هو المحرك الأساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فزيادة الاستثمار سوف تجرّ وراءها زيادة الإنتاج والتشغيل، وبالتالي زيادة الدخل والاستهلاك. لذا يجب العمل على توفير شروط دعم تسريع وتيرة الاستثمار في قطاعات النشاط خارج المحروقات. من أهم هذه الشروط: إجراء إصلاحات هيكلية أعمق وأوسع، وبخاصة في ما يتعلق بخوصصة المؤسسات الصناعية العمومية ومؤسسات البنوك، إعادة تقييم القدرة التنافسية الاستثمارية للاقتصاد الوطني، وذلك بإعادة النظر في التشريعات المتعلقة بالاستثمار بهدف الوصول إلى مزيد من التسهيلات الاستثمارية (تخفيف العبء الضريبي والتعريفات الجمركية، التحويل الكامل والحرّ للدينار إلى العملات الأجنبية، تسهيل دخول وخروج رؤوس الأموال، حماية الاستثمار وغيرها). إن الإسراع في وتيرة الإصلاح في هذه القطاعات سيكون عاملاً حاسماً للقضاء على تردد المستثمرين الأجانب والمحليين، ويوفر شروط انطلاقة اقتصادية جادة وقوية، إذ إن الجزائر تشكل سوقاً استثمارياً واستهلاكياً واسعاً يثير اهتمام كثير من الهيئات والمؤسسات الاستثمارية وبقي فقط توفير شروط تنافسية هذه السوق.

2 ـ إجراء إصلاحات إدارية عميقة وجريئة تتمثل بالقضاء على العراقيل والحواجز البيروقراطية، هدف هذه الإصلاحات هو إضفاء المزيد من الشفافية، البساطة والسرعة في التعاملات الإدارية المختلفة والقضاء على الفساد الإداري الذي عادة ما يشتكي منه المستثمرون الأجانب والمحليون على حد السواء.

3 ـ إذا كانت الإصلاحات المالية والهيكلية ضرورة حتمية لتحسين مستوى أداء الاقتصاد الوطني ورفع درجة تنافسيته، فإنه في المقابل يجب توسيع وتقوية فعالية جهاز الرعاية الاجتماعية لتخفيف التكلفة الاجتماعية لهذه الإصلاحات، إذ إن عدم توازن وتيرتَي الإصلاحات الاقتصادية والإصلاحات الاجتماعية يؤدي إلى تفاقم الوضع الاجتماعي للسكان، وهو ما يشكل عاملاً معرقلاً للنمو الاقتصادي وعائقاً حقيقياً أمام مواصلة الإصلاحات الاقتصادية.

4 ـ التخلص من روح الاتكال على الريع النفطي والاطمئنان إلى ديمومة مداخيله، فالريع النفطي يوفر ظروفاً مناسبة لتطور السلوك الاتكالي ـ الفردي والجماعي ـ الهادف إلى الحصول على الريع بدل السلوك المتجه نحو الحصول على العائد، المرتبط بالأساس على مقدار العمل والمرتكز على المهنية والأفكار المبدعة.

5 ـ تثمين دور العمل المنتج بفتح المجال لمقياس المهنية كي يكون المفتاح الأساسي لترقية الفرد في المجتمع وأداة لاكتساب الثروة، ولن يتأتى هذا إلا بالقضاء على كل أشكال الاحتكار وتوفير شروط الانفتاح والمنافسة الحقيقية على نطاق واسع وفي كل المجالات.

6 ـ اعتماد استراتيجية واضحة وفعّالة لمحاربة الفساد بكل أشكاله (الفساد المالي والإداري، المحسوبية، الجهوية وغيرها)، المستعمل من طرف كثير من الأفراد والجماعات كوسيلة لتحقيق النجاح والحصول على المكاسب، على حساب الكفاءات الوطنية المعتمدة على الجهد والكفاءة والإبداع. إن محاصرة هذه الآفة يساعد على تثمين دور النخبة في المجتمع ويمكّنها من احتلال مناصب الريادة فيه، كما يحدّ من هجرة الأدمغة إلى الخارج.

7 ـ التركيز على الاستثمار في العنصر البشري، وبخاصة في مجالَي التكوين والتعليم، إذ إن رفع كفاءة ومستوى تأهيل الموارد البشرية يؤدي إلى زيادة الإنتاجية التي تشكل أيضاً عنصراً مهماً من عناصر زيادة النمو الاقتصادي.