مقدمة

لطالما كانت تستهوي الإنسان، أيّا يكن، الرغبة في الحط من قدر الآخر كي يشعر بالرضا، ويحكم سيطرته عليه، ويرضي غروره، لا بل ليشبع انحرافه ربما. إضافة إلى ذلك، فقد أتت لعبة المنافسة والتفرد التي تضاعف من تشويهها العلاقات الاجتماعية، لتفاقم هذه الميول وتزيدها حدةً. فما من شك أن ثمة رابطًا بين الإذلال والحداثة. من الواضح أيضًا أن أيّ اختلال في السلطة يثير الإحباط، وبالتالي الإذلال، لكنه يثير أيضًا التمرد بصورة آلية[1]. لربما هذا ما ندركه بعد إعادة التفكير في ما حدث قبل عملية طوفان الأقصى وما بعدها في علاقة تحديدًا بفعلية القانون الدولي بعامةٍ، والقانون الدولي الإنساني على وجه التحديد.

من منّا لا يذكر مقاطع فيديو حول عنف القصف الإسرائيلي بعد هذه العملية؟ تكشف المشاهد بتواريخ متفرقة بعض ما تعرّض له عدد من المستشفيات في قطاع غزة من تدمير واستهداف للأطفال وللنساء ولكبار السن وللمرضى وللأطقم الطبية تحت ذرائع واهية. أعادت هذه المقاطع الكثير من المفاهيم والمصطلحات المتداولة دوليًا إلى دائرة الضوء، ووضعت سلامة استعمالها وصدقية توظيفها أمام المحك، أبرزها ما سُميّ في الفقه الدولي «القانون الدولي الإنساني»[2]، و«التدخل الإنساني»، و«الدفاع المشروع عن النفس»، وغيرها من التسميات التي ظلت موضوع إحراجات وتباينات في الرأي بين الفاعلين والمؤثرين في العلاقات الدولية والقانون الدولي[3]. ولا شك أن الحرب الجارية على غزة تمثل أنموذجًا حيًّا لهذا التشكيك في وجود قواعد دولية آمرة بحكم أن تغليب القوة والمصلحة واحتقار كل ما يندرج ضمن الشرعية الدولية، ظلّ المنطق السائد دون سواه.

تُجمع وسائل الإعلام بكل أنواعها، المرئية والمقروءة والمسموعة، على أن ميزان القوى بين الآلة الإسرائيلية والمقاومة الفلسطينية، مختلٌّ طبعًا لمصلحة صُناع الإبادة في غزة، لأسباب موضوعية؛ منها امتلاكهم كل الوسائل العسكرية المتطورة والفتاكة في الآن معا، واستفادتهم من الدعم اللوجستي الأمريكي (والغربي عمومًا)، والتغطية الدولية داخل مجلس الأمن، على خلاف الفلسطينيين الذين راهنوا ويراهنون على إمكاناتهم الذاتية، وما راكموا من خبرات في مثل هذه الحروب[4]. ويشهد التاريخ أن إسرائيل اعتادت صناعة الإبادة الجماعية مثل القتل والتهجير الجماعي في عام 1948، والاحتلال العسكري منذ أكثر من نصف قرن، مرورًا بفرض نظام التمييز العنصري الذي يحكم الفلسطينيين، والهجمات العسكرية المتكررة على قطاع غزة، وصولًا إلى الحرب الجارية بوتيرة عنف هي الأشد على الإطلاق في تاريخ الحروب الإسرائيلية، مدّعية مرة أخرى، ومن دون استحضار السياقات والتراكمات، أن رد فعلها يندرج في إطار دفاعها المشروع عن نفسها بعد الهجوم المفاجئ لـ«كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحماس، على معسكرات جيشها، وبعض مستوطنات ما يسمى «غلاف غزة». صحيح أن المادة الواحدة والخمسين من الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة تعطي الحقّ للدول بالدفاع عن نفسها ضد دولة أخرى، في إطار الرد على هجوم مسلح أو تهديد وشيك به، لكن هل يحقّ لأعضاء هذه الهيئة في علاقاتهم الدولية، باستحضار المادة الثانية منه، اللجوء إلى التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد «الأمم المتحدة»؟

وإذا سلمنا بوجود حق لإسرائيل في الدفاع عن نفسها طبقًا لهذه المادة، أليست ممارسة هذا الحق مقيدة بمبدأي الضرورة والتناسب؟ يستند القانون الدولي الإنساني إلى التوازن بين اعتبارات الضرورة العسكرية والإنسانية[5]. فهو يقرّ من ناحية أنه للتغلب على طرف معادٍ في زمن الحرب، ربما يكون من الضروري من الناحية العسكرية التسبب في الوفاة والإصابة والتدمير وفرض تدابير أمنية أشد مما يُسمح به في زمن السلم. وهو يوضح من ناحية أخرى أن الضرورة العسكرية لا تمنح أطراف النزاع حقًا مطلقًا في شن حرب بلا قيود[6]. يرد التوازن بين الضرورة العسكرية والإنسانية بصورة أكثر تحديدًا في عدد من المبادئ الأساسية، منها التناسب، لأنه يتعين على من يخططون أو يقررون هجومًا الامتناع عنه، أو يتعين عليهم «تعليق الهجوم الذي يمكن أن يتوقع منه أن يسبب خسارة عرضية في أرواح المدنيين أو إصابتهم أو الإضرار بالأعيان المدنية، أو أن يحدث خليطًا من هذه الخسائر والأضرار، يفرط في تجاوز ما ينتظر أن يسفر عنه ذلك الهجوم من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة»[7]. ومن ثم، فإن استخدام القوة ينبغي أن يتم في إطار الالتزام بالقواعد المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني، مع العلم أن أفعال إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2023 لا تنتهك قواعد هذا القانون فحسب، وإنما هناك شواهد شتى بأن أعمالها الانتقامية العنيفة تمثل أيضًا جرائم إبادة جماعية طبقًا للمواد السادسة والسابعة والثامنة على التوالي من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية[8].

لتوضيح هذه الفكرة، ستنظم مضامين هذا العمل في ثلاثة مباحث متداخلة. يستكشف الأول باقتضاب الوضع القانوني لقطاع غزة، ويلقي الثاني على المنوال نفسه الضوء على الالتزامات التي تترتب عن قوة الاحتلال، بينما يرصد الأخير أوجه انتهاكات الجيش الإسرائيلي لقواعد القانون الدول الإنساني للبحث في مدى صحة تصنيف أعمالها الحربية غير الإنسانية ضمن جرائم الإبادة الجماعية.

أولًا: الوضع القانوني لقطاع غزة: تذكير لا بدّ منه

على الرغم من أن بعض الأقاليم، مثل الأرض الفلسطينية المحتلة، ظلت محتلة على مدار عقود، يظل دور سلطة الاحتلال – كسلطة واقعية – مؤقتًا بحكم التعريف. إلا أن عملية تحديد نهاية الاحتلال الحربي قد وصفت وصفًا صحيحًا بأنها «مهمة شائكة» مليئة بمسائل سياسية وقانونية على قدر كبير من التعقيد. هناك من حيث المبدأ ثلاث طرق تنتهي بها حالة احتلال: الانسحاب أو فقدان السيطرة الفعلية، أو موافقة حقيقية على وجود عسكري أجنبي، أو تسوية سياسية. والأكيد أن أوضح طريقة بطبيعة الحال لإنهاء احتلال حربي هي الانسحاب الكامل والطوعي لقوات الاحتلال واستعادة الحكومة المحلية السيطرة الفعلية، وهو ما لم يحدث في الحالة قيد الدراسة. ويشير نيلس ميلزر (Nils Melzer)، في هذا الإطار، إلى أن «هناك حالة أكثر إثارة للجدل وهي الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في أيلول/سبتمبر 2005 »[9].

على الرغم من أن إسرائيل لم يعد لها وجود عسكري دائم في قطاع غزة، هناك خلاف دائر حول ما إذا كانت – وإلى أي مدى – تعدُّ التوغلات العسكرية المتفرقة التي تقوم بها إسرائيل داخل قطاع غزة، إلى جانب تنفيذها حصارًا بحريًا وإغلاق الحدود والسيطرة على المجال الجوي، استمرارًا لالتزاماتها كسلطة احتلال بموجب القانون الدولي الإنساني[10]، إذ بصرف النظر عن «فك الارتباط» الذي تتذرّع به «إسرائيل» لتنفي مسؤوليتها كقوة احتلال في غزة، فإن قواعد القانون الدولي تشير إلى أن «إسرائيل» بفرضها الحصار على قطاع غزة، وسيطرتها على كل من الضفة الغربية والقدس والقطاع، فإنها ما تزال، لحدود الساعة، تُعَدّ قوة احتلال. وفقًا لبعض القانونيين والدارسين، كانت الضفة الغربية وغزة أرضًا محتلة إلى ما قبل إبرام اتفاقات أوسلو (1993) والاتفاقيات اللاحقة، وكانتا لهذا السبب تخضعان لأحكام القانون الدولي للاحتلال الحربي[11]. يستند أصحاب هذه المقاربة إلى أنه بموجب اتفاقات أوسلو، جرى تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق: المناطق (أ) تسيطر السلطة الفلسطينية فيها على المسائل الأمنية كافة؛ والمناطق (ب) تبقى فيها السيطرة الأمنية للكيان الصهيوني، في حين تناط المسائل المدنية بالسلطة الفلسطينية؛ والمناطق(ج) يحتفظ فيها الكيان الصهيوني بالسيطرة الأمنية، وتكون إدارة المسائل المدنية مشتركة بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وأقرت ترتيبات مشابهة في قطاع غزة أيضًا قبل الانسحاب الصهيوني الشكلي منها.

عمليًّا، يبدو أن وضع المناطق (ب) و(ج) لم يتغير، ولربما يثار الخلاف بشأن المناطق (أ). ولكن كثيرًا من الشواهد والوقائع تفيد بأن الكيان الصهيوني ما يزال هو القوة المسيطرة النهائية على المناطق (أ). أليس الدخول والخروج منها ما زالا محكومين بإرادته وسيطرته؟ الملاحظ أن اتفاقات أوسلو لم تغيّر الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية، ولجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة أكدت هذه الحقيقة، وذكرت أن تطبيق النظام القانوني للاحتلال ليس رهنًا بممارسة قوة الاحتلال للسيطرة الفعلية على الإقليم، ولكنه رهن بالقدرة على ممارسة هذه السيطرة. كما أوضحت اللجنة المذكورة أن اتفاقات أوسلو تركت للكيان الصهيوني السيطرة القانونية النهائية للأراضي الفلسطينية المحتلة، وحقيقة أن الكيان الصهيوني اختار لأسباب سياسية عدم ممارسة هذه السيطرة لا تجعله غير مسؤول بصفته قوة محتلة[12].

خلافًا لما تدّعيه الحكومة الإسرائيليّة، لم يُنه سحب قواتها البريّة من غزّة عام 2005 احتلالها للقطاع. ذلك بأن إسرائيل حافظت منذ ذلك الوقت على سيطرة فعليّة على غزّة، بما في ذلك مياهها الإقليميّة ومجالها الجوّي، وحركة الناس والبضائع، باستثناء حدود غزّة مع مصر، وهو ما حوّل القطاع إلى سجنٍ في الهواء الطلق. ورأت «اللجنة الدولية» أن سلطة الاحتلال، في بعض الظروف المحددة والاستثنائية، تظل مقيدة بالتزامات معينة بموجب قانون الاحتلال على الرغم من الانسحاب المادي لقواتها المسلحة من أرض محتلة. وعلى وجه الخصوص، عندما تحتفظ سلطة احتلال، داخل هذه الأرض، بأركان رئيسية للسلطة أو مهمات حكومية أخرى مهمة، يجب أن يستمر قانون الاحتلال في الانطباق في إطار الحدود الإقليمية والوظيفية ذات الصلة[13]. كما ذهبت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الخاص بالجدار الفاصل (2004)[14] إلى أن الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس، هي أراضٍ محتلة، وأن الهجمات التي تقع ضمن الإقليم المحتل من جانب الكيان الصهيوني، لا تسمح من الناحية القانونية لهذا الكيان بأن يتذرع بحقه في الدفاع عن النفس كما جاء في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. فالدفاع عن النفس يجب ألا يكون مثارًا، وهو في هذه الحالة مثار لأن الكيان الصهيوني هو المعتدي، علمًا بأن رأيها الاستشاري صدر بعد إبرام اتفاقات أوسلو[15].

هنا نود التشديد على مسألة مهمة قد تختلط على البعض بسبب قدرة المحتل على المراوغة والتضليل والاستفزاز، وهي اتهام حركات المقاومة الإسلامية بالإرهاب من دون تنسيب، سواء حماس أو غيرها من القوى الأخرى الرافضة لمسار أوسلو أو ما لحقه من اتفاقات، بينما منطق القانون الدولي يعدّ مقاومة الاحتلال حقًا مشروعًا لا يجوز المساس به مطـلقًا في الـسلم أو الحرب. فنحن هنا أمام مفارقة واضحة، فالدول الغربية ترفض استخدام القوة لنيل حق تقرير المصير، وتعدّ استخدامها إرهابًا وعنفًا غير مبرر، ولكن القانون الدولي يقول النقيض. ومن البيّن أن الرأي الذي تتبناه الدول الغربية وتروّجه، هو موقف سياسي يتعارض مع المنطق القانوني السليم ومبادئ القانون الدولي المعاصر وأحكامه الآمرة. ومن المثير للاستغراب والاستهجان أن تسمح الدول الاستعمارية أو المحتلة لنفسها باللجوء إلى العنف ضد الدول والشعوب الأخرى، استنادًا إلى القانون الدولي والأعراف الدولية، ثم تحرم الشعوب الضعيفة حقَّ الدفاع عن النفس وممارسة الكفاح المسلح، ليس بغرض الاعتداء على دولة أخرى، بل بهدف نيل استقلالها وممارسة حقها في تقرير مصيرها[16].

ثانيًا: التزامات قوة الاحتلال: ما الذي يخبرنا به القانون الدولي؟

استنادًا إلى قواعد القانون الدولي العام، يعَدّ انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من أجزاء من قطاع غزة في عام 2005، مجرد إعادة انتشار وانسحاب جزئي لقوات الاحتلال من هذه الأراضي وليس إنهاءً لحالة الاحتلال؛ اقتصر على الإقليم الترابي من دون أن يمتد ليشمل مكونات الإقليم الفلسطيني كافة، إذ لم يسترد الفلسطينيون سيادتهم عليه، من جراء تمسك إسرائيل بعد جلائها عن قطاع غزة بالسيطرة على أجواء القطاع. فهي ما تزال تمارس عناصر أساسية من سلطتها على القطاع، بما في ذلك على حدوده (المجال الجوي والبحري والبري – باستثناء الحدود مع مصر). وعلى الرغم من أنها لم تعد تحتفظ بوجود دائم داخل قطاع غزة، إلا أنها ما تزال ملزمة ببعض الالتزامات بموجب قانون الاحتلال التي تتناسب مع درجة سيطرتها عليه. واقعيًا، تتحكم إسرائيل حتى اللحظة بحركة المواطنين من القطاع وإليه، فضلًا عن تحكّمها المطلق في دخول الإمدادات على اختلاف أنواعها، ومن لهم حق الإقامة في القطاع بدليل الترتيبات التي تفرضها على طلبات لمّ الشمل لأُسر القطاع وفرض التعديلات التي تلائمها، وهو ما يعني أن قطاع غزة لم يزل تحت السيطرة الفعلية لقوات المحتل وإدارته.

ويعَد تحديد الاحتلال وتعريفه وفق القواعد ذات الصلة بالقانون الدولي الإنساني مسألة مهمة، إذ إن تحديد الاحتلال يرتب التزامات على المحتل، وهي الالتزامات التي تدعي إسرائيل التنصل منها استنادًا إلى انسحابه من قطاع غزة. فالمادة 42 من لائحة لاهاي لعام 1907 تنص على أن الأراضي تعَدّ محتلة «حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو. ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي أقيمت فيها مثل هذه السلطة ويمكن أن تمارس فيها». ووفقًا للمادة الثانية المشتركة، تنطبق اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 على أي إقليم تمّ احتلاله أثناء الأعمال العدائية الدولية[17]. وفي هذا الإطار، لا فرق بين ما إذا كان يسمّى «غزوًا» أو «تحريرًا» أو «إدارةً» أو «احتلالًا»، وبما أن قانون الاحتلال في الاتفاقيات الدولية مدفوع في المقام الأول بأمور إنسانية، فإن الحقائق على الأرض هي وحدها التي تحدّد تطبيقه.

وعليه، يخضع قطاع غزة لاتفاقية لاهاي لعام 1907، واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والكثير من القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، وما دام قطاع غزة أرضًا محتلة من جانب إسرائيل، فإن علاقة هذا القطاع بقوات الاحتلال الإسرائيلي تحكمها قواعد القانون الدولي الإنساني الناظمة للاحتلال، وتبقى جميع الالتزامات الواقعة على قوات الاحتلال الناشئة عن اتفاقية لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وغيرها من القواعد العرفية الناظمة للاحتلال، سارية وواجبة الاحترام والتطبيق من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي.

تمثل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة واقعة مادية تبرز استمرار سيطرتها وسلطتها الفعلية كقوة احتلال اعتدت على نحوٍ يخالف مقتضيات القانون الدولي الإنساني. فالمادة الثالثة والعشرين من اتفاقية لاهاي لعام 1907 نصت: «علاوة على المحظورات المنصوص عليها في اتفاقيات خاصة يمنع بالخصوص تدمير ممتلكات العدو أو حجزها، إلا إذا كانت ضرورات الحرب تقتضي حتمًا هذا التدمير أو الحجز…». ونشير هنا إلى أن القانون الدولي الإنساني وقواعده يمثل توازنًا ما بين الاعتبارات الإنسانية والضرورة العسكرية شريطة ألا تخرق هذه الأخيرة مبدأ الآلام التي لا مبرر لها، غير أن هذا الاستثناء سرعان ما مثّل ذريعة لإسرائيل لاستهداف أهداف مدنية تحت ستار الضرورة الحربية، وخير دليل على ذلك مثلًا تدمير إسرائيل مختلف ممتلكات سكان غزة من مساكن ومستشفيات ومحاصيل زراعية وتجارة وخزائن للمؤونة وغيرها من الممتلكات الخاصة والعامة، بحجة أنها تضم أهدافًا عسكرية في انتهاك واضح للقانون الدولي، وأخص بالذكر المادة الخامسة والعشرين من الاتفاقية نفسها التي تنص على أنه «تحظر مهاجمة أو قصف المدن أو القرى والمساكن والمباني غير المحمية أيًا كانت الوسيلة المستعملة»، في حين أن المادة السادسة والأربعين منها أكدت ضرورة احترام «شرف الأسرة وحقوقها وحياة الأشخاص والملكية الخاصة»، فإلى جانب صون المعتقدات والشعائر الدينية. لا تجوز مصادرة الملكية الخاصة. إضافة إلى اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي جاء في المادة الثامنة عشرة منها أنه «لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء النفاس، وعلى أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات …». وكذلك ما نصت عليه المادة الثالثة والثلاثون بخصوص حظر «تدابير الاقتصاص من الأشخاص المحميين وممتلكاتهم»، وما أشارت إليه المادة الثالثة والخمسون: «يحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات أو بالدولة أو السلطات العامة أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتمًا هذا التدمير».

إلى جانب الاتفاقيات السالف ذكرها، تطرّق بروتوكول جنيف الأول المكمل لاتفاقيات جنيف الأربع من خلال مواده المختلفة لحقوق والتزامات قوات الاحتلال تجاه السكان المدنيين والملكيات العامة والخاصة والمناطق والموارد الزراعية على صعيد الإقليم المحتل، نصت المواد من 50 إلى 54 من البروتوكول على حصانة السكان المدنيين وعدم تأثر صفتهم المدنية بوجود أفراد بينهم لا يسري عليهم تعريف المدني، كما أكدت حظر استهداف المدنيين وحظر شن الهجمات العشوائية، أي تلك التي لا توجه إلى هدف عسكري محدد، أو التي تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن حصر آثارها أو من شأنها أن تصيب الأهداف العسكرية والأشخاص المدنيين، أو الأعيان المدنية من دون تمييز، كما حظرت نصوصه أيضًا بصورة كلية تجويع المدنيين ووضعهم في ظروف معيشية صعبة.

يمكن أن نذكر، في هذا الصدد على سبيل التمثيل، المدونة التي أصدرها الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي عنان تحت رقم 13 لعام 1999 (بتاريخ 6/8/1999)، التي دخلت حيز التنفيذ بتاريخ 12/8/1999؛ تضمنت عشر نقاط تمحورت حول المبادئ والنظم الأساسية للقانون الدولي الإنساني الواجبة التطبيق على قوات الأمم المتحدة التي تقوم بعمليات تحت قيادة وإشراف هيئة الأمم، وقد ألزمت المدونة القوات المتحاربة بواجب وضرورة:

التمييز على نحو واضح بين السكان المدنيين والمحاربين، وبين الممتلكات المدنية والأهداف العسكرية، وتوجه جميع العمليات الحربية ضد المحاربين والأهداف العسكرية وحدها.

حظر القيام بأي هجمات على المدنيين أو الممتلكات المدنية.

حظر القيام بضربات عشوائية لا تمييز فيها بين الأهداف العسكرية والأشخاص المدنيين، وبعمليات ينتظر أن تؤدي إلى خسائر في الممتلكات المدنية لا تتناسب مع المزايا العسكرية.

حظر القيام بأعمال الردع تجاه الأشخاص المدنيين أو تجاه الممتلكات ذات الطابع الثقافي.

حظر القيام بأعمال انتقامية ضد الممتلكات أو المنشآت المحمية بموجب هذه المادة.

إذا تفحَّصنا هذه المقتضيات، وقارنّاها بما يجري على أرض الواقع بعد عملية طوفان الأقصى من حيث التدمير والقتل الممنهجَين لسكان غزة تحت ذريعة الدفاع عن النفس وملاحقة حماس، سندرك أنه بالرغم من الجهود الفقهية الساعية لتقعيد وتأصيل مبادئ القانون الدولي الإنساني، تمضي أحكامه نحو التحوّل إلى «سردية» يرددها الضعفاء ليس إلا.

ثالثًا: خروقات القوات العسكرية والأمنية الإسرائيلية: ألسنا أمام إبادة جماعية؟

أوضحنا في ما تقدم الوضع القانوني لقطاع غزة بالنظر إلى استمرار المغالطات في شأنه، وكشفنا أنه ما يزال تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، واستعرضنا الالتزامات الواقعة على قوات الاحتلال الناشئة عن اتفاقية لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وغيرها من القواعد العرفية الناظمة للاحتلال سارية وواجبة الاحترام والتطبيق من قبل المحتل، بينما سنسلط الضوء في هذه النقطة على الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة ضد الأشخاص المدنيين والأعيان المدنية، التي تنطبق عليها جريمة الإبادة الجماعية.

ما شاهدناه على مواقع التواصل الاجتماعي، وما قرأناه وسمعناه عن أعمال القتل والتدمير الانتقامي الذي قامت وتقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وما تناولته الإحصاءات إلى حدود الساعة من تجاوز عدد المصابين أربعة وعشرين ألفًا والقتلى عشرة آلاف منذ السابع من تشرين الثاني/أكتوبر  الماضي (منهم أزيَد من 3800 طفل و2400 امرأة)، يثبت من دون شك أن المحتل الإسرائيلي ماض في إبادة سكان قطاع غزة. فأعمال القصف والقتل والهدم والتخريب الذي أصاب كل شيء في القطاع، وما يزال مستمرًا، يؤكد حقيقة واحدة هي أن قوات الاحتلال قد تجاوزت وخرقت كل المبادئ والقواعد الناظمة لسير العمليات الحربية، ولمقتضيات الضرورة الحربية.

منذ اليوم الأول للعدوان على قطاع غزة، لم تستهدف القوات الإسرائيلية المقاتلين من حركة حماس والفصائل الأخرى كما ادّعت، بل استهدفت منذ اللحظة الأولى السكان المدنيين العزّل والمستشفيات، والمؤسسات العمومية، وكل المرافق الحيوية، بما فيها مقارّ البعثات الدولية الإنسانية. شاهدنا منذ اللحظات الأولى للعدوان كيف أن قوات الاحتلال الإسرائيلي لم تتوانَ عن نشر الرعب بين السكان المدنيين من خلال إلقاء المناشير عليهم محذرة إياهم من إيواء المقاتلين تحت طائلة هدم منازلهم، واستهدافهم وتعمّد إلحاق الضرر بهم ودفعهم إلى ترك منازلهم التي سرعان ما تهدمها قوات الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى إجبار سكان بعض القرى على تقديم معلومات عن هوية عناصر المقاومة وأماكن وجودها، وهو ما يمثل خرقًا لنص المادة 31 والمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، وما نصت عليه المادة 44 من اتفاقية لاهاي لعام 1907، التي أكدت أنه «لا يجوز لأي طرف في النزاع أن يجبر سكان الأراضي المحتلة على الإدلاء بمعلومات عن القوات المسلحة للطرف الآخر، أو عن وسائل الدفاع التي تستخدمها هذه القوات». كما أن المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة ألزمت المحتل بعدم استخدام هذا الإجراء إلا إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية، كما يجب على دولة الاحتلال التي تقوم بعمليات النقل أو الإخلاء أن تتحقق إلى أقصى حد ممكن من توفير أماكن الإقامة المناسبة لاستقبال الأشخاص المحميين.

إلى جانب هذه التجاوزات، استهدفت قوات الاحتلال الطواقم الطبية، إذ رأينا أن الجيش الإسرائيلي لم يتورع عن قصف المستشفيات، حتى إنه عمد إلى ضرب سيارات الإسعاف التي كانت تعمل ليل نهار طوال أيام الحرب على نقل المصابين إلى المستشفيات، وهو ما أدى إلى مقتل وجرح عدد من سائقي سيارات الإسعاف وأطقمها الطبية، ومنعتهم وأعاقت ممارستهم لمهماتهم، ما أثّر في حركتهم وحالَ بينهم وبين التدخل العاجل لتقديم خدماتهم إلى ضحايا القصف، وهو ما يمثل خرقًا إسرائيليًا لنص المادة 17 من اتفاقية جنيف الرابعة : «يعمل أطراف النزاع على إقرار ترتيبات محلية لنقل الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والأطفال والنساء النفاس من المناطق المحاصرة أو المطوقة، ولمرور رجال جميع الأديان، وأفراد الخدمات الطبية والمهمات الطبية إلى هذه المناطق».

لقد أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطع الكهرباء والماء ووضــع السكان في ظروف معيشية صعبة من جراء شح المواد الغذائية ونفاذ مخزون الدواء والمحروقات فضلًا عن جريمة الاستهداف المباشر للسكان وهو ما يمثل خرقًا للمادة الثانية والثلاثين من اتفاقية جنيف الرابعة التي ألزمت المحتل بالامتناع عن ممارسة أي من التدابير التي من شأنها أن «تسبب معاناة بدنية أو إبادة للأشخاص المحميين الموجودين تحت سلطتها. ولا يقتصر هذا الحظر على القتل والتعذيب والعقوبات البدنية والتشويه والتجارب الطبية والعلمية التي لا تقتضيها المعالجة الطبية للشخص المحمي وحسب، ولكنه يشمل أيضًا أي أعمال وحشية أخرى، سواء قام بها وكلاء مدنيون أو وكلاء عسكريون».

كما منعت قوات الاحتلال الإسرائيلي مرور إمدادات الأغذية والأدوية وغيرها من الضروريات من خلال إغلاق المعابر، وهو ما يخالف التزامات قوات الاحتلال الإسرائيلي الناشئة عن المادتين الثالثة والعشرين من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة الرابعة والخمسين من البروتوكول الإضافي الأول التي تحظر «تجويع  المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب»، و«مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري، إذا تحدد القصد من ذلك في منعها عن السكان المدنيين أو الخصم لقيمتها الحيوية مهما كان الباعث سواء كان بقصد تجويع المدنيين أم لحملهم على النزوح أم لأي باعث آخر». علاوة على المادة الثالثة والثلاثين من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر العقوبات الجماعية ضدهم – أي المدنيين -، وأيضًا المادة الخامسة والخمسين التي تلزم دولة الاحتلال على العمل، بأقصى ما تسمح به وسائلها، تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية ومراعاة حاجاتهم بوصفهم سكانًا مدنيين، وهو التزام أصيل يقع على عاتق المحتل الإسرائيلي ويجب أن يتحمله منفردًا.

ولئن كشفت الحرب على غزة حقيقة النظام الدولي، ونفاق قواه الكبرى المهيمنة على مصادر صنع القرار في مؤسساته، كما قامت بتعرية الوظيفة الأيديولوجية لمصفوفة من مفاهيمه ومصطلحاته، لاحظنا إلى حدّ ما مواقف متميزة من جانب الأمين العام للأمم المتحدة الحالي (من خلال استخدام المادة التاسعة والتسعين لتنبيه مجلس الأمن إلى ما ترتب عن الحرب الإسرائيلية من تهديد للسلم والأمن الدوليين)، والمحكمة الجنائية الدولية، وبعض الشخصيات الدولية المستقلة، كما أبانت دول من أمريكا الجنوبية عن مبادرات مشرّفة بقطع علاقاتها مع إسرائيل أو بسحب سفرائها. وقد أدت تحركات كثير من المجتمعات العربية إلى خلخلة مشروع التطبيع مع إسرائيل، وتظاهر العالم من غربه إلى شرقه دعمًا للشعب الفلسطيني في غزة وضد المجازر التي تقع فوق أرضه التاريخية، والآفاق مفتوحة أمام ما ستولد هذه الحرب من آثار في القادم من الشهور[18].

وباستثمار ما استعرضنا في ما سبق مجموعة من الممارسات اللاإنسانية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدوانها المستمر على قطاع غزة، وأوضحنا مدى مخالفتها لمواد القانون الدولي المتعلقة بحالة الاحتلال الحربي ولا سيما اتفاقية لاهاي لعام 1907، واتفاقية جنيف الرابعة، والبروتوكول الإضافي الأول وغيرها من القواعد العرفية الناظمة للاحتلال سارية وواجبة الاحترام والتطبيق من جانب المحتل فهل هذا يعني أن ممارسات إسرائيل تدخل ضمن جرائم الحرب والإبادة، وجرائم ضد الإنسانية؟ ثم إذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن محاكمة المسؤولين الإسرائيليين الذين أمروا بشن هذه الحرب العدوانية أمام القضاء؟

قبل الإجابة عن هذين السؤالين، لا بد أن نشير إلى أن قوات الاحتلال شرعت منذ الأيام الموالية لعملية طوفان الأقصى إلى تهيئة الرأي العام المحلي والعالمي بالقول إنها مدفوعة إلى ذلك وفقًا لمبدأ الدفاع عن النفس كرد فعل على الهجوم الذي شنته حركة حماس، مستندة في ذلك إلى نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، غير أن هذا الادعاء مردود عليه لاعتبارات جمّة.

أولًا، أن حالة الدفاع الشرعي عن النفس التي تتذرع بها إسرائيل تتنافى وحقيقة الوضع القائم في قطاع غرة، فهذا القطاع، كما بيّنّا سابقًا، ليس دولة مستقلة تتمتع بالسيادة، وإنما هو في الواقع قطاع محتل من جانب القوات الإسرائيلية التي ما تزال تسيطر على بحره وجوّه وبرّه بصورة غير مشروعة، وبما يخالف قواعد وأحكام القانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة التي أكدت حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحظرت الاستعمار بمختلف أوجهه وصوره، غير أن إسرائيل أصرت على استمرار احتلال القطاع وفرض سيطرتها بالقوة على الأرض الفلسطينية.

ثانيًا، من حق سكان غزة المحاصرين من كل جانب ممارسة حقهم المشروع في الدفاع عن أنفسهم؛ وهو الحق الذي أثبته المجتمع الدولي للشعب الفلسطيني صراحة بمقاومة العدوان والاحتلال الإسرائيلي القائم على أراضيه في الضفة والقطاع، وليس هذا فحسب، بل إن المجتمع الدولي قد حسم بقرارات صريحة لا لبس أو غموض بمضمونها، التكييف القانوني لاستخدام إسرائيل قوتها بمواجهة الشعب الفلسطيني، وذلك بوصفه عدوانًا وانتهاكًا جسيما لميثاق الأمم المتحدة.

وللإشارة، إن حق الدول في استعمال القوة كدفاع شرعي عن النفس يعَدّ حقًا استثنائيًا وظرفيًا وضعه القانون الدولي للدول حتى تتمكن من التحرك لمواجهة أية حالة طارئة تستدعي السرعة في الرد حمايةً لاستقلالها ولسيادتها، بيدَ أن هذه الرخصة ليست مطلقة، إذ لمّا تبرز إمكانية استيعاب العدوان بوسائل سلمية أو كان بإمكانها السيطرة على الوضع من خلال تدخل مجلس الأمن سقط حقها باستخدام القوة دفاعًا شرعيًا عن النفس. فالتوجه الحديث في القانون الدولي هو حصر الدفاع عن النفس في علاقات الدول بعضها ببعض، أما في حال تذرع دولة بالدفاع عن النفس ضد جماعات مسلحة لا تشكل دولة كما يحدث، اليوم، في مواجهة إسرائيل – حماس، فإن هذه المواجهات لا يمكن التذرع فيها بقاعدة الدفاع عن النفس، لأن حق الدفاع عن النفس يقتصر على الدول وما بينها، وهذه القاعدة أكدتها محكمة العدل الدولية، مثلًا، في الحكم الصادر في كانون الأول/ديسمبر عام 2005 في الشكوى التي تقدمت بها الكونغو ضد أوغندا. هذا بالنسبة إلى دولة قد يتعرض أمنها واستقرارها الداخلي لزعزعة خارجية، فكيف الأمر إذا كانت الدولة التي تدعي أنها تستخدم حقها بالدفاع المشروع عن شعبها وأراضيها، هي دولة محتلة كدولة إسرائيل التي يصرّح بعض معظم قادتها علنًا بأن القضاء على سكان غزة هو الطريق الوحيد للسلام. ويكفي أن نستمع إلى أغنية صدرت مؤخرًا بعنوان «أطفال جيل النصر»، وهي نسخة معدلة من أغنية «الشرور»، التي كتبها الإسرائيلي الراحل حاييم غوري. ليست هذه الأغنية خارجة عن السياق السياسي العام في «إسرائيل» التي يدعو قادتها إلى إبادة السكان في هذا المجال الجغرافي، إذ يؤدي هذه الأغنية مجموعة من الأطفال، وفيها يحثون جنود الاحتلال على إبادة كل شيء في غزة، وتضمنت كلماتها دعوة صريحة لإبادة جماعية[19].

ولما كان قادة الاحتلال يحاولون دائمًا تثبيت مقولة إن الجيش الإسرائيلي «هو أكثر جيش أخلاقي في العالم»، يجدر التنبيه إلى أنهم لجأوا إلى كثير من المقولات التوراتية لتسويغ حربهم في غزة وحسبانها «حربًا أخلاقية» تهدف إلى إبادة «مجموعة من العصابات التي لا تفهم معنى الإنسانية». وعلى الرغم من التعارض الصارخ بين الصهيونية بوصفها حركة علمانية والتوراة بوصفها نصًا دينيًا، فقد استغلت الأولى الشريعة اليهودية حتى تتحقّق لها أطماعها الاستعمارية في فلسطين[20]، ومن الأسانيد على الاستثمار الأقصى للدين وجعله غطاء لمشروع استيطاني استعماري[21] ما قاله تيودور هرتزل (1860-1904)، في كتابه الشهير الدولة اليهودية: «سوف يقوم حاخامونا، الذين نتوجه إليهم بنداء خاص، بتكريس جهودهم وطاقاتهم لخدمة فكرتنا، وسوف يغـرسونها في نفـوس الرعية اليهودية عن طرق الوعظ والإرشاد من فوق منابر الصلاة»[22]. ولأن المقام لا يتسع للتفصيل في هذا الترابط، نكتفي بالقول إن الصهيونية واليهودية صنـوان لا يفترقان، وإن كانت الصهيونية قد تحولت إلى حركة سياسية بشكلها الحالي على يد هرتزل، الذي أصدر هذا الكتاب عام 1896 باللغة الألمانية، والذي ألقى تبعة اضطهاد اليهود على شعوب العالم، وطالب بأن تكون لليهود السيادة على جزء من الأرض، وتترك لهم الحرية في تقرير مصيرهم بأنفسهم[23]. ولعل الحاخام مانيس فريدمان – ربما كان أكثر تصالحًا مع نفسه – حين تحدث صراحة عما سماها «قيم التوراة» أو «الطريقة اليهودية» في الحرب الأخلاقية، رافضًا ما سماها «الأخلاقيات الغربية» في الحرب. وقال إن الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية هي الطريقة اليهودية «دمِّر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم»[24]. وصرّح الممثل السابق لإسرائيل في الأمم المتحدة دان غيلرمان (Dan Gillerman) بدوره قائلًا: «إنني محتار بشأن اهتمام العالم المستمر بالمدنيين الفلسطينيين وتعاطفه مع حيوانات غير آدمية متوحشة»[25].

وبناءً على ما تم توثيقه ونقله، يمكن استحضار عدة عناصر تثبت تنفيذ إسرائيل للإبادة الجماعية في غزة، وذلك بالنظر إلى حجم القصف المدمر والاستهداف المباشر للفلسطينيين في منطقة محددة من خلال عمليات القتل والحصار والتعذيب الجماعي الجسدي والنفسي، وتدير الأوضاع المعيشية بالقطع الكلي أو الجزئي للمياه والكهرباء والوقود والاتصالات، والمنع الكلي أو الجزئي لدخول المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية، والهجمات على المستشفيات وسيارات الإسعاف ووفاة المرضى والأطفال بسبب استحالة علاجهم[26].

خلافًا لما يُعتقد، لم يُنحت مصطلح الإبادة الجماعية القانوني بناءً على كارثة الهولوكست، بل بناءً على تصرفات قوات الاحتلال الألمانية في الدول الأوروبية عمومًا؛ أي بما في ذلك في وصف جرائم أقل من المحرقة النازية ليهود أوروبا. ولقد صاغ المحامي البولندي رفائيل ليمكين (Raphael Lemkin) (1900-1959) تعبير «الإبادة الجماعية» أول مرة في كتابه حكم المحور في أوروبا المحتلة في عام 1944. وتبنت الجمعية العامة، في 9 كانون الأول/ديسمبر 1948، «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها». وتعلن الأطراف المتعاقدة بشأنها في الديباجة بأن «الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها ويدينها العالم المتمدن»، وتعترف بأن هذه الآفة البغيضة التي تتطلب التعاون الدولي لتحرير البشرية منها «قد ألحقت، في جميع عصور التاريخ، خسائر جسيمة بالإنسانية». وعرفت المادة الثانية من الاتفاقية بأنها تشمل الأفعال الآتية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة؛ (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة؛ (ج) إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا. (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛ (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

وتنص المادة السادسة على أنه «يتحاكم الأشخاص المتهمون بارتكاب الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتُكب الفعل على أرضها، أو أمام محكمة جزائية دولية تكون ذات اختصاص إزاء من يكون من الأطراف المتعاقدة قد اعترف بولايتها». وفي المادة الخامسة، حدّد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم التي تدخل في اختصاصها، وهي «جـريمة الإبادة الجماعية؛ الجرائم ضد الإنسانية؛ جـرائم الحرب؛ جريمة العدوان». واشترط في المادة السابعة منه لوصف الجريمة بجريمة ضد الإنسانية توافُر ثلاثة شروط:

أن تكون هذه الجريمة من الجرائم المحددة بمتن المادة السابعة من نظام المحكمة التي نصت الفقرة الأولى منها: غرض هذا النظام الأساسي، يشكل أي فعل من الأفعال التالية «جريمة ضد الإنسانية» متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم: (أ) القتل العمد؛ (ب) الإبادة؛ (ج) الاسترقاق؛ (د) إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان؛ (هـ) السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي؛ (و) التعذيب؛ (ز) الاغتصاب، أو الاستعباد الجنسي، أو الإكراه على البغاء، أو الحمل القسري، أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة، (ح) اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية، أو متعلقة بنوع الجنس على النحو المعرف في الفقرة 3، أو لأسباب أخرى من المسلّم عالميًا بأن القانون الدولي لا يجيزها، وذلك في ما يتصل بأي فعل مشار إليه في هذه الفقرة أو بأية جريمة تدخل في اختصاص المحكمة؛ (ط) الاختفاء القسري للأشخاص جريمة الفصل العنصري؛ (ك) الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدًا في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية.

أن تكون الجريمة موجهة ضد أيّ مجموعة من السكان المدنيين، وأن تمثل نهجًا سلوكيًا يتضمن الارتكاب المتكرر للأفعال التي حددتها المادة السابعة.

أن ترتكب هذه الجرائم تنفيذًا لسياسة ممنهجة للدولة وليست عملًا فرديًا عابرًا.

وإذا ما طبقنا من الناحية القانونية تلك النصوص القانونية التي سبقت الإشارة إليها والمنصوص عليها خصوصًا في اتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكول جنيف الأول المكمل لتلك الاتفاقيات، وما نص عليه النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولا سيما نص المادة السابعة منه، فسنجد أن ما قامت به القوات الإسرائيلية على امتداد أكثر من ثلاثة أشهر متتالية لا يدخل في إطار الدفاع الشرعي كما تزعم، بل ينطبق عليه وصف القتل العمد لضحايا عمليات القصف الإسرائيلي التي جعلت من الأحياء السكنية والسكان المدنيين أهدافًا عسكرية.

ولعل أفظع ما ميَّز الحرب الدائرة في غزة أنها حصدت الألوف من الأبرياء الشهداء، من الأطفال والنساء، والشيوخ، ودمرت المباني والمنشآت العمومية والخاصة، ولم تسلم من عملياتها غير الإنسانية حتى المؤسسات الدولية، المنوط بها تقديم المعونة إلى الفلسطينيين لمواجهة مآسيهم، ومساعدتهم على تحمل ما يكابدون يوميًا من جرائم الآلة العسكرية الإسرائيلية فوق أرض عمّرها أجدادهم وآباؤهم منذ قرون، وظلوا متمسكين بها بنضالهم وإيمانًا بعدالة قضيتهم. حدث كل هذا أمام أعيُن العالم «المتمدِّن»، وعلى مسمع مؤسساته، وقوانينه وشرائعه، وفي مواقف كثيرة، بتأييد ضمني أو صريح من بعض قادته وصنّاع سياساته[27]. ما قامت وتقوم به القوات الإسرائيلية حتى الآن في قطاع غزة يمثل انتهاكًا صريحًا لكل الأعراف والمواثيق الدولية ذات الصلة، وهو عدوان سافر بكل المعايير، الأمر الذي يفرض على وحدات المجتمع الدولي مزيدًا من الضغط والتعبئة لوقف هذا العدوان، وإحالة مرتكبيه إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمتهم بارتكاب جرائم حرب إبادة وجرائم ضد الإنسانية، متشبثين في ذلك بروح العدالة لا متمسكين بمبدأ القوة الذي يفرض إرادة الطرف القوي، وبخاصة إذا كان هذا الطرف هو «إسرائيل» التي تلقى دعمًا غير مشروط من جانب الدول الإمبريالية. ونستبق الأحداث حتى لا يتكرر قرار مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بأنه غير مختص قضائيًا بالتحقيق في احتمال أن تكون جرائم حرب قد ارتكبت في قطاع غزة أخيرًا، تحت ذريعة اقتصار اختصاص المحكمة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية التي تُرتكب على أرض دولة أو على مواطن تابع لدولة عضو بالمحكمة. ففلسطين، اليوم، تعَدّ دوليّا عضوًا مراقبًا في الأمم المتّحدة، بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67 /19 (بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2012‏)، ومن هذا، أصبحت مقاضاة مجرمين إسرائيليّين أمرًا مُمكنًا. على مستوى آخر، أكثر مباشرة، لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة وجود إرادة عند المدعي العام لممارسة الصلاحيات المخولة له، طبقًا للمادة الرابعة والخمسين، من أجل الرفع من حظوظ إثبات تهمة الإبادة كما حدث في حالات أخرى، لأن من واجباته في ما يتعلق بالتحقيقات أن يقوم بما يلي:

(أ) إثباتًا للحقيقة، توسيع نطاق التحقيق ليشمل جميع الوقائع والأدلة المتصلة بتقدير ما إذا كانت هناك مسؤولية جنائية بموجب هذا النظام الأساسي، وعليه، وهو يفعل ذلك، أن يحقق في ظروف التجريم والتبرئة على حد سواء.

(ب‌) اتخاذ التدابير المناسبة لضمان فعالية التحقيق في الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمقاضاة عليها، ويحترم، وهو يفعل ذلك، مصلحة المجني عليهم والشهود وظروفهم الشخصية، بما في ذلك السن ونوع الجنس على النحو المعرف في الفقرة الثالثة من المادة السابعة، والصحة، ويأخذ في الحسبان طبيعة الجريمة، وبخاصة عندما تنطوي الجريمة على عنف جنسي أو عنف بين الجنسين أو عنف ضد الأطفال.

(ج) يحترم احترامًا كاملًا حقوق الأشخاص الناشئة بموجب هذا النظام الأساسي.

ويجوز له إجراء تحقيقات في إقليم الدولة، وفقًا لأحكام الباب التاسع، أو على النحو الذي تأذن به الدائرة التمهيدية بموجب الفقرة الثالثة (د) من المادة السابعة والخمسين. كما يحق له أن يجمع الأدلة ويفحصها، ويطلب حضور الأشخاص محل التحقيق والمجني عليهم والشهود وأن يستجوبهم، ويلتمس تعاون أية دولة أو منظمة حكومية دولية أو أي ترتيب حكومي دولي وفقًا لاختصاص و/أو ولاية كل منها، ويتخذ ما يلزم من ترتيبات أو يعقد ما يلزم من اتفاقات لا تتعارض مع هذا النظام الأساسي ، تيسيرًا لتعاون إحدى الدول أو إحدى المنظمات الحكومية الدولية أو أحد الأشخاص، ويوافق على عدم الكشف، في أية مرحلة من مراحل الإجراءات، عن أي مستندات أو معلومات يحصل عليها بشرط المحافظة على سرّيتها ولغرض واحد هو استقاء أدلة جديدة ما لم يوافق مقدم المعلومات على كشفها، ويتخذ أو يطلب اتخاذ التدابير اللازمة لكفالة سرية المعلومات أو لحماية أي شخص أو للحفاظ على الأدلة.

وتبعًا لهذه المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، وأخذًا في الحسبان شبهة ازدواجية معايير التعامل مع حالات متشابهة، نتساءل، مثلًا، عن نوع الاختلاف الذي يكمن بين التحقيق في جرائم الحرب داخل السودان ونظيرها داخل الأراضي الفلسطينية. يبدو أن الأمر لا يعود بطبيعة الحال إلى كون إسرائيل بادرت إلى إنشاء محاكم جنائية وطنية وفقًا لمبدأ الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية الدولية، إذ لو كان الأمر كذلك لما قوبلت مثيلتها داخل السودان بالرفض تحت ذريعة تأخر السودان في إقامتها، بل يرجع بالدرجة الأولى إلى مسائل سياسية تقتضيها لعبة المصالح الدولية. فتاريخ هذا الجهاز القضائي الدولي ارتبط بقادة ومجرمين لا يُوفّر لهم الغرب أيّ غطاء أو حماية، لأنهم ببساطة ليسوا من حلفائه السياسيّين. لكن هذا لا يمنع من السعي لقيام المحكمة بواجبها في التحقيق كما في المُقاضاة في ظل تأكيد خبراء في الأمم المتحدة، من بينهم المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسك ألبانيز (Francesca Albanese) في بيان مشترك صدر في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي أن الشعب الفلسطيني «معرَّض لخطر الإبادة الجماعية»، وأن «حلفاء إسرائيل يتحملون أيضًا المسؤولية ويجب عليهم التصرف حالًا لمنع نتائج مسار عملها الكارثي»[28]. ألم تكشف حرب الإبادة على غزة أن هناك كيلًا بمكيالين في التعامل مع الأحداث والأزمات التي تمس جوهر هذه القواعد ومبادئ القانون الدولي؟ وهل وجد المتابع للحرب الروسية – الأوكرانية، بوصفها من أحدث الحروب الدولية، أيَّ عناء في معرفة كيف تعامل العالم معها، والغرب تحديدًا، وكيف وظف على نحوٍ كثيف لمنظمة الأمم المتحدة وحشد التأييد لخوض حرب عالمية حقيقية ضد روسيا الاتحادية، ومن يدعم رؤيتها؟

خاتمة

عود على بدء، ما يزال الجيش الإسرائيلي ماضٍ في استعراض قدرة آلياته العسكرية على إبادة مواطنين مدنيين عُزَّل وأبرياء من مختلف الأعمار، ذنبهم أنهم يدافعون عن أرضهم التي سُلبت منهم بالتدريج، وبالقوة والعنف، منذ قرار التقسيم والإعلان عن إنشاء دولة إسرائيل قبل خمس وسبعين سنة (1948-2023)، منتهكًا قواعد القانون الدولي الإنساني التي ظنّ كثير الفقهاء والممارسين والوحدات الدولية بإمكان نجاحها في «أنسنة» الحروب والنزاعات، وحماية ضحاياها والمتضررين من ويلاتها ومآسيها.

وبدلًا من أن نلمس وقعًا وأثرًا لأحكامه في الحرب على غزة، عاينّا كيف لم يجد المسؤول الدبلوماسي لإسرائيل في الأمم المتحدة حرجًا في تمزيق مشروع قرار يدعو إلى إيقاف الحرب على غزة أمام أنظار ممثلي الدول وأسماعهم، والامتعاض من كل المناشدات المطالبة بإيقاف الحرب من أوساط دولية كثيرة، بما فيها تلك الصادرة من الفاتيكان.

بقي الإصرار والتحدي الإسرائيليان قائمين على الاستمرار في التدمير والإبادة الجماعية، أمام أعين الدول «المتحضّرة»، وعلى مرأى ومسمع مؤسساته «الديمقراطية»، واتفاقياته وقوانينه «الإنسانية»، وفي مواقف كثيرة، بتأييد ضمني أو صريح من بعض قادته وصنّاع سياساته. ويجانب الصواب من يظن أن الإبادة الجماعية الإسرائيلية للشعب الفلسطيني ارتبطت فقط بالعام الذي ودّعناه، بل مثلت الإبادة الجماعية، كما رأينا، سلوكًا ثابتًا في الممارسة الإسرائيلية منذ الإعلان المتحيّز عن تأسيسها عام 1948، إذ في هذا العام تحديدًا حصلت النكبة الفلسطينية الأولى، والحال أنها كانت نكبة للعرب وجيوشهم المتآكلة، وتجددت سنة 1967، حين احتلت إسرائيل أجزاءً استراتيجية من أراضي الدول المجاورة لها، من دون نسيان عمليات التهجير الجماعي للفلسطينيين على مراحل متتالية.

ولعل التدقيق في حيثيات هذا المسلسل وما ترتب عنه قانونيًا من إجراءات، يقودنا إلى استنتاج أن مبادئ وأحكام القانون الدولي، من قبيل القانون الدولي الإنساني، وحقوق الإنسان بمختلف أجيالها، وترسانة الاتفاقيات والبروتوكولات الموضوعاتية المرتبطة به تظل مجرد أوراق ضغط ترفع في وجه الضعفاء. يكشف هذا المعطى أن الغرب الذي خلق إسرائيل في سياق تاريخي معروف، ما زال يدعمها، ويُسندها كي تدوم وتبقى وتستمر عنوانًا للاحتلال والاستيطان في أبشع صوره، واستمراره وديمومته مرتبطان بالسعي المستمر إلى إبادة شعب يُراد محوُه واجتثاثه من أرضه التاريخية، ليحل محله آخر تم استقدامه من الشتات. ويُجمع كثير من الضمائر الحية أن الحرب الدائرة منذ شهور في غزة مرحلة مختلفة، إن لم تكن فارقة، مقارنة بسابقاتها من النكبات، ولا سيما من زاوية حجم الخسائر البشرية والمادية، وتقاعُس الكثير من المؤسسات الدولية عن أداء مهماتها الرقابية والقضائية أمام ما تقوم به «إسرائيل».

وإذا استثنينا صمت بعض الدول، وحيادية بعضها الآخر، وهي قليلة في كل الأحوال، فقد حصدت الحرب على غزة ردود فعل مساندة لفلسطين ولحق شعبها في أن يكون له وجود وكيان مشروع يحميه، ويصون وجوده وهويته. والرجاء أن تستمر هذه المساندة وتتطور وتتمدد، وتفضي إلى تغييرات عميقة في آليات تطبيق القانون الدولي وتفعيل أحكامه وإن كان الإصلاح القانوني والمؤسسي ليس لوحده كافيًا ليستعيد العقل العربي رشده ويتصالح مع تاريخه. ما أقصده بذلك، أنه لو تخيّلنا يقظة وتعبئة ووحدة عربية من أجل الدفاع عن وجودهم المشترك، وتماسكًا وتعاونًا وتفاهمًا قويًا بين القيادات الفلسطينية، لتوسعت دائرة التفاؤل بأن يصبح القرار العربي مؤثرًا وملزمًا للفاعلين الدوليين لدفعهم إلى اتخاذ خطوات فعّالة وملموسة لمنع أعمال الإبادة التي تمارسُ بحق سكان قطاع غزة، وعلى رأسها دعوة مكتب الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية إلى تسريع التفاعل مع الطلبات المتكررة للتحقيق في جرائم الحرب والإبادة التي ترتكبها «إسرائيل» في حق المدنيين الفلسطينيين، من ناحية، ودفعهم إلى النظر فيها، كما يحصل في حالات أخرى، بالصرامة والحزم اللازمين، من جهة ثانية، من أجل إنفاذ الواجبات والتصدي للمخالفات الجسيمة لقواعد القانون الدولي الإنساني، واتخاذ  التدابير اللازمة لتأكيد فعليتها، بما في ذلك الملاحقة الجنائية والعقوبات على من ثبتت في حقهم الإدانة، من دون تمييز أو انتقاء.

كتب ذات صلة:

تناقضات القانون الدولي : مدخل تحليلي

مفهوم الجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي

الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين

الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة