في المؤتمر الصحافي الذي عقده “الملتقى الوطني لدعم المقاومة وحماية الوطن” في العاصمة الأردنية عمّان بتاريخ 15 شباط/ فبراير 2024، وفي معرض التعليق على “الجسر البرّي” الذي يمرّ بالإمارات والسعودية والأردن وصولًا إلى الكيان الصهيوني المُحتل، ويمدّ الكيان بحاجاته كنوع من الالتفاف والتعويض عن الحصار البحري الذي يفرضه اليمن على حركة الملاحة من وإلى موانئ الاحتلال.. وصف المتحدثون في المؤتمر هذا الجسر البرّي بـ “وصمة العار”.
يا ترى لماذا لم تَعُد مثل هذه الأوصاف الحادّة والتهم الجارحة تؤثّر في الأنظمة العربية والمسؤولين العرب وتخدش حياءهم؟! ولماذا نراهم يُمعِنون في قراراتهم وسلوكياتهم غير عابئين بالإرادة الشعبية وقيم الانتماء الوطني والقومي والديني؟!
هل هناك تفسير علمي معيّن لهذه الظاهرة؟
قد يكون السر في تعبير “وصمة عار” نفسه، فمفهوم “الوصم” يرتبط بطيف من النظريات الاجتماعية التي تحمل الاسم ذاته: “نظريات الوصم الاجتماعي”، والتي تُعَدّ بدورها جزءًا ممّا يُسمّى “تفسيرات العمليات الاجتماعية” للسلوك المنحرف أو الإجرامي.
ويُعَدّ (بيكر) من أبرز علماء نظريات الوصم الاجتماعي، وذلك بفضل مقالته الشهيرة بعنوان “مستخدم الماريجوانا”، ويليها كتابه بعنوان الهامشيون: دراسات في علم اجتماع الانحراف.
والفكرة الأساسية لدى بيكر تقوم على أنّ “الوصم” هو “عامل مستقل”، وأنّ الشخص المنحرف هو الشخص الذي “تمّ وصمه بنجاح”، وأنّ السلوك المنحرف هو “السلوك الذي تمّ وصمه”.. وفي الحصيلة فإنّ الانحراف أو السلوك الإجرامي هو “صناعة اجتماعية”.
في ضوء ما تقدّم يميّز بيكر بين أربعة أصناف أو أنماط من الأشخاص المنحرفين: مُدرَك كمنحرف، متّهم خطأ، منحرف أصيل غير مُدرَك كمنحرف، مُلتزم منحرف بالسر.

بناءً على كلام بيكر، يرى ويلكنز أنّ الوصم كمتغيّر مستقل يمكن أن يأخذ شكلين:
1- أنّ وصم الشخص يمكن أن يجلب إليه الانتباه بما يتسبب بعملية المراقبة وإلصاق الوصم به.
2- أنّ الشخص الذي تمّ وصمه يمكن أن يتشرّب الدور، ويتقبّله كجزء من تعريفه لذاته، ويشرع بالتصرّف وفق هذا الدور.
ويكفي هنا أن يتعرّض الشخص للوصم بعد أن يقوم بالسلوك المنحرف لأول مرّة ولو على نحو عَرَضي أو موقفي، أو ما يطلق عليه ليمرت مسمّى “الانحراف الأوليّ”.. وبعدها فمن السهل أن يتحوّل هذا الانحراف الأوليّ إلى “انحراف ثانويّ”، بمعنى أن يبدأ الشخص باستخدام السلوك المنحرف أو الدور المبني عليه كوسيلة للدفاع أو الهجوم أو التكيّف مع المشاكل التي صنعها ردّ الفعل الاجتماعي إزاء سلوكه الأول.
وبالعودة إلى مثال الأنظمة العربية وتطبيق هذا الكلام عليها، سنجد أنّ الانتقادات المستمرة والوصم “المتراكم” الذي تتعرض له هذه الأنظمة، قبل “الجسر البرّي” وبدون الجسر البرّي، وقبل “طوفان الأقصى” وبدون طوفان الأقصى، قد جعل منها “منحرفًا مُدرَكًا” قد “تشرّب الدور” وأصبح جزءًا من “مفهومه لذاته” وأصبح يتصرّف على هذا الأساس!
“تشرّب الدور” هنا يكافئ ما يطلق عليه بريثووي) في نظريته للخجل أو العار اسم “خجل الانحلال”، وهو بخلاف “خجل الاندماج” عاجز عن إعادة دمج الفرد بالمجتمع، ويُفضي إلى المزيد من السلوك المنحرف.
أي أنّ هذه الأنظمة قد فقدت قدرتها على الإحساس بالخجل أو العار، واستمرَأَتْ هذا العار، وأصبح لسان حالها إزاء منتقديها ومهاجميها: حسنًا، تصِموننا بالعار؟ إليكم المزيد من العار!
أما منتقدو الأنظمة أنفسهم، أو “الواصمون”، فهم أيضا تنالهم مع مرور الوقت حصتهم من البلادة، ويشرعون بالتعامل مع الأنظمة بمنطق “ما بعد الكفر ذنب”، أي أنّ سلوك الأنظمة لا يعود يفاجئهم أو يصدمهم مع أنّهم ينتقدونه ويهاجمونه، ويصبح هذا النقد والهجوم غاية في حدّ ذاته بالرغم من عدم جدواه، وذلك كيما يكبّد هؤلاء المنتقدون أنفسهم عناء البحث عن أشكال أخرى للنقد والهجوم والتأثير غير “الوصم” والمزيد من الوصم.
بكلمات أخرى يصبح هؤلاء الواصمون أنفسهم موصومين بالوصم!
ولكن ماذا يعني من الناحية العلمية أن يصبح السلوك المنحرف مُدركَا، وأن يتشرّب الشخص الموصوم الدور ويتقبّله فاقدًا إحساسه بالخجل أو العار؟
هذا يعني أنّ يصبح السلوك المنحرف الموصوم جزءًا من “البناء المعياري” للمجتمع، وهو البناء الذي يعتمد عليه تضامن هذا المجتمع، الأمر الذي يقودنا إلى طيف آخر من النظريات المفسّرة للسلوك المنحرف وهي “نظريات الروابط الاجتماعية”.
فمجرد تمأسُس السلوك الموصوم ضمن البُنية المعيارية للمجتمع يجعل لهذا السلوك دورًا وظيفيًا في هذا المجتمع حتى وإن كان السلوك موصومًا، والمثال الأشهر في هذا السياق الدور الذي تؤديه “الجريمة” (أو الانتحار) عند دوركايم في إعادة بناء تضامن المجتمع ككلّ على الرغم من تأثيراتها السلبية الآنية والمباشرة على الأشخاص الذين يقع عليهم هذا الفعل الإجرامي.
كما أنّ الانبناء المعياري للسلوك المنحرف ضمن بُنية المجتمع (أو بكلمات أخرى ثقافته) يشرع الباب أمام الأنظمة للاستفادة من طيف واسع من الاستراتيجيات والتكتيكات التي يمكن اللجوء إليها للتهوين من شأن السلوك المنحرف الذي تقوم به، ومن جملة ذلك ما يُسمّى “نظرية التحييد”.
ففي نظر العالمين سايكس وماتزا فإنّ المتغيّر الرئيسي والمهم وفق هذه النظرية هو مقدرة الشخص (وفي هذه الحالة الشخص الاعتباري) على إهمال أو تحييد النظام الأخلاقي مؤقتًا أو حسب الموقف من أجل ارتكاب السلوك المنحرف.
ولهذه الغاية يستخدم الشخص الذي يقوم بالسلوك المنحرف عددًا من الآليات للتخلّص من الذنب وتلافي الشعور به وهي:

1- إنكار المسؤولية (مثلًا السماح بمرور البضائع من خلال الجسر البريّ هو التزام بالاتفاقيات والبروتوكولات التجاريّة الموقّعة وليس محاولة لمدّ يد العون إلى الكيان الصهيوني).
2- إنكار الأذى (كميات الخضار المصدّرة إلى الكيان الصهيوني لم تزد على مستوى الكميات المصدّرة قبل اندلاع طوفان الأقصى).
3- إنكار المجني عليه (المقاومة تتحمّل مسؤولية خياراتها ولسنا مجبرين على تقبّل فرض خياراتها علينا).
4- شجب المُدينين (الذين ينتقدون ويدينون قرارات السلطة وسلوكها أصحاب أجندات خارجية أو يُقوّضون نظام الحكم أو يهدّدون الأمن الوطني والمصلحة الوطنية العليا).
5- إعلان الولاء لجهات أخرى (كالشرعية الدولية والقرارات الأممية وبيانات القمم العربية والإسلامية بدلًا من الإرادة الشعبية أو الواجب القومي والديني والأخلاقي).
كما أنّ الانبناء المعياري للسلوك المنحرف الموصوم يجعله يدخل في حسابات “الاختيار العقلاني” التي تعتمد على تحليل التكلفة والمنفعة بالمعنى المادي الرشيد للمنفعة، يعزّز من ذلك أنّ الأنظمة السياسية المعاصرة تتبنّى فهمًا برغماتيّا ذرائعيّا ميكافيليّا علمانيًّا للسياسة بوصقها “فن الممكن”، بعيدًا من أي قيم أخلاقية أو ثوابت إنسانية أو مطلقات دينية.
وفي الحصيلة يصبح السلوك المنحرف المُنبني معياريّا، والمُكرّس وظيفيّا، والمُلتَفُّ عليه أداتيًا، والمُبرَر عقلانيّا.. جزءًا من “أسلوب الحياة”، و”نشاطًا رتيبًا”، و”تسهيلًا إطاريًّا” (وجميعها مفاهيم ترتبط بنظريات الجريمة).. حتى لو كان هذا السلوك نظريًّا أو ظاهريًّا موصومًا اجتماعيًّا.
وهذا كلّه يقود إلى حالة من الاضطرابات الاجتماعية والمادية تشبه تلك التي تصفها “نظرية اللاتمدّن”، وهي اضطرابات ناتجة من عدم اهتمام الناس بأحيائهم (أو مجتمعهم الأكبر أو وطنهم أو أمّتهم). وهذا التعريف مشتقٌّ بدوره من نظرية “النوافذ المهشّمة” التي فسّر من خلالها العالمان ويلسون وكيلينغ كيف يمكن لنافذة مهشّمة مهملة لم يبادر أحد لإصلاحها أن تحوّل حيًّا بأكمله (أو دولة بأكملها) إلى بيئة خصبة للجريمة!
أي أنّ المجتمع الذي يُسمح بأن تشيع فيه السلوكيات المنحرفة الموصومة، يصبح مع مرور الوقت بيئة خصبة لمزيد من السلوكيات المنحرفة الموصومة، دون أن ينجح أسلوب الوصم في الحدّ من تفشّي هذه السلوكيات الموصومة!
بكلمات أبسط، أن تقول لشخص ما “يا للعار” أو “يا عيب الشوم” هو سلوك لا يُقدّم ولا يؤخّر طالما أنّ هذا الشخص لا يعنيه هذا العيب، أو قد فقد إحساسه بالعيب، أو هو قادر بسهولة على إعادة تعريف وتكييف وتمييع معنى العيب، أو أنّ هناك اعتبارات وحسابات أخرى تهمّه أكثر من العيب نفسه!
مؤدَّى ما تقدّم أنّ “الوصم” كأداة للضبط الاجتماعي لا يعود كافيًا لإحداث “الردع” المطلوب، أي جعل السلوك المنحرف أو الجريمة كما يقول بكاريا حلّا غير جذّاب عبر جعل العقوبة (بمعناها القانوني أو الاجتماعي) تزيد على المنفعة المتوقّعة من الفعل المنحرف.
يعزّز من ذلك أنّ الزعيم أو القائد و”النخب” المحيطة به في الأنظمة العربية (والأنظمة السياسية المعاصرة عمومًا) هم الذين يحتكرون بشكل مباشر – أو غير مباشر – حقّ وضع وتفسير التشريعات، ومتى تُفعَّل هذه التشريعات ومتى يتم تعطيلها، وبالتالي “مَن أمِن العقوبة أساء الأدب”.
وهذا يتقاطع مع ما يذهب إليه أوستن ترك في معرض نقاشه “النظرية الصراعية التعددية” من أنّ على الحاكم دومًا العمل على خلق تكيّف مستمر، أو تعديل مستمر، حتى يضمن خضوع المحكومين. ومن جملة ذلك أن يصبح القانون الصورة القانونية والتشريعية التي تفوق أهميتها الناس ومصالحهم. ولكن إذا أخذنا بالحسبان هنا محدودية قدرة الفقراء على التأثير قياسًا على الأغنياء، فإنّ هذا سيجعل التطبيقات القانونية والبيروقراطية – كما يجادل تشامبلس وسيدمان – تحاسب الضعفاء وتتساهل وتغضّ الطرف عن الأقوياء.
كما أنّ هذا الفهم للقانون يحمل في طيّاته مفهوم “التحوّل” ذائع الصيت هذه الأيام، بحيث لا تكون القوانين والبيئة التشريعية هي المطالبة بتعديل نفسها، ومواكبة حاجات الناس المتنامية ومصالحهم المتغيّرة، والتكيّف معها في ضوء حركة المجتمع ومسار تطوره الطبيعي (مع الحفاظ على الحقوق المكتسبة والمصونة التي ينصّ عليها العقد الاجتماعي).. بل الناس هم المطالبون بالمواكبة والتحوّل، وتعديل أنفسهم وتكييفها في ضوء نماذج مُقوننة جاهزة ومسبقة تُفرض من الأعلى إلى الأسفل، وتحابي الأغنياء وأصحاب المصالح الخاصة والمعولمة على حساب الأكثرية. أي أنّ “التحوّل” هنا هو ضرب من “الانتخاب الصناعي” وليس الطبيعي، ومرحلة متقدّمة أو عليا من الإكراه والإخضاع (أو الإمبريالية).
يعمل “أمن العقوبة” أعلاه (مشفوعًا بالتحوّل) بحدّ ذاته كعامل “معزّز” للسلوك المنحرف بالمعنى “السلوكي” الذي يقصده سكنر، وبطريقة أقرب إلى “الإشراط الكلاسيكي” الذي وصفه بابلوف في تجربته الشهيرة حول الكلب والطعام وقرع الجرس وسيلان اللعاب.
كما أنّ “أمن العقوبة” يزيد من “إغراءات الجريمة” في عين مقترف السلوك المنحرف أو الإجرامي، وهي الإغراءات التي لا ترتبط بإشباعات مادية مباشرة بالضرورة كما يناقش كاتز، بل يمكن أن تتخذ هذه الإغراءات أشكالًا متعددة وكثيرة، حتى ولو كنوع من التسلية أو الإثارة، وذلك بحكم أنّ لهذه الإغراءات بُعدًا عاطفيًا يتعلّق بهوية الشخص الفاعل، وتأتي في إطار سعي هذا الجاني لبناء عالمه الخاص به، أو الاشتراك مع المجرمين الآخرين في بناء هذا العالم الخاص.
إخفاق الوصم وغياب الردع وأمن العقوبة جميعها عوامل تقود مع الوقت إلى أن يصبح السلوك المنحرف أو الإجرامي ضربًا من “الثقافة الفرعية” التي تجعل من أصحابها جماعة متلاحمة مترابطة أقرب إلى شكل “العصابة”، أو على أقل تقدير “جماعة جانبية” يقوم عليها أشخاص هم بحسب لويس يابلونسكي بمنزلة “مرضى نفسيين” بكونهم يثيرون الآخرين من أجل ارتكاب السلوك المنحرف (أو التواطؤ معه أو السكوت عنه).
هذا البُعد النفسي للسلوك المنحرف أو الإجرامي يمكن أن يرتبط من وجهة نظر علم النفس التحليلي بـ “الأنا الأعلى القاسية”، والتي تشبه “الشخصية العُصابية” من جهة الأعراض والاضطراب العصبي، وبحيث يكون البحث عن الإثارة والعِداء والولاء ضربًا من السلوك التعويضي. أو يمكن أن يرتبط السلوك المنحرف بـ “ضعف الأنا الأعلى”، والذي يرتبط بدوره بـ “الشخصية السايكوباثية” بأنانيّتها وتهوّرها وعدم شعورها بالذنب وطبيعتها غير العاطفية.
كما يمكن أن يكون للذكاء/ البلاهة الموروثين في تفاعلهما مع البيئة المادية والاجتماعية المحيطة دورًا بيولوجيّا في السلوك المنحرف بموازاة الأبعاد النفسية أعلاه.
وإلى جانب الوراثة البيولوجية فإنّ الوراثة الثقافية يمكن أن يكون دورها مهمًا في السلوك المنحرف، أي وجود تقاليد ثقافية منحرفة تنتقل من جيل إلى آخر.
وهناك أيضًا عيوب إدراكية وسلوكية مستقلّة عن العِرق والطبقة الاجتماعية ترتبط بالسلوك غير الاجتماعي مثل “العيوب اللفظية” و”صعوبات التعلّم”.
هذه العوامل المادية والاجتماعية والأنثروبولوجية (أي الثقافية) المتعدّدة والمركّبة والمتفاعلة قد تجعل الفاعل ينتمي إلى أي من مجموعات المجرمين الأربعة التي صنّفها أنريكو فيري وهي: المجرم بالولادة، والمجرم المجنون، والمجرم بالصدفة، والمجرم الانفعالي أو العاطفي.
وفي الحالات الحادّة أو المتقدّمة قد ينتمي الفاعل إلى مجموعتين أو أكثر من هذه المجموعات، أو قد ينتمي إليها كلّها في الوقت نفسه!
ويقابل مجموعات المجرمين أعلاه الأنماط الأربعة للوصم التي حددها جوزيف جارزفيد وهي: المنحرفون المرضى، والمنحرفون النادمون، والمنحرفون الساخرون، والمنحرفون الأعداء.. دون أن يعني هذا بالضرورة أن الأربعة الثانية هي انعكاس في مرآة للأربعة الأولى. ودون أن يعني ذلك بالضرورة، وهو الأهم، أنّ الوصم كـ “قوة تحافظ على النظام الاجتماعي” قادر على علاج أو تغيير أو احتواء أو تحييد مجموعات المجرمين الأربعة الموصوفة.
ولو سلّمنا بالتشبيه الوظيفي للدول بالكائن الحيّ أو الإنسان، فيمكن حسبان ما تُسمّى الدول الكبرى أو العظمى أو صاحبة القرار والتأثير والهيمنة على الساحة الدولية بـ “الكبار” أو “البالغين”، وتشبيه الدول الصغيرة و/ أو حديثة النشأة التي لم تنضج بعد ولم تستقر بنيتها المؤسسية وتقاليدها البيروقراطية بـ “المراهقين” أو “الأحداث”.
وعليه، يصبح السلوك المنحرف أو الإجرامي الذي يصدر عن الأنظمة السياسية في الدول الصغيرة ضربًا من “جنوح الأحداث” نتيجة لـ “فجوة النضج” التي تعانيها هذه الأنظمة، ومن ثم فإنّ السلوكيات غير الاجتماعية أو الضد – اجتماعية التي تصدر عنها كما ترى موفت تكون بحثًا عن المكانة والسلطة.
وهذا يقود إلى “نظرية تباين الكبت” التي تستند أكثر ما تستند إلى “نظرية مرآة الذات” لدى كولي، والتي ترى أنّ الهوية الفردية للإنسان (أو الحاكم، أو النظام السياسي) تتكوّن بناءً على ردّ فعل الآخرين نحو هذا الفرد.
ووفق هذه النظرية فإنّ “الوصم” أو “الصور” التي يرسمها البالغون (الدول الكبرى) للأطفال (الدول الصغرى) مثل الدونيّة وعدم المسؤولية وعدم الكفاءة.. تجعل هؤلاء “الصغار” هدفًا سهلًا للقمع من قبل “الكبار”.
وهذا القمع، أو الكبت، يستثير لدى هؤلاء “الصغار” ردود أفعال تكيّفيّة تتوزّع على: القبول السلبي، أو ممارسة القوة الإكراهية غير الشرعية، أو التلاعب بالأقران، أو الانتقام.

ولمّا كانت هذه الأنظمة الصغيرة عاجزة بطبيعة الحال عن ممارسة القوة الإكراهية والتلاعب والانتقام بحق الدول الكبرى المهيمنة (الكبار)، فإنّها ستوجّه سلوكياتها التكيّفيّة المنحرفة نحو (الصغار)، أي إلى شعوبها ومجتمعاتها، وإلى شعوب ومجتمعات “أقرانها” من الدول الصغيرة والمراهقة الشقيقة والصديقة!
يعزّز من ذلك أنّ النظام السياسي العالمي وما يُسمّى المجتمع الدولي يتحرّكان حاليًا بفعل “العولمة” في إطار النظام الرأسمالي العالمي ويحتكمان إليه، والرأسمالية بحسب نظرية (هيرمان وجوليا شونغرز) تُضعف الناحية الإيثارية عند الناس، وتحرّرهم من التوتر والقلق والضغوط الأخلاقية، أي تجعلهم طلقاء وغير مبالين بمصالح الآخرين، وتصبح الأولويّة لديهم الحصول على المنافع الاقتصادية.
وهذا يتقاطع مع “النظرية اللامعيارية المؤسسية” لدى مزنر وروزنفيلد، واللذين تناولا بشكل تحليلي مفهوم الثقافة كما ورد عند روبرت ميرتون، ونظريته حول “اللامعيارية” (الأنومي) بخاصة في ما يتعلّق بـ “الحلم الأميركي”، حيث أشارا إلى أنّ هذا الحلم يحتوي على أربع قيم ترتبط بعلاقة خاصة بالجريمة والسلوك المنحرف هي: التوجّه القيمي القوي نحو التحصيل، والفردانية، والعالمية، و”فتشيّة” أو “صنميّة” أو “تشيّؤ” النقود.
ويلاحظ هنا أنّ التأصيل النظري للحلم الأميركي كـ “مفهوم” يقتضي ضمنًا نفي الارتباط “العضوي” بين هذا الحلم و”الشعب الأميركي” و/ أو “التراب الأميركي”.
بمعنى أنّ أيّ شعب في العالم يستطيع أن يستلهم الحلم الأميركي، ويتّخذه حلمًا قوميّا، ويحاول تمثّله وتطبيقه على ترابه الوطني (حتى لو في قلب الصحراء).
وأنّ الشعب الأميركي نفسه (أو شركاته العابرة للقارات) يستطيع أن يحمل حلمه، ويتوجّه به من أجل تشييده في أيّ مكان آخر غير ترابه الوطني (حتى لو كان هذا المكان كوكب المريخ أو عالم الميتافيرس).
وبهذا المعنى يكون الحلم الأميركي هو النموذج القياسي لـ “التحوّل” المنشود الذي سبقت الإشارة إليه، والغاية النهائية من التاريخ الذي سبق وانتهى بصيغته البشرية التي ناقشها فوكوياما، وهو يلج الآن إلى مرحلته التالية، المرحلة الرقميّة أو السيبرنطيقيّة أو الروبوتية أو عالم الذكاء الاصطناعي أو النانوتكنولوجي أو عالم ما بعد الإنسان.. وصولًا إلى تحقيق “اليوتوبيا التكنولوجية” أو “الفردوس الأرضي” المنشود.
ولكن هذا التعلّق “الفتشي” بالحلم الأمريكي و”حتميته” يُغفل، أو ينزع للتغافل عن حقيقة أنّ الحلم الأميركي هو حلم افتراضي، وحلم مفروض، والأهم، أنّ الفوضى واللامعيارية والصراع والانحراف والجريمة (والسيولة وتفكيك الإنسان) هي في ضوء النقاش أعلاه مكوّنات أنطولوجية (وجودية) وابستمولوجية (معرفية) وسيكولوجية (نفسية) أصيلة في جوهر هذا الحلم!
وفي ظلّ مثل هذا الواقع المادي الحتمي لا يعود هناك سوى خيارين اثنين للحدّ من السلوك المنحرف أو الجريمة:
الحلّ الأول راديكالي، وذلك بتقويض المنظومة كلّها/ الحلم كلّه بشكل إرادي مقصود (الثورة، التطرّف، الأناركية). أو انهيارهما التلقائي حُكْمًا بفعل تناقضاتهما الداخلية ما لم يصاحب ذلك عملية توسيع مطّردة لنطاق الفاعلية الاقتصادية/ الصراع.
والحلّ الثاني تصالحي أو تقهقري إذا جاز التعبير، وذلك من خلال التعويل على “نظرية الضبط الذاتي” لدى هرشي وجوتفردسون.

وسبب إطلاق وصف “تقهقري” هنا على “الضبط الذاتي” هو أنّ هذا الخيار يستدعي بالضرورة إيجاد وتكريس ظروف تقلّل من فرص ارتكاب السلوك المنحرف أو الإجرامي، وهذا الشرط صعب المنال في إطار عالم رأسمالي تنافسي صراعي فوضوي عابر للحدود والقوميات يهيمن فيه الكبار ويراهق فيه الصغار!
الحل الثالث الممكن هو تأسيس “الضبط الذاتي” على أساس فكريّ عقائدي متجاوز، ضمن مشروع جمعي متكامل للتحرّر، يتحرك ضمن حاضنة شعبية داعمة، وشبكة اجتماعية متينة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمكانها الجغرافي وترابها التاريخي. وهذا هو النموذج الذي يمثّله “طوفان الأقصى”، وهذا هو سر الحملة المنحرفة والإجرامية الشرسة ضد “طوفان الأقصى”، وهذا هو سرّ اتخاذ هذه الحملة شكل الإبادة والتهجير من أجل وأد نموذج “طوفان الأقصى” في مهده بكونه يمثّل تهديدًا أخلاقيًّا وجوديًّا للمنظومة الرأسمالية كلّها وللحلم الأميركي برمّته!
وفي جميع الأحوال، فإنّ “الوصم الاجتماعي” الذي انطلق منه هذا التحليل هو آخر أداة يمكن التعويل عليها منفردةً من أجل تحقيق الضبط الذاتي (والجماعي) المطلوب، أي وقف الإبادة والتهجير وكلّ ما ومَن يساهم فيهما.
والاقتصار على استخدام أسلوب الوصم بالطريقة الخطابية والدعائية التي يُستخدم بها حاليًا من شأنه أن يجعل هذا الوصم أداة أخرى من أدوات “تطبيع” السلوك المنحرّف أو الإجرامي الموصوم!
أمّا الخطاب السياسي كما يتمّ تداوله والتعاطي معه عبر وسائل الإعلام ومجمل “الفضاء التواصلي” و”المجال العام”، وما يصاحب ذلك من نقاشات وتحليلات ولغط وجدل وتباين وتناقض واستعراض ومزاودة.. فيغدو ضربًا من “الاختزال الظاهراتي” على حدّ تعبير ثيو، وهو الاختزال الذي يُضفي على الساسة وأعوانهم هالة من القوّة غير العادية والعقلانية والمنطق تضعهم في مراتب الفلاسفة والمفكّرين العقلانيين، في حين أنّهم في حقيقة الأمر محض منحرفين يمارسون سلوكًا منحرفًا شأنهم في ذلك شأن أيّ شاذ أو مدمن للمخدرات أو “أزعر” في حارة!

كتب ذات صلة:

أزمة السلطة السياسية: دراسة في الفكر السياسي العربي

منطق السلطة : مدخل إلى فلسفة الأمر

السلطة السياسية والإعلام في الوطن العربي

السلطة الثقافية والسلطة السياسية