الساعة 15:30 بتوقيت بيروت، التاريخ 17 أيلول/سبتمبر 2024، انفجرت آلاف أجهزة النداء المعروفة بـ “البيجر”، أسفر الهجوم عن 2931 إصابة، وعن استشهاد 37 شخصًا على الاقل، واشتملت الأرقام على أطفال صغار، ومدنيين (Amnesty International 2024)، ليتكرر المشهد باليوم التالي بتفجير أجهزة اللاسلكي. جاء هذا الهجوم ضمن حرب الإبادة التي تقوم بها “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني، وشعوب المنطقة، وفي إطار جبهة الإسناد التي فتحها حزب الله في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ضمن مطلب إيقاف حرب الإبادة التي تقوم بها “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني، وضمن الفهم الاستراتيجي لحزب الله بأن انتصار “إسرائيل” في هذه الحرب سيؤدي إلى أضرار جسيمة في الأمن القومي اللبناني، وفي حزب الله.
شنت إسرائيل منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بداية فتح جبهة الإسناد لدعم الشعب الفلسطيني، مجموعة من عمليات القتل المستهدَف، لخلايا الحزب، وأصوله الأمنية والعسكرية، وضمن مراجعة أسباب الوصول الإسرائيلي للأهداف، وايقاع الخسائر بالحزب، ظهر استنتاج الحزب بدور الهواتف الذكية في الاختراق والانكشاف على مستويات محدودة، وهو ما دفع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى التوجه بخطابه في يوم الجريح 13/2/2024، إلى المقاتلين وعوائلهم خصوصًا، وسكان المناطق الحدودية والجنوب عمومًا، بالتخلي عن الهواتف الذكية حتى إشعار آخر (نصر الله 2024).
تعاقبت مجموعة من الأحداث تلت هذا الخطاب للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وتبرز من بينها سلسلة اغتيالات لقادة الحزب على رأسهم السيد حسن نصر الله. تلقى حزب الله سلسلة من الضربات التي وصلت إلى رأس الهرم القيادي، وضرب الكوادر الفعالة، واستهداف الخلايا الفاعلة على خط الجبهة، واستهداف أصول أمنية وعسكرية، كما استهداف لبنان عمومًا والمدنيين اللبنانيين. وفي ظل هذه العمليات يلاحَظ تسلسل محتمل اتُّبع من جانب “إسرائيل” بتدرج، للوصول إلى هذه الضربات ضمن أولويات محتملة، وهنا تفترض المقالة اتباع “إسرائيل” استراتيجية التوجيه الانعكاسي للوصول إلى أهداف متسلسلة، تؤدي إلى النتائج المطلوبة. يبرز هنا سؤال إلى أي مدى تصحّ هذه الفرضية، أو بصيغة أخرى كيف يمكن أن تتقاطع سلسلة العمليات “الإسرائيلية” وصولًا إلى عملية أجهزة النداء والبيجر، واغتيال قادة الحزب، مع استراتيجية التوجيه الانعكاسي؟
للإجابة عن السؤال الرئيسي يبرز سؤالان فرعيان، تفترض المقالة أنهما سيوصلان إلى نتائج محتملة يمكن أن تساعد في الإجابة عن السؤال الرئيسي. فما هو المقصود باستراتيجية التوجيه الانعكاسي؟ إضافة إلى سؤال ما هي الإجراءات الإسرائيلية والخطوات التي اتُّخذت من حزب الله (ضمن المصادر المفتوحة) التي يُحتمل ارتباطها بسلسلة العمليات وصولًا إلى هجمات أجهزة النداء اللاسلكي، واغتيال قادة الحزب؟
تُعرف استراتيجية التوجيه الانعكاسي أنها نظرية نشأت في ستينيات القرن العشرين، من عالِم الرياضيات فلاديمير ليفبفر، وجاءت ضمن استنتاجاته بعد دراسته العمليات العسكرية. ترى الاستراتيجية أن فهم نموذج عملية صناعة القرار عند العدو، تُمكن من دفع العدو للوصول إلى قرارات مرجوَّة عبر نشر المعلومات ضمن هيكلية اتخاذ القرار، وهو ما يدفع العدو إلى اتخاذ قرارات تخدمك، وصفت استراتيجية التوجيه الانعكاسي في دليل حرب المعلومات الروسية، الصادر عن معهد دفاع الناتو، بـ”أن السيطرة على قرار الخصم تتحقق من خلال تزويده بالأسباب التي تجعله قادرًا منطقيًّا على استنباط قراره الخاص، ولكن القرار الذي يكون محددًا مسبقًا من الجانب الآخر” .(RANGAPPA 2023)
يذكر هنا في سياق المقال ملاحظة وهي أن ما تفترضه المقالة هو في إطار المعلومات المفتوحة والمتوافرة للجميع، وأن أي انكشاف لمعلومات جديدة بعد نشر المقالة يمكن أن يغيِّر كل النتائج المحتملة. تعتمد المقالة على المصادر المفتوحة، الأمر الذي يوسع هامش الخطأ في إطار الحروب والعمليات الخاصة، وهو ما يرفع احتمالية الوقوع في أخطاء جزئية أو كلية، وعدم القدرة على التأكد من المعلومات من مصادرها الخاصة، وما يُطرح هنا هو محاولة للتحليل والربط بين ما أُعلن عنه وبين استراتيجية التوجيه الانعكاسي.
أولًا: استراتيجية التوجيه الانعكاسي
يرتبط مفهوم السيطرة الانعكاسية بوصية الجنرال الصيني صن تزو للحرب بخطوطها العريضة. وقد اعتمدت روسيا منذ 200 سنة السيطرة الانعكاسية ودوّنتها في استراتيجيتها للأمن القومي الروسي. يعتمد مفهوم السيطرة الانعكاسية على أربع نقاط رئيسية، وهي الضغط بالقوة من طريق الاستفزاز والردع، المعلومات الكاذبة التي تطبق بالخداع والتشتيت والشلل، التأثير في متخذي القرارات لدى الأعداء بأدوات مثل الإرهاق والانقسامات والاقتراحات، والتأثير في اتخاذ القرار بأدوات مثل التهدئة والتحميل الزائد. جذَّر هذا المفهوم الجنرال بيتر روميانتسيف، وألكسندر سوفوروف. يتقاطع المصطلح مع وصايا الجنرال الصيني صن تزو حول الحرب، بأن الفن الأسمى للحرب هو إخضاع العدو من دون قتال(Marahrens, Sonke and Josef Schrofl 2024).
نظرًا إلى تعقيد المفهوم يتم تعريفه بالكثير من التعريفات، ويشار هنا إلى تغير اسم المصطلح في بعض الأدبيات الروسية من التوجيه الانعكاسي، إلى إدارة الإدراك. يعرِّف ليفبر مصطلح التوجيه الانعكاسي بأنه “عملية ينقل من خلالها أحد الأعداء أسباب […] اتخاذ القرارات إلى الآخر”، أو في تعريف آخر “مفهوم سوفياتي للتأثير في عملية صنع القرار لدى الخصم”، أما تيموثي توماس فيعرِّف المصطلح بأنه “وسيلة لنقل معلومات معدَّة خصيصًا إلى شريك أو خصم لاقناعه باتخاذ قرار مُعدٍّ مسبقًا يرغب فيه مبادر العمل” (C. Kamphuis BSc 2018). يمكن تلخيص التعريفات السابقة بأن التوجيه الانعكاسي هو دفع الخصم إلى اتخاذ قرارات تؤدي نتائجها إلى هزيمته، وهو يعتقد أنها خياراته.
ثانيًا: منهجية تطبيق استراتيجية التوجيه الانعكاسي
تلاحظ أهمية مجموعة من الشروط اللازمة لنجاح التوجيه الانعكاسي، وتعتبر هذه الشروط أسس متماسكة، وعدم الالتزام بها يمكن أن يتسبب بالفشل (C. Kamphuis BSc 2018). إذا افترضنا أن الطرف “أ” هو من سيطبق التوجيه الانعكاسي على الطرف “ب”، فعلى الطرف “أ” أن يكون على اطلاع كافي بما يتعلق بعملية اتخاذ القرارات، والإدارة، والهيكلية، والفاعلية، لدى الطرف “ب”، وأن يخلق “أ” أنماطًّ متوقعة للطرف “ب” على الأفعال، ويلزم هنا وبشكل ضروري عملية جمع المعلومات، وتصنيفها، ودراسة الهيكلية، وعملية الإدارة، أقصى مراحل السرية والتمويه.
تأتي مرحلة تحديد أهداف استعمال استراتيجية التوجيه الانعكاسي (RANGAPPA 2023)، وذلك ضمن فهم ومعرفة نقاط القوة والضعف عند الطرف “ب”. بعد معرفة طرق الإدارة والعمل واتخاذ القرارات، تبرز أهمية الأطراف الداخلية والخارجية الأكثر تأثيرًا وقوة عند الطرف “ب”، وبالتالي ستهدف العملية إلى ضرب نقاط الضعف وتحييد نقاط القوة عند الطرف “ب”.
يتبع المرحلتين السابقتين مرحلة وضع الخطط التفصيلية وأدوات التنفيذ (RANGAPPA 2023)، مع حفظ هامش الخطأ لبعض ردود الفعل غير المتوقعة. توجب هذه المرحلة وضع خطط تفصيلية تشتمل على أدوات التنفيذ (RANGAPPA 2023)، ويرجح وضع خطط بديلة وتوقع بعض النتائج ضمن هامش الخطأ، وذلك في اطار التعامل مع المجموعات البشرية المعقَّدة بطبيعتها.
في المرحلة الرابعة تبدأ عملية التنفيذ للتكتيكات، والإجراءات اللازمة لتطبيق استراتيجية التوجيه الانعكاسي. جوهر هذه المرحلة هي العمليات التطبيقية في الميدان للخطة المرسومة (RANGAPPA 2023)، أو تنفيذ التكتيكات والاجراءات اللازمة من الطرف “أ” لتطبيق المستوى العملياتي، الذي يؤدي إلى نجاح استراتيجية التوجيه الانعكاسي على الطرف “ب”، وفي إطار التنفيذ يجب مراجعة التغذية الراجعة باستمرار وبشكل فعّال، وذلك ضمن هامش الخطأ الممكن في إطار التعامل مع العينات البشرية المعقدة بطبيعتها، تستوجب هذه المرحلة الحفاظ على عنصر المفاجئة، واستمرار الطرف “ب” بالاعتقاد بأن الخطوات المتبعة هي في إطار اختياراته (RANGAPPA 2023)، وعند تنفيذ هذه المنهجية يمكن أن تؤدي استراتيجية التوجيه الانعكاسي إلى النتائج المرجوة للطرف “أ”.
1- التطبيق المحتمل لاستراتيجية التوجيه الانعكاسي على حزب الله
قام الموساد الإسرائيلي بالكثير من المراجعات في إطار عمله في مدة تولي مئير دغان رئاسة الجهاز، وهنا يمكن أن نربط بين طريقة العمل التي اتُّبعت منذ تولي مئير دغان المنصب حتى اليوم. مثّل مئير دغان نقلة نوعية في إطار جهاز الموساد الإسرائيلي، إذ أعاد هيكلة الجهاز، ولم يكن من أنصار الحروب الكبيرة، بل فضّل العمليات الخاصة والنوعية على مستوى العالم وفي أراضي المناطق المعادية “لإسرائيل” (Bergman 2016).
2- الاطلاع الكافي وتحديد الأهداف
بات جزء من الدول المعادية “لإسرائيل” في إطار صراعات داخلية بما يعرف بـ “موجة الربيع العربي”، ومن بين هذه الدول كانت سورية، التي ستعطي وفق بعض التقييمات الفرصة بشكل أكبر لإسرائيل لدراسة سلوك حزب الله. بدأ الموساد الإسرائيلي وفق مصادر غير رسمية بمجموعة من عمليات الاغتيال عبر دول العالم قبل “الربيع العربي”، واستهدفت هذه العمليات بجزء منها حزب الله، وكان أبرز هذه العمليات عملية اغتيال عماد مغنية، ومع وصول موجة “الربيع العربي” إلى سورية أعطت الحرب هناك فرصة كبيرة لأجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” لدراسة سلوك حزب الله، وطرق عمله، والهيكلية، إضافة إلى آليات اتخاذ القرار (Ben Ari, Lior and Alexandra Lukash 2024).
3- وضع الخطة والأدوات
ضمن إدراك “إسرائيل” للحاجة الملحة في حزب الله إلى أجهزة اتصال في الحرب السورية، وعلى المستوى الداخلي، أعدت أولى الخطوات عام 2015. في عام 2015 عملت إسرائيل على إيصال أجهزة لاسلكي مفخخة إلى حزب الله، لم تكن هذه الأجهزة فقط تحتوي على قدرة تفجيرية، بل أيضًا على قدرة لإيصال المعلومات إلى إسرائيل، لم تستعمل إسرائيل خاصية التفجير إلا عام 2024، لكن في كل هذه المدة استطاعت عبر أجهزة اللاسلكي، إضافة إلى العملاء، وأدوات أخرى، الوصول إلى الكثير من المعلومات عن حزب الله، أدت مراكمة المعلومات وتحليلها إلى بناء خطة تجذب حزب الله إلى شراء أجهزة النداء البيجر، التي أُعدت عام 2022، وقام الموساد بالكثير من الاختبارات للتحقق من أدق التفاصيل، صوت الرنّة، أن تفتح الرسالة باستخدام اليدين الاثنتين، أن يكون العصف الانفجاري ذا قدرة إصابة بقدر معين (Mekhennet, Souad and Joby Warrick 2024).
ثالثًا: الأدوات الأربع للتوجيه الانعكاسي
قامت إسرائيل بسلسلة من عمليات القتل المستهدف، واستهداف الأصول الأمنية والعسكرية لحزب الله على نحو تدريجي، وصولًا إلى خطاب السيد في يوم الجريح. استخدمت إسرائيل أربع أدوات محتملة لنجاح الخطة، هذه الأدوات تبرز في نصوص وأدبيات التوجيه الانعكاسي، وهي الضغط بالقوة، والخداع، والتشتيت، والتحميل الزائد (Marahrens, Sonke and Josef Schrofl 2024).
إن أردنا أن نبحث عن تشابه محتمل مع الخطوات العملية، يرجح أن عمليات الضغط بالقوة التي قامت بها إسرائيل والتي أدت إلى خطاب يوم الجريح قد نجحت (نصر الله 2024). استطاعت “إسرائيل” تحميل الهواتف الذكية العبء الأكبر، وهنا لا يقصد أن الهواتف الذكية كانت آمنة، بل من المرجح أن تكون مخترقة أيضًا، لكنها لم تكن وحدها، وبدأت الاقتراحات تنتشر عبر وسائل التواصل حول الكاميرات، والجواسيس، ويمكن ترجيح أن كل هذه الاحتمالات زادت العبء في التحليل والعمل، أو ما يعرف وفق أدبيات التوجيه الانعكاسي بالتحميل الزائد.
لتبدأ “إسرائيل” بعدها بسلسلة ضربات البيجر وأجهزة اللاسلكي، وتستمر العمليات الخاصة والاغتيالات إلى رأس الهرم الحزبي. استطاعت “إسرائيل” إنجاح العملية، وتحقيق الاستراتيجية التي تفترض المقالة استخدامها، ولا يقصد تشبيه الموقف هنا بمقولة “وضعت الأقلام وجفت الصحف”، فإن تعقيد الحروب وضبابيتها كما يصفها الجنرال البروسي كارل فون كلاوزفيتز، يمكن أن تعطي طرفًا وقعت به الخسائر والهزائم ضمن المستوى العملياتي، أو حتى الاستراتيجي إلى إنجاز نصر إن استطاع استخلاص العبر، والإبداع، وأن يكون الشك أساسًا ملتصقًا بالسرية.
خلاصة
يُرجح بناءً على ما ذُكر استعمال إسرائيل استراتيجية التوجيه الانعكاسي، وأن الحلول المفترضة تنبع من الشك المستمر، وعدم الوقوع في معضلة جالوت. تقول القصة التوراتية والموجودة أيضًا في القرآن أن الثقة بالنفس وعدم الشك عند جالوت، في المعركة التي واجه بها داوود كانت أساسًا لهزيمته، أن الحرب المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، يمكن ترجيح أن تكون بدأت بالمعضلة نفسها، وهي معضلة جالوت، فالثقة الإسرائيلية بالنفس والاستهتار أدت إلى نجاح العملية على نحو أكبر مما توقعته حماس، وأن الضربات التي تلقاها حزب الله تنبع من نوع من الثقة بعد الانتصارات التي تحققت بصورة متراكمة، في حرب 2006، وفي سورية، وعليه فإن الشك هو أساس جوهري في الحروب والصراعات، وهو الدافع لإبداع طرائق وإفشال مخططات الخصم، وأخيرًا إن ما استنتجته المقالة هو بترجيح إمكان أن تكون “إسرائيل” قد طبقت استراتيجية التوجيه الانعكاسي.

كتب ذات صلة:

غزة: بحث في استشهادها

في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسية