أولاً: الربيع العربي:

تعكس الحالة السوسيو – سياسية الراهنة لبلدان المغرب العربي، وما تكتنفه من تدهور اقتصادي وتهميش لمكونات المجتمع المدني، أن حركيات الربيع العربي فشلت في تحقيق أهدافها الرئيسية المرتبطة بتنمية الإنسان وتحقيق سبل «العيش الكريم»؛ لكون هذه «الثورات» الاجتماعية «قطفت» رؤوس الدول ولم «تجتث» جذور الظلم والاستبداد. وهذا يعني أن إسقاط رؤوس النظام غير كافٍ لبناء دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية. إنها ثورات «عطوبة» وجدت في كنفها المجموعات المتطرفة والحركات الإرهابية الفرصة مؤاتية لوضع قدميها على الساحة الاجتماعية لاستقطاب أكبر عدد من الساخطين عن تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. ورغم احتوائها في بعض البلدان (المغرب) إلا أن جذورها لا تزال معششة في البنى الذهنية المحلية ببلدان أخرى.

هذه الحركيات الإرهابية والمجموعات المتطرفة ليس لها أي سند ديني إسلامي ولا مسيحي ولا يهودي، ولا يمكن اعتبارها حركات اجتماعية أو احتجاجية، لكونها تمس بالوحدة الأمنية والروحية للجماعات الاجتماعية والثقافية المجتمعية.

وقد رُفضت هذه الحركيات على مدى عقود طويلة من طرف البنى الموضوعية للمجتمعات المغاربية، بدءاً بالنظم السياسية، مروراً بالمؤسسات الدينية، وصولاً إلى المواطنين والفاعلين الاجتماعيين. والأمر كله دلالة قوية على الغبن المغاربي تجاه التطرف الديني وتوليد العنصرية والاحتكاكات الإثنية بين الجماعات والمجتمعات المحلية واستغلال «الثورة» ومعاداة الإنسانية باسم الدين وإعاقة مشروع الوحدة المغاربية وضمنه رهان الوحدة العربية. وتلك خصوصية البنية الثقافية المغاربية.

ثانياً: البنية الثقافية

لا شك في أن غنى الموروث الثقافي للبلدان المغاربية على مستوى اللغة والعادات والتقاليد والمكون الديني، يساهم لا محالة في تعزيز قيم الوحدة والتضامن بين الشعوب المغاربية بما يخدم الغايات النبيلة لاتحاد المغرب العربي. لذلك نولي أهمية كبرى للبنية الثقافية المغاربية كمدخل أساسي لتحقيق التكامل النوعي بين المجتمعات وخدمة رهان التنمية القطرية، مركِّزين على مبدأ تنوع الثقافات ووحدة الثقافة المغاربية العربية، كآلية حيوية لتجاوز الانقسامات الإثنية والجهوية التي تعصف برهان اتحاد المغرب العربي.

ونبدأ بتوضيح أهمية ترسيخ التثاقف كقيمة إنسانية وحضارية لنهضة المجمعات وتقدم الجنس البشري، ونقف عند واقع البنية الثقافية المغاربية المعاصرة وما يعصف بها من تقلبات وانشطارات تشرخ الجسد الاجتماعي العربي ككل. ولا يُفترض أن ننسى أن التاريخ برهن على قدرة المغاربيين على مقاومة المد الكولونيالي والتعايش مع بعضهم بعضاً وتجاوز كل العقبات والعراقيل المختلفة، من أجل تحقيق حلم اتحاد المغرب العربي؛ الأمر الذي يجعلنا أمام سؤال جوهري: هل استطاع المثقف المغاربي تأدية دوره «المشاغب» و«الملتزم» (باللغة البورديوية) في تنمية وتطوير البنية الثقافية المحلية والجهوية؟

ثالثاً: المثقفون

لا جدال في أن صمت المثقفين وانسحابهم كان له دور كبير وحاسم في تردي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتراجع دور المجتمع المدني ببلدان المغرب العربي، والتعجيل بإجهاض حلم الاتحاد كخيار استراتيجي، وهذا ما جعل هذه البلدان تصبح أقرب ما يمكن إلى «الدول الشمولية»، عوض أن تكون دولاً عقلانية وعصرية تفصل بين الأفراد والمؤسسات وتتبنى مبادئ الحق والقانون والعدالة الاجتماعية وتعقلن ثرواتها الطبيعة ومواردها البشرية وتضمن لمواطنيها العيش الكريم وتسهم في تحقيق مبادئ التنمية العربية المستدامة.

ونشير في هذا الصدد إلى أن صمت المثقفين أصبح نفسه خياراً استراتيجياً يعكس فكرة «الالتزام في ذاته». فإما أن تكون مثقفاً رسمياً يعزف على أوتار ونغمات النظام السياسي ويتسلق قمم السلطة والوجاهة الاجتماعية ويربط وجوده بما هو مادي أكثر منه فكرياً، وإما أن تكون مثقفاً مغضوباً عنه ومشبوهاً ومتهماً ويعاني كل أنواع التهميش والإقصاء الاجتماعي والسياسي والأكاديمي. لذلك كان لبعض المثقفين موقف ثالث وسباحة خارج التيار من نوع خاص، وأصبح الصمت صالحاً للتعايش مع الواقع الجديد. لكن يُطرح السؤال حول مصير البنية الثقافية والوعي الاجتماعي في ظل البنى المؤسسية المعاصرة؟

رابعاً: البنية المؤسسية

إذا كان مبدأ فصل السلط الرهان الأساسي لبناء دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية، فإن الدول المغاربية لم تستطع أن تعزز بشكل كبير مبدأ الفصل بين السلط وبين الأفراد والمؤسسات. فالسلطة التشريعية ضعيفة الصلاحية وأسيرة الصراع بين الشرعية والمشروعية، والسلطة التنفيذية ما زالت لا تطور بشكل كبير مبدأ الكفاءة والفصل بين الأفراد والمؤسسات وبين قيم المؤسسة وثقافة الزبونية والمحسوبية، في حين أن السلطة القضائية حتى الآن لم تحقق استقلالها الكافي الذي يتيح لها محاربة الفساد والقضاء على العراقيل الكبرى أمام بناء دولة الحق والقانون واحترام الحريات العامة، ولا تزال مرتبطة بشكل كبير بالسلطتين التشريعية والتنفيذية. طبعاً، لا بد من أن نشير إلى أن استمرارية هذه النظم المؤسسية التقليدانية هي ما يعمق المشاكل والقضايا الجهوية للمنطقة (الهجرة السرية، تجارة المخدرات، الإرهاب…)

خامساً: الهجرة السرية

نشير هنا إلى كون المغرب العربي يشكل مركز عبور هجروي دولي وفق بعدين مركزيين:

أولاً، كنقطة عبور للمهاجرين السريين من جنوب الصحراء نحو أوروبا والضفة الشمالية، بموقعه الجيو – استراتيجي المطل على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، لعدم ترسيم الحدود بشكل واضح بين بلدان المغرب العربي (خصوصاً بين المغرب والجزائر) وضعف الحماية الحدودية بالمناطق الصحراوية، ما يترك المجال الترابي مفتوحاً أمام حركية عشوائية ولاقانونية؛ ليس للمهاجرين السريين فقط؛ وإنما لمختلف الفصائل الإرهابية والمجموعات المتطرفة، التي تجعل من هذا المشكل الحدودي دعامة أساسية لسياساتها التنظيمية القائمة على السرية المجالية والانفتاح على الفضاءات الاجتماعية، أي كمجال لاحتماء الإرهابيين من جهة، وفضاء خصب لنشر فكرهم المتطرف من جهة أخرى.

وثانياً: كبؤرة انطلاق للمهاجرين المحليين الساعين نحو تحقيق الحلم الأوروبي. فمنذ أن فتحت الحكومات الاستعمارية المجال أمام الحركات الهجروية الدولية (خصوصاً فرنسا بدءاً من سنة 1962) لتعويض النقص الذي تعانيه في مجال اليد العاملة، والحلم الهجروي يعصف بالكفاءات الوطنية والطموحات الشبابية، كرغبة في تحسين الظروف السوسيو – ثقافية من جهة، والانفتاح على ثقافة الغرب والانصهار في بيئته، من دون الأخذ بعين الاعتبار فكرة الجذور والوحدة العربية للإنسان المغاربي. ناهيك بالمشاكل المحلية التي تخلفها الحركة الهجروية العشوائية بالدول المغربية وخصوصاً مشكل تجارة المخدرات.

سادساً: تجارة المخدرات

لا بد من الإشارة إلى الجهود المبذولة والتعود المنجز في العقد الأخير بين حكومات الاتحاد الأوروبي وحكومات الدول المغاربية للتصدي لظاهرة تجارة المخدرات العابرة للحدود والقارات. حيث تعاني الدول المغاربية مشكل زراعة وتجارة الحشيش والقنب الهندي من جهة، ومشكل التجارة الدولية والعابرة للحدود للكوكايين والهيروين لكونها منطقة استراتيجية ومنفذاً رابطاً بين ثلاث قارات (أفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية).

وأمام غياب استراتيجيات فعالة على المدى الطويل للقضاء على تجارة المخدرات تظل العديد من المناطق تعتمد على هاته الأخيرة كأساس اقتصادي ومعاشي محلي من جهة، ونقط استراتيجية لغسيل الأموال الدولية من جهة أخرى. إضافة إلى التفاعل والترابط الكبير الملاحظ مؤخراً بين الحركات الإرهابية وتنظيمات تجارة المخدرات، وما يطرحه من قضايا مرتبطة بقوة بالتكتل الاستراتيجي للتنظيمات المتطرفة على المستوى البعيد.

سابعاً: مكافحة الإرهاب

سنحاول أن نتعرف إلى كيفية تعامل الحكومات المغاربية مع قضية الإرهاب بدءاً من ظهور فرع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وصولاً إلى بروز الموالين للدولة الإسلامية في بلدان المغرب العربي.

تعكس طبيعة التضاريس السائدة بالمغرب العربي سيطرة الطابع الصحراوي وشبه القاحل، حيث تشكل أكثر من مليوني كم2 منطقة شبه معزولة عن السلطة الكاملة للدولة والمجتمع المدني، وبالتالي تصبح مرتعاً للتجمعات الإرهابية والحركات المتطرفة لتفريخ جيوشها ونشر فكرها الظلامي.

لقد أدى هذا الوضع بالحكومات المغاربية منذ سنة 2001 إلى التفكير الجاد في تبنّي استراتيجيات فعّالة للسيطرة على هذه التنظيمات المتطرفة في إطار الحرب على الإرهاب، الأمر الذي عكسته مجموعة من اتفاقيات التعاون بين الاتحاد الأوروبي ودول شمال أفريقيا (بشكل منفرد أو بشكل جماعي) الرامية إلى مكافحة مد تنظيم القاعدة بدول المغرب العربي ومنه بأوروبا الغربية وشبه الجزيرة العربية.

ولا يخفى عنا الدور الكبير للحكومة المغربية في التصدي بحزم لمختلف التنظيمات والتهديدات الإرهابية منذ أحداث 16 أيار/مايو 2003، والتي ألقت بظلها على الوضع العام للمجتمع المغربي، لتعلن الدولة المغربية عن خوضها غمار الحرب العالمية ضد الإرهاب والتنظيمات المتطرفة.

ولا بد من الإشارة إلى أن مشكل ترسيم الحدود بين مختلف دول المغرب العربي يلقي بظله أيضاً على تفاقم الظاهرة وتفريخ الحركات الإرهابية، خصوصاً في السنوات الأخيرة، في ظل تزايد المد الجغرافي لتنظيم الدولة الإسلامية بالوطن العربي. وأيضاً الاحتقان السياسي والاجتماعي الذي تعرفه المنطقة بفعل تداعيات قضية الصحراء. لكن هل يمكن اعتبار التدبير العقلاني للثروات الطبيعية المغاربية (الفوسفات والنفط) وتحقيق درجة عليا من التنمية الجهوية، الرهان الأساسي لمواجهة التطرف بالمنطقة؟

ثامناً: الفوسفات والنفط

نركز هنا على الوضعية الراهنة للموارد الطبيعية بدول المغرب العربي في ظل اعتماد الميزان التجاري للحكومات المحلية على كل من النفط والغاز وكذا الفوسفات. فصحيح أن هاته الدول تحتل مراتب عالمية متقدمة في إنتاج النفط والغاز (الجزائر وليبيا) وإنتاج الفوسفات (المغرب)؛ إلا أن انعكاس هذه الموارد على التنمية المجتمعية الشمولية يظل ضعيفاً جداً، لضعف مؤشرات التنمية والتطور الاجتماعي والاقتصادي.

ومنذ اكتشاف الثروات الطبيعية بالمنطقة المغاربية موازاة مع المد الكولونيالي نلاحظ اختلال موازين القوى بين شركات متطورة ودولية مدعومة من طرف الحكومات المحلية، وبين حكومات ودول تفتقر إلى شروط المسؤولية العقلانية والعمل المؤسسي المنفتح على المجتمع المساهمة في قاطرة التنمية الجهوية.

يؤكد تتبع سياسات تدبير الموارد الطبيعية ضعف الرؤى الاستراتيجية للحكامة الجهوية، وغياب وحدة وانسجام في الأهداف العامة لسياسات النفط والفوسفات. وأدت هذه الاختلالات إلى استفادة الشركات النفطية الكبرى على حساب المجتمعات المحلية من جهة، وتركيز الحكومات على مصالحها الخاصة دون تحقيق التشارك العام للموارد الطبيعية بما يخدم رهان تفعيل الوحدة المغاربية وتحقيق التنمية المجتمعية الشاملة والرقي في سلم التقدم الاقتصادي.

ولا ننسى من جديد سياسات الاحتكار التي نهجتها الحكومات المغاربية في ما يتعلق بالثروات الطبيعية، والتجاهل الكبير لحق الشعوب والمجتمعات في الاستفادة من ثرواتها الطبيعية بما يعود بالخير واليمن على وحدة واستقرار المجتمع وسيادة العدالة الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق التنمية البشرية والمستدامة.

تاسعاً: السياسات التنموية

السؤال الذي يُطرح هنا: هل استطاعت حكومات المغرب العربي عقلنة مواردها الطبيعية وترشيدها؟ وهل استطاعت الاستفادة منها في تحقيق رهانات التنمية المستدامة المحلية والجهوية؟ من خلال المراتب المتأخرة التي تحتلها معظم الدول المغاربية في سلم التنمية العالمية، تتضح العشوائية في التنظيم العام للموارد النفطية والفوسفاتية والاهتمام بالعنصر البشري، إضافة إلى الرشوة والفساد الاقتصادي والمالي الذي ما زالت تتخبط فيه الاقتصادات المغاربية.

اعتماداً على مؤشرات طبيعة النمو الاقتصادي وأهمية قطاع النفط والفوسفات في النشاط الاقتصادي، وحجم المبادلات التجارية بين البلدان المغاربية، يتضح أن الاقتصادات المغاربية لا تزال اقتصادات نفطية – فلاحية (الجزائر وليبيا) وفوسفاتية – فلاحية (المغرب)، مع تراجع كبير لقطاع السياحة بفعل الأحداث الأخيرة الجارية بالمنطقة وضعف نسبي لقطاع الصناعات الثقيلة وغياب كلي للصناعات الدقيقة التنافسية، الأمر الذي يجعل من غياب النفط والفوسفات في المستقبل العلامة الأولى على انهيار الميزان التجاري وسيادة الكساد المالي والاقتصادي العام.

وما دام الإنسان هو الهدف الأول والأخير لأي مشروع تنموي كيفما كانت طبيعته، فإن جوهر التنمية الجهوية والمستدامة المغاربية رهين بجعل المواطن عضواً فعالاً في نسيج البنية الاقتصادية والاجتماعية، وقادر على الاستفادة من الموارد الطبيعية المحلية والجهوية في تنمية قدراته الإبداعية والصناعية وبناء شخصية الإنسان المنتج والفعال في المجتمع والساحة الدولية. وتظهر هناك أزمة كبيرة على مستوى تأهيل المواطن والموارد البشرية وإدماجها في نسيج النشاط الاقتصادي، وتلك أزمة سياسية أكثر منها اجتماعية، حيث استطاع المستعمر أن يولد الاحتقانات والنزوعات الطائفية والإثنية بين عموم المجتمع الواحد والمجتمعات المغاربية ككل، وهو الأمر الذي ورثته الحكومات الوطنية اللاحقة التي عملت على تمثل فكرة تنمية المواطن كنوع من الوعي بالأحقية بالشراكة في المجتمع وبالتالي مع نظم الحكم.

يجب أن نشير أيضاً إلى استمرار هيمنة القطاع العام على القطاع الخاص في مختلف الأنشطة الفلاحية والصناعية والخدماتية، ليس لنجاعته في تدبير الشأن العام على المستوى الاقتصادي والسياسي، وإنما رغبة في السيطرة على مختلف الهياكل الاجتماعية للنظم الجماعية والقبلية المحلية. إلا أن ارتفاع معدلات البطالة وتزايد عدد خريجي المعاهد والجامعات دفع بالحكومات إلى الانفتاح على القطاع الخاص كشريك فعال في استيعاب الباحثين عن الشغل، وآلية استراتيجية لامتصاص الاحتقانات الاجتماعية والجهوية.

أما في ما يتعلق بالاستثمارات الأجنبية فإنها تعرف طريقها نحو التطور النسبي في العقد الأخير رغم المشاكل التي تعرفها في ظل الوضع السياسي المتردي ببعض الدول (ليبيا وتونس)، وذلك بعد وعي الدول المغاربية بضرورة الانخراط الفعال في مسلسل العولمة وتحرير السوق العام أمام الرساميل الدولية، من أجل الحد من أعداد العاطلين من العمل المتزايد والعمل على تحقيق التنافسية بين المقاولات والمؤسسات المحلية والجهوية وفق مطمع الرقي بالنشاط الاقتصادي الصناعي لتعويض النشاط النفطي. ورغم كل الجهود المبذولة في هذا السياق إلا أن مجموعة من العلل السياسية والسوسيو – اقتصادية لا تزال تنخر السياسات التنموية الجهوية بدول المغرب العربي (الرشوة والزبونية والمحسوبة).

عاشراً: الرشوة والزبونية

هناك علاقة وطيدة جداً بين الرشوة والزبونية وضعف النمو الاقتصادي. وقد أشارت مجموعة من التقارير الأممية والأوروبية إلى استفحال ظاهرة الرشوة والزبونية بشكل كبير خلال العقود الأخيرة في بلدان المغرب العربي، ما يعرقل المسار العام لنمو النشاط الاقتصادي وعقلنة الموارد الطبيعية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وينفر المستثمرين من النطاقات المغاربية ككل من جهة أخرى. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى استفادة النظم والأسر الحاكمة من امتيازات كبيرة تهلك بشدة الميزان التجاري لهذه البلدان، إضافة إلى النزوع الكبير لبعض الدول نحو التسلح وبناء الجيوش من غير عائد اقتصادي أو أمني، ما يعيق كل الجهود الرامية إلى مكافحة الرشوة والفساد وحماية المال العام.

كل هذا التركيز الكبير على البعد العسكري والأمني يلقي بظلاله على الوضع التنموي للبلدان المغاربية، إذ كيف يمكن ضمان الأمن والسلم المحلي، الجهوي، والدولي في ظل ضعف مؤشرات التنمية الاقتصادية؟

حادي عشر: السياسات الأمنية

نهدف في هذه النقطة إلى رصد الأمن العام للمنطقة في ظل التحولات الأخيرة بفعل الربيع العربي والحرب على الإرهاب وظهور تنظيم الدولة الإسلامية بالمغرب الأقصى.

ونؤكد انطلاقاً من ذلك أن مفهوم «الأمن» لدى الحكومات المغاربية لا علاقة له بتحقيق أمن واستقرار الشعوب والمجتمعات، وإنما كلمة ترتبط بالرغبة في الحفاظ على نفوذ ومشروعية السلطة الحاكمة عبر تلميع الصورة السياسية أمام الغرب للحصول على مساعدات وعائد اتفاقيات مكافحة الإرهاب والحد من تجارة المخدرات والهجرة السرية، واستغلال الصراعات الإقليمية في أغراض سياسية محلية وجهوية، وفي فترات قصيرة فقط حيث يتم الاهتمام بالأمن المجتمعي المرتبط برهان التنمية البشرية وتحقيق سبل العيش الكريم، وهو ما يعيق كل السبل الممكنة لتفعيل اتحاد المغرب العربي.

ويجب ألّا ننسى أنه منذ نهاية فترات المد الكولونيالي، عرفت البلدان المغاربية مزيداً من الاستقرار والأمن الملحوظ (إلى حدود «ثورات الربيع العربي»)، ومزيداً من الهدر للموارد الطبيعية والبشرية، وزيادة نسبة التفكك والصراع بين حكومات المغرب العربي. ولا شك في أن المشكل المطروح لحد الآن أمام الأمم المتحدة بين الجزائر والمغرب حول الصحراء الجنوبية دليل قوي على التدهور الكبير في العلاقات السياسية والسوسيو – اقتصادية بين البلدين الشقيقين.

ثاني عشر: مشكل الصحراء

نهتم هنا بمشكل الصراع المغربي – الجزائري حول الصحراء الجنوبية وقيام تنظيم «البوليساريو» بعد نهاية الحركة الاستعمارية بالمنطقة، نظراً إلى أهميته إزاء مستقبل العلاقات بين البلدين الجارين والبحث عن سبل تفعيل اتحاد المغرب العربي. ونشير هنا إلى القرار التاريخي الذي أعلنه المغرب بمنح خيار الحكم الذاتي للمناطق الصحراوية، الذي يتمشّى مع الهدف المجتمعي والجهوي للتكتل الإقليمي كخيار استراتيجي للانخراط في مسلسل العولمة والتنمية المستدامة والبحث عن سبل تفعيل الوحدة العربية.

ثالث عشر: في اتجاه غد مشرق

بعد هذا العرض المقتضب لقضايا التنمية والوحدة في بلدان المغرب العربي يمكننا أن نرسم الخطوط العريضة لغد مشرق، ونشير إلى أهمها كما يلي:

  •  ضرورة العمل على تفعيل اتحاد المغرب العربي كخيار استراتيجي للانخراط في مسلسل العولمة وتحقيق التنمية المستدامة الإقليمية.
  •  ضرورة الانفتاح والاستفادة من نتائج التجارب المجاورة (الاتحاد الأوروبي، آسيان، ألينا) والتي أبانت عن نجاعتها في مواجهة المنافسة العالمية ووضعت لنفسها مكاناً ضمن الخريطة الجهوية العالمية المعاصرة.
  •  ضرورة الوعي بأن تحقيق رهان التنمية المستدامة رهين بتفعيل التجربة المحلية والتجربة القطرية، وليس هناك تعارض بين التجربتين. فالوحدة العربية صمام أمان بالنسبة إلى التجارب المحلية (اتحاد المغرب العربي) والحاضن الرئيسي للهوية العربية، وصمام أمان في مواجهة المنافسة العالمية وضعف الموارد الطبيعية والبشرية المحلية في المستقبل. انطلاقاً من تنوع الثقافات المحلية ووحدة الثقافة العربية.
  •  الفعالية الدائمة في المؤسسات العالمية، والفاعلة في صنع القرار السياسي والاقتصادي والعسكري الدولي.

إن تفعيل هذا الانخراط والوجود الفعال على مستوى الساحة العالمية يتطلب ضرورة التعاون البناء مع باقي الدول والاتحادات العربية والإسلامية كخيار استراتيجي لولوج هذه المؤسسات الفاعلة في صنع القرار العالمي والتأثير في سياساتها المختلفة بما يخدم الهدف العام للتنمية العربية المستدامة والشمولية.