سأحاول في هذه الملاحظات عرضَ صورةٍ عامة عن المبادئ الأساسية في الثقافة الأمريكية (الثقافة القديمة والمعاصرة)، وعن موقع الأمريكيين العرب في هذه الثقافة. والفكرة الأساس في هذا المقال هي أن الأمريكيين والعرب، معًا، لم يبذلوا جهدًا في فهم ثقافة الآخر لأن التركيز على السياسة الخارجية ومشكلاتها قد طغت على صورة الثقافتين معًا.

 

أولًا: مقاربة وجه أمريكا الثقافي

يرى البعض أن الثقافة الأمريكية لُغزٌ بحاجة إلى من يسبر غورها. وعلى نحوٍّ بَيّن، فإن هيمنة السياسة الخارجية الأمريكية على أي مناقشة حول المجتمع الأمريكي قد خلقت جدارًا من العقبات تمنع مُحبي الاستطلاع عن فهم القيم الأمريكية والعقل الأمريكي. إن عدم قدرة البعض على فهم أمريكا، بوصفها ظاهرةً اجتماعية، قد شجع على ظهور الأفكار الخاطئة والمنحازة فكريًا.

وبصورة مشابهة، فإن البعض في الدول النامية يعتقدُ أن الأمريكيين لا يرغبون في فهم المجتمعات والثقافات الأخرى لأنهم يتبنون انطباعات ثقافيةً مُضادةً للدول النامية. وفعلًا، يحتفظ الأمريكيون بصورة سلبية عن شعوبٍ عديدةٍ تُشبه الصورةَ التي تحتفظ بها الدول الأخرى عن الأمريكيين. وفي الحقيقة، يعتقدُ الأمريكيون أن الدول النامية مسؤولة، أيضًا، عن عدم قدرتها على فهم الثقافة الأمريكية.

تبعًا لذلك، فإن عددًا من العرب والأمريكيين يلتقون في قالبٍ واحدٍ من الصورة المنحازة عن كلٍّ منهما. إن عدم قدرتهما على إدراك معنى مصطلح “الفهم” الفيبري (نسبةً إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر) للثقافات المتعددة لربما خلقته أحداثُ السياسة الخارجية التي شجعت ظهور الروح القومية لكلٍ منهما. وكما ناقش ماكس فيبر في دراساته، فإن التأمل في مصطلح “الفهم” يفترض الحرية من العقائد، والحرية من محاباة الانحياز الفكري، وكذلك الحرية من الصورة النمطية التي شجعتها روح القومية، أيًا كانت هذه القومية.

وبوصفي أستاذًا جامعيًا وناشطًا في المجتمع الأمريكي-العربي، فقد كنتُ، غالبًا، أشعر بالأسف بسبب تغطية القضايا العربية في الإعلام الأمريكي. وكنتُ أشارك هذا الاعتقاد مع أصدقائي في أن بعض الصور السلبية عن العرب قد خلقت بعض الأفكار الخاطئة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن هذه الانطباعات الخاطئة عن العرب قد سببتها أحداثٌ في السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب الباردة.

هل من الممكن، تبعًا لذلك، القولُ إن العربَ والأمريكيين، معًا، يعانون المشكلة ذاتها المشكلة التي حللّها توماس هوبس (ت :1679) في كتابه التنين؟ لا مراء، فإن مناظرة هوبس ماتزال قوّية: “إن عواطف الإنسان هي التي تسيطر على سلوكه”.

سوف أحاول هنا أن أُلقي ضوءًا على المكونات الأساسية للعقل الأمريكي والثقافة الأمريكية، بالإضافة إلى المتغيرات الثقافية الجديدة التي تواجه أمريكا. سأحاول أن أتفحص، أيضًا، حال الأمريكيين العرب وما إذا كانوا يواجهون تحدياتٍ ثقافيةً في الوطن الجديد.

ثانيًا: الأفكار الأساسية في مقاربة الثقافة الأمريكية

إن مصطلح “المقاربة” يعني – كما أعتقد – تفسير ظاهرة اجتماعية معينة. هذا الأمرُ يعني أن علينا ألّا نتوقع من القارئ أو المستمع أن يقبلَ أي تفسيرٍ ثقافيٍ دون فهم كامل. وتفترض “المقاربة”، أيضًا، فهمًا محايدًا لشخصية الشعوب وظواهرها الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. وفيما يلي بعضُ ما أراه نقاطًا أساسية: إن الحركة الإصلاحية الثورية للمذهب البروتستانتي، استنادًا إلى ماكس فيبير (ت: 1920) في كتابه الِقَيمٌ البروتستانتية وروح الرأسمالية، قد مهّدت الطريق إلى ظهور مبدأ “قيمة العمل” وروح المستثمر الرأسمالي اللذين حفّزا على ظهور الروح الفردية والبيروقراطية اللامركزية. من دون شك، إن أثر الجانب الثقافي-الحضاري للحركة البروتستانتية على الثقافة الأمريكية كبير.

إن البروتستانتي الأمريكي الذي حرّر نفسه من مركزية الكنيسة الكاثوليكية قد اكتشف أهمية قيمة العمل. وإن مثل هذا الاكتشاف قد جعله القوّة المُحرّكة لبلوغ الثروة المالية. وعندما استطاع الحصول على الثروة، آمن البروتستانتي أن ثروته الجديدة هي هِبةٌ إلهية. وعندما استطاع الحصول على اعتراف العناية الإلهية به من طريق قيمة العمل، نجح في أن يُعرّف معنى “الشعب المختار” ويُطبقه على نفسه.

إن التشديد على الثروة في اللاهوت البروتستانتي-الكالفيني، نسبة إلى المصلح البروتستانتي جون كالفين (ت: 1574)، قد انتقل إلى البيئة الأمريكية. وهذا الانتقال قد جعل الثروة أساسَ العقيدة الثقافية الأمريكية. فمن أجل أن يُصبح الناسُ أطفالَ الله المختارين، فإن الثروة التي تمنحها الإرادة الإلهية هي مكافأة يمنحها الرب لشعبه المختار “المصان من الخطيئة”. وهذا بالضبط هو معنى قيمة العمل البروتستانتي.

على كلٍّ، كان هذا الأمرُ في الماضي. أما في الحياة الأمريكية المعاصرة فقد تم تشويه مبدأ العمل البروتستانتي ليقدم هذا التشويه معنىَ آخر يؤكد المصلحة المادية الشخصية للفرد. فعوضًا من قيمة العمل النبيل الذي يُرضي الرب، أنجبت الثورة الصناعية منذ منتصف القرن التاسع عشر وسائل لاأخلاقية في الحصول على الثروة. وهذا الأمر دعا المفكر الأمريكي مارك توين (ت: 1910) إلى الاغتراب عن أمريكا لفترة من الزمن احتجاجًا على الثورة الصناعية الكبرى التي أفسدت صديقه الحميم، رجل الدين توماس بيجير الذي، وبسبب الرخاء الذي أنجبته الثورة الصناعية، قد نسي قيمه الدينية متعمدًا ثم استغل سكرتيرته جنسيًا. وهكذا، فإن اختفاء مبدأ قيمة العمل البروتستانتي قد أدى إلى ظهور روحٍ فرديةٍ مُسرفة في روحها الأنانية الضيّقة، والمولعة بالمواجهة العنيفة، أو التي تعتمد على حب المشاكسة مع الآخرين.

إن إعادة تعريف قيمة العمل البروتستانتي، والتطور التكنولوجي، ونمو السكان، وافتقاد التوزيع العادل للثروة منذ منتصف القرن التاسع عشر، قد خلقت، مجتمعةً، مجتمعًا أمريكيا معقدًا. ثم إن المجتمع الأمريكي المتمدن الدينامي قد أدى إلى تدخل الحكومة الفدرالية في الشؤون الاجتماعية والسياسية من أجل الدفاع عن الحقوق الأساسية للفرد ضد من يتجاوز عليها.

يُضافُ إلى ما تقدم، أن المجتمع التكنولوجي الجديد قد خلق نظامَ إعلامٍ مركزيًا، وبخاصة في نظام شبكات التلفزة. وبسبب هذه المركزية الجديدة في الإعلام، استطاع عددٌ محدودٌ من الشخصيات الإعلامية في منطقة واشنطن-فيرجينيا التأثيرَ في صُنع السياسة الرسمية العامة من خلال التأثير في الرأي العام وصانعي الرأي العام، أيضًا.

وهكذا، فإن التطور التكنولوجي، وتدخل الحكومة الفدرالية، ومركزية الإعلام، قد غيّرت جميعها المفهوم الأمريكي في استقلال وحرية المواطن. ولربما يكون أفضل دليل على هذا التغيير الثقافي هو المناظرات التلفزيونية بين المرشحين السياسيين. فقبل المناظرة التلفزيونية بين ريتشارد نيكسون وجون كينيدي في 1960، كان المرشحون السياسيون، يومئذٍ، يُفضلون مناظرة القضايا السياسية أمام مواطنين بشر. فبينما تُشجع المناظرةُ الطبيعية أمام الجمهور الحي على التفكير النقدي بين الحضور والسياسيين معًا، تُشجع المناظرة التلفزيونية العامة على مستوى البلاد (والعالم الآن) المشاهدين على التشديد على مبدأ الصورة الشخصية للمرشحين من خلال التأكيد على الوجه، والأيادي، أو تسريحة الشعر… إلخ.

يستمتع الأمريكيون اليوم بنوعين من الثقافة: الأول هو ثقافة الإعلام السلبية، والثاني هو الثقافة الإيجابية المناهضة لثقافة الإعلام السلبية. فبينما صقلت الثقافة الأولى الإثارة، تحاول الثقافة الثانية الاعتراض على تأثير العِلم، والتكنولوجيا، والروح المادية، وكذلك الفلسفة السياسية الحديثة منذ فترة مُنظّر عصر النهضة الإيطالية نيقولو ماكيافيللي (ت: 1527) على الثقافة الأمريكية. إن أسماء مثل الروائي أرنست همنغواي، والصحافي جون ريد، والشاعر ت. أٍس. أليات، والروائي هنري جيمس، والروائي ريتشارد رايت، والفيلسوف هربرت ماركوزه، والروائي كرت فونيكوت، والشاعر آلان غينسبيرغ، كانوا جميعًا رواد الثقافة الإيجابية التي نقدت الثقافة الأمريكية الجديدة التي شوّهت مبدأ قيمة العمل، وأكدت الروح الفردية المادية.

ثالثًا: ثم جاءت العولمة

مسألةٌ أخرى: تمضي العولمة مسرعةً في العالم، وبخاصة في الولايات المتحدة، منذ ظهور تكنولوجيا الفضاء في السبعينيات من القرن الماضي متمثلةً باختراع الكومبيوتر وجهاز الفاكس وغيره وتكنولوجيا الإنترنت وتلفون التكنولوجيا الفضائي المحمول. وأنا أؤمن أن العولمة كانت نتيجةً طبيعيةً للتطور التكنولوجي الغربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وخلافًا لمن يؤمن بنظرية المؤامرة، فقد شجعت العولمة على هجرة الشركات التجارية والمال، أيضًا، من قلب المدن إلى ضواحيها. وكانت نتيجةُ هذه الهجرة صراعًا طبقيًا بين سكان قلب المدن وسكان ضواحيها المرفهين. ومثل هذا الصراع قد خلق صراعًا ثقافيًا من نوع آخر بين ثقافة وقيم قلب المدينة، التي يسكنها أناسٌ ذوو دخل محدود جدًا، وثقافة ضواحي المدن التي يسكنها أناسٌ مرفهون. ويمكن مشاهدة الوجه الآخر للعولمة في هجرة الشركات الغربية إلى مناطق رخيصة في الدول النامية. وأخيرًا، فقد خلقت العولمة ثقافةً عالميةً ذات طابع غربي لا تعرف الحدود.

وبسبب العولمة الجديدة، استطاعت الدول الغربية المتطورة، ومنها الولايات المتحدة، أن تستعمل هذه الحركة العالمية من أجل تحقيق أهدافها الاقتصادية والثقافية. والولايات المتحدة ليست استثناءً.

رابعًا: الثقافة القومية والسياسة الخارجية ومسألة التطرف العنصري

هل توجد علاقةٌ بين السياسة الخارجية والثقافة القومية؟ نعم، توجد مثلُ هذه العلاقة. وبصورة عامة، فإن صانعي قرار السياسة الخارجية الأمريكية يعكسون روح الثقافة الأمريكية ذات الطابع الفردي. ثم إنَّ الأمريكيين تستهويهم الشعوب القوية ذات المبادئ التي تؤكد قيمة العمل، كما يُعرفون المصطلح. وبصورة عامة، فإن انطباع أمريكا عن الشعوب الأخرى يعكس قيمها الجمعية التي يمارسها الأمريكيون في البلاد رغم أن مصطلح الصورة، أو الانطباع، ليس دائمًا منهجًا جيدًا في تقويم شعوبٍ أخرى.

ولن يستطيع المرء تقويم مصطلح الصورة، أو الانطباع، دون ذكر حالة السود في أمريكا. وفي التعامل مع هذه المسألة، لابد لنا أن نتذكر الكاتب الأمريكي-الأفريقي المعروف ريتشارد رايت، مؤلف روايتَيْ الصبي الأسود، والابن البار.

كانت مشكلةُ رايت نتيجةَ قيم مجتمعٍ مُغلق المجتمع الذي خلقه الجنوب الأمريكي. فلم يُعطِ الجنوب الأمريكي السيد رايت فرصةَ أن يكون جزءًا من المجتمع الأمريكي. وحتى عندما أصبح كاتبًا معروفًا في شيكاغو، كان يعاني عدم قدرته على العثور على كلماتٍ مناسبة كان يتمنى أن يستعملها في الحديث مع الكتّاب البيض. وهكذا، فقد كان الحلُّ الأمثل لمشكلته هذه هو الهروب. وفي الحقيقة، فقد غادر بلاده إلى فرنسا حيث تُوفي هناك.

أما الآن، فإن العلاقات بين العنصرين الأبيض والأسود قد تغيّرت جذريًا. فقد فرض الأفريقيون الأمريكيون أنفسهم على أمريكا، بلدهم، وعلى المجتمع الأمريكي، والنظام السياسي، لكي يُقبلوا بوصفهم جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الأمريكي. وشأنهم في ذلك شأن الأمريكيين البيض، فقد كان الأمريكيون ذوو الأصول الأفريقية يتمنون تطبيق قيمة العمل البروتستانتي على أنفسهم، أيضًا.

والذي جعل نهاية العلاقة الأيجابية بين الجنسين الأبيض والأسود ممكنة، كما هي الحال الآن، كان انفتاح النظام الدستوري الأمريكي. فقد شجع هذا النظام الجماعات العِرقية المختلفة في المجتمع الأمريكي على الضغط على السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، من أجل الحصول على المساواة السياسية. ورغم أن مثل هذه العملية مضجرة ومؤلمة في أحيان كثيرة، فقد استطاع الأمريكيون ذوو الأصول الأفريقية، وجماعات عرقية أخرى، أن يجسدوا الهيكل الدستوري من أجل الاعتراف بحقهم في المساواة.

1- حالُ الأمريكيين العرب

لم يكن العرب الأمريكيون قادمين جددًا على أمريكا. فقد شهد القرن السادس عشر وجود بعض المهاجرين العرب إلى أمريكا البريطانية المستعمَرة. وهكذا، فقد كان وصولهم إلى الأرض الجديدة بداية اللقاء مع أمريكا.

وقبل أن يصل العدد القليل من العرب إلى أمريكا المستعمَرة، جلب كريستوفر كولومبس معه مترجمين وجغرافيين عربًا إلى القارة المكتشفة الجديدة لأنه كان يعتقد إذا كان ثمّة سكانٌ في القارة الجديدة فلا بد أنهم يتحدثون العربية.

وفي الهجرة الأساسية الأولى للعرب المهاجرين إلى أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر، وصل إلى أمريكا عددٌ كبيرٌ من المهاجرين العرب في عهد الدولة العثمانية.

أما النصف الثاني من القرن العشرين فقد شهد تحولًا أساسيًا في الهجرة العربية إلى أمريكا. فقد جلبت الموجةُ الثانية من هذه الهجرة في الستينيات مهاجرين إلى أمريكا من البلدان العربية. والذي ساعد الهجرة العربية هذه هو قانون الهجرة لعام 1965 في فترة الحرب الباردة، الذي كان تشريعًا أساسيًا في سياسة الهجرة إلى أمريكا من شعوبٍ غير غربية، ويضمنها الشعوب الناطقة بالعربية في الشرق الأوسط.

2- أسئلة عن حال العرب الأمريكيين

إن أي مناقشة عن حال العرب الأمريكيين ضمن الاتجاه السائد في الثقافة الأمريكية ينبغي أن يجيب عن الأسئلة التالية: هل يشكو العرب الأمريكيون من أزمة كيان؟ هل يشكون من أزمة اتحاد؟ هل يعانون أزمة رؤيا؟ وهل يشكون من أثر الفجوة الثقافية مع وطنهم الجديد؟ وأخيراُ، هل ينبغي على العالم العربي أن يتعلم من الأمريكيين معنى وأهمية الموضوعية في التفكير؟ وفيما يلي مناقشتي لهذه الأسئلة.

أ- أزمة كيان؟

قد يبدو الرأي القائل إنّ العرب الأمريكيين يشكون من أزمة كيان مقبول من الناحية الظاهرية. لكنْ لنتذكر بعض الحقائق أولًا. فمنذ التجربة الأمريكية الأولى في القرن السادس عشر، عانى جميع المهاجرين (وبضمنهم من كانوا من أصول إنكليزية) أزمة كيان.

ومن أجل معالجة هذه الحالة الثقافية والنفسية، حاول هؤلاء المهاجرون الأوائل خلق أمريكا بما يتناسب ومنظارهم الشخصي. مثلًا، حاول المهاجرون الأوائل خلق إنكلترا صغيرة على الأرض الجديدة. ثم إن البعض حاول الحفاظ على القيم الثقافية والدينية الإنكليزية القديمة في أمريكا، بينما أصرّت بعض الجماعات المسيحية المتطرفة على غلق مجتمعاتها الجديدة في أمريكا أمام الغرباء وإن كانوا من الطوائف المسيحية الأخرى.

إنه أمرٌ جديرٌ بالذكر هنا أن البيئة الأمريكية قد قدمت البرهان على أنها أقوى من الرؤية العامة للحياة التي كان يعانقها المهاجرون. فقد فشلت جميعُ خطط المهاجرين الثقافية والدينية في الحفاظ على عوائلهم من خطر البيئة الأمريكية الجديدة.

أولًا، قدمت البيئةُ الأمريكيةُ ذات الطابع اللامركزي الحريةَ إلى أبناء المهاجرين من أجل اكتشاف كيانهم الحر كما لم يقدم العالمُ القديم بجغرافيته ذات الكثافة السكانية الكبيرة. بالفعل، فقد قدمت الجغرافية الأمريكية للمهاجرين الصغار السن مبدأ الحركية الاجتماعية الذي لم يعرفه العالم القديم الذي انتمى إليه آباؤهم.

ثانيًا، إن رخاء البيئة الأمريكية قد شجع أجيال المهاجرين إلى اعتناق مبدأ الروح الفردية، أساسَ الاكتفاء الذاتي. يقابل ذلك أن الموارد الاقتصادية للعالم القديم قد ألزمت الناس هناك على التركيز على الروح الجماعية. إن مثل هذا الفرق الواسع بين البيئتين قد شجع أبناء المهاجرين على تحدي الرؤية العامة للحياة التي كان آباؤهم يعتنقونها.

ثالثًا، إن طبيعة اللامركزية الجغرافية الأمريكية قد تحدّت التديّن العميق الذي ميّز العالم القديم.

إن هذه العوامل مجتمعةً تشير إلى أن المهاجرين كانوا ميّالين إلى التأمرك، أي أن يكونوا متأمركين. ومما يشجع هذا التوجه هو أن البيئة الأمريكية قد برهنت أنها أقوى من القيم الأجنبية، كما أشار إلى ذلك المفكر بيري ميللير في مؤلفاته عن حركة الأتقياء (البيروطاريين) المسيحيين الذين سكنوا جزءاَ من أمريكا الشمالية. في منتصف القرن السابع عشر.

من هذا المنطلق يمكن القول إن أزمة الكيان التي يُعانيها الجيل الأول من المهاجرين قد تكون مؤقتة، ليس لأنّ الأجيال الجديدة من المهاجرين تعكس العوامل القوية للبيئة الأمريكية، وإنما لأن الجيل الأول من المهاجرين قد تخلى تدريجيًا عن قيم العالم القديم لكي يتكيّف مع قيم الجيل الجديد من المهاجرين (وهم جيل الأبناء)، وكذلك من أجل أن يتكيّف الجيل الأول مع الواقع الجديد في المجتمع الجديد.

إن تجربة الأمريكيين العرب لا تختلف عن تجارب المهاجرين الآخرين. والذين يختلفون في الرأي ويؤكدون وجود أزمة كيان عربي-أمريكي يعتقدون أن الأمريكيين العرب جميعًا ليسوا مواطنين بالولادة. فإذا كان الأمر كذلك فإنه أمرٌ مبالغٌ في ما يخص طبيعة التجربة الأمريكية-العربية. هناك احتمال وجود سبب لهذه النظرة المشوشة. وهذا السبب هو النظرة المنحازة غير الموضوعية عن تجربة الأمريكيين-العرب التي تحمل شيئًا من الحسد من الشعوب الأم ضد أحفادها في أمريكا. وفي الحقيقة، فقد درجت الدراسات الإثنيّة على تأكيد هذه النقطة في بحوثٍ تتعلق بالعلاقة بين الجماعات الإثنيّة في أمريكا وشعوبها الأصلية.

استنادًا إلى دائرة معارف كيل لأمريكا المتعددة الثقافات، فقد أوضح إحصاء 1990 إلى أن 82 بالمئة من الأمريكيين العرب هم مواطنون وفق القانون. وأن 63 بالمئة منهم قد وُلدوا في الولايات المتحدة. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن هذا المصدر يُرجع الهجرة الأمريكية إلى الولايات المتحدة إلى 1880.

واستنادا إلى دراساتٍ أخرى، فإن الوضع الثقافي ونسبة الدخل الفردي للأمريكيين العرب هما من أعلى النسب في الولايات المتحدة. وهكذا، فإن الأغلبية العظمى من الأمريكيين العرب مندمجة كليًا في المجتمع الأمريكي. وإن أزمة كيان هو مصطلحٌ افترضه ذوو الأوطان الأم، وفرضوه على أحفادهم. إن مثل هذا المصطلح لا يعكس الحقيقة عن الأمريكيين-العرب.

ب- أزمة اتحاد؟

لربما يقول البعض إن الأمريكيين العرب يواجهون أزمة اتحاد. إن مثل هذا الرأي هو مثالٌ يوضح مدى جهل البعض في السياسة الأمريكية الداخلية. إذ إن مفهوم الحرية الفردية الأمريكي، والطبيعة التنافسية في البيئة الأمريكية، قد أدّيا دورًا أساسيًا في خلق الوعي الكياني والاتحاد للجماعات العِرقية. ولأنَّ الفرد ذو مكانة خاصة في المجتمع الأمريكي، فإن الجماعاتِ حرة في تشكيل منظماتٍ عِرقية تضغط على النظام من أجل بلوغ أهدافها الثقافية والسياسية.

لقد كان الأمريكيون الأيرلنديون أولَ من أكتشف أهمية الاتحاد والمنظمات العِرقية. وهكذا، فقد كان مثلُ هذا الإنجاز قوةَ منظماتهم السياسية والدينية في العالم الجديد. وقد تعلمت الجماعات العرقية الأخرى من الأمريكيين الأيرلنديين أهمية النشاط السياسي ومعنى الاتحاد والتنظيم العِرقي، والأمريكيون العرب ليسوا استثناءً. فمنظمات العرب الأمريكيين المتعددة في مختلف الميادين السياسية، والفكرية، والثقافية، والأكاديمية، والتاريخية، والفنية، والمهنية، تتحدث جيدًا عن واقعهم.

ج- أزمة رؤيا؟

ربما يقول البعض إن الأمريكيين العرب يُعانون أزمة رؤيا. تعني كلمة “رؤيا” قدرة المرء على تعريف مستقبله. وتعني، أيضًا، فلسفة الحياة، وبضمنها نظام القيم الثقافية العامة. ويمكن القول إن الشخص الذي يعيش في مجتمعٍ دينامي وتنافسي دون أن يحمل رؤيا شخصية فإنه طيّعٌ، سهلُ الانقياد. ومن لا يتصفُ برؤيا شخصية هو إنسان مؤهلٌ على تشجيع الآخرين على قولبته بصورة سلبية وزائفة.

إن كيان واتحاد الأمريكيين العرب يظهران بوضوح الرؤيا التي عرضوها في المجتمع الجديد. ويجد المرءُ الرؤيا التي قدموها من أجل أن يكونوا جزءًا أساسيًا من المجتمع الأمريكي في الإنجازات التي قدموها في ميادين متعددة. ويمكن للمرء الاطلاع على جميع المنظمات الأمريكية على الشبكة العنكبوتية بمجرد طبع “المنظمات العربية الأمريكية في الولايات المتحدة” بالإنكليزية.

3- هل يختلف الأمريكيون العرب عن ثقافة البلد الجديد؟

لربما يسأل المرء مثلَ هذا السؤال. والجواب الأول هو ما يلي: أنه لأمرٌ يصعب تصديقه عندما تُقَدمُ مثل هذه الخلاصة عن كيانٍ اجتماعي يتضمن أكثر من 70 بالمئة من أفرادها مواطنين وُلدوا على الأرض الجديدة.

إن قرار الأمريكيين العرب في جعل أمريكا وطنهم هو قرارٌ ذو إيمانِ بأن يكونوا جزءًا من البيئة الأمريكية وثقافتها الرئيسة. إن مثل هذا القرار يعني الموافقة على مبدأ النجاح الذي يُشيرُ إلى الحركية الاجتماعية والاقتصادية والأمن الشخصي. إن مثل هذا القرار يشيرُ، أيضًا، إلى الرغبة في الاستمتاع بالحرية السياسية التي تعني الحرية من العوائق الخارجية، كما يُعرف الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبس المصطلح.

خامسًا: هل ينبغي على الوطن العربي أن يتعلم معنى الموضوعية والقيم الواقعية من الأمريكيين؟

إنه لأمرٌ غيرُ صائب أن يُسأل العالمُ العربي، أو أيُ شعبٍ نامٍ، أن يتعلم معنى الموضوعية والقيم من الأمريكيين. لا ينبغي علينا تشجيع فكرة استنساخ نهج حياة أو طريقة تفكير شعوبٍ أخرى. فالقيم السياسية والاقتصادية والأخلاقية تختلف بين الشعوب لأن البيئات الجغرافية ليست متشابهة، ولأن البيئة، أيَ بيئة، هي عاملٌ أساسٌ في خلق وتجسيد القيم الثقافية.

ثم إن التجربة التاريخية هي عاملٌ حاسمٌ في تجسيد قيم الشعوب. فبينما تتمتع بعض الشعوب بتاريخ إيجابي حافل، يتذكر بعض الشعوب أحداثًا مأسوية في تاريخها.

وفي ما يخص أمريكا، فإن تجربتها تعكس أثر عصر النهضة الايطالية، وعصر التنوير الأوروبي، وحركة الإصلاح الديني البروتستانتي، والثورة الصناعية. لهذا، فإن معنى الروح الفردية والحكم الذاتي كانا بيّنين منذ بداية التجربة الأمريكية. ثم إن هذه الحركة قد تعززت بسبب الثورة التجارية في أوروبا، وكذلك بسبب ظهور عددٍ متميز من المفكرين العلمانيين الذين نظّروا الحرية الفردية وحق الملكية الفردية.

هذا لا يعني، على أي حال، أن ارتباط أمريكا بالحرية الفردية كان مُمارسًا دائمًا بصورة مثالية إيجابية. فمن الواضح أن ثمة فرقًا واضحًا بين الهيكل الدستوري والواقع الاجتماعي. لهذا السبب، فإن الأمريكيين، بوصفهم كياناتٍ بشريةً، لا تستطيع أن تكون موضوعيةً دائمًا. وكما نتذكر في كتابات الفيلسوف توماس هوبس فإن العاطفة والرغبة الإنسانية تسيطران على الجنس البشري.

ورغم أن الأمريكيين قد تفوقوا في العلوم، فإن هذا التطور المذهل لم يُنجز دون ثمنٍ إنساني وأخلاقي. فإلى حقبة “المنهاج الجديد” في عهد رئاسة فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات من القرن العشرين، فقد تميّز نظام العمل الأمريكي باستغلال العمال. وإلى الحقبة التي تمّ فيها تشريع لائحة الحقوق المدنية لعام 1968: كما عُدل في عامي 1970 و1972، عانى الرجل غير الأبيض تحدياتٍ إنسانية. ومع هذا، فإن مرونة النظام الدستوري الأمريكي وتأثير الرأي العام الأمريكي والعالمي كانا عاملين أساسيين في تطبيق المساواة القانونية على جميع الجماعات العِرقية في المجتمع الأمريكي.

أما الوطن العربي، فقد شهد تحدياتٍ مختلفة. ففي عام 1258، انهارت الدولة العباسية بسبب الغزو المغولي في الشرق الأوسط (وكان المغول قد غزوا شعوبًا أخرى في آسيا وأوروبا الشرقية). إن غزو المغول هذا كان علامةً بارزةً في بداية العصور المظلمة في الوطن العربي. وبهذا الشأن، يقول المؤرخ الأمريكي بيتر ستيرنز “ففي 1450، كان العرب يمرون بمرحلة الكسوف بعد أن قدموا أولَ حضارةِ عالمية قبل هذا التأريخ”. أما أوروبا الغربية (وهي أم أمريكا الشمالية) فقد كانت في هذه الفترة المغولية منعزلةً ومنيعةً من هذا الغزو المدمر. وبما أن أوروبا الغربية قد فلحتْ في الإفلات من الغزو المغولي، فقد استطاعت أن تنهض علميًا وفكريًا بصورة مذهلة.

ثم إن هناك عواملَ أخرى قد ساهمت في تجسيد الأحداث القادمة في الوطن العربي، منها الحكم العثماني، والإمبريالية الغربية، وقيام المملكة المتحدة بتأسيس دولة إسرائيل. وفي ما يخص خطة الحلفاء الغربيين بعد الحرب العالمية الأولى بتقسيم الدولة العثمانية، يقول المفكر السياسي الأمريكي صاموئيل هنتنغتِن إن قرار الأوروبيين في تفكيك الدولة العثمانية، بدلًا من الحفاظ عليها، وإصلاحها، كان العامل الأساس الذي أدى إلى حالة اللااستقرار في الشرق الأوسط.

وبسبب هذه العوامل مجتمعةً، افتقد الفكرُ العربيُ الحديث الروحَ الفردية، والقيمة الغربية التي تشدد على مبدأ الحرية الفكرية وحق الملكية الفردية.

إضافة إلى ما تقدم، لم يستطع العرب، ومنذ الغزو المغولي، تقديم نخبة مفكرة ذات نفوذ كبير تشبه طبقة المفكرين الغربيين في العصر الحديث منذ عصر النهضة الايطالية. إن غياب هذه الطبقة قد أدى إلى عدم ظهور مؤسسات سياسية قابلة للحياة تشبه المؤسسات السياسية التي أنجبتها أوروبا الغربية والولايات المتحدة. ومؤلفات الأكاديمي جيمس بيل تؤكد هذه المشكلة الأساسية.

إن الذين يدعون الوطن العربي إلى التعلم من أي شعبٍ آخر يعبرون عن ضيق أفق. أنا متيقن أن الأسلوب التدريجي في الإصلاح كفيلٌ في تهيئة الوطن العربي والدول النامية إلى تعريف مصطلح الحرية السياسية، والحرية الفكرية.

خلاصة

حاولتُ هنا أن اُحدد التاريخ المعقد لطبيعة الثقافة والمجتمع والسياسة الأمريكية. إن أسس مناقشتي لهذا الموضوع هي الآتي: إن قيمة العمل البروتستانتي هي عاملٌ أساسٌ في فهم الثقافة الأمريكية، والفكر الأمريكي، والسياسة الأمريكية. وأضيف على هذا العامل أثرَ الثورة الصناعية على الشخصية الأمريكية منذ منتصف القرن التاسع عشر.

وخلافًا للثقافة الأمريكية القديمة، فقد نقلت الثورة الصناعية قيمة العمل البروتستانتي النبيل إلى شخصيةٍ صارمةٍ تتصف بالقسوة المولعة بالمواجهة والخصام. وهذا ما يميز الثقافة الأمريكية الجديدة.

ومنذ 1880، استوعبَ الأمريكيون العرب العواملَ الأساسية في الثقافة الأمريكية الجديدة في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية. إن محاولة الأمريكيين العرب أن يكونوا جزءًا من الجمهورية الأمريكية الكبيرة تتضح في إصرارهم على تحدي أزمة الكيان من خلال تنظيم صفوفهم في منظماتٍ مختلفة، وفي رؤيتهم المستقبلية، وفي اتحادهم.

وأخيرًا، فإن اندماج الأمريكيين العرب في المجتمع الأمريكي لا يعني أن على الشعوب العربية تقليد النظام الأمريكي وطريقة الحياة الأمريكية، أو حتى محاولة غرسها في الشرق الأوسط الناطق بالعربية، لأن العوامل التاريخية في الشرق الأوسط العربي تفضل التغيير الاجتماعي والسياسي التدريجي.

 

قد يهمكم أيضاً تطورات الموقف الأمريكي من الأزمة في اليمن

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #هجرة_العرب_إلى_أمريكا #المجتمع_الأمريكي #العرب_الأمريكيين #الثقافة_الأمريكية #القومية_العربية #العولمة #العالم_العربي_والقيم_الأميركية #القيم_الأميركية