إميل دوركايم: ملمح من حياته وفكره الأنثروبولوجي

مقدمة

لم يترك أي مفكر اجتماعي وعالم اجتماع أثراً كبيراً في فكر ومسار الأنثروبولوجيا، مثلما ترك إميل دوركايم؛ فمساحة التقاطعات الكبرى بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، من جهة، وعلم الاجتماع، من جهة أخرى، إنما يعود الفضل فيها إلى إسهامات دوركايم، التي كانت ولا تزال تشكل المعين اليومي للباحثين في هذه الحقول الخصبة من العلوم الاجتماعية. وعلى الرغم من كثرة الأبحاث والدراسات التي تنشر حول هذا المفكر الاجتماعي العظيم، إلا أن نصيب إسهاماته الأنثروبولوجية منها بشكل محدد، لا يزال قليلاً نسبياً، إن لم يكن نادراً، وخصوصاً ما ينشر منها بالعربية. كما يعاني الكثير من الدراسات، التي سعت لتسليط الضوء على أفكار ونظريات هذا المفكر الاجتماعي إما غياباً كلياً أو محدوداً للسياقات التاريخية والاجتماعية المصاحبة لها، أي كما لو كانت تلك الأفكار والنظريات منزوعة من الظروف التاريخية لإنتاجها. لذا تطمح هذه الدراسة إلى تقديم إيجاز مهم في كلا الجانبين، حيث يرى كاتبها أنه على الرغم من الأهمية الخاصة لإسهامات دوركايم الأنثروبولوجية، فستظل الإحاطة بها قاصرةً ما لم توضع في السياق السيري لإميل دوركايم؛ أي في السياقات التاريخية والاجتماعية لحياة هذا المفكر، وأثرها سلباً أو إيجاباً في مسار عطائه الفكري وإنتاجه لتلك الأفكار والنظريات السوسيولوجية عامة، والأنثروبولوجية خاصة.

أولاً: أهميته الأنثروبولوجية

في مقالة لــكلود ليفي ستروس بعنوان «بماذا تدين الإثنولوجيا لدوركايم؟» (Levi-Strauss, 1973)‏[1]، بمناسبة الاحتفال بمئوية إميل دوركايم (Emile Durkheim) (1858 ـ 1917) أظهر الأخير الأثر الذي تركه اهتمام دوركايم بموضوعات كانت تُعد في غاية الأهمية من الناحية الأنثروبولوجية في مسيرة تطور الإثنولوجيا. كان ليفي ستروس يرى أن مواقفه قد اتسمت في مرحلة من حياته الفكرية بالسلبية تجاه التاريخ والإثنولوجيا، ولعل ذلك يعود إلى إصراره على علمية العلوم الاجتماعية وابتعادها عن التفسيرات السيكولوجية. ففي عمل مثل قواعد ومناهج علم الاجتماع (Durkheim, 1895 [1958])، يرى ليفي ستروس أن دوركايم أبدى تأكيده أهمية أن تكون المادة الأساسية لعالم الاجتماع مستمدة من الوثائق الأصلية المكتوبة عن معتقدات وتقاليد وعادات المجتمع (Levi-Strauss, 1973)، وأن هذا الاستنتاج لن يكون مصدره المعلومات التي تمدها الإثنوغرافيا غير النقدية، ولكن سيعمل على تدعيمها من خلال المعلومات التاريخية (Levi-Strauss, 1973: 45).

إن هذا الموقف السلبي تجاه الإثنوغرافيا سيكون مماثلاً برأي ليفي ستروس للموقف الذي اتخذه مارسيل موس وهنري هوبير من صدقية وجدوى الإثنوغرافيا، وذلك في مقالتهما «الأضحية: طبيعتها ووظيفتها» التي نشراها في حولية علم الاجتماع عام 1899 (Hubert and Mauss, 1899)؛ على أن هذا الموقف لدوركايم ومُريديه، كما يرى ليفي ستروس، قد تغير جذرياً من الإثنوغرافيا، وبخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر. ولعل ذلك يتضح من خلال المقدمة التي خصصها دوركايم لـ الأنماط الأولية للحياة الدينية Durkheim, 1915 [1954]))، إذ أعاد الاعتبار للإثنوغرافيا من خلال تأكيده ملاحظة الظاهرة الاجتماعية من الناحية التاريخية والإثنوغرافية بشكل متزامن (Levi-Strauss, 1973: 45). يرى ليفي ستروس أن هذا التغير الذي أظهره دوركايم نحو الإثنوغرافيا، والذي أخذ يتضح بصورة جلية خلال الأعوام 1891 ـ 1912 ليعود بصفة رئيسية لاطلاعه على مؤلفات أنثروبولوجيين كانت مبنية في الأساس على أعمال حقلية إثنوغرافية، مثل: فرانز بواز، وآخرين، وتأثره من ناحية بأعمال أنثروبولوجية نظرية، مثل نظريات إدوارد تايلور. وقد اتضحت تلك التأثيرات الأنثروبولوجية في أعماله التي نشرها بشكل مشترك مع مارسيل موس، مثل: زنا المحارم: أصل وطبيعة المحرمات وكذلك التصنيف البدائي (Durkheim and Mauss, 1903 [1963])، بالإضافة إلى مراجعاته العديدة التي نشرها في حولية علم الاجتماع، حيث أسهم من خلالها في النظرية والمعارف الإثنولوجية والأنثروبولوجية بصفة عامة.

1 ـ الانعتاق العلماني

يعد إميل دوركايم الأب المؤسس للسوسيولوجيا الأكاديمية في فرنسا، وأحد أكثر أوائل المنظّرين نفوذاً في مجال دراسته للمجتمعات القديمة أو البدائية. ينتمي إلى أسرة يهودية في شمال شرق فرنسا، وقد انتهج الطريق الذي اتبعه جيلٌ عظيمٌ من الأكاديميين الجمهوريين، أي وفق الفلسفة التعليمية والعقائدية الوصفية. تلقى دوركايم تعليمه في دار المعلمين العليا، حيث مُنح شهادة مُدرس في الفلسفة وكذلك دكتوراه في عام 1893. ولد في الخامس عشر من أبريل/نيسان 1858 بمدينة إيبنال، عاصمة فوسي من إقليم اللورين بفرنسا. كانت والدته ميلاني تنتمي إلى أسرة يعمل والدها في التجارة، أما والده موس فكان حاخاماً للطائفة اليهودية في إيبنال منذ عام 1830، وكان هو أيضاً الحاخام الأكبر لكل من منطقة فوسي وأوت مارين. كذلك كانت الحال بالنسبة إلى جده الأصغر والأكبر من جهة أبيه، حيث كان كل منهما حاخاماً للطائفة اليهودية، وعليه فقد أمضى دوركايم سنوات تعليمه الأولى في مدرسة دينية يهودية.

كان متوقعاً من دوركايم أن يواصل تعليمه الديني لكي يصبح بعد ذلك حاخاماً، شأنه في ذلك شأن والده وأجداده؛ فقد درس العبرية، والعهد القديم، والتوراة، والتلمود، إلى جانب دراسته للمناهج التعليمية الاعتيادية في مدارس نظامية كانت تتبع النظام التعليمي العلماني. لقد عُرف عنه تخلّيه عن الاعتقاد الديني باختلاف أشكاله، ومع ذلك شكل الدين موضوعاً رئيسياً في أبحاثه ودراساته طوال سنواته العلمية. ولكنْ، بخلاف رغبة والديه، أنهى دوركايم خلال سنواته المدرسية التزامه الديانة اليهودية والتعليم الديني، وبخاصة بعد رحيله إلى باريس. على أن هذا التخلي عن اليهودية، كمعتقد ديني، لم يمنعه من إحساسه بأهمية العلاقة الوثيقة للأسرة اليهودية الأرثوذكسية بالمجتمع اليهودي في منطقة الألزاس واللورين، حيث الاحتلال البروسي لهذه المنطقة عام 1870 جعلها تعاني النتائج السلبية المترتبة على الاتجاهات المعادية للسامية، والتي راح ضحيتها العديد من الفرنسيين اليهود؛ وعليه؛ فإن مشاعر العداء لهم من قبل المسيحيين قد عزز الإحساس بالتضامن الاجتماعي بين المجتمع اليهودي هناك‏[2].

حقق دوركايم تفوقاً دراسياً خلال سنوات دراسته في كلية إيبنال، فقد حاز شهادة البكالوريا في الآداب عام 1874 وأخرى في العلوم في العام الذي يليه، أي عام 1875. بعد ذلك قرر دوركايم أن يصبح مدرّساً، فغادر إيبنال إلى باريس للالتحاق بدار المعلمين العليا، حيث استطاع بعد محاولات عديدة وشاقة في عام 1879 اجتياز امتحان القبول. وهكذا قضى سنوات قليلة من حياته العملية مدرساً في إحدى المدارس الثانوية، تبع ذلك قضاؤه عاماً كاملاً في الجامعات الألمانية لدراسة النظرية الاجتماعية. بعد عودته إلى فرنسا عام 1887 عيّن بصفته أول محاضر في علم الاجتماع والتدريس في جامعة بوردو، إلا أنه انتقل في عام 1902 إلى جامعة السوربون حيث قضى بقية حياته أستاذاً فيها.

كانت سنوات الدراسة في دار المعلمين العليا في غاية الأهمية، إذ صادف وجوده فيها مزاملته نخبة من الطلاب الذين شكلوا بعد ذلك أعلاماً في حقولهم؛ فكان هناك عددٌ من الفلاسفة مثل: هنري بيرغسون وبوستاف بيلو وإدمون غوبلو وفيلكس رو وموريس بلونديل. وكان من بينهم عالم النفس بيار جانيه، وعالم اللسانيات فيرديناند برانو، والمؤرخان هنري بير وكميل جوليان، والجغرافي لوسيان غالوي. وفي خضم هذه المجموعة من الأصدقاء، والمناخ العام في الكلية، أصبح دوركايم مشاركاً ناشطاً في العديد من الحوارات السياسية والفلسفية التي كانت تدور رحاها آنذاك، وقد أُخذ كثيراً في هذه المرحلة بالأهداف السامية للعلمانية ومبادئ الجمهورية الداعية لإصلاح التعليم، ومن بينها فصل الدين عن التعليم، وجعل التعليم علمانياً وإلزامياً. كان اهتمامه منصباً على الجوانب الأكاديمية من إصلاح التعليم، أما بالجوانب السياسية فكان أقل. كما أسهم خلال سنوات دراسته في دار المعلمين العليا في بلورة انتقادات جادة للبرامج الدراسية للكلية واتجاهاتها، وخصوصاً الجوانب الأدبية والإنسانية منها. وعلى الرغم من حالته الصحية السيئة خلال عامي 1881 ـ 1882، إلا أنه استطاع اجتياز امتحان إجازة التدريس وأصبح بموجبها مدرساً للفلسفة في المدارس الثانوية الحكومية.

عندما كان دوركايم طالباً في دار المعلمين العليا، تلقى تعليمه على يد أستاذ الكلاسيكيات المعروف نوما دينس فاستيل دوكولنيز، حيث امتاز الأخير برؤيته الاجتماعية العلمية، وقد أنجز دوركايم معه كتابة أُطروحته حول الفيلسوف والمفكر الفرنسي مونتسكيو. كما درس واطلع على أعمال أوغست كونت وهربرت سبنسر؛ هذا وسوف تترك هذه التجربة أثرها فيه، أي من حيث تبنّيه في مرحلة مبكرة للمنهج العلمي في تناول المجتمع، وما ترتب على ذلك من تصادم مع النظام الأكاديمي الفرنسي الذي لم يكن يمتلك حتى ذلك الوقت مقرراً تعليمياً في مجال العلوم الاجتماعية.

لم يكن متوقعاً أن يتمكن دوركايم من الحصول على وظيفة أكاديمية في الأكاديميات التعليمية المعروفة في باريس، وهكذا قضى نحو عام في دراسة علم الاجتماع في ألمانيا، ليعود بعد ذلك إلى بورديو في عام 1887 حيث أُسس فيها أول دار للمعلمين في فرنسا. عُهد إليه تدريس البيداغوجيا، علم أصول التدريس، وكذلك العلوم الاجتماعية. ومن هذه المنصة انطلق في ممارسة دور هام في تجربة إصلاح نظام التعليم الفرنسي في المدارس، وتمكّن من إدخال العلوم الاجتماعية كمواد تعليمية.

تعرضت فرنسا لتأثيرات الحرب العالمية الأولى، إذ قامت ألمانيا باحتلال شمال فرنسا في عام 1914، وقد تطلب الأمر من دوركايم المساهمة الفكرية بالدفاع عن فرنسا ضد الاحتلال الألماني وكذلك التصدي للاتجاهات المعادية لليهود وللسامية. كانت خشيته أن يترتب على هزيمة الجيوش الألمانية، تنامي الاتجاهات اليمينية المحافظة في فرنسا، وقد تعرض دوركايم خلال هذه الفترة لهجوم من هذه الاتجاهات التي أخذت تشكك في ولائه وتنتقد أصوله اليهودية السامية. على أن التأثير الأبرز الذي تركته الحرب عليه شخصياً، فقدانه لابنه الذي قتل في إحدى المعارك الحربية خلال عام 1916، وهو ما ترك أثراً مدمراً فيه من الناحية النفسية. وكان ابنه أحد أبرز الطلاب الشباب في مدرسة الحوليات، وقد حاز شهادة التفوق في امتحان إجازة التدريس كمدرس للسانيات؛ وبعد شهور من المعاناة النفسية أصيب دوركايم في الخامس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1917م بأزمة قلبية أودت بحياته.

2 ـ حولية علم الاجتماع: البدايات

كان دوركايم خلال سنوات عمله في بوردو (1887 ـ 1902م) يُلقي محاضرات حول نظرية وتاريخ وممارسة التعليم، إضافة إلى محاضرة عامة أسبوعية، أي صباح كل سبت، حول العلم الاجتماعي، مكرساً اهتمامه التخصصي نحو دراسة ظواهر اجتماعية محددة، مثل: التضامن الاجتماعي، والعائلة والقرابة، والمحرمات، والطوطمية، والانتحار، والجريمة، والدين، والاشتراكية، والقانون. كما أن تعيينه محاضراً للعلوم الاجتماعية وبالسن الصغيرة التي كان فيها في كلية الآداب بجامعة بوردو لم يمر مرور الكرام، وبخاصة أن العلوم الإنسانية كان لها اليد الطولى والمهيمنة هناك. ومما ضاعف من المعارضة ضده تأكيده قيمة علم الاجتماع مقابل العلوم الإنسانية التقليدية، مثل: الفلسفة، والتاريخ، والقانون؛ إذ كان دوركايم ينادي بأهمية تقديم تفسيرٍ سوسيولوجيّ للنظم الأخلاقية والقانونية وذلك من خلال البحث عن الأسباب الاجتماعية التي تحد من الإرادة الحرة والفعالية الأخلاقية للفرد.

أسس دوركايم مع مجموعة من الباحثين الشباب في بوردو مجلة حولية علم الاجتماع عام 1898‏[3]، كانت المجلة الأولى للعلوم الاجتماعية في فرنسا، وقد شكلت الخلفية والاهتمامات الفلسفية العامل المشترك لمجموعة الباحثين الشباب الذين عملوا معه في المجلة. استطاعت حولية علم الاجتماع أن تجري مراجعات سنوية للكتابات والإصدارات السوسيولوجية الطابع، وقدمت معلومات إضافية عن دراسات في ميادين أخرى تخصصية، إضافة إلى ما نشرته من مقالات مطولة في مجال علم الاجتماع.

تمكن دوركايم، سواء من خلال مؤلفاته أو من خلال أعمال التدريس التي يقوم بها، أن يستقطب من حوله عدداً من الباحثين الشباب الموهوبين، كان معظمهم من الفلاسفة، ولكن كان بينهم المؤرخون، والاقتصاديون، وفقهاء القانون، نذكر منهم: مارسيل موس، بول فوكونية، هنري هوبير وسيلستين بوغلي‏[4]. وقد أنشأ مع كل هؤلاء حولية علم الاجتماع، وكانت هذه المجلة النقدية معنية في الأساس بتغطية معظم ميادين العلوم الاجتماعية، مثل: الجغرافيا الاجتماعية، وعلم السكان، وعلم النفس الجماعي، والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي، وتاريخ الدين، والإثنولوجيا، وعلم الاجتماع؛ وقد أصبح لهذه المجلة دورٌ محوريٌ في التطوير والرواج للنظريات المعنية بالوقائع الاجتماعية. كانت رؤية دوركايم في هذه المرحلة ترتكز على مبدأ النظر إلى المجتمع باعتباره سابقاً في وجوده على الفرد، وعليه فإن الفرد لا يشكل الوحدة الأولية للمجتمع، بل إن وعي الأفراد بوجودهم ما هو إلا نتاج الجماعة. وفي ذلك فإن أي تفسير للوجود الاجتماعي للجماعة ينبغي أن يكون سوسيولوجياً، بل بعيداً من التفسير السيكولوجي، أي عدم إعطاء أي اعتبار للعوامل النفسية الفردية. كان يُنظر إلى الفلسفة في الجامعات والمدارس الفرنسية في القرن التاسع من عشر باعتبارها يجب أن تعنى بالأخلاق، والاهتمام هنا يجب ألاّ يكون معنياً باكتشاف طبيعة هذه الأخلاق فقط، وإنما الأخلاقيات الواجبة كذلك. كان دوركايم ينظر إلى الأخلاق مثل بقية معاصريه، أي باعتبارها معرضة لخطر تضخم الفردانية الناتجة من انهيار النظام الاجتماعي والديني القديم.

لقد تم تكريس المجلة بالكامل للتعبير عن رؤيته الجديدة التي أتى بها لعلم الاجتماع؛ فقامت بالترويج لهذه الرؤية السوسيولوجية في فرنسا وخارجها. واستطاع هو وطلابه من خلال عدد من المؤلفات، تكريس منظورٍ جديدٍ لعلم الاجتماع، وقد أمّن بفضل هذه النجاحات فُرص عمل لمُريديه من الطلاب الشباب، حيث تمكنوا بفضله من تقلّد مناصب أكاديمية هامة في معاهد وكليات جامعية معروفة. وما إن أزفت الحرب العالمية الأولى، حتى أصبح دوركايم ومريدوه في حالة انتشار وهيمنة أكاديمية على حقل العلوم الاجتماعية في المؤسسات الكبرى أو الطرفية ضمن النظام التعليمي الفرنسي.

واصل دوركايم مسيرته المهنية الأكاديمية بطريقته المعتادة، بخلاف أسلافه الفرنسيين من علماء الاجتماع مثل أوغست كونت وهنري سان سيمون، فقد عمل دوركايم في البداية في تدريس الفلسفة في عدد من المدارس، إلى أن التحق بجامعة بوردو في عام 1887 ليدرس فيها السوسيولوجيا والبيداغوجيا؛ وبعد أن أمضى تسعة أعوام في بوردو، جرى ترقيته لمنصب الأستاذية في حقل العلوم الاجتماعية، ثم انتقل بعد ذلك إلى باريس حيث التحق هناك بجامعة السوربون، محاضراً ثم أستاذاً لعلوم التربية وعلم الاجتماع.

ثانياً: الجذور الأنثروبولوجية

عُرف دوركايم عند انتقاله إلى باريس، ولا سيما بعد اعتلائه كرسي الأستاذية في جامعة السوربون، بجسارته الفكرية وبدفاعه عن الطبيعة العلمية لعلم الاجتماع في مقابل الاتجاهات الأخرى الدينية واللاعقلانية، وتسبب موقفه هذا في تحسس الفلاسفة والكاثوليكية من مناداته بـعلم الأخلاق وعلم الدين. لقد صادف تعيينه في السوربون تفاعلات قضية دريفوس وازياد هيمنة الاتجاهات السياسية اليمينية، وقد ضاعف تحسس هذه الأوساط من تعيينه في السوربون مواقفه المؤيدة لدريفوس‏[5]. لقد وفر له تعيينه في السوربون السلطة والقوة الأكاديمية اللازمتين، وبخاصة أن دروسه ومحاضراته كانت إجبارية على طلاب التاريخ والفلسفة والأدب واللسانيات، كما تولى خلال سنوات عمله في السوربون مسؤولية تدريس أجيال متعاقبة من أساتذة المدارس الفرنسيين، ممن قام بغرس كل أفكاره وآرائه العلمانية والأخلاق العقلانية الفلسفية فيهم.

ترك عدد من المفكرين الفرنسيين تأثيرهم في تكوين دوركايم الفكري، وكان نصيب مفكري وفلاسفة عصر التنوير هو الأبرز، فقد أظهر اهتماماً كبيراً بأفكار ونظريات أوغست كونت على الرغم من إعلان عدم اتفاقه مع بعض أفكاره ونظرياته؛ كما ترك مفكرون آخرون تأثيرهم فيه، مثل: مونتسكيو وجان جاك روسو. كما تعرض دوركايم لتأثير مفكرين وفلاسفة من خارج فرنسا، إذ كان لعالم الاجتماع البريطاني هربرت سبنسر ونظريته التطويرية تأثيرٌ كبيرٌ فيه رغم انتقاده لأفكاره ومنظوره السوسيولوجي. كما كان هناك تأثير من قبل عددٍ من مفكري العلوم الاجتماعية الألمان من جراء فترة دراسته المكثفة والقصيرة عند زيارته لألمانيا، ومن أبرز هؤلاء: فان دين، شافل، تونيس وغاملويسز؛ وقد كان تأثير هؤلاء جلياً في أعماله السوسيولوجية. أما التأثير الأبرز فقد كان مصدره المفكر البريطاني وليم روبرتسون سميث، حيث تعرف إلى أعماله خلال الفترة المتأخرة من حياته، وكان لعمل مثل محاضرات حول ديانة الساميين تأثيرٌ بارزٌ وجليٌ في عمله المعروف الأنماط الأولية للحياة الدينية (Smith, 1899; Durkheim, 1915 [1954]).

شكلت أعمالٌ هامة قام بنشرها مثل: تقسيم العمل الاجتماعي وقواعد المنهج في علم الاجتماع والانتحار (Durkheim, 1893 [1960]; 1895 [1958], and 1897 [1951])‏[6] علامات بارزة في تطور علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية قاطبة، سواء في فرنسا أو خارجها، وكانت تلك الأعمال نتاج محاضراته الجامعية والحلقات الدراسية التي كانت مرتبطة به. أبدى دوركايم، إلى ذلك، اهتمامه بمعالجة مشكلات أخرى، مثل: الاشتراكية، والتنظيم العائلي، والنظريات الاجتماعية الألمانية.

اتجه دوركايم في دراساته ومحاضراته المتأخرة نحو معالجة سوسيولوجيا التعليم، والأخلاق، والأخلاق العلمية، والنفعية، وسوسيولوجيا العائلة، وتاريخ العلوم الاجتماعية، والإحصاءات، وموضوعات أخرى متفرقة. أما منذ انطلاقة مدرسة الحوليات، فقد اتجه نحو الاهتمام بدراسة المجتمعات القديمة، وبخاصة الموضوعات المتعلقة بالديانات البدائية والتنظيمات الاجتماعية. ولا بد من التنويه هنا بأن موضوعاً مثل التضامن الاجتماعي في المجتمعات القبلية الانقسامية التي تقع في إطار ما أطلق عليه بالتضامن الميكانيكي في مقابل التضامن العضوي في المجتمعات الحديثة، إنما يعود برأيه إلى نظم تقسيم العمل. لقد شكلت تلك الموضوعات الثيمات الرئيسية لأُطروحته للدكتوراه التي تقدم بها عام 1893، وإن كانت أطروحته قد خلت من أي تضمينات إثنولوجية هامة.

1 ـ المُقدس والدنيوي

تعتبر تسعينيات القرن التاسع عشر سنوات خصبة في حياة دوركايم، إذ نشر في عام 1893 أطروحته للدكتوراه تقسيم العمل الاجتماعي (Durkheim, 1893 [1960])، وكانت بمنزلة بيانٍ سوسيولوجيّ حول طبيعة وتطور المجتمع البشري، كما أعقب هذا المؤلَّف بنشره عام 1895 عملاً آخر هو قواعد المنهج في علم الاجتماع (Durkheim, 1895 [1958])، وكان كالعمل الأول بياناً أساسياً حاول أن يظهر من خلاله الحال التي كان عليها علم الاجتماع وتبيان ما ينبغي أن يكون عليه الأمر. كما شهد العام ذاته تأسيسه قسم علم الاجتماع في جامعة بوردو، وكان يعدُ بمنزلة أول قسم يؤسس في الجامعات الأوروبية، ثم تلا ذلك تأسيسه في عام 1898 لـ حولية علم الاجتماع، حيث، كما ذكرنا، كانت أول مجلة لعلم الاجتماع، تحلق من حولها عددٌ كبيرٌ من مريديه من الطلاب والباحثين، وقد شكلت بعد ذلك ما تُعُورِفَ على تسميته بمدرسة الحوليات. كما أصدر في العقد نفسه، أي في عام 1897 عمله السوسيولوجي المعروف الانتحار (Durkheim, 1897 [1951])، وكان هذا العمل نتاجاً لتطبيق منهجه السوسيولوجي في دراسة الظواهر الاجتماعية وفق المنهج الكمّي ودراسة الحالة.

في المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية، أظهر دوركايم اهتماماً خاصاً، بل كبيراً، بموضوعات امتازت بطبيعتها الأنثروبولوجية، مثل: الدين، والأنساق الرمزية، والتصويرات الجمعية. وأبدى، عبر معالجته لهذه الموضوعات، رغبة في معرفة تأثير البنى الاجتماعية وأنظمتها على أنساق القيم والدين والرمزية. لقد ظهرت تلك البوادر في مقدمته التي كتبها عام 1899 للمجلد الثاني من الحوليات الاجتماعية (Durkheim, 1899). أكد في هذه المقدمة ما للدين من أهمية في حياة الجماعة؛ مُظهراً أهمية الدين في المجتمعات البدائية التقليدية. من ناحية أخرى، شكل مفهومان مثل المقدس والدنيوي، دوراً بارزاً في معالجته تلك، وقد اتضحت بصورة أبرز في عمله: الأنماط الأولية للحياة الدينية؛ الذي كرسه لهذه الجوانب. أسهم دوركايم في بلورة مفهومين سيشكلان بعد ذلك دوراً بارزاً في النظرية الأنثروبولوجية، ألا وهما مفهوما المقدس والدنيوي، وقد أتى على معالجتهما بإسهاب في الأنماط الأولية للحياة الدينية. أكد دوركايم عند معالجته لمفهومي التصويرات الجمعية باعتباره نتاجاً لامتزاج المقدس والدنيوي عند أداء الوظيفة الاجتماعية لكل منهما. وكان قد أبدى اهتماماً بالتأثير الكبير والمتبادل بين النسق الديني للتصويرات، من جهة، وبنية المجتمع من جهة أخرى؛ كان يرى أن هذا التفاعل المتبادل يتضح في أتم صوره في ديانات المجتمعات البدائية.

كان محور اهتمامه في هذا العمل علاقة الجماعة بالدين؛ وكانت معظم معلوماته الإثنوغرافية مستمدة من سكان أستراليا الأصليين. حاول دوركايم أن ينظر إلى الدين باعتباره ممثلاً لقوة المجتمع، أي من حيث كونه مجتمعاً أخلاقياً يترتب عنه روابط تضامنية. يتم تجسيدها من خلال طقوس متجددة واحتفالات جماعية لتكريس الولاء المتوازي للدين وللجماعة. حاول دوركايم أن يظهر أيضاً كيف أن الضعف التدريجي الذي أخذ يدب في وظيفة الدين كقوة موحدة في المجتمعات الحديثة كان سببه اتجاه أفراد المجتمع من الرجال والنساء إلى مجتمعهم مباشرة دون الحاجة للعودة إلى التصويرات والممارسات الدينية.

إن تلك الاهتمامات الجادة التي أظهرها دوركايم نحو المجتمعات البدائية كانت من نتاج اطلاعه على أعمال معاصريه من الأنثروبولوجيين البريطانيين الذين أولوا موضوع الدين اهتماماً بالغاً، وبخاصة أعمال وليم روبرتسون سميث وجيمس فريزر. وقد أسهم هذا الاطلاع بدءاً من عام 1896 في تطوير أطروحته حول التصويرات الجمعية والدين؛ وهكذا أصبح النسق الديني في المجتمعات البسيطة أو القديمة موضوعاً مستقلاً للدراسة والبحث لدى دوركايم وكذلك لمجموعة من الباحثين الشباب الجادين ممن تحلقوا حوله آنذاك، مثل: مارسيل موس، هنري هوبير وروبرت هيرتز‏[7]. كان هناك عدد من الأسباب وراء هذه التحولات النظرية والمنهجية لدى دوركايم، أحد هذه الأسباب يعود للاعتبار الذي منح للدين من حيث كونه يقدم خدمة ضرورية للوظيفة الاجتماعية التي تساعد على إيجاد معتقدات قوية للجماعة تؤدي دورها في توفير الأساس الصلب للتضامن الاجتماعي. ولعل صوغ دوركايم لمفهومي المقدس والدنيوي في هذه المرحلة، دليل على الأهمية التي أصبح الدين والمجتمعات البسيطة يحتلانه في منظومة أفكاره النظرية والمنهجية، إذ أصبح هذان المفهومان من الدعائم الأساسية في علم الاجتماع الدوركايمي الذي أخذ يتجه نحو إيجاد نظام لنسق الوقائع الاجتماعية.

أما السبب الآخر، فيعود إلى بساطة الدين البدائي ومن ثم سهولة دراسته، أو إلى وضوح الترابط الوظيفي القائم بين الدين وبقية النظم الاجتماعية، مثل: الاقتصاد، والقانون، والتكنولوجيا، وغيرها من النظم التي أصبحت تمتلك خلال مسيرة تطورها استقلالية وظيفية أكثر؛ على أن هذه الحالة التي ظهر عليها الدين قد ساعدت على توفير المدخل المناسب لإيجاد نظرية سوسيولوجية أخذت على عاتقها معالجة النظام الاجتماعي بمجمله.

2 ـ الأنماط الأولية

من الواضح أن دوركايم أخذ يعمل من خلال الأنماط الأولية للحياة الدينية على صوغ هذه الخلاصات، ولعل من بينها تركيزه على الوظائف الاجتماعية للدين، ويعدّ هذا العمل خلاصة لدراساته الأنثروبولوجية. كان اهتمامه بالسكان الأستراليين الأصليين، وإلى حد ما الأمريكيين الأصليين، مبنياً على الأهمية المنهجية، وعلى افتراضاته التي لم تزل غامضة حتى ذلك الوقت، والتي كانت تدور حول اعتبار نظامهم العشائري أكثر الأنماط الأولية القابلة للملاحظة؛ فالنمط الأولي للدين يتجسد في العشائر الطوطمية، حيث تحمل معتقداتها البذرة الأساسية لعناصر التفكير والحياة الدينية.

نستطيع القول إن إميل دوركايم ينطلق في معالجته لقضية الدين من فرضية يرى من خلالها أن التجربة الدينية المعاشة ليست قائمة في مجملها على الاعتقاد الوهمي، لأنها لا بد من أن ترتبط بالواقع، والواقع الذي تقوم عليه الممارسة الدينية هنا هو المجتمع. إن الدين في هذا السياق هو نسق من الأفكار يعمل من خلاله الأفراد على تمثيل المجتمع الذي ينتمون إليه، ومهما يبدو هنا الدين في أكثر تجلياته الرمزية والمجازية، إلا أنه لا يمكننا أن نعدّ هذا التمثيل غير صادق. يظهر دوركايم في هذا السياق اهتماماً ملحوظاً بـالشعور الجمعي باعتباره مسؤولاً عن ظهور المعتقدات الدينية، أو يعمل على تعزيز المعتقدات وقيمتها. كما يؤدي البناء الاجتماعي دوراً في تحديد نوع ونمط الدين السائد في المجتمع المعني، فوجود جماعة دينية تعتقد بوجود الرب العظيم مرتبط بالتفكير بوحدة الطواطم والقبيلة.

يعمل الدين أيضاً ـ كما يرى دوركايم ـ على تفسير أو تمثيل الوقائع الاجتماعية من خلال انعكاسها في لغة رمزية خاصة؛ فتعمل الأساطير مثلاً على ربط الأشياء بهدف تثبيت علاقاتها الداخلية، وتصنيفها وضبطها. فالأساطير تهدف إلى تمثيل الواقع، شأنها في ذلك شأن العلم. يتضح إذاً أن الوظيفة النهائية للدين هي الاندماج الاجتماعي، الذي كثيراً ما يكون متأثراً بعملية الإنتاج وإعادة الإنتاج المتواصلة لروح الجماعة والأفراد، وتؤدي الرمزية هنا بصفتها شرطاً أساسياً للاتصال الاجتماعي، فهي تساعد على جعل الاتصال الاجتماعي يصبح اتصالاً، أي أنها تعمل على نشر مشاعر معينة بمجملها ضمن مشاعر عامة واحدة.

مهما كانت حدة التحفظات التي قيلت على المنهج الذي اتبعه دوركايم في تأليف عمله الأنماط الأولية للحياة الدينية، ظل يُنظر إلى هذا العمل باعتباره مشروع رؤية فلسفية ونظرية في أصل الدين؛ وقد ظلت تلك الأفكار لعقود ولا تزال مثاراً لجدل ونقاش متواصل. لقد أكد دوركايم من خلال هذا العمل نظرته للدين باعتباره نسقاً للمعتقدات والممارسات المرتبطة بالتضامن الاجتماعي وبالمقدس؛ وهي بحد ذاتها، أي المعتقدات والممارسات، تعمل على تكريس الوحدة الأخلاقية للمجتمع. إذاً، فالدين وفق هذا السياق شأنٌ جماعيٌ، وهو يختلف عن السحر، إذ يعتمد السحر على وجود الجماعة المعتقدة به، وكذلك على استخدامه الآليات نفسها؛ إن السحر لا يعدُّ شأناً جماعياً، فهو فرديٌّ في أهدافه وممارساته، إنه حسب رأي دوركايم ليس بكنيسة قائمة بذاتها، إذ لا يوجد شيء اسمه كنيسة السحر.

في إطار اهتماماته الإثنولوجية بالمجتمعات البدائية، نشر بالاشتراك مع مارسيل موس، مقالته المطولة: التصنيف البدائي؛ في الحوليات الاجتماعية (Durkheim and Mauss, 1903 [1963])‏[8]. كانت هذه المقالة كامتداد لأُطروحة قام دوركايم بالتمهيد لبعض من معالمهما الرئيسية في مؤلفه المعروف الأنماط الأولية للحياة الدينية، حيث أكد من خلالها أن مقولات الأشياء والقيم التي تشكل بيئتنا الفيزيقية والأخلاقية لا تمتلك بطبيعتها نظاماً داخلياً خاصاً بها، كما أن العقل الإنساني يفتقد الإمكانية الذاتية التي تشيّد نُظماً معقدة للتصنيف. ومع ذلك فإننا نلمس تلك التصنيفات على المستوى الإمبيريقي المحسوس، ما يعني أن لغتنا تفرض نظاماً على تجربتنا الحسية، بل من الواضح، في رأيهما، أن هذا النظام لا يتصف بالاعتباطية، بل هو سببٌ بطبيعته، أما المجتمع فهو منظم بشكل بنيوي. كما أن تصنيفات اللغة التي تفرض نظاماً على أفكارنا الأخلاقية والدينية، هي انعكاسٌ لنظام داخلي متأصلٍ في المجتمع.

3 ـ التصنيف البدائي والمحارم

حاول دوركايم وموس أن يلفتا الأنظار من خلال التصنيف البدائي إلى مجموعة من الأمثلة الإثنوغرافية المستمدة من قبائل أستراليا وأمريكا الشمالية، وبخاصة في ما يتعلق بالقدر الكبير من التشابه بين المفاهيم المتعلقة بالتنظيم الاجتماعي والأفكار الأخلاقية والكسمولوجيا والأشياء المُعاشة.

لقد ترتب على هذه الاهتمامات الجادة من قبل دوركايم بالمجتمعات البسيطة وبالنسق الديني فيها، كما أتينا على ذكره، أن أخذت مجلة حوليات علم الاجتماع تنشرُ في كل عددٍ من أعدادها مقالة واحدة على الأقل من أصل أربع حول الأنثروبولوجيا الاجتماعية. وبدأت المجتمعات البدائية تحتل للمرة الأولى مكانة هامة في تاريخ الفكر الفرنسي، وبخاصة ضمن الحوارات الفلسفية العامة التي سرعان ما استدرجت إليها أكاديميين بارزين مثل: لوسيان ليفي برويل وهنري بيرغسون.

على أن إلقاء نظرة متفحصة على أعمال دوركايم ذات الطابع الأنثروبولوجي تكشف لنا عدم تمكنه من تجاوز الإبهام الذي كان يلف منهجه في تناول المجتمعات البدائية، حيث ظل يتعامل معها باعتبارها نماذج أصلية أو تمثل الحالة المتخيلة والبسيطة والمتكررة من الأنماط الاجتماعية، أو بالاعتبارين في وقت واحد. كما أنه استمر في عدم ثقته الأولية باستخدام وتوظيف المعلومات الإثنوغرافية، رغم أن هذا الموقف لديه أخذ يشهد تغيراً كبيراً عندما أخذت العديد من الأعمال الإثنوغرافية الرصينة تواصل صدورها مثل أعمال: وليم بالدوين سبنسر وفرانسيس جيمس جيلين عن سكان أستراليا الأصليين (Spencer and Gillen: 1899; 1904)، وكذلك أعمال الباحثين الذين شكلوا أعضاء البعثة الأنثروبولوجية لجامعة كمبردج إلى مضايق توروس (Haddon, 1901-1935).

لقد أظهر دوركايم اهتمامه بتلك الأعمال من خلال مراجعته النقدية الدقيقة لها في حولية علم الاجتماع. كما كان لتلك الأعمال دور في تزويده المعلومات الضرورية لمساهماته في السجالات الفكرية المعاصرة حول المجتمعات القديمة والبدائية، وكانت مساهماته قد اندرجت حول موضوعين بارزين هما: التنظيم الاجتماعي، وأنساق المعتقدات، أو مزيج من الموضوعين معاً. ولعل من أبرز مساهماته الأنثروبولوجية خلال هذه الفترة مقالته المعروفة بــ «أصل وطبيعة جنس المحارم» المنشورة بشكل مشترك مع مارسيل موس في حولية علم الاجتماع (Durkheim, 1897 [1963]). عمل دوركايم في هذه المقالة على إيضاح منهجه المبني برأيه على تفسير الواقعة الاجتماعية القائمة وذلك بمقارنتها بوقائع اجتماعية أخرى، ذلك أنه لا يمكن تفسير النظم الاجتماعية برأيه من خلال العودة إلى السلوك النظري الذي قد يقف وراء هذا أو ذاك من النظام الاجتماعي، بل يجب أن يتم الأمر من خلال البحث عن المسببات الاجتماعية. ووفق هذا المنظور، يرى دوركايم أن جنس المحارم والزواج الخارجي والمحرمات تستمد أصولها من الطبيعة الأولية للعشيرة الأم. وعليه؛ فإن الاحترام الذي يبديه الفرد لطوطم العشيرة يتضح هنا بصورة دينية من خلال العلاقات القرابية الدموية التي تربطه بغيره من أعضاء العشيرة، وكذلك من خلال منع الاتصال الجنسي بنساء العشيرة، وصولاً إلى تحريم الزواج الداخلي، أي بين أبناء العشيرة الواحدة، والاستعاضة عنه بالزواج الخارجي. يكشف لنا السياق السابق ذكره التحول الذي طرأ على تعامل دوركايم مع موضوع القرابة، أي الانتقال من حيث النظر إليها باعتبارها مقولة اجتماعية، إلى مستوى آخر من حيث كونها مقولة منطقية مبنية على أسس رياضية (Durkheim: 1905b; 1902)؛ ولعل بعضاً من بين مقالاته حول الطوطمية والقرابة الأسترالية ما يُعد دليلاً (Durkheim: 1905b; 1902). لقد ذهب دوركايم إلى أبعد من ذلك في مقالة كتبها بشكل مشترك مع مارسيل موس، ففي هذه المقالة (التصنيف البدائي) حاول الكشف عن العلاقة القائمة بين الأفكار والتصورات التي تحملها قبائل أستراليا وشمال أمريكا عن المكان وعلاقة ذلك بالتنظيم الاجتماعي (Durkheim and Mauss, 1903 [1963]). يقوم أفراد هذه القبائل بتصنيف الأشياء لكونهم منقسمين إلى عشائر، فالنموذج الأسمى لكل التصنيفات، وبخاصة التصنيف المرتبط بالمكان، هو المجتمع؛ إنه الكل الذي يعود إليه كل شيء، ذلك أن عملية تصنيف الأشياء تقود إلى إعادة إنتاج تصنيف الإنسان ذاته. فحسب هذه الرؤية، يعتبر التصنيف البدائي هو المسؤول الأساسي عن اكتشاف المفاهيم والمقولات الأولية، وهذه بدورها أدت دوراً في جعل الإنسان يتمكن من توحيد معارفه. نحن إذاً هنا أمام أول فلسفة للطبيعة، ووفق دوركايم وموس فإننا نستطيع التوصل من خلال هذه التصنيفات إلى جذور التفكير المنطقي، الذي يعدّ القاعدة الأساسية للتصنيفات العلمية.

ثالثاً: نقد الدوركايمية

أسهم دوركايم بهذه وغيرها من الأفكار في النظرية الأنثروبولوجية، التي ألهمت عدداً من الأنثروبولوجيين الاجتماعيين في أوروبا وبريطانيا‏[9]، من بينهم ستروس في فرنسا؛ إذ يعد عمله البنى الأولية للقرابة من الأعمال التي أثرت في بروز الأنثروبولوجيا البنيوية (Levi‑Strauss, 1949 [1969]). ومع ذلك، فإن هذا الاهتمام بأفكار ومقولات دوركايم لم تعفِ ليفي ستروس وغيره من الأنثروبولوجيين، مثل أرنولد فان جنب، من توجيه انتقاداتهم له‏[10]. فقد تعرضت أنثروبولوجيا الدين لدوركايم لانتقادات قاسية وبخاصة من قبل الباحثين الحقليين، على الرغم من أنها لم تكفّ عن إلهام الباحثين المهتمين بدراسة ديانات المجتمعات القديمة. في مقابل ذلك، كانت سوسيولوجيا الدين التي أتى بها ذات تأثير في الرأي العام ولا سيما في ضوء نتائج الصراع القائم آنذاك بين الكنيسة والدولة ممثلة في الجمهورية. بالرغم من ذلك، فإن دراسة الدين البدائي قد ساعدت دوركايم على تبني موقفٍ علميّ بحتٍ، من جهة، وتقديم نقدٍ غير تاريخي وتقيمٍ سوسيولوجي للنظم الدينية المعاصرة، من جهة أخرى‏[11]. كما مكنت المواد والمعلومات الإثنوغرافية المستمدة من المجتمعات البدائية دوركايم من التوصل إلى تعميمات مقنعة حول طبيعة التضامن الاجتماعي، والظروف المحيطة به وعناصره المكونة له. وأدت هنا الإثنولوجيا دوراً هاماً من حيث تسخير نفسها بسهولة للتنظير الدوركايمي، وبخاصة إذا ما قورنت بعلوم أخرى راسخة مثل الجغرافيا أو التاريخ، إذ كانت الإثنولوجيا تعاني آنذاك من ضعفٍ فكري، ومن تهميشٍ على مستوى المؤسسة الأكاديمية وذلك من جراء عدم الاعتداد بها كفرع من العلوم والدراسات السائدة آنذاك (Karady, 1981).

لهذه الأسباب وغيرها، يعتبر إسهام دوركايم على مستوى الأنثروبولوجيا النظرية، بالإضافة إلى أعمال أتباعه ومحاوريه، مثل لوسيان ليفي برويل، مارسيل موس، روبرت هيرتز وهنري هوبير، حاسماً ومحورياً في بعث الأنثروبولوجيا بصفتها ميداناً علمياً أكاديمياً، وخصوصاً خلال السنوات الواقعة بين الحربين العالميتين‏[12]. على أن هذا التطور لم يعفِ الجيل التالي من الأنثروبولوجيين الفرنسيين، مثل: كلود ليفي ستروس، مارسيل غرويل، ألفرد ميترو، لوي دومون وبيير بورديو، من الاستفادة من تراث دوركايم، ومن مواصلة تقييمه بشكل نقدي‏[13]. لقد أدت هذه الجذور الدوركايمية دوراً في استحالة انفصال الأنثروبولوجيا الاجتماعية الفرنسية عن بقية العلوم الاجتماعية، بل حافظت على مكانة رفيعة لها مكنتها من تقديم تعميمات نظرية في غاية الأهمية.

يرى بعض النقاد ومؤرخي الفكر الدوركايمي، أن تلك الاتجاهات والرؤى الدوركايمية المشددة على دراسة الوقائع الاجتماعية من خلال دور الجماعة على حسب الفرد، قد أخذت تشهد بعض المراجعات من قبل دوركايم، حيث بدا في أعماله اللاحقة أقل تشدداً بشأن الخاصية الخارجية للوقائع الاجتماعية واستقلالها عن إرادة الأفراد، بل أخذ ينظرُ إلى التأثيرات الذاتية التي يلحقها الأفراد عليها، فلم تعد الطبيعة الإلزامية تتجسد، برأيه، في السيطرة الخارجية فقط، وإنما تتم كذلك عبر الالتزامات الأخلاقية الداعية إلى التقيد بقوانين المجتمع وضوابطه، وهكذا.

لقد كانت أكثر الانتقادات حدة تلك التي أطلقها أرنولد فان جنب عبر عدد من المراجعات والمقالات النقدية التي تناول من خلالها آراء ونظريات دوركايم، ولا سيّما الأنثروبولوجي منها‏[14]. لقد تناول فان جنب دوركايم بداية عام 1904 وعبر مؤلفه المعروف المحرمات والطوطمية في مدغشقر (Gennep, 1904). ثم عاد وتناول الأسس الإمبيريقية والنظرية لعمل دوركايم المعروف الأنماط الأولية للحياة الدينية‏[15]، وذلك عندما نشر عام 1913 مراجعته النقدية للكتاب في مجلة ميركور الفرنسية؛ كانت انتقادات فان جنب تتمحور حول اعتماد دوركايم على معلومات إثنوغرافية عن أستراليا غير موثوقٍ بها، بل تنتمي إلى مصادر ضعيفة جداً (Gennep, 1913: 389). تلك المعلومات كان مصدرها في الأغلب رجال أمن وإداريي مستعمرات ومبشرين؛ من المؤكد لدى فان جنب أنها ستكون عديمة جدوى خلال عشر سنوات قادمة، ما يجعل تعميمات دوركايم النظرية ملغية (Gennep, 1913). كان فان جنب يرى أن تعميمات دوركايم المبنية على النظر للمجتمعات القبلية الأسترالية باعتبارها مجتمعات بدائية، تعميمات خاطئة من الأساس، إذ إن هذه المجتمعات أبعد ما تكون عن البساطة والبدائية، إنها شديدة التعقيد والتركيب (Gennep, 1913). إن العودة إلى تلك القبائل، برأي فان جنب، من قبل دوركايم لمعرفة جذور هذه أو تلك من النظم الاجتماعية جعلت من الأسس العلمية لــ الأنماط الأولية للحياة الدينية في غاية الهشاشة والضعف، وإن ذلك برأي فان جنب يعود إلى عدم امتلاك دوركايم للحس الإثنوغرافي، هذا على الرغم من عودته إلى التأكيد والإشادة في جزء آخر من هذه المراجعة بمتانة وصدقية نظرية دوركايم حول الطوطمية بخاصة والدين بعامة (Gennep, 1913).

خاتمة

سعت هذه المقالة إلى الإحاطة بجوانب سيرية هامة، شكلت في مجملها محطات رئيسية وبارزة في تشكل معالم الفكر الأنثروبولوجي لدوركايم، ولعل من أبرز تلك المحطات ما شكلته مجتمعات وثقافات الآخر، غير الأوروبي، من أهمية بالغة استطاعت أن توفر له منظوراً إمبيريقياً من جهة، ومقارناً من جهة أخرى. وهي محطة وإن لم يتمكن دوركايم من خوض غمار تجربتها العملية كاملة، إلا أن خلاصاتها السوسيولوجية والإثنولوجية سيكون لها بعد ذلك وكما حاولنا أن نُظهره، تأثير حاسم في مسار تطور الأنثروبولوجيا سواء في فرنسا، أو بريطانيا حيث دُشِنت الانطلاقة الفعلية لهذا العلم.

أما الخلاصة الأخرى، فهي تلك التي تجسدت في توظيف دوركايم لعدد كبير من الوقائع الاجتماعية، اُستُمدَّت من مجتمعات وثقافات متنوعة ومتباينة في الوقت نفسه، في صوغ مفاهيم وتعميمات نظرية، سوسيولوجية كانت أم أنثروبولوجية، سيكون لها الفضل في تفسير العديد من الظواهر الاجتماعية، وبخاصة تلك التي صادف تكرارها في مجتمعات وثقافات متفرقة في العالم، وربما حتى في حقب تاريخية متفاوتة. وهكذا أدت بعد ذلك تلك المفاهيم والتعميمات النظرية دورها في انتقال الأنثروبولوجيا من أسوار الجامعات والمقاعد الوثيرة إلى العمل الحقلي الإثنوغرافي، كما تجسد ذلك في تجربة برونيسلاف مالينوفسكي في بريطانيا، وكلود ليفي ستروس في فرنسا؛ وسوف تكون هنا لمفاهيم دوركايم وتعميماته النظرية ليس الفضل فقط في التحليل الأنثروبولوجي، بل في تطور مناهج البحث في هذا العلم.

وعلينا أن لا ننسى خلاصة أخرى، ألا وهي أنه لولا ضلوع وانشغال دوركايم بمشكلات وهموم المجتمع الفرنسي التي عاصرها واتخذ نحوها من المواقف ما تطلبته منه بصفته أكاديمياً ومثقفاً، لما تحلق من حوله تلك النخبة من الطلبة، حيث شاءت الظروف لعدد كبير منهم أن يتولى بعد ذلك، بالعمل المشترك مع مارسيل موس، وضع ملامح شخصية جديدة لعلم الأنثروبولوجيا، حيث ستُعرف بعد ذلك بـالأنثروبولوجيا الفرنسية.

كتب ذات صلة:

مستقبل العلوم الاجتماعية في الوطن العربي

إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية: الفكر العربي والفكر الغربي المعاصر

مساهمة العرب في تطوّر المعرفة العلمية: أعمال رشدي راشد في الرياضيات مرجعاً