أثبتت الأحداث والوقائع، أن صاحب القرار الفعلي في حاضر ومستقبل، الكيان الصهيوني، وفي التحكم في تصرفات عصابة الحكم في هذا الكيان، هو أمريكا! فالقرار النهائي في يد الولايات المتحدة، ولا يغرّنك تصرفات أي فرد من أفراد هذه العصابة ورئيسها وهو النتن/ياهو، أن يملك قرارًا، بل يتصرفون كما لو أنهم في عرض «أراغوز»، حيث يحرك كل الشخصيات طرف واحد، لا يظهر علانية، وربما يظهر في الوقت المناسب! هكذا هي أمريكا وريثة هذا الكيان الصهيوني، عقب الحرب العالمية الثانية، ومكثت مدة في ترنح وتردد ودوار، لأنها لم تكن قد سيطرت بعد على النظام العالمي، بعد أن ورثت الاستعمار الأوروبي، ومعاهدات سايكس بيكو، ووعد بلفور (أعطى من لا يملك.. لمن لا يستحق)، بأن تكون أرض فلسطين، هي أرض الميعاد، وقد تبدأ بجزء منها، ثم تتمدد حتى تحقيق حلم الدولة الصهيونية من النيل (مصر)، إلى الفرات (العراق)، وما بينهما في سوريا ولبنان والأردن والسعودية. فأمريكا لم تكن بعد قد استوعبت الوظيفة الاستعمارية للكيان الصهيوني، إلى درجة أنه في عام 1956، عندما شارك الكيان الصهيوني مع إنكلترا وفرنسا في العدوان على مصر، بعد تأميم الزعيم جمال عبد الناصر قناة السويس، أن بادرت أمريكا مع الاتحاد السوفياتي، في توجيه الإنذارين الشهيرين ضد الدول الثلاث المعتدية بالانسحاب ووقف العدوان! كما أن ما يؤكد عدم تمكن أمريكا من استيعاب الوظيفة الاستعمارية لهذا الكيان الصهيوني، كما خطط الاستعمار التقليدي القديم، لها، هو أن جون كيندي، رئيس أمريكا الأسبق، قد أعلن تعاطفه مع القضية الفلسطينية، وأظهر عدم العداء لمصر/ عبد الناصر، فأدى ذلك إلى اغتياله، وقيدت ضد مجهول. إلا أن القاتل هو الصهيونية العالمية بدعم من الاستعمار القديم الذي سقط بعدوانه الثلاثي على مصر، وذلك لتخويف من يحل محل كيندي، من الانحياز للقضية الفلسطينية، وحسبان عبد الناصر ومصر، عدوًا للاستعمار، يجب التخلص منه.
إذًا، نحن أمام حقيقتين هما: الأولى: أن أمريكا ورثت الاستعمار الأوروبي، بل وشاركت مرة في انتصاره إبان الحرب العالمية الثانية، ثم أجهزت عليه في عدوانه من خلال إنكلترا وفرنسا، بمشاركة ذيلهما «الكيان الصهيوني» – آنذاك – على مصر، فكان أن تعاونتا (موسكو وواشنطن)، في إنهاء الوجود الاستعماري الأوروبي، لتحل أمريكا، محله، وتبدأ في السيطرة على العالم، كوريثة لهذا الاستعمار، ومن ثم تبدأ في طرح نفسها كمركز قوة عالمي. وقد بدأت فكرة التأقلم والتموضع في شكل الكتلة الغربية في مواجهة الكتلة الشرقية، بأداتهما العسكرية (الأحلاف – وارسو والناتو)، وأداتهما الاقتصادية (منظمة الكوميكون والسوق الأوروبية المشتركة التي تطورت إلى الجماعة الأوروبية ثم الاتحاد الأوروبي). وقد طرحت أمريكا نفسها كرمز للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومبادئ نيلسون الشهيرة، إلا أن ذلك كان المقدمة لمداعبة خيال دول العالم الثالث، بل العالم كله، بوصفها جنة الله في الأرض، وحامية الحريات من كل لون ودرجة، ومكثت عدة سنوات على هذا النحو!، إلى أن تم الكشف عن وجهها الاستعماري البغيض الذي لم يتغير عبر الأزمنة! الثانية: كانت الرسالة من اغتيال جون كيندي، هي تتويج سيطرة الصهيونية العالمية على الدولة الأمريكية العميقة، وأصبحت تديرها لحسابها، وخلعت عنها الرومانسية في الادعاء بالحريات الأربع عشرة (14)، وغيرها، بل تضمنت رسالة تهديد صريحة لكل من يخرج من رؤساء أمريكا عن التخلي عن دعم الكيان الصهيوني، وبدء توظيفه لخدمة المشروع الصهيوني العالمي، والاستعمار الأمريكي لبسط نفوذه على المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط، وبخاصة بعد تفجر آبار البترول الذي سُمي آنذاك بالذهب الأسود. وبالمتابعة والتحليل، لم يظهر رئيس أمريكي واحد بعد كيندي قد تعاطف مع القضية الفلسطينية وشعبها ومقدساتها، بل إن كل رئيس بذل جهدًا في تقريب المسافات بين الكيان الصهيوني والدول العربية، كان بهدف تحقيق استقرار هذا الكيان، والسيطرة على دول عربية بعينها مثل مصر والأردن، وخلق سلطة فلسطينية عميلة مثل حكومة سايغون، في فيتنام، وقضى عليها في النهاية. أي أنه في النهاية، كل ما وُقع من اتفاقات سلام، هي اتفاقات إذعان واستسلام، وربما تكون هدنة مؤقتة مع الكيان ومع الأمريكيين، وليست اتفاقات سلام حقيقية. والدليل في ذلك، أنه لم يتحقق أي سلام في المنطقة على الإطلاق، بل شهدنا جولات في لبنان، وفي العراق، ثم ليبيا والسودان، واليمن، وأخيرًا في سورية، بإسقاط نظام بشار الأسد المقاوم والرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني أو الانصياع لأمريكا. وخلال ما يقرب من خمسين عامًا على زيارة السادات للقدس واتفاقيتي كامب ديفيد، والمعاهدة المصرية مع الكيان الصهيوني، وما يزيد على خمسين عامًا على حرب أكتوبر 1973، لم تهدأ المنطقة، ولم تستقر، ولذلك تفجرت المقاومة الفلسطينية، وقامت الثورة الإيرانية، وتكونت جبهات المقاومة في المنطقة، بهدف تحرير فلسطين وبيت المقدس (القدس). بل إن أمريكا وعبر رؤسائها من عام 1962 وحتى الآن، وعلى مدار ما يزيد على ستين عامًا، دعموا الكيان الصهيوني، وجعلوه في درجة تفوّق عالية، تتجاوز قدرات البلدان العربية وبخاصة البارزة منها، وهي مصر والعراق وسورية على وجه الخصوص. بل إن الأمريكيين مكّنوا الصهاينة من التفوق النوعي الشامل على كل دول الإقليم، وإمعانًا في إذلال المنطقة، تم توريط صدّام في غزو الكويت في آب/أغسطس 1990، حتى تم طرده من الإقليم، وقبلها الحرب مع إيران لمدة ثماني سنوات (1980 – 1988)، لإنهاك قدرات الطرفين (العراقي – الإيراني)، ثم الحرب على العراق وإسقاط نظام صدام عام 2003، والقضاء على جيشه، واحتلال العراق ونهب ثرواته البترولية وغيرها، وكل ذلك في خدمة المشروع الصهيوني واستمراره متفوقًا بأقل الخسائر، من طريق تدمير الجيوش الكبرى في المنطقة (تأميم مصر عبر اتفاقيتي كامب ديفيد وتقييد قرارها وإرادتها)، ثم تدمير الجيش العراقي الذي لم تقم له قائمة حتى الآن، ثم أخيرًا إسقاط الأسد وتدمير الجيش السوري بالكامل! فما الذي تبقى ليدخل المواجهة مع الكيان الصهيوني إذًا؟!
لذلك فإن أمريكا، هي الضامن الأساسي لاستمرار الكيان الصهيوني، وولية أمره من جانب، فضلًا عن أمريكا ذاتها تتنفس صهيونيةً، بتحالف الدولة العميقة في أمريكا التي تضمن عدم خروج أي رئيس عن إرادتها وهيمنتها، بل حتى الكونغرس بمجلسيه، وإن تظاهر أعضاؤهما، بالحرية والديمقراطية، فهم خاضعون جميعًا لمشيئة هذه الدولة العميقة، وممولون من الصهيونية العالمية، ويدارون جميعًا من خلال منظمة «الأيباك» اليهودية الصهيونية في أمريكا، بوصفها أكبر لوبي ضاغط في أمريكا لتنظيم العملية السياسية وإدارتها والتحكم فيها، بحيث يظل هذا التحالف قويًا، وعضويًا، بين أمريكا والكيان الصهيوني، وكأنه أبَدي. حتى إن الكتابات التي تصف هذه العلاقة في مواجهة الأصوات الرافضة لاستمرار دعم هذا الكيان من أموال دافعي الضرائب، تشيع دائمًا أن الكيان الصهيوني، يمثل الولاية الرقم (51) ضمن الولايات الأمريكية!
وبالتالي: فإن الهدف الأساسي من هذا الدعم المطلق من أمريكا للكيان الصهيوني هو: إعاقة تنفيذ أي مشروع وحدوي عربي، وإعاقة التقدم والنهضة للشعب العربي، وهذا ما يفسر لنا، إصرارهم على إجهاض تجربة ناصر التنموية، وتجربة صدام، وتجربة الأسد، والقذافي، وبومدين،.. إلخ، وإخضاع بلداننا العربية لسياسات الرأسمالية، بتعليمات الصندوق والبنك الدوليين، بوصفهما أدوات الإصلاح، وهي مشروعات تخريبية، في خدمة أمريكا ونفوذها، وربيبتها ممثلة بالكيان الصهيوني.
وفي هذا السياق، فإن مسارعة الرئيس الأمريكي ورؤساء أوروبا، لدعم الكيان الصهيوني وإنقاذه، بعد الهزيمة المُرة في طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ومحاولة قلب الانتصار الفلسطيني، إلى انتصار وهمي للكيان، بكل ما يملكون من أدوات القوة، تؤكد إصرار الاستعمار الأمريكي، والأوروبي، على استمرار الكيان وحمايته، واستمرار وظيفته. لذلك كان التعامل مع الطوفان، بانتقام، وليس بمجرد حرب عادية، وهنا فالعناق الأمريكي الصهيوني في الاغتيالات التي حدثت مباشرة (الرئيس إسماعيل هنية، والسيد حسن نصر الله، والسيد هاشم صفي الدين، والقائد يحيى السنوار الذي استُشهد في المعركة داخل غزة)، أو قيادات الصف الثاني، ما هو إلا مظهر انهزامي إفلاسي انتقامي، وحتمًا سيبوء بالفشل. أو بشكل غير مباشر، مثل استخدام “البيجر” واللاسلكي، الذي أدى إلى استشهاد وإصابة ما يزيد على أربعة آلاف شخص، ما هي إلا مظهر انتقامي إجرامي، وسط دعم أمريكي مباشر.
وقد تسابق الجميع في أمريكا وأوروبا على التفاخر بصهيونيتهم، وليس بيهوديتهم فحسب، وجميعهم رسبوا في الانتخابات في أمريكا وكندا، وبريطانيا، وفرنسا، وأخيرًا ألمانيا، وخرج مِن المشهد مَن تصدره بعد طوفان الأقصى، ليأتي زمن ترامب لمدة أربع سنوات من الآن وحتى عام 2029، وسط تحولات كبيرة بلا حدود مؤكدة.
أخلص إلى القول بأن أمريكا هي التي تدير المشهد، وتدير الكيان، وعصابة الحكم برئاسة النتن/ياهو، وأيضًا المعارضة الوهمية، ليسوا إلا موظفين لدى الرئيس الأمريكي الذي تديره الدولة العميقة المتحالفة مع الصهيونية العالمية. إن النتن/ياهو، الذي يبدو على المسرح وكأنه زعيم، وغضنفر، ما هو إلا سكرتير ومعه أعضاء عصابته، في مكتب ملحق بالبيت الأبيض، كأدوات. ويكفي القول تأكيدًا لذلك، أن قرار وقف النار على الجبهة اللبنانية، أصدره الرئيس السابق جو بايدن، وقرار وقف النار في غزة أصدره بايدن وترامب معًا، وقرار تدمير سورية كان قرارًا أمريكيًا والمنفذ صهيوني – تركي، وقرارات الاغتيالات أمريكية. فهل فهمنا، من نحارب، حتى نعيد رسم استراتيجيتنا العربية، فلم يعد هناك من خيار سوى المقاومة، والمقاومة العسكرية بالأساس، لتحرير فلسطين، والقدس، وكاملة من النهر إلى البحر، وعاشت المقاومة، فهي الأمل الذي نتمسك به.
القاهرة في السبت 2 شباط/فبراير 2025
كتب ذات صلة:
تدمير سورية وتشريد شعبها من المسؤول؟
العراق بعد الغزو: تشرذم – ولادة جديدة – اندماج
المصادر:
جمال زهران: أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس – مصر. وهو رئيس تحرير المجلة العربية للعلوم السياسية ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.
هذه هي افتتاحية العدد 11 سنة 2025 من المجلة العربية للعلوم السياسية.
للحصول على العدد تفضلوا بالضغط على الرابط:

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.