“إن تراث باومغارتن فوق كل شهادة”

روني شار

ملخص

إذا كانت التصنيفات التاريخية تُقسم العصور إلى قديمة ووسيطة وحديثة؛ فإن تاريخ الفن يمكن تقسيمه إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل سنة 1750، ومرحلة ما بعدها. ففي هذه السنة الفارقة أصدر المفكر الألماني ألكسندر باومغارتن الجزء الأول من كتابه الإستيطيقا، وأعلن فيه عن تسمية جديدة لهذا العلم، وهي تسمية مأخوذة من الإرث اليوناني العريق. لكن عمل باومغارتن، لا يتوقف عند حدود التسمية، فهو أول من حدد المجال الذي يتحرك فيه هذا العلم وموضوعه ومنهجه.

ولا يمكن فصل الحديث عن هذه المحطة الفارقة في تاريخ المعرفة الجمالية، عن السياقات التاريخية والإيبيستيمولوجية التي ألهمت المفكر باومغارتن وضعَ مصطلح، سيحصل على حقوق المواطنة في ألمانيا، بتعبير هيغل، وسيؤثر في مجمل الفكر الجمالي بعده، ولا سيما في تصورات كانط وهيغل.

بالحديث عن السياق الفلسفي العام، فقد ظل الفن والجمال منذ العصور القديمة والوسيطة تابعين للميتافيزيقا والأخلاق: وهو ما يظهر في محطاته البارزة مع أفلاطون وأرسطو، ومع التفكير الديني المهيمن في العصر الوسيط. حتى في بدايات العصور الحديثة التي بدأ فيها الحديث عن العقلانية والتخصص، وجد هذا المجال نفسه رهين مباحث أخرى؛ إذ نظر ديكارت إلى “الجمال” من وجهة نظر رياضية، فعَدّ الشكل الجميل شبيهًا بالشكل الرياضي المنتظم الذي يحتوي على أقل عدد من الخطوط، ويتصف بالوضوح والتمايز. فقد كانت الرياضيات، بداية العصر الحديث، النموذج الأكمل للعلوم. كما أن لايبتنز كتب عن الموسيقى بلغة الرياضيات؛ أي كتب عن الفن بلغة غير فنية. وكلا النموذجين -ديكارت، لايبتنز- يُجسدان سيادة النزعة الرياضية: الوضوح والتمايز والدقة والصرامة.

في السياق العلمي نفسه، ظهر المنهج التجريبي، ولا سيما على يد هيوم ولوك في إنكلترا، وحاول إدخال التجربة المعملية إلى مجال المعرفة الجمالية بالحديث عن “سيكولوجيا الجميل”. واعتمادًا على مقولات هذا المنهج؛ رأى أصحاب هذا التيار أنه بالإمكان الوصول إلى معايير فنية بناء على تجارب تجرى على مجموعات، ومن خلالها يمكن الوصول إلى قوانين، ومن ثمة، تعميمها.

حاول باومغارتن أن يحدد المجال الذي يتحرك فيه علم الجمال، وربط المعرفة الجمالية بالحس. فبدون المعرفة الحسية، ولا سيما السمع والبصر، لا نستطيع التعامل مع الجمال، بوصفه يمس الخيال والشعور أسَاسَيْ إحساس المتلقي بالتجربة الجمالية التي تميز إدراكنا.

وإذا كان باومغارتن قد سعى إلى تأسيس “علم مستقل”؛ فإنه لم يتخلص من بقايا الأفكار الميتافيزيقية؛ ويتجلى ذلك في اعتماده معيار الكمال، بوصفه أحد معايير الحكم على الجميل، فالكمال عندما ينشد موضوع معرفة واضحة ومتميزة يُسمى حقيقةً؛ والكمال عندما يكون سلوكًا يسمى خيرًا؛ والكمال عندما يكون موضوعَ الشعور والإحساس يسمى جميلا.

المفاهيم والمصطلحات: الجمال – الفن – الإستيتيقا – المعرفة الحسية – الكمال – الإدراك – الخيال – الشعور.

أولًا: ألكسندر غوتيلب باومغارتن: مؤسس علم “الإستيطيقا”

يقترن مصطلح “الإستيطيقا” بالمفكر الألماني باومغارتن، ولا يمكن معالجة ظهور هذا المصطلح وانتشاره، خارج التقاليد الفلسفية الألمانية. ففي إطار هذه التقاليد، يمكننا فهم التعريف الذي قدمه باومغارتن لهذا الاختصاص المعاصر، بوصفه محاولةً لرسم حدود مجال متنوع؛ وفيه نجد موضعا للمذهب الحسي، ونظريات الفن، ومسألة الخيال المنتج، والمنظور إلى الذوق.

1- من هو باومغارتن؟

وُلد ألكسندر غوتليب باومغارتن سنة 1714 في برلين، وتوفي سنة 1762 في فرانكفورت، درس الفلسفة على يد كريستيان فولف، وصار من أبرز تلاميذه ومذيعي فلسفته، لكن شهرته الأساسية كانت أبحاثه في علم الجمال التي بدأها بكتابه تأملات فلسفية في بعض المواضيع المرتبطة بماهية الشعر والميتافيزيقا، وفيه وضع بذور آرائه في هذا العلم، وطوّر هذه الأفكار في محاضراته التي ألقاها في جامعة فرانكفورت، وعبّر عنها بصورة منطقية في كتابه الذي لم يكمله الإستيطيقا، وصدر في ما بعد في مجلدين. كما أصدر كتابًا عن الميتافيزيقا عرض فيه أهم أفكار أستاذه فولف. وإضافة إلى تأثر باومغارتن الكبير بهذا الأخير، فقد تأثر أيضًا بآراء ليبتنز، ولا سيّما مبدأ “الانسجام الأزلي”[2].

2- تسمية “الإستيطيقا”: الأصل الإيتيمولوجي وإشكالات المصطلح

وَضع أموروزو عنوانًا دالًّا لمجموع نصوص باومغارتن وكانط، يمكن ترجمته بـ”تسمية الإستيطيقا”؛ إذ إن ولادة هذا “العلم” تمت سنة 1735 عندما نشر باومغارتن هذا الاصطلاح في كتابه “تأملات فلسفية في بعض المواضيع المرتبطة بماهية الشعر والميتافيزيقا“.

يرجع أصل المصطلح الذي وضعه باومغارتن إلى اللغة الإغريقية، إذ يحيل الأصل الإيتيمولوجي[3] للكلمة في هذه اللغة على معانٍ كثيرة متضمنة: الشعور والإحساس والخيال في صيغة النعت، أما الاسم الذي اشتق منه هذا النعت فهو يعني فقط: الشعور.

وقد انتشر هذا الاسم في ألمانيا كما يشير إلى ذلك هيغل في كتابه “مدخل إلى علم الجمال” بقوله: “فبومغارتن هو الذي أطلق اسم الإستيطيقا على علم تلك الإحساسات، على نظرية الجمال تلك. وذاك المصطلح مألوف لدينا نحن الألمان، لكن الشعوب الأخرى تجهله. يقول الفرنسيون نظرية الفنون أو نظرية الآداب الجميلة، ويدرجها الإنكليز في النقد… والحق أن مصطلح الإستيطيقا ليس أنسب المصطلحات، وقد اقترحت تسميات أخرى: “نظرية العلوم الجميلة”، “الفنون الجميلة”، لكن هذه التسميات لم يكتب لها البقاء… سوف نأخذ إذًا بمصطلح الإستيطيقا… هذا المصطلح فاز بحقوق المواطنية في اللغة الرائجة، وهذه بذاتها حجة لا يُستهان بها في تأييد الإبقاء عليه”[4].

ثانيًا: السياق الفلسفي لفرضيات باومغارتن البحثية:

تندرج فرضيات باومغارتن ضمن التقليد الفكري لـ”ليبتنز” (Leibniz)[5] و”فولف” (Wolff)[6]، حيث أُعيد النظر في مسألة الشعور من داخل مجال المعرفة. وتُقسم المعارف في التقليد، المشار إليه، إلى نوعين: المعارف الواضحة، المعارف الغامضة.

تنقسم المعارف الواضحة بدورها إلى ملتبسة ومتمايزة؛ وتندرج المعارف الملتبسة في مجال المعرفة الحسية، بينما تندرج المعارف المتمايزة في مجال المعرفة العقلية.

سعى باومغارتن من خلال تعريفه “للإستيطيقا” إلى تأسيس “علمٍ يختص بمَلَكَة المعرفة الدنيا”، في مقابل المنطق الذي يختص “بمَلَكَة المعرفة العليا”. وفي الآن نفسه، فـالإستيطيقا عند باومغارتن هي نظريةٌ للفنون الجميلة، ولا سيّما “فن الشعر”: فتأملاته[7] هدفت في الواقع إلى تأسيس “فلسفة للشعر”؛ أيْ علم لدراسة الشعر. وهذا لا يمكن فهمه إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الجمال عند باومغارتن هو “كمال المعرفة الحسية”، والشعر هو “الخطاب الحسي الكامل” في معرفة عصره وما قبله، وهكذا يقترن، عند باومغارتن، العلم الحسي بنظرية الفنون.

نجدُ في كتابه تأملات مسألة مهمة تحتل مكانة مركزية في ولادة علم الجمال: هي الخيال. يُؤكد باومغارتن أن “المحسوسات” ليست فقط هي الأحاسيس التي نحس بها في اللحظة الآنية، وإنما تشمل أيضا تلك المُعطيات المحسوسة، وإن لم تكن حاضرةً؛ أي الصور (في النص اللاتيني فانتسماتا تعني الاستيهامات).

يصل باومغارتن بناءً على هذه التأملات، التي غلب عليها الطابع النظري في منهجية الإدراك، إلى النتيجة التالية:

“إذن، نستطيع معرفة “المعقولات” بواسطة المَلكة العليا، موضوع المنطق؛ بينما نتعرف “المحسوسات” بواسطة الملكة الدنيا، وهو موضوع الإستيطيقا”[8].

هذا يعني أن الاصطلاح الذي تم اختياره: “الإستيطيقا”، هدف إلى تعيين المعرفة الجديدة، وتم ابتكاره ضمن تقليد ينظر إلى موضوعة “الحساسية” في صلب التفكير المتعلق بإشكالات الفن. وانطوى على تحرير إبداعي شعري للخيال وقدرته على الإنتاج.

1- من التسمية إلى تحديد المجال: الإستيطيقا: علم الجمال

قدم بومغارتن تعريفًا دقيقًا للمجال المعرفي الذي تحدث عنه في كتاب التأملات 1735، وذلك في كتابه “الإستيطيقا” 1750:

“الإستيطيقا (نظرية الفنون المتحررة[9]، المعرفة الدنيا، فن التفكير بطريقة جميلة، فن التناسب العقلي) هي علم المعرفة الحسية”[10].

هذا التعريف هو تلخيص مركز؛ إذ إنه يوضح أنه قبل “تسمية” الاختصاص، لا بد أن يكون هناك موضوع محدد بدقة له. فالإستيطيقا كانت ميدانا تلتقي فيه مجموعة من التوجهات. فقد كان يدل على “نظرية الفنون” (أكثر دقة، حسب العصور الوسطى، الفنون المتحررة؛ وهي عكس كل ما هو “ميكانيكي” أيْ له هدف إنتاج لذة وظيفية)؛ وعلى شكل من المعرفة “الدنيا” يُؤسس فيها المعنى عن طريق الحدس في العلاقة مع الأشياء، بدون وساطة العقل؛ وعلى فن التفكير الذي ينظر إلى الجمال (وبهذا المعنى، البلاغة هي الإستيطيقا المباشرة)، وفي الأخير، يدل على “التناسب العقلي” الذي يُدرجه التقليد الفلسفي مع الخيال.

كان لباومغارتن الفضلُ في أن نبهنا إلى أن الإستيطيقا ليست اختصاصًا موحدًا: فمن خلال سعيه إلى تحديد موضوعها، أدمجها داخل سياق فلسفي محدد. وعبر مسعاه ذاك، بَينَّ أن هذا الاختصاص يتَشكل من مجموعة من الموضوعات التي يجمعها قاسم معرفي مشترك ومهيمن، يتمثل بإحالتها جميعها على الحس.

يندرج هذا التحديد لمجال الإستيطيقا ضمن التيار العام الساعي إلى إعادة الاعتبار للإحساس، بوصفه مصدرًا للمعرفة، وهو ما ميّز ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ فمن جهة نجد الفلسفات التجريبية، ومن جهة أخرى نجد الفلسفات التي تعارضها؛ أيْ الفلسفات الديكارتية. وتُعد عملية إعادة الاعتبار للتفكير في الحس نتيجةَ سيرورة أكثر اتساعًا، انخرطت فيها الثقافة الأوروبية في هذه المرحلة التي تميزت ببروز الذاتية وتجلياتها. ومن بين هذه التجليات يحتل الشعور مكانةً مركزيةً.

ففي نحو نهاية القرن السابع عشر بدأ التفكير بأن الأحاسيس أيضًا يمكن أن تدخل في مجال المعرفة. واستثمر هذا الخطاب، بخاصة، المجال الفني؛ حيث بدأ الشعور يعلن على نفسه في الواقع، بخاصة في الميادين الغامضة، وشكلت الفنون الموضوع الأمثل للإشارة إلى الحس والشعور. وهكذا ارتبطت موضوعة “الحسية”، بوصفها خطابًا للحواس، بنظرية الفنون. ودخل الشعور ضمن التفكير في عمليتي الإبداع والتلقي الفنيين، وهما معًا تحيلان على مفهوم الذوق.

2- بذور الإستيطيقا في كتاب “التأملات”

أ- التأملات: إشكالية العلاقة بين الخطابة والشعر

كتاب التأملات نص مفتاح، ولم يُنتبه إليه كثيرًا نقديًا، أو تمت قراءته جزئيًا. ويعدّ هذا المؤلف ممهدًا لـ”الإستيطيقا”؛ ففيه، وضع باومغارتن الخطوط العريضة لهذا العلم وفرضياتٍ عن إمكان قيامه. كل هذا، من خلال تحليل الخطاب الشعري، بوصفه تجسيدًا لكمال المعرفة الحسية.

بَيّن باومغارتن أن المعرفة الحسية ليس لها منطق خاص بها فقط، وأنها تنتمي إلى ميتافيزيقا الظاهر. وسمى دانيال ديموشيل هذه الخطوة “الاعتذار للإحساس”[11]، وهو ما يفهم من الإحالة المستبطنة التي قام بها باومغارتن على ليبتنز في الفقرة 22 من التأملات، إذ يقول: “يجب أن تكون الغاية الأساسية من الشعر هي تعليم الفطنة والفضيلة بواسطة أمثلة”، وهذه القولة تدعو إلى الدفاع عن الحساسية، بوصفها ثمرة الإبداع، من منظور تعليمي وشعري في الآن نفسه.

كما يظهر في الكتاب أيضًا حرص باومغارتن على الدفاع عن الغايات الكلاسيكية للفن، ويتبين ذلك أكثر في الفقرة 25:

“المشاعر هي درجات ملحوظة بشكل واضح من الاشمئزاز واللذة؛ إحساسهما هو موضع، وبالتالي الموضوع الذي تحضر فيه بشكل غامض بعض الأشياء مثل الجيد والرديء، وبذلك فهما يتحددان في التمثيلات الشعرية، فالشعري هو إذًا ما يثير الأحاسيس”.

إن المقصدية الأولى لهذه الموضوعة هي تأسيس وحدة بين الشعر والخطابة والفلسفة؛ وهذا رد على “الادعاء” الأفلاطوني القديم، القائم على النزاع بين الفلسفة والشعر. إن هذه الرؤية تؤسس لما نسميه اليوم “الفنون الجميلة”، أو ما يسمى في اللاتينية “الفنون المتحررة” أو “العلوم الجميلة”. ويتسم الكتاب بالإحالات الكثيرة على هوراس[12] وسيسيرون[13] ولكنها كلها مدرجة في إطار البحث على نوع من “الميتا-شعرية”، كل هذا، من خلال مبحثين هما الفلسفة والبلاغة، في إطار نظرية توحيدية يمكن تسميها “الإستيطيقا”.

ب- الإستيطيقا والأخلاق والشعر

مثلت فكرةُ أن الشعر ليس تأليفات بسيطة، ولكنه أيضًا صوت أساسي للوصول إلى الحقيقة الميتافيزيقية نقطةَ الارتكاز المحورية لنظرية باومغارتن، وبالتركيز على هذه الفكرة، رأى باومغارتن أنه للوصول إلى الحقيقة الميتافيزيقية من “الشعر”، يجب أن ننطلق من “الحس”، فما يميز الخطاب الشعري عن باقي الخطابات هو الكمال. يمثل الشعر في جوهره شكلًا من “المنطق الحسي”؛ وبالتالي، يمكن أن يكون موضوعًا للبحث الفلسفي.

يتقاسمهذا المنظور إلى الشعر باومغارتن مع عدد من منظّري الشعر، ولا سيّما فولف، والسويسريين جاهان وجاكوي، وبودمر، وبريتنر؛ إذ عمل كل هؤلاء على ربط الشعر “بمنطق التخييل”، وهذا ما دفع باومغارتن إلى القول بأن “الأفكار التي تستعمل للبحث عن المعقولات، هي عامة بين كل الأشياء”.

ميز باومغارتن بين الشعر والفلسفة من خلال قوله: “نعتقد أنه من المستحيل أن تكون للفلسفة والشعر المكانة نفسها: إذ تبحث الفلسفة عن التمييز الدقيق للمفاهيم؛ بينما الشعر لا يهتم بهذا”، ومع كل هذا سعى إلى أن يبرهن بوضوح على أن الفلسفة وعلم نَظْم الشعر، اللذين نعتقد عادة أنهما متباعدان، يشكلان زوجا، الوحدة بينهما تقوم على المحبة”.

لقد زاوج المفكر في حياته بين تدريس الشعر والفلسفة العقلانية. وهو ما سمح له بتغذية معرفته النظرية، وبالبحث في الأسس الفلسفية للشعر.

ج- أطروحات باومغارتن سنة 1735

ينتظم كتاب التأملات حسب الترتيب التالي:

– من الفقرة 1 إلى الفقرة 11: تطوير فكرة الشعر وبعض المواضيع التي تتعلق به.

– من الفقرة 12 إلى الفقرة 64: صور التفكير الشعري.

– من الفقرة 65 إلى الفقرة 76: عرض المنهجية الواضحة للشعر.

– من الفقرة 77 إلى الفقرة 107: تقويم المفاهيم الشعرية.

– من الفقرة 108 إلى الفقرة 117: مقابلة مع تعريفات أخرى للشعر، متبوعة بملاحظتين عن الشعر بشكل عام.

وما يهمنا في هذا الكتاب هو إبراز الملامح الأولى لتأسيس “الإستيطيقا”، ولا سيّما الفقرات من 115 إلى 117 التي يقدم فيها استنتاجات تُبشر بظهور هذا العلم الجديد.

يعرف باومغارتن، في القفرة 9، الشعر بأنه “خطاب حسي كامل”؛ هذا التعريف يُغفل القافية والإيقاع، وهو يتقصد البحث عن جوهر الشعر باعتباره فنًا ندركه بالمعرفة الحسية التي هي غاية “الإستيطيقا”.

ينطلق المفكر من فرضيتين أساسيتين:

– نسمع من خلال الخطاب متوالية من الكلمات تشير إلى تمثيلات مرتبطة بشكل كلي.

– يسمح الخطاب بتَعَرف التمثيلات المرتبطة بشكل كلي.

إن نقطة انطلاق الإستيطيقا هي خطابية؛ فكلمة (Oratio) تعني في اللاتينية “خطاب” وكذلك “صلاة”. وبهذا المعنى الثاني يتقصد باومغارتن عملية النقل الطقوسي. وهنا تأكيد على شحنة الإرسال؛ وهو سؤال “الشعرية” بمعناه العام، الذي ينطلق منه فن الخطاب.

إن التيار الذي انخرط فيه باومغارتن سعى إلى إعادة الاعتبار للخطابة؛ الاستعمال الجيد لفن الإقناع. وهو ما سعى إليه أرسطو سابقا بمعارضة أستاذه أفلاطون، وكذلك السوفسطائيين. فـ”الخطابة هي نظير الجدل” عند أرسطو، والاستعمال الجيد للخطاب يقاس بأخلاق الخطيب. لقد ميز أرسطو بين الخطيب والسوفسطائي، ومدار هذا التمييز يقوم على أساسين: الأدلة في الخطاب من جهة، وأخلاق الخطيب من جهة أخرى. وهذا “الهم الأخلاقي” هو الذي دفع باومغارتن إلى صياغة مفهوم “الإيتوس الإستيطيقي” خمس عشرة سنة بعد كتاب “التأملات”.

يسمح الخطاب بمعرفة مجموع التمثيلات المترابطة فيما بينها بشكل منطقي. فانسجام الشعر يتأسس على علاقة تناظرية بين تناسق العالم المحدد بشكل مسبق وتناسق التمثيلات التي تَنْظُم المادة الشعرية ككل منسجم وحامل للمعنى. فالعالم حسب باومغارتن مصمم مثل قصيدة عظيمة تتجلى فيها عظمة الخالق؛ لهذا فالنشاط الشعري في معناه العام يستطيع التعبير بصورة صحيحة على نظام الأشياء المخلوقة.

إن فهم تصورات باومغارتن للشعر لا يمكن فصلها عن التعريفات الفلسفية التي صاغها لاحقا في كتابه الميتافيزيقا 1937.

3- الخلفية الفلسفية لتصور باومغارتن لأنواع المعرفة

يقدم باومغارتن تصنيفات محددة لأنواع المعرفة؛ وهي تستند على الأسس الفلسفية لـ”ليبتنز”. وبخاصة حول طبيعة التمثلات التي أسست لـ”الإستيطيقا الفلسفية”.

يقول ليبتنز: “المعرفة إما غامضة أو واضحة؛ المعرفة الواضحة بدورها إما ملتبسة أو متمايزة؛ المعرفة المتمايزة إما كافية أو غير كافية؛ وهي أيضا إما رمزية أو حدسية: وإذا كانت المعرفة كافية وحدسية في الآن نفسه، فهي الأكثر كمالا في الإمكان”.

إن هذه الثنائيات المتعارضة: (الواضح/الغامض)؛ (المتمايز/الملتبس)؛ (الحدسي/الرمزي)، حاضرة بشكل جلي في “التأملات”.

فالثنائية الأولى تتعلق بالهوية، فوضوح التمثيل يدل على أني قادر على رؤية الموضوع، وتعرفه باعتباره “هو”، خلافًا للآخرين. وعلى العكس من هذا عندما تكون التمثيلات غامضة، لا أستطيع رؤية شيء، ولا أكون قادرًا على تمييزه عن الآخرين.

وهذا ما يوظفه باومغارتن في عرضه لصور الأفكار الشعرية؛ ففي الفقرة 13 من التأملات يقول: «لا تتضمن التمثيلات الغامضة تمثيلات كافية لوضع علامات تمييزية لتعرف الموضوع الممثل وتمييزه عن الآخرين؛ وعلى العكس من هذا التمثيلات الواضحة تتضمن قدرا كافيا من العناصر التي تسمح بتوصيل التمثيلات الحسية…؛ وبالتالي، فالشعر الذي يتضمن تمثيلات واضحة هو أكمل من الشعر الذي يتضمن تمثيلات غامضة، والتمثيلات الواضحة هي أكثر شعرية من التمثيلات الغامضة”.

وهكذا ينظر باومغارتن، تبعًا لـ”ليبتنز” إلى الموضوع بوصفه كلًا من التحديدات، ومن النقط المتمايزة التي تشكل مجموعا منسجما نستطيع من خلاله بناء صورة.

أما الثنائية الثانية (الملتبس/المتمايز) فهي التي تبرر قيام علم جديد للحس. فعلى العكس من التمثيلات الملتبسة، التمثيلات الغامضة لا تسمح بأية معرفة. فهي حسب باومغارتن في كتابه “الميتافيزيقا” تشكل “عمق الروح”، يقول عنها في الفقرة 511: «توجد في الروح إدراكات غامضة، مجموعها يسمى عمق الروح».

وهكذا يرى باومغارتن، وكذلك تبعًا لـ”ليبتنز”، أننا كائنات متجسدة (لحمية)، ولسنا كائنات روحية قادرة على التفكير المجرد والمستقل عن الجسد الذي نسكنه. فتمثيلاتنا “تقاس بموقع جسدنا في هذا العالم”؛ وبالتالي، فعلاقتنا بالعالم، وعلاقتنا بالمعرفة محدودة بجسدنا الذي هو نحن ويعد من أهم خصائصنا.

المعرفة الملتبسة تعني في أصلها اللاتيني الأول “المختلط”؛ ولكن المعنى المتداول هو أن لها “نظامًا خاصًا”. يوظف باومغارتن المعنى الأول فالتمثيلات الملتبسة هي المرتبطة كليا. وهذا الارتباط هو الذي يجعلها مستحيلة على التمييز التحليلي الخاص بملكة المعرفة العليا.

لنأخذ مثالًا انطلاقًا من مسألة الشعر. فوضع قصيدة شعرية تحت التحليل الصارم كما نفعل مع النص الفلسفي لا يسمح بفهم أين تكمن شعريتها. فالعناصر مأخوذة في كليتها هي ما يعطي إيقاع القصيدة، معناها، وشموليتها. وهذا ما يعنيه باومغارتن عندما يشير إلى “التباس” التمثيلات الحسية. فـ”الفكرة الحسية للشعر” ليست سوى “الكلية الجميلة” التي يخلقها الشعراء بتمثيلاتهم الحسية الواضحة والملتبسة.

ثالثًا: العوالم الشعرية، اللاهوت العقلاني ومسألة المنهج

يعالج باومغارتن صور الأفكار الشعرية، مقدمًا تمييزًا مؤسسًا آخر؛ مواضيع التمثيلات، أي “الاختلاق”.هل هي “صادقة”/”مباشرة في الكون” أم “خيالية”؟

“الاختلاقات” الصادقة هي الممكنة في عالمنا، والأخرى في عوالم ممكنة. وهذا يعني ولو أن باومغارتن لم يصرح بذلك بأن الاختلاقات الصادقة تتعلق بالتاريخ وكتابته، وهي أيضًا بحاجة إلى الإستيطيقا للوصول إلى جمال المحكي. أما النوع الثالث، الاختلاق الخيالي، فيعتبره غير شعري بالمطلق؛ لأنه تأليف لا يحيل إلا على نفسه، ولا يتضمن/ يقدم أي انسجام داخلي، وهو مستحيل في كل العوالم الممكنة، لأنه “لا يوجد فيه أي تمثيل، حتى ملتبس أو شعري للموضوعات الخيالية”.

تركز منهجية باومغارتن على الإشارة إلى نظام محدد يجب اتباعه لرصد تنامي التمثيلات، يُشبه قياس كثافة النور والظلمة. فالكمال الظاهراتي يكمن في وضوح الشيء وظهوره، ليبقى وفيًا للجوهر، الوضوح يسمح للظاهرة بالتجلي الكامل. وهنا نكتشف خلفية الخَطابة المسيحية، وهو ما يشير إليه المفكر في الفقرة الأخيرة من “التأملات” صراحة عن العلاقة بين الخطابة والشعرية: “تنقسم الخطابة إلى خطابة مقدسة ومدنسة؛ قضائية، احتفالية، واستشارية”.

1- علاقة الفلسفة بالشعر

تلخص الفقرة 115 علاقة الفلسفة بالشعر، يقول باومغارتن:”الشعرية الفلسفية هي العلم الذي يقود الخطاب الحسي إلى كماله”. تتضمن هذه الفقرة هجومًا على القواعد المنطقية الأرسطية والسيسيرونية: فحدودهما واسعة جدًا، ولكنها مختزلة كليًا في منطق المعارف المتمايزة، دون المعارف الملتبسة. وبالتالي، فهذا المنطق المختزل لا يقدم شيئًا لتوجيه الملكات المعرفية المسماة “دنيا”، ومن هنا يستنتج ضرورة قيام علم للنوع الحسي من المعرفة.

تتضمن الفقرة 116 تعريفًا أوليًا للعلم المستقبلي، يقول باومغارتن: «الفلاسفة اليونانيون وآباء الكنيسة ميزوا سابقًا وبدقة بين موضوع الإستيطيقا وموضوع المنطق… المنطق يعرف بأنه وسيلة لملكة المعارف العليا، والجماليات يجب أن تكون موضوع الإبستيميا الجمالية، أو “الإستيطيقا””.

إذًا، سعى المفكر إلى تأسيس “علم للمعارف الحسية”، لأن المنطق منذ أرسطو هو “أورغانون” اللوغوس الفلسفي، ولم يهتم بهذا الجانب، وبالتالي فـ”الإستيطيقا” ستكون مساعدًا للمنطق، ومكملًا لهذا النقص. هذا التأمل لا يفهم إلا من خلال مرافعة باومغارتن عن مشروعية هذا العلم في مقدمة كتابه “الإستيطيقا” سنة 1950.

“وعن الاعتراض القائل بأن الإستيطيقا هي فن وليس علم؛ أجيب بأن العلم والفن ليسا من طبيعة متعارضة. فكم من الفنون، كانت منذ القديم فنونًا ليس إلا، وبعد ذلك أصبحت علومًا؟” (مقدمة الإستيطيقا).

يتضح هذا التسوير للعلم الجديد من حيث مجاله وخصوصيته في الخلفية التي حددها باومغارتن في كتاب الميتافيزيقا 1739:

يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كل من يعرض أفكاره بطريقة حسية بأن الإستيطيقا هي موضوع صيغة العرض، وهي أكثر تفصيلًا من المنطق. وأن العرض يمكن أن يكون مثاليا أو غير مثالي. الطريقة غير المثالية في عرض التصورات تدَرسها الخطابة العامة، التي هي علم صيغة العرض غير المثالي للتمثيلات الحسية بشكل عام. وهي تنقسم إلى بلاغة مقدسة ومدنسة، قضائية، احتفالية واستشارية… إلخ، والثانية إلى شعرية ملحمية، درامية، غنائية وكذلك كل الأنواع المشابهة؛ ولكن الفلاسفة يجب أن يتركوا هذه التقسيمات للبلاغيين الذين تكون مهمتهم دراسة المعارف التاريخية والتجريبية. وعلى الفلاسفة الاهتمام بعرض العموميات وخاصة وضع الحدود الدقيقة بين الشعر و الخطابة”.

وتبين الفقرة 533 من كتاب الميتافيزيقا هذا التحديد:

“علم نوع المعرفة والعرض الحسي هو الإستيطيقا (منطق ملكة المعرفة الدنيا…)”.

وهذا ما سيطوره باومغارتن في كتابه الإستيطيقا في صياغة واضحة لهذا العلم الجديد سنة 1950، من خلال تحديد موضوعها؛ فهذا العلم، حسب المفكر، ومجموع حقائقه ليس جديدا، ولكنه لم يفكر فيه بـ”جمالية”؛ لقد كان هناك إستيطيقيون تطبيقيون قبل معرفة قواعد الإستيطيقا التي رفعتها إلى علم. فدور الإستيطيقا هو إعطاء الفنون غاية موحدة توجهها، ويجب أن تكون نظرية وعملية في الآن نفسه. علم وفن يعني: موهبة، خبرة، مهارة؛ أو بالأحرى مجموعة من الخبرات التي تقود إلى كمال المعرفة الحسية.

2- “الإستيطيقا” وفك الارتباطات

غاية الإستيطيقا هي الجمال، هذا التحديد يعلن عنه باومغارتن في الفقرة 14 من الإستيطيقا بقوله:”غاية الإستيطيقا هي كمال المعرفة الحسية على هذا النحو، أي الجمال.»، وما يميزها عن غيرها أنها:

– نظرية وعملية في الآن نفسه؛

– توحد مجموعة من الاختصاصات التي تقود إلى كمال المعرفة الحسية؛

– تمنح ما سماه باومغارتن في التأملات “المنهجية الواضحة”، وفي الإستيطيقا “النظام الواضح” أو “المنهجية”.

وتنقسم الإستيطيقا إلى:

-نظرية: تضم ثلاثة مباحث؛ الاكتشاف، المنهجية، الدلالة. وهو هنا يستعيد ثلاثية الخطابة القديمة (الإيجاد، الترتيب، العبارة)؛

-عملية: ولا نعرف عليها أي شيء في كتابات باومغارتن .

يؤسس باومغارتن لتقسيماته باستثمار المعرفة الفلسفية والفكرية السابقة؛ ويتجلى هذا في قوله: “تنقسم الإستيطيقا، كما الشأن عند أخيها البكر المنطق إلى: نظرية، مذهبية، عامة؛ وعملية، تطبيقية ومتخصصة”. ولم يقدم هذا المفكر تصورات عملية للإستيطيقا، ولكنه وضع الملامح الكبرى لما سماه “ميتافيزيقا الجميل” التي ستدفع إلى البحث في “جماليات الذوق” فيما بعد. يوضح كاسيرر هذا بقوله: “لا يمكن للإستيطيقا أن تكون علمًا، أو تصبح كذلك، إلا إذا حُددت في إعطاء مجموعة من القواعد التقنية لإنتاج التأليف الفني أو مجموعة من الملاحظات النفسية على تأثيراته… فالعلم يتخذ موضوعه ومعناه الفلسفي عندما يفهم ما يمثله ضمن عموم المعرفة، والمواضع والمكانة التي تعود له من مجموع هذه المعرفة”.

رابعًا: قراءة في تعريف باومغارتن للإستيطيقا

يعرف باومغارتن الإستيطيقا في الفقرة الأولى بقوله:

“الإستيطيقا (أو نظرية الفنون المتحررة، المعرفة الدنيا، فن التفكير الجميل، فن التناسب العقلي) هي علم المعرفة الحسية”.

كيف نفهم هذا التعريف المركزي الذي قدمه باومغارتن ؟ وهل ما وضعه المفكر بين قوسين هو مرادفات للإستيطيقا؟

تعني كلمة مرادف في اللاتينية “الاسم نفسه”؛ ولكن في المنطق الأرسطي، هذا المصطلح يدل على الأسماء التي يكون لها معنى مترابط، وتنضوي تحت جنس مشترك، ولكن دلالاتها مختلفة.

لقد تم تعريف الإستيطيقا بوصفها جنسًا مشتركًا لعلم المعرفة الحسية. والمرادفات التي تنضوي تحته لها خصائص مختلفة.

1- نظرية الفنون المتحررة أو العلوم-الجميلة

يقول باومغارتن: “قسم أرسطو فلسفته، والتي بفضلها ستتطور المعرفة الإنسانية، إلى: المنطق والخطابة والشعرية…، ولكن هذا التقسيم غير كامل. عندما أفكر في المجال الحسي بالجمال لماذا يجب بالضرورة أن أصنفه شعرا أو نثرا؟ وماذا سنقول عن الرسم والموسيقى؟”.

إن مصطلحات باومغارتن ستبقى عائمة إذا لم نحدد المقصود بعبارة “فنون متحررة” وعلاقة هذه الفنون بـ”العلوم-الجميلة”.

تجدر الإشارة إلى أن مصطلح “الفنون المتحررة” يعود إلى إيسقراط[14]، وقد استعمله فيما بعد سيسيرون، حيث تصنيف الفنون إلى “متحررة” و”عملية”.

وقد سُميت الفنون المتحررة بهذا الاسم لسببين: أولًا وكما يشير لذلك اسمها، لأنها كانت موجهة إلى الأحرار. وثانيًا لأنها غايتها هي الدراسة والثقافة، وهي منتوج المثقف؛ على العكس من الفنون العملية الموجهة للعمل اليدوي، ولهذا فقد كانت تعتبر هذه الأخيرة “أقل قيمة” في تاريخ الفلسفة ذات النزعة المثالية، أي الأفلاطونية.

وهذا يعني أن باومغارتن يصنف ما يسمى اليوم “الفنون الجميلة” في إطار عام، ولو بشكل ضمني، هو أن الفنون الجميلة هي أساسا ابتكارات العقل قبل أن تكون منتوجات يدوية.

هذا التصور عبر عنه ليوناردو دافينشي[15] ثلاثة قرون قبل ذلك عندما قال:

“إذا أراد الرسام رؤية جماليات قادرة على إلهامه الحب، فلَه الملكة على خلقها، وإذا أراد رؤية أشياء مهولة تثير الخوف، أو تهريجية تثير الضحك، أو حتى خاصة لإثارة الشفقة، فهو سيدها وخالقها… ما يوجد في الكون بالجوهر، حاضرًا أو متخيلًا، هو موجود هنا، في العقل أولًا، ثم بعد ذلك في اليدين”.

2- المعرفة الدنيا وفن التفكير بالجمال

كما رأينا سابقًا، فباومغارتن يشدد على محدودية المنطق، وعلى ضرورة إكماله ليشمل مجال الفلسفة العضوية؛ فالفلسفة العضوية في نظره ستكون علم تطوير الحكم، باعتبارها منطقًا. فما دام المنطق محدودًا في اتجاه تمييز الحقائق، حتى يعصمها من التناقض، فروحنا تختزن مجموعة من الملكات التي توصلنا إلى المعرفة والتي تحتاج إلى منطق آخر. وهو الإستيطيقا. ولهذا فالمفكر لا يكف عن ترديد أن الإستيطيقا هي “الأخت الصغرى” للمنطق.

يُؤطر باومغارتن “الإستيطيقا” ضمن الفلسفة العضوية بقوله:

“الفلسفة العضوية تنطبق على: المعرفة الحسية، وهي إذن الإستيطيقا…؛ وعلى المعرفة العقلية، يعني المنطق بالمعنى الحقيقي”.

الإستيطيقا باعتبارها منطقًا؛ تندرج تحتها مجموعة من التخصصات. يتعلق الأول بكل ما يجعل المعرفة الحسية كاملة. وفي هذه الحالة يشمل الانتباه، التجريد، الإحساس أو الإستيطيقا التجريبية، فن الحكم ويسمى أيضا النقد الإستيطيقي، وكذلك فن التنبؤ الذي يوليه باومغارتن أهمية خاصة.

أما الاتجاه الثاني للإستيطيقا فيحيل على “التعيين”؛ ويتعلق الأمر هنا بلغة كونية عامة تعتمد علامات: الكلمات، الصور، الخصائص الجسدية،الصوت… لبناء الانسجام الكلي.

إن “المعرفة الدنيا” الواردة في تعريف باومغارتن للإستيطيقا هي المنطق الحسي في صيغته الفلسفية. وهي نظرة تتجاوز ثنائية النظري/العملي الكلاسيكية. ففن التفكير في الجميل يمكن أن يكون أيضا من خصائص الجمهور، ولا يتعلق فقط بالشاعر أو الفنان. فبدون التلقي الجميل للعمل الإبداعي، لا يمكن أن يكون هناك عمل إبداعي.

3- فن التناسب العقلي

يتم تأسيس العمل الفني بوصفه “كونًا آخر”؛ ووضوحه يقوم في آخر المطاف على تناظره مع النظام الكوني الذي خلقه الله؛ كما أن الفعل الفني الإنساني يتم تصميمه بالتناسب من خلال فعل فكري له علاقة بإله خالق.

فعلاقة التناسب يمكن أن تعود إلى اللوغوس، وهو ما يعنيه التناسب العقلي، وما يفسر التسمية العامة “العلوم الجميلة” التي أصبحت في التيار الذي ينتمي إليه باومغارتن الموضع المفضل للمعارف المسماة “حسية”. وتستند هذه الفلسفة إلى عنصرين أساسيين للإستيطيقا الفلسفية: العنصر الأول يتجلى في إمكانية تأسيس الإستيطيقا بوصفها علمًا للمعارف الحسية يتناسب مع المنطق بشكل عام. فـ”الإحساس” الذي تهتم به الإستيطيقا ليس “مجموعة معطيات” مقدمة بشكل “فضفاض”. فعندما أكون أمام لوحة أتمثل الصورة، الأشكال، الألوان… وكل هذه الأشياء تمثل كلًا منسجمًا يصنع المعنى. فالفهم يقتضي تنظيما، وإعطاءً للمعنى. وتذكر المعطيات الحسية يقتضي نوعًا من التنظيم وفق منطق معين. فعندما نتلقى حسيا، فنحن نقوم بالاستدلال، خاصة بفضل الذاكرة والخيال. وهذا الاستدلال الحسي يتأسس على الحالات المشابهة. وهذا ما يسميه باومغارتن “التناسب العقلي”. ويطرح باومغارتن في القسم 28 من “الإستيطيقا” مسألة “الحقيقة الإستيطيقية”، وتعالج الفقرة 427 حقيقة “الإستيطيقا-المنطق”، بالتركيز على ما سماه سابقًا المنطق العام.

أما العنصر الثاني في العمل الفني وفي كل منتوج ثقافي فينظر إليه باعتباره عالمًا حقيقيًا ينكشف بالتناسب مع العالم الذي خلقه الله. هناك إذً علاقة تناسب بين عالم الخلق الفني وعالم الله. وهنا تتعالق الإستيطيقا باللاهوت. العالم المخلوق من طرف الفنانين هو “كون آخر” وليس كونًا مثاليًا. وهذا يعني أن صيغة الوجود في هذا العالم هي الإمكان. وهو خاضع لقوانين، ويعطي إمكانية لحقيقة حسية. لهذا فالإستيطيقا جاءت لإنقاذ الفلسفة التي تعتمد المنطق العقلي، ولا تلتفت إلى فرادة وغنى المظاهر الحسية الممكنة.

إن “الحقيقة الذاتية” يمكن بدورها أن تكون إما منطقية أو إستيطيقية. فحسب باومغارتن في الفقرة 423 من الإستيطيقا يجب الاهتمام في “التفكير الجميل” بالحقيقة؛ ولكن بالحقيقة الإستيطيقية، أيْ عندما تكون موضوعًا للمعرفة الحسية؛ أما الحقيقة الميتافيزيقية فهي موضوع الفلسفة أي المنطق الحقيقي. وهذا التناسب والتكامل هو الذي يوصل إلى الحقيقة بشكل عام.

يرى باومغارتن أن هناك حقيقتين: واحدة منطقية وأخرى إستيطيقية. وهنا يعيد باومغارتن التمييز الارسطي بين “الحقيقي” القائم على الضرورة، و”الشبيه بالحقيقي” القائم على المحتمل بصيغة تكاملية.

فالحقيقة المسماة الحسية هي حقيقة من درجة أخرى صيغتها مؤكدة ومنطقية، ولكنها ليست مستقلة. وهي أيضًا مؤسسة لوجودنا، وتحتاج إلى الكمال. وهذه ضرورة فلسفية ولاهوتية في الآن نفسه.

وهنا تحضر أفكار ليبتنز الذي يرى في “المونادولوجيا” بأن الذاكرة مزودة بنوع من الترابط بالروح، يشبه الترابط بالعقل لكن يجب تمييزه. ولهذا نرى الحيوانات تمتلك نوعًا من الإدراك عندما تضرب، لأنها تستحضر بذاكرتها إدراكات سابقة تدفعها إلى إحساسات مشابهة: فعندما ألوح بعصا للكلاب، فهي تتذكر الألم الذي سببته لها، لذلك تنبح أو تهرب.

لقد انتشرت هذه الفكرة بفعل البدايات الأولى لعلم نفس الحيوان في بداية القرن الثامن عشر، ويستحضرها “ليبتنز” هنا في إطار رده على جون لوك لإثبات هذا النوع من الاستدلال العقلي الناتج من الاستدلال الحسي.

وهنا تحدث باومغارتن عن “إستيطيقا طبيعية” غريزية، في الفقرات بين 557 و640 من كتابه “الميتافيزيقا” وأشار إلى أنها تحتاج إلى الكمال عن طريق الدراسة والتدريبات الإستيطيقية.

ويلخص باومغارتن هذا الاستدلال بالتناسب بالإشارة إلى:

أ- ملكة الإحساس (الحاد)، الذي يسمح بالقيام بالتمييز خلال مختلف مراحل التلقي الحسي؛

ب- الخيال الذي هو ملكة أخرى أكثر أهمية ولكنها غامضة، إذ تسمح في الآن نفسه بتخزين التعبيرات الحسية الماضية وبالتنبؤ بالإحساسات المستقبلية؛

ج- التبصر الذي يؤدي دورًا في الصياغة، ويجمع بين العبقرية والدقة لإعطاء صيغة؛ ليجعل المواد “تتألق” بين الحساسية والخيال.

د- الذاكرة وهي ملكة حاسمة، وسماها الأقدمون منيموسي لأنها تمنح القدرة على إعادة الإنتاج بواسطة الخيال.

ه- المواصفات الشعرية أو ملكات خلق عوالم غير متناهية، التي تجعل العمل الفني يخرج بالقوة من الروح لتخيل الكون.

و- الذوق وهو ملكة الحكم حسيًا على ما نتلقاه بأحاسيسنا، ويجعلنا نستطيع تقويم الصور الإستيطيقية بمعناها العام.

ز- التكهن وهو ملكة الإحساس بالمستقبل، وهي ما يجعل الشعراء مثل الرسل يضمرون المستقبل في أعمالهم.

كتب ذات صلة:

صفة الجمال في وعي الإنسان (سوسيولوجية الاستطيقية)

في الشعر العربي : سحر النصوص، المقاربات والمسرّات والمضاعفات

فلاديمير جانكلفيتش : محاكمة أخلاقية في هدْيٍ جمالي