كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن ترشيح هذا القطر العربي أوذاك، في المشرق أو في المغرب، لقيادة الأمة العربية وإخراجها من حالة التمزًق والضياع الذي تعيشه حالياً. لكن أسباب ذلك الترشيح هي إمٌا وهمية وإما انتهازية ظرفيٌة.

ذلك أن الحديث في موجبات ذلك الترشيح يتجنب الخوض في طبيعة وأسس ومنهجية المشروع القومي الذي سيلتزم بحمله والنضال من أجله ذلك القطر العربي الذي سيتنطُع لقيادة الأمة. إن على ذلك القطر أن يجيب على تساؤلات أساسية بشأن مشروعه، المشروع الذي يريده أن يكون مشروعاً للأمة كلها.

في السياسة: هل سيكون قومياً تضامنياً في السَراء والضراء لينتهي شيئاً فشيئاً ليكون شكلاً من أشكال الوحدة العربية الشاملة؟ أم أنه سيكون فقط طريقاً لهيمنة ذلك القطر القائد ومصالح نظام حكمه، بل وقد يكون لخدمة مصالح قوى استعمارية وصهيونية خارجية؟ وهل هو على استعداد ليتحمل تبعات التحاقه النضالي الصادق بتطلعات ومطالب جماهير الشعوب العربية ونضالاتها من أجل الحرية والكرامة الإنسانية والاستقلال القومي والانتقال إلى نظام ديموقراطي سياسي عادل؟

إن ذلك سيعني اصطدامه المباشر مع بعض قوى الخارج وقوى الداخل العربية، حيث التعايش مع الكلمات الرنانة الكاذبة والرٌفض التام للفعل الذي يغير الواقع بصورة جذرية. وهو متناقض كلياً مع أي نظام دكتاتوري، ومع أية طموحات سياسية انتهازية لهذا الفرد الحاكم أو ذاك، ومع أي تعايش مع المشروع الصهيوني في أرض العرب.

في الاقتصاد: ما هي الأسس والأنظمة التي ينطلق منها المشروع الاقتصادي المقترح؟ هل هو مشروع انتاجي ومعرفي وخدمي واعد وحقيقي أم أنه يخفي وراء قناع البهرجة نفس الوضع الاقتصادي العربي السابق: الاقتصاد الريعي القائم على التوزيع الزُبوني الولائي التًابع للنظام الرأسمالي النيوليبرالي العولمي المتوحّش والرافض لتوزيع الثروة العادل المرتبط بالحقوق والكفاءة والتضامن الإنساني؟

هل سيأخذ بعين الاعتبار ظروف الفقراء والمهّمشين، ويحمّل الدولة العربية المنشودة مسؤولية الرعاية الاجتماعية، وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى، وتقليص الفروقات بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، وتنظيم حركة الأسواق ومنع شططها، ووضع هدف العدالة الاجتماعية فوق كل هدف اقتصادي واجتماعي؟

في الاجتماع: هل سيرفض بصورة قاطعة الانقسامات الطائفية المذهبية والدينية، والصراعات القبلية، والامتيازات العشائرية والعائلية والعسكرية، ويجعل المواطنة وحكم القانون الشرعي الإنساني والفرص المتساوية هي الحكم فيما بين الناس؟ هل سيساوي فيما بين الرجل والمرأة في الحقوق والمسؤوليات المجتمعية بصورة شاملة؟

في الثقافة: هل سيشجع ويدعم مشروع تحليل ونقد وإعادة تركيب التاريخ والتراث، وذلك من أجل التجاوز نحو حداثة عربية ذاتية تراعي وتنطلق من ثقافة المجتمع العربي، ولكن تتفاعل بصورة منفتحة ندية مع ثقافات الآخرين وحضارة العصر، هل ستلتزم بالدفاع عن الحرية الضرورية لتحقيق ذلك الانتقال الثقافي والحضاري؟

من يريد أن يتنطّع لحمل المسؤولية القيادية التاريخية لتحريك الأمة كلها، بكل أجزائها وقواها وإمكانياتها الاستراتيجية، يحتاج أن يعرف أنه تجاه مشروع نهضوي عربي شامل. وسواء أكان الراغب في حمل تلك المسؤولية قطراً عربياً واحداً أم كان كتلة من عدة أقطار فإن الأمر سيًان. عليه أن يدرك ويقبل أن من يريد القيادة ينصهر في أحلام وآمال من يقود ويشقى في سبيلهم.

فإذا كان غنياً شارك الأمة في ذلك الغنى بلا منة ولا شرط، وإذا كان قوياً وزاخراً بالإمكانيات المادية والمعنويُة وضع كل ذلك تحت تصرف الأمة ولخدمة نهوضها. هذا مشروع لا ينسجم مع من يريد وجاهة القيادة وامتيازاتها ولكنه يرفض تضحياتها وعذاباتها.

لقد جرت محاولة كبيرة رائعة مماثلة لما نقول في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ولكنها تعثّرت مع الأسف لأسباب مأساوية واضطرابية كثيرة. لقد كانت محاولة لها وعليها. من يريد أن يعاود الكرة عليه أن يدرس، بتمعُن وموضوعية والتزام قومي صادق، تلك التجربة. إنها مليئة بالدروس والعبرَ.

في المرُة القادمة يجب أن تقل الأخطاء وتعلو الإرادة إلى عنان السًماء.