في ظل الأوضاع غير المستقرة بين دولتَي السودان وإثيوبيا، وفي ظل كثير من الملفات الساخنة بين الدولتين، وفي ظل العلاقات التي تشهد كثيرًا من الصعوبات في التعبير عنها بين الصداقة وصولًا إلى العداء في أوقات مختلفة، وبخاصة في وجود تداخل في كثير من القضايا بين البلدين سواء قضايا سياسية، أو عسكرية، أو اقتصادية، أو اجتماعية. في المراحل الأخيرة،  بعد تولي آبي أحمد في 2018 الحكم في إثيوبيا، وانهيار نظام البشير في السودان 2019، وتزايد العلاقات بين الدولتين التي وصفت إلى حد الصداقة بين آبي أحمد والنظام المدني الجديد، أو المكون المدني الناشئ عن التغيير السياسي في السودان ما بعد 2019، فضلًا عن المكون العسكري الذي اتسم بعلاقته المحدودة مع آبي أحمد في كثير من العلاقات القائمة بين البلدين.

ومع وجود هذه العلاقات التعاونية المتداخلة بين البلدين تظهر قضية يمكن وصفها بأنها قضية قديمة حديثة في آن واحد، وهي قضية النزاع الحدودي بين إثيوبيا السودان؛ حيث شهد البلدان كثيرًا من المناوشات والتعديات التي كانت من الجانب الإثيوبي على حساب الجانب السوداني منذ ما يقارب 30 عامًا منذ صعود الحركة الشعبية لتحرير تيغراي الحكم في إثيوبيا بعد القضاء على حكم الإمبراطور منغستو هيلا مريام سنة 1991. وكانت جبهة تحرير شعب تيغراي أحد الفاعلين البارزين في الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية الإثيوبية. فهذه القضية قضية قديمة، والنزاع على الحدود يرجع إلى أكثر من مئة عام، والاشتباكات أو المناوشات بين البلدين تتكرر من حين إلى آخر رغم أن هناك نصًا قانونيًا واعترافًا إثيوبيًا بأحقية السودان في الجزء المتنازع عليه. ولكنْ هناك تداخل في المصالح الاقتصادية والاجتماعية في هذه المنطقة الحدودية جعل إثيوبيا تتذرع بأن هناك أضرارًا اقتصادية واجتماعية ناتجة من الانسحاب الإثيوبي من هذه المنطقة. وظهر ذلك في كثير من الاجتماعات في اللجنة المشتركة لرسم الحدود السودانية- الإثيوبية، وقد شعر الجانب السوداني بمماطلة إثيوبيا وعدم رغبتها برسم الحدود بين البلدين وأنها مستفيدة من الوضع القائم.

بعد فشل المباحثات والمفاوضات الأخيرة للجنة المشتركة بين السودان وإثيوبيا، لم يكن لدى الدولة السودانية إلا أن أرسلت تعزيزات عسكرية إلى الأراضي السودانية الحدودية للسيطرة على كامل الأراضي السودانية والوصول إلى آخر نقطة للحدود السودانية وفقًا للاتفاقيات الدولية، وما ينص عليه القانون الدولي. وهذا الأمر أدى إلى قلق وذعر داخل الدولة الإثيوبية إلى الحد الذي يشير إلى اندلاع صراع مسلح بين البلدين.

فكل هذا من شأنه أن يهدد الاستقرار السياسي في السودان؛ وبخاصة في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية في الدولة السودانية، وبعد التغيير السياسي الأخير، وعدم قدرة السودان بفتح جبهات خارجية في ظل المرحلة الانتقالية شديدة الحساسية للدولة السودانية، وبخاصة في ظل الصراع الداخلي على السلطة، والتنوع القبلي، وحالة شبه الفوضى التي تعيشها الدولة السودانية بعد 2019.

وتأتي أهمية الدراسة من ناحيتها النظرية أنها مرشد ودليل علمي للتعرف إلى طبيعة الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا، وكذلك التركيز على الأبعاد القانونية الحاكمة للأزمة الحدودية بين البلدين. وكذلك تتبع العلاقات التاريخية بينهم، أما من الناحية العملية فتعد الدراسة مرشدًا لكيفية التعامل مع الأزمة الحدودية من قبل الدول المهتمة بهذه القضية فضلًا عن ارتباط هذه القضية بقضايا أخرى شائكة، وأكثر تعقيدًا يتعدد فيها الفاعلون الدوليون.

ولذا تهدف الدراسة إلى تعرُّف طبيعة الأزمة الحدودية بين الدولتين، وكذلك التركيز على الوضع القانوني الحاكم، والتعرف إلى إرهاصات هذه الأزمة، وكذلك تناول طبيعة العلاقات  بين الدولتين في ضوء القضايا المتداخلة بين الدولتين، والتعرف إلى تأثير هذه الأزمة على الاستقرار السياسي في السودان.

ولذا تأتي هذه الدراسة للتركيز على سؤال بحثي رئيس وهو: ما مظاهر الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا؟ وكيف تؤثر هذه الأزمة في الاستقرار السياسي في السودان؟

ويتفرع من هذه الإشكالية الرئيسة عدد من الأسئلة الفرعية وهي:

  • ما طبيعة الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا؟
  • ما الوضع القانوني لهذه الأزمة الحدودية بين الدولتين؟
  • كيف أثرت هذه الأزمة في العلاقات في المجالات المختلفة بين الدولتين؟
  • ما مستقبل الأزمة الحدودية في ضوء التجاذبات الدولية بين الدولتين وبخاصة مع بروز قضايا أخرى شائكة ما بينهم؟
  • ما مدى تأثير هذه الأزمة الحدودية في الاستقرار السياسي في السودان؟

ويعتمد الباحث في الإجابة عن هذه الإشكاليات العلمية على:

  • نظرية الدور: وذلك بالتركيز على دور الدولتين في الأزمة الحدودية في الفترات التاريخية المختلفة حتى الوصول إلى حد الأداة العسكرية النظامية من جانب دولة السودان، والتركيز على الرد الإثيوبي بعد استخدام القوة العسكرية من جانب الدولة السودانية.
  • نظرية المصلحة الوطنية: وذلك بالتركيز على دوافع وأهداف الدولتين الفاعلتين في هذه الأزمة التي تحركهما الدوافع الوطنية، وأهداف المصلحة الوطنية لكل من البلدين في هذه الأزمة.

وللإجابة عن هذه الأسئلة يعتمد الباحث في جمع البيانات على المعلومات المنشورة في القنوات الإخبارية المعتمدة، وتحليلاتها من قبل مختصين في الشأن الأفريقي، وبعض المراجع المتاحة الأخرى عن الأزمة من الناحية القانونية والتاريخية؛ ولذا يقسم الباحث الدراسة إلى عدد من المباحث الرئيسة وهي:

المبحث الأول: الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا: الوضع القانوني والعلاقات القائمة.

المبحث الثاني: مستقبل الأزمة الحدودية بين الدولتين.

المحور الثالث: تأثير الأزمة الحدودية في الاستقرار السياسي في السودان.

أولًا: الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا: الوضع القانوني والعلاقات القائمة

طالما اتسمت العلاقات السودانية- الإثيوبية بموجات من المدّ والجزر؛ تُحرّكها ملفات داخلية وخارجية متعلقة بالأنظمة الحاكمة في البلدين[1]. وفي هذا الإطار يدخل المأزق المزمن حول الحدود، ولا سيما منطقة الفشقة.

بدأ ترسيم الحدود بين البلدين عام 1902، اعتمادًا على “اتفاقية أديس أبابا” بين بريطانيا والإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني؛ حيث عاودت إثيوبيا الاعتراف بها عام 1972 في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، والرئيس السوداني السابق جعفر نميري، كما تم الترسيم بالفعل بين البلدين عام 2013، وتشكلت لجنة مشتركة بين البلدين عام 2018 لحماية الحدود من عمليات الميليشيات، والتي كان يُفترض أن تعقد اجتماعها الثاني قبيل الهجوم الإثيوبي الأخير على الأراضي السودانية[2].

وتُعد الحدود المتداخلة المشتركة بين البلدين من أطول الحدود في القارة الأفريقية؛ حيث تُقدر بـ727 كم، وتتمتع المنطقة بمزايا عديدة تجعلها دائمًا محل أطماع خارجية، ولا سيما في ظل غياب أمني حدودي لسنوات تعادل ربع قرن؛ حيث تتميز بالخصوبة، وترويها أنهار عذبة، وتتساقط عليها الأمطار في الخريف، وتشتهر بإنتاج الصمغ العربي، والقطن، والذرة، والسمسم، إلى جانب الخضروات والفواكه[3].

ومنطقة “الفشقة” هي منطقة الصراع بين السودان وإثيوبيا، التي تقع أقصى شرق السودان، وهي إحدى المحليات الخمس لولاية القضارف السودانية التي تضم مليونًا و250 ألف فدان، وتُقسم الفشقة إلى ثلاث مناطق: هي الفشقة الكبرى، التي تضم 750 ألف فدان من منطقة سيتيت حتى بإسلام، ويزرعها السودانيون والإثيوبيون مناصفةً تقريبًا. والفشقة الصغرى، التي تضم نصف مليون فدان من باسلام حتى قلابات، لا تتجاوز حصة السودانيين فيها 63 ألف فدان، بينما يستثمر الإثيوبيون 410 آلاف فدان. والمنطقة الجنوبية التي تشمل مدن القلابات وتايا حتى جبل دقلاش[4].

ويمتد الوجود الإثيوبي في منطقة الفشقة منذ عام 1960، وذلك باستيلاء مزارعين إثيوبيين على بعض المزارع، ثم ارتفعت الوتيرة عام 1983 من دون أن يكون هناك حَصْر دقيق لما جرت السيطرة عليه. وفي عام 1995، استولى الإثيوبيون على 48 ألف فدان تقريبًا، ثم تمددوا على مساحات غير محصورة في منطقة صعيد القضارف، وفي الآونة الأخيرة، يتجدد النزاع، وتشهد المنطقة أحداث عنف بين المزارعين من الجانبين، كما أن عصابات “الشفتة” الإثيوبية تنشط في المنطقة، وتستولي على أراضي المزارعين السودانيين بعد طرد السكان منها بقوة السلاح[5].

1- تاريخ العلاقات السودانية -الإثيوبية

تعدّ إثيوبيا دولة متعددة القوميات حيث يوجد فيها ما يقارب 85 جماعة إثنية ولغوية. وتتصدر الأمهرية مقدمة هذه اللغات. فهي اللغة الرسمية لدولة إثيوبيا، وتستخدم في إدارة الدولة والمصالح الحكومية، والمدارس الحكومية في مراحلها الأولى، وتصدر بها الصحف في إثيوبيا؛ فهي تعد اللغة الأساسية لقطاع عريض من الإثيوبيين[6]. وتشترك إثيوبيا مع السودان في صفة التعددية الإثنية فضلًا عن التداخل السكاني الكبير بين البلدين. وتوجد في السودان جالية إثيوبية كبيرة، والآلاف من بين أفرادها استوعبهم سوق العمل السوداني في مختلف الولايات[7]. فإثيوبيا أكبر دول الجوار السوداني من حيت الكثافة السكانية؛ حيث يناهز عدد سكانها 77 مليون نسمة، وهذا يجعلها منطقة جذب تجاري وسوق واعدة؛ وللسودان وإثيوبيا حدود متداخلة مشتركة تمتد إلى نحو 1500 كم، وهي أطول حدود في أفريقيا. وتقطن هذه المناطق الحدودية قبائل حامية مشتركة (الانوك، الباريا، القمز، البرتا، البرون، الوطاويط وغيرها)[8].

إذًا، التعدد والتنوع والتباين العرفي هو سمة أهل السودان وإثيوبيا، وكان الأمر كذلك وما زال، والتعددية تتمثل إلى حد كبير بالجماعات الاثنية والثقافية.

ومنذ أقدم العصور نشأت تجارة الحدود كضرورة اقتصادية، واجتماعية تفرضها الحالة الاقتصادية بين البلدين المتجاورين تتم عبر المقايضات في تبادل السلع التي تكمل احتياجات الأطراف المتبادلة. ومن خلال هذه الآلية الاقتصادية نشطت تجارة الحدود إلا أنها لم تكن بهذه الصورة المنظمة حاليًا بسبب عدم استتباب الأمن، ووعورة الطرق. وكان النقل – والترحيل – لا يزال إلى حد ما يتم بواسطة الدواب، وتتم مقايضة سلع صادرة من السودان مقابل سلع واردة من إثيوبيا[9].

لم تعرف إثيوبيا قط الاستعمار كباقي الدول الأفريقية إلا لسنوات قليلة امتدت من عام (1936-1941)، حيث تعرضت للغزو الإيطالي. فقد استعاد الإمبراطور هيلا سيلاسي عرشه بمساعدة بريطانيا عام 1941، واستقل السودان في كانون الثاني/يناير 1956، وأصبحت بذلك ثاني دولة أفريقية بعد مصر تحصل على استقلالها[10].

عملت ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت الحكم العسكري، وجاءت إلى سدة الحكم في السودان بقوة سياسية، على مناصرة الثورة الإريترية ضد الحكم الإثيوبي، وهو ما تسبب في توتر العلاقات مع إثيوبيا، التي دعمت بدورها الحركات الجنوبية المعارضة في السودان. واستمر توتر العلاقات بين السودان وإثيوبيا إلى عام 1972، حيث عقد اتفاق بين السودان والمعارضة السودانية الجنوبية في أديس أبابا لينهي التمرد بين حركات المعارضة في جنوب السودان والحكومة السودانية. ومذّاك توقف دعم إثيوبيا لمعارضة جنوب السودان، وقابله توقف دعم السودان للمعارضة الإريترية[11].

لكن التوتر عاد إلى العلاقات السودانية- الإثيوبية من جديد في عام 1974، إثر انقلاب عسكري قاده الماركسيون الذين استلموا السلطة في إثيوبيا. وقد فتح النظام الجديد هجماته العسكرية ضد الإريتريين لمواجهة حركات – المعارضة المسلمة في إقليم إريتريا وتيغراي، وفي الوقت الذي اتهم الرئيس السوداني نميري نظام منغيستو بأن له دورًا في محاولة الانقلاب التي دبرت ضده عام 1976 بمساعدته للقوى المعارضة في السودان. ومن هنا زاد نميري دعمه للحركات الإريترية ضد إثيوبيا[12].

في حزيران/يونيو 1989 تمكنت الجبهة الإسلامية القومية من الوصول إلى الحكم إثر انقلاب عسكري قاده العميد عمر حسن أحمد البشير، وبعد عامين تحديدًا في شهر تموز/يوليو 1991 نجحت الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا في إطاحة بنظام الرق بعد نضال استمر لستة عشر عامًا، وتزامنت هذه الأحداث المهمة في التاريخ السياسي للقرن الأفريقي مع نهاية الحرب الباردة في النظام العالمي[13].

تعد المرحلة ما بين أعوام 1989-1991 مرحلة اشتداد الحركات المقاومة ضد نظام منغيستو في إثيوبيا، لذلك سعى الرئيس منغيستو للتعاون والتفاهم كوسيلة للتغلب على تلك التحركات المعارضة لنظامه، وتقليل الدعم السوداني لهذه الحركات المناهضة لحكمه، فبعث برسالتين إلى البشير، في وقت لم تكن لحكومة السودان رغبة في مد جسور التفاهم مع نظام منغيستو؛ لأن أغلب الدلائل تشير إلى احتمال سقوط نظامه أكثر من بقائه؛ لذلك قام السودان بتدريب مقاتلي الإدومو، وغامبيلا، وبني شقول، وخلق تعاونًا بين الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، والجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا مما عجل بسقوطه[14].

وبعد حدوث التغيير السياسي داخل إثيوبيا زار الرئيس عمر حسن أحمد البشير إثيوبيا في تشرين الأول/أكتوبر 1991، كأول رئيس يصلها بعد الوضع السياسي الجديد، ونتج من ذلك توقيع اتفاقية صداقة وتعاون بين البلدين. كما رد الرئيس زيناوي بزيارة للسودان تم خلالها تكوين آلية التعاون بين البلدين تمثلت باللجنة الوزارية المشتركة التي عقدت أول اجتماعاتها بالخرطوم في كانون الأول/ديسمبر 1991 برئاسة اللواء الزبير محمد صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية السوداني. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاشتراكية، وظهور العداء للإسلام والعالم الإسلامي، ودعم الغرب للقوى المسيحية في إثيوبيا، ومحاصرة الدول الإسلامية وبخاصة الدول التي تدعم الحركات الإسلامية المتشددة عادت إثيوبيا تتهم النظام الإسلامي في السودان بدعم الحركات الإسلامية فيها، وكذلك بإيواء المعارضين العسكريين والسياسيين، وإعانة هذه الجماعات في الانطلاق من داخل الأراضي السودانية ضد إثيوبيا[15].

فالعلاقة بين دول القرن الأفريقي من الطبيعي فيها أن يصبح العدو صديقًا، والصديق عدوًا بسبب التحالفات المختلفة بين القوى الحاكمة في هذه الدول، ودعم القوى السياسية والإثنية المناهضة للقوى الحاكمة في هذه الدول. وبسبب هذه العلاقة الشائكة لا تدوم علاقات الصداقة وعلاقات العداء بين القوى السياسية الحاكمة في هذه المنطقة، وذلك ناتج من الحسابات الكلية التي تنطلق منها هذه القوى، وهي في مجملها دعم دولة لقوى مناهضة للحكم في دولة أخرى، وهذا بالتأكيد سيرتد عليها بالخطر نفسه (دعم قوى مناهضة للحكم فيها). وهذا المبدأ عانته دول القرن الأفريقي في الحروب والصراعات المختلفة بينها، سواء أكانت هذه الصرعات حدودية أم اقتصادية أم اجتماعية.

2- الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا

بدأ الوضع القانوني لتقنين الحدود السودانية- الإثيوبية عام 1902 بتوقيع اتفاقية أديس أبابا لترسيم الحدود بين السودان تحت الاحتلال الإنكليزي والإمبراطور ملينك الثاني ملك إثيوبيا آنذاك. وفي عام 1963 صادقت منظمة الوحدة الأفريقية آنذاك على الاتفاقيات الخاصة بالحدود بين الدول الأفريقية الموروثة عن الاستعمار. وفي عام 1972 سُوي ملف الحدود بين الدولتين على أساس اتفاقيتي 1902 و1907. وفي نهاية 2020 نشب خلاف بين المزارعين في الفشقة السودانية حيث يسيطر عليها إثيوبيون، وتم استهداف مدنيين وعسكريين من جانب مليشيات غير مُحددةَ الهوية. وقد ادعت اثيوبيا أن اتفاقية 1902 فُرضِت عليها بسبب ضغط الدول الأوروبية المحتلة أراضي أفريقية مثل إيطاليا في أجزاء من إثيوبيا، وبريطانيا في السودان، وفرنسا في جيبوتي، وجزء من الصومال؛ ولذا فإن إثيوبيا لا تنظر إلى اتفاقية 1902 كمعاهدة موجودة، وتكرر هجوم  الميليشيات الإثيوبية على المزارعين السودانيين حتى قبل اندلاع أزمة تيغراي بشهور، ولذا لا يمكن الربط بين أزمة تيغراي، واندلاع أزمة الحدود بين البلدين؛ فالادعاء الإثيوبي بأن السودان استغل توتر الأوضاع في إثيوبيا وأثار قضية الحدود لانشغال إثيوبيا بالوضع الداخلي فيها زعم باطل[16].

وعند بدأت أزمة 19 ديسمبر أرسلت السودان تعزيزات عسكرية إلى الحدود مع إثيوبيا لاستعادة “الأراضي المغتصبة من ميليشيات إثيوبية في الفشقة”، ولم يتهم الحكومة الإثيوبية بالتورط في هذه الاعتداءات التي أسفر عنها ضحايا سودانيون من المدنيين والعسكريين؛ تعددت الآراء حول طبيعة الجماعات المسلحة المعتدية على الأراضي السودانية، وعلى المدنيين والعسكريين السودانيين[17] ، وأيًا ما كانت طبيعة هذه الجماعات المسلحة لا تخرج عن واحدة من ثلاث وهم[18]:

  • مسلحو إقليم تيغراي: وذلك بسبب الأحداث داخل تيغراي والتوترات بين الحكومة المركزية، ومسلحي الإقليم، واشتداد حدة النزاع بينهم في أواخر عام 2020 حيث أجبر مسلحي الإقليم على الاستيلاء على موارد من داخل الأراضي السودانية[19] إما بالنهب والسلب من المواطنين العاديين، أو التعدي على وحدات عسكرية للاستيلاء على ذخيرة تدعمهم في الحرب الدائرة مع الحكومة المركزية.
  • ميليشيات غير نظامية: بسبب تعدد القوميات في الدولة الإثيوبية، فلكل قومية إثيوبية لها مليشيات مسلحة داخل الإقليم بعيدًا من القوات النظامية، فهذه الميليشيات أحيانًا تقوم بتعديات على الأراضي السودانية على فترات زمنية مختلفة وبخاصة مع بداية موسم الأمطار للسيطرة على الأراضي الخصبة داخل الحدود السودانية.
  • الحكومة الإثيوبية: صحيح أن هناك كثيرًا من الميليشيات غير النظامية، وغير التابعة للحكومة الإثيوبية، ولكن قد يكون هناك دعم من جانب الحكومة الإثيوبية، لأن القوات التي تحاربها الجيوش السودانية قوات على مستوى عال من القوة العسكرية والتدريب العسكري، والأدوات العسكرية بخاصة أن الحكومة الإثيوبية تعتقد أن ما يحدث في إقليم تيفراي فيه تدخلات سودانية لدعم مسلحي الإقليم.

أيًا ما كانت العناصر المتعدية على الحدود السودانية، فقد أدى ذلك في مجمله إلى زيادة حدة التوترات في الحدود الشرقية للسودان، فدبلوماسيًا يستخدم السودان لمفهوم الميليشيات لعدم توريط الحكومة الإثيوبية والجيش الإثيوبي في هذه الاضطرابات، ولكن لا يمنع ذلك من تفهم السودان أن هناك أصابع للجيش الإثيوبي وراء هذه الأحداث[20] وبخاصة بعد اتهام إثيوبيا للسودان بأن لها يدًا فيما حدث في إقليم تيغراي.

واشتدت الخلافات الحدودية بين إثوبيا والسودان مع نزوح كثير من الإثوبيين إلى السودان بعد أزمة إقليم تيغراي فضلًا عن الإثيوبيين المقيمين على الأراضي السودانية؛ فتكشفت للسودان الأطماع الإثيوبية في الأراضي السودانية الخصبة على الحدود مع إثيوبيا وبخاصة مع تجدد الاشتباكات التي راح ضحيتها عناصر مدنية، وأخرى عسكرية من الجانب السوداني[21].

وتستغل إثيوبيا الصراعات الحدودية مع السودان، لتحقيق نظرية التماسك الداخلي وبخاصة في ظل التوترات الداخلية الإثيوبية مع وجود الصراع في إقليم تيغراي لتوحيد الصف الداخلي ضد السودان، وليقضي على الحرب الداخلية في إثيوبيا[22].

فالاختلال الأمني في المنطقة الحدودية بين السودان وإثيوبيا، وانتشار القضايا التي تهدد الأمن داخل السودان مثل الاتجار غير المشروع بالسلاح، والمخدرات، والبشر، والهجرة غير الشرعية دفع السودان للسيطرة على هذه المنطقة لتحقيق الاستقرار[23].

بدأ القصف المتبادل المدفعي بين السودان وإثيوبيا في 25 كانون الثاني/يناير 2021 وذلك حين بدأت إثيوبيا استهداف منطقة أبو طيور السودانية بالمدفعية، ووعد الرهان رئيس المجلس السيادة الإثيوبي برد فعل، ولذا بدأت القوات السودانية تقصف مدفعيًا أراضي إثيوبية في الداخل الإثيوبي مما ينذر بتحول الوضع إلى حرب مباشرة بين الدولتين باستخدام القوة النظامية لهما[24].

وقد أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية السفير دينا مفتي، أن أرض الفشقة المتنازع عليها بين السودان وإثيوبيا هي أرض إثيوبية متنازع عليها مع السودان، وأنها ليست سودانية، ولحل الأزمة سلميًا لا بد من الرجوع عسكريًا إلى ما قبل الانتهاكات العسكرية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 للجلوس حول طاولة المفاوضات[25].

وفي إطار الحلول السلمية للأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا؛ أعلن السودان أن لا شأن للوساطة في سبيل أن هذه الحدود متنازع عليها، وإنما إذا كان وساطة فهي لتقريب وجهات النظر لوضع العلامات الحدودية المتفق عليها من جانب الاتفاقيات الدولية خاصة 1902، وسوف يلقى تبريكات الجانب السوداني للوساطة، وإنما وساطة لإعادة الاتفاق حول الحدود يعد أمرًا غير مقبول من السودان[26].

 

ثانيًا: مستقبل الأزمة الحدودية بين الدولتين

يمكن رسم خريطة مستقبلية للأزمة الحدودية بين إثيوبيا والسودان، من خلال عدد من السيناريوهات المستقبلية، وبخاصة في ظل العلاقات التاريخية بين الدولتين، والكثير من القضايا الشائكة بينهم، وهي كالتالي:

1- سيناريو المفاوضات والحل السلمي

مع إعلان كلٍّ من السودان وإثيوبيا أهمية الحل السلمي والجلوس معًا للتفاوض حول الأزمة الحدودية، والعمل على منع التصعيد للوصول إلى الحرب، ولكن مع التفاوض المشروط الذي أعلنت عنه كلا الدولتين:

  • السودان يفضل التفاوض، والحل السلمي للأزمة الحدودية بين البلدين، ولكن يشترط التفاوض، وقبول الوساطة الدولية من أي طرف ثالث في سبيل الاتفاق حول وضع العلامات الحدودية، وتنفيد الاتفاقيات الدولية المبرمة بين الدولتين تاريخيًا، وأن الوساطة والتفاوض حول أن هذه الحدود حدود متنازع عليها، والتفاوض حول رسم الحدود من جديد، فهذا يعد أمرًا غير مقبول من السودان[27].
  • إثيوبيا تفضل التفاوض، والحل السلمي للأزمة الحدودية، وترى أن السودان الذي افتعل الأزمة عليه الرضوخ والرجوع إلى الخطوط الأولى قبل الاعتداء على الأراضي المتنازع عليها في نهاية 2020 ويبدأ التفاوض على هذه الحدود[28].

ورغم هذا التعقيد في عملية التفاوض المشروط من قبل الدولتين إلا أن كلا الدولتين يؤمنان إيمانًا كاملًا بأهمية التفاوض بخاصة في ظل الظروف الاستثنائية التي يمر بها كلاهما الدولتين؛ فالسودان في هذه المرحلة الانتقالية شديدة الحساسية، وفضلًا عن العلاقة التداخلية  تاريخيًا بين الدولتين بخبرة كل طرف في تأجيج النزعات داخل الدولة الأخرى مما يضغط على السودان لحل الأزمة سلميًا، وهذا ما ترغبه السودان، وأنها تعلم تكلفة الحرب والنزاع مع جارة قوية مثل إثيوبيا، ولكن هذا الضغط لا يجعلها تفرط بشبر من أراضي الوطن كما أعلنت كثير من القوى الرسمية المدنية والعسكرية في السودان.

وتزداد السودان قوة وعزيمة لاسترجاع الأراضي السودانية من الميليشيات الإثيوية وبخاصة عندما وصف رئيس مفوضية الحدود في السودان معاذ تنقو إثيوبيا، بأنها «تراوغ وتماطل» في تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، والخاصة بوضع العلامات الحدودية بين البلدين. وقد ظلت إثيوبيا طوال السنوات الماضية مستمرة في التعدي على الأراضي السودانية، وبناء المستوطنات، وطرد المزارعين السودانيين، في خرق واضح لكل الاتفاقيات المبرمة بهذا الشأن[29]. وهناك تحذير من أن تدفع المطالبة بإعادة النظر في قضية الحدود بين البلدين، وتجاوز اتفاقية عام 1902 في صالح السودان لاسترداد أراض كبيرة كانت ضمن حدودها، منحت لإثيوبيا وفقًا لتلك الاتفاقية، وذلك في إشارة إلى منطقة بني شنقول التي ضمت لإثيوبيا إبان فترة الاستعمار البريطاني للسودان، وقال: “عدم اعتراف إثيوبيا بالاتفاقيات، سيدخلها في مشاكل كثيرة”. وأكد رئيس مفوضية الحدود السودانية أن “كل الاتفاقيات المبرمة بين السودان وإثيوبيا لا يوجد بها حديث عن نزاع حدودي»، وقال: «لم يصلنا خطاب رسمي من إثيوبيا بعدم اعترافها بترسيم الحدود في اتفاقية 1903، لكن رغم ذلك تواصل التوغل والاعتداء على الأراضي السودانية والمزارعين”[30].

أما إثيوبيا فهي تدعي أن الاتفاقيات الدولية مفقودة الإرادة الإثيوبية، وإنها مفروضة على إثيوبيا وأن هذه الأراضي متنازع عليها مع السودان، وترغب في التفاوض لحل الأزمة سلميًا دون التصعيد، والدخول في حرب مباشرة مع جارة قوية بحجم السودان وبخاصة في ظل الظروف التي تعيشها إثيوبيا في الفترات الأخيرة من صراعات داخلية، وحروب أهلية تهدد الاستقرار الإثيوبي داخليًا، وكذلك القضايا الدولية الأخرى الشائكة مع أطراف دوليين، ومرواغة إثيوبيا في التفاوض حول هذه القضايا خاصة قضية سد النهضة، ولكن “التفاوض المشروط”[31]، هذا ما لا يقبله السودان بسبب إيمانه الكامل بسودانية الأراضي الحدودية المتنازع عليها وبخاصة مع الهجوم المتكرر عليها من جانب الميليشيات الإثيوبية والسودان تدرك تمامًا أن الحكومة الإثيوبية لها ذرائع في هذه التعديات، وما تكبدته السودان من خسائر مادية وبشرية، فضلًا عن زعزعة السيادة السودانية، والاستقرار الأمني لها في هذه المناطق الحدودية[32].

وقد وضّح المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، بأن التوتر على الحدود بين البلدين، تغذيه “قوى خارجية”، وأن تسوية النزاع ستتم عبر تسوية دبلوماسية بين البلدين، وهذا الخيار الذي تفضله كلا الدولتين[33]. ولكن عدم عتراف الجانب الإثيوبي بأن الانتشار العسكري للسودان داخل أراضيها لا يهدد أمن وسلامة الدولة الإثيوبية، يثبت مطامع إثيوبيا في هذه المنطقة الخصبة، وإن كانت هناك مصالح اقتصادية واجتماعية متضررة من جانب إثيوبيا؛ فهي جديرة بالحل السلمي لأن هذه المصالح ليست مصالح استراتيجية للدولة الإثيوبية بخلاف المصالح السودانية في هذه المنطقة مصالح استراتيجية تمس أمن وسلامة واستقرار واستقلال وسيادة الدولة السودانية. ولذا يأتي تشدد الدولة الإثيوبية في سبيل مطامع إثيوبيا في هذه المنطقة الحدودية.

2- سيناريو التصعيد والمواجهة المباشرة بين البلدين

هناك ما ينذر بخطورة الوضع والتصعيد إلى حد القوة العسكرية المباشرة بين السودان وإثيوبيا، وبخاصة مع تمسك كلا الدولتين بحقوقهما التاريخية، وعدم التزام أديس أبابا بالالتزامات القانونية والتنصل من اتفاقية ترسيم الحدود 1902[34]، وبخاصة أن هذه الاتفاقية من ضمن الاتفاقيات التي تنظم مجرى مائيًا مهمًا للسودان، ودول أخرى مثل مصر[35]. ولذا فإن سعي أديس أبابا للتنصل من هذه الاتفاقيات الدولية يجر المنطقة إلى كثير من القضايا الشائكة التي يعدد فيها الفاعلون الدوليون، وبخاصة أن مثل هذه القضايا التي تنظمها هذه الاتفاقيات تمثل قضايا أمن قومي بالنسبة إلى الدول الأخرى التي تمس مصالحها هذه الاتفاقية[36].

فمنذ التوقيع على الاتفاقية الحدودية سنه 1902 بين الحكومة السودانية الاستعمارية آنذاك وملك الحبشة “منليك الثاني” وهي في كامل سيادتها لم تكن مستعمرة مثل السودان. وفي نصوص واضحة نصت المادة الأولى على ترسيم الحدود بين السودان وإثيوبيا، وعينت الحدود في تقاطع مثلث أم بريقع إلى تقاطع خط 6 شمالًا مع خط عرض 35 شرقًا، وعرف بالخط الأحمر المزدوج، وكذلك تنص المادة الثانية على ضرورة وضع العلامات الأرضية بين الدولتين. وفي سبيل وضع العلامات الحدودية تم تشكيل لجنة فنية مشتركة بين الدولتين لإقرار وضع العلامات منذ 2001[37]. ولكن مع الاجتماعات الدورية شعرت السودان أن لا جدوى لهذه الاجتماعات مع مراوغة الجانب الإثيوبي من وضع العلامات الأرضية كما جاءت في المادة الثانية[38] من الاتفاقية، وبخاصة في الاجتماع الأخير أواخر 2020 حيث شعر الجانب السوداني برغبة إثيوبيا في إعادة ترسيم الحدود للتنصل من الاتفاقيات الدولية المنظمة لهذه القضية. وهذا ما جعل السودان يتقدم عسكريًا إلى آخر نقطة من الحدود السودانية الإثيوبية، وهذا ما اعتبرته إثيوبيا انتهاكًا لسيادة الدولة الإثيوبية[39].

وفي حين أن تنصّل إثيوبيا من هذه الاتفاقية سيفتح عليها كثيرًا من القضايا الحدودية الأخرى، وليس فقط منطقة الفشقة. إذ تنص المادة الثالثة[40] من الاتفاقية على تقسيم الحدود، على أن تكون الفشقة للسودان مقابل بني شنقول لإثيوبيا، وهي أراضٍ سودانية تخضع للاستعمار البريطاني، وتردّ إلى إثيوبيا فور الخروج البريطاني منها؛ ولذا نجد في هذه الاتفاقية هناك نصوصًا واضحة وملزمة لإثيوبيا بوضع العلامات الأرضية، وهذا ما لا ترغب فيه إثيوبيا، وتتهرب منه دائمًا، وتعدّ التقدم العسكري السوداني انتهاكًا لسيادة واستقلال الدولة الإثيوبية الأمر الذي جعلها تتقدم عسكريًا[41]، والدولتان الآن على أهبة الاستعداد للمواجهات العسكرية.

وهذا يدفع الأمور إلى التعقيد والتصعيد، وفي إطار خلط القضايا الشائكة بعضها ببعض بين السودان وإثيوبيا، وفي ظل عدم اعتراف إثيوبيا بالحدود المتفق عليها في الاتفاقيات الدولية خاصة 1902 بدأ خلط قضية الحدود بقضية سد النهضة المقيم على أراضي إقليم بني شنقول[42] وهو تاريخيًا تابع للسودان وضمته إثيوبيا بموجب هذه الاتفاقيات الدولية. هنا بدأ الموقف السوداني يتغير بشأن سد النهضة[43]، حيث أكد وزير الموارد المائية والري السوداني ياسر عباس أن هناك تهديدًا مباشرًا لسد النهضة الأثيوبي على خزان الروصيرص السوداني الذي يبلغ سعته التخزينية أقل من 10 بالمئة من سعة سد النهضة. وشدد عباس على أنه لا يمكن الاستمرار في هذه الدورة المفرغة من المفاوضات إلى ما لانهاية، مشيرًا إلى فشل آخر جلسة من المفاوضات بين الدول الثلاث في التوصل إلى صيغة مقبولة لمواصلة التفاوض، وأكد أن الحرب ليس خيارًا وأكد السعي دبلوماسيًا لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليته من الوعيد الإثيوبي، وتهديدها لحياة أكثر من نصف سكان السودان على النيل الأزرق، ومشددًا على أن السودان لن يسمح بملء وتشغيل سد النهضة من دون اتفاق قانوني ملزم يؤمن سلامة منشأته وحياة السودانيين[44].

فمن خلال هذه التطورات الشائكة والمعقدة بين الدولتين، وظهور قضايا أخرى أكثر ارتباطًا بهذه الاتفاقيات الدولية المبرمة، والمنظمة لقضايا حيوية واستراتيجية مثل قضية الحدود بين السودان وإثيوبيا، وقضية سد النهضة بين السودان وإثيوبيا ومصر، تندفع الأمور إلى التعقيد، وربما في ظل التعنت الإثيوبي في القضيتين يندفع الأمر إلى المواجهة العسكرية عندما تستنفذ كل الدول الأطراف في هذا القضايا كل الطرق والوسائل الدبلوماسية لحل هذه الأزمة .

3- سيناريو بقاء الوضع على ما هو عليه

تاريخيًا تفضل أثيوبيا عدم الوقوع في التزامات قانونية وبخاصة في قضايا تراها أديس أبابا حيوية لمصالحها؛ فتاريخيًا، يأتي التوغل الإثيوبي عبر الحدود السودانية باستفادة قصوى على أديس أبابا، وذلك بسيطرتها على ما يزيد على مليون فدان بما يوفر فرض عمل واستثمارات واحتياجات أساسية لإثيوبيا[45]. وهذا ما لا تريد تغييره أديس أبابا على أرض الواقع. وفضلًا عن التزام أديس أبابا بالاتفاقيات الدولية المبرمة حول الحدود (اتفاقية 1902) يفتح الباب عليها بالالتزام بقضايا أخرى جاءت في الاتفاقية نفسها هي قضية سد النهضة، وتأتي استراتيجية أديس أبابا لإبقاء الوضع على ما هو عليه من خلال:

  • حفظ ماء الوجه السوداني بعد التوغل العسكري الأخير إلى نقطة الحدود النهائية مع إثيوبيا والاستعداد العسكري السوداني لاسترجاع الأراضي السودانية[46]، وتترك إثيوبيا هذه القضية فترة من الزمن إلى أن يهدأ الجانب السوداني، ويقلل من تكثيف الوجود العسكري في هذه المناطق الحدودية، وبعدها تبدأ إثيوبيا تستعيد الأنشطة غير القانونية، وغير الرسمية بالزج بجماعات أكثر قربًا من القبائل الحدودية في السودان لتبدأ أنشطة الزراعة واستئجار الأراضي الزراعية، وتبدأ بعدها أعمال المليشيات المدفوعة من الحكومة الإثيوبية لاسترجاع الأراضي السودانية إلى المزارعين الإثيوبيين، ولتبدأ بعدها سلسلة أخرى من المفاوضات، وهذا ما اعتادته أديس أبابا مع السودان دائمًا.
  • تاريخيًا، من خلال العلاقات القائمة بين الدولتين وهي حقيقة الأمر علاقات متقلبة بين العداء إلى الصداقة، والصداقة إلى عداء؛ فكل دولة عندها ما يكفيها من الخبرة للتدخل لزعزعة الأمن والاستقرار في الدولة الأخرى، وذلك لا يستبعد في تلك الفترة الانتقالية شديدة الحساسية في السودان عدم التدخل الإثيوبي بدعم حركات مناهضة لعملية التحول الديمقراطي في السودان، أو في هذه المرحلة الانتقالية، ولأديس أبابا الخبرة ما يكفيها لفعل مثل هذه التدخلات لكي يجعل السودان أكثر انشغالًا بالوضع الداخلي، وفي نفس الوقت لا تبدأ بالأعمال العسكرية، ولكن تسعى للتوغل عبر الحدود بالجماعات الأكثر قربًا للقبائل الحدودية، وبعدها بالمليشيات المدفوعة من الحكومة الإثيوبية، ويجعل السودان غير قادر على فتح قضية الحدود مرة أخرى.

وفي حقيقة الأمر، مثل هذا السيناريو لا يمكن استبعاده من جانب أديس أبابا وبخاصة في ظل الأوضاع الداخلية في إثيوبيا، وعدم القدرة على فتح جبهة خارجية مع جارة قوية مثل السودان، وبخاصة مع إيمان أديس أبابا الكامل أن هناك قوى خارجية تزج السودان إلى القوة العسكرية لحل قضايا أخرى شائكة كما تراها إثيوبيا، وفي ذلك إشارة إلى مصر، ولذا كل هذا يجعل إثيوبيا تفضل هذا السيناريو، والعمل الحثيث على انشغال السودان بالوضع الداخلي في تلك الفترة الانتقالية بزعزعة الأمن والاستقرار فيها، وعدم إعطاء الفرصة للطرف الآخر الذي يدعم السودان من تحقيق أهدافه التي يسعى إليها.

ثالثًا: تأثير الأزمة الحدودية في الاستقرار السياسي في السودان

تمر السودان بمرحلة انتقالية شديدة الحساسية في تاريخ النظام السياسي السوداني، وبخاصة بعد التغيير السياسي الحاصل في البلاد بعد سقوط نظام البشير الذي كان إلى حد ما متحالفًا مع النظام الإثيوبي في كثير من القضايا ولا سيما قضية سد النهضة الإثيوبي، والذي كان انتهاكًا للقانون الدولي، والاتفاقيات الدولية المبرمة تاريخيًا بين السودان وإثيوبيا. فمع إصرار إثيوبيا باستكمال مراحل السد، ومع شبه رضى الحكومة السودانية السابقة في عهد عمر البشير جعل إثيوبيا تتمادي في عدم الاعتراف بكافة القضايا التي تنظمها هذه الاتفاقيات الدولية مثل قضية الحدود بين السودان وإثيوبيا[47]. ومع علم إثيوبيا بأن هذه الاتفاقيات كاملة الإرادة الإثيوبية؛ لأنها الدولة الوحيدة التي كانت تمتلك الإرادة السياسية، والاستقلال السياسي الكامل في تلك الفترة، وفي حين إدراك إثيوبيا خطورة الوضع على سد النهضة في حالة عدم الانصياع إلى المطالب السودانية بترسيم الحدود وفق لهذه الاتفاقية المبرمة بين البلدين 1902[48] وخلط القضايا الحدودية بقضايا سد النهضة، وتدخل طرف لا يستهان به في المعادلة السياسية في المنطقة، وهي مصر بالنسبة إلى السودان وإثيوبيا، وبخاصة مع علم إثيوبيا أن منطقة بني شنقول المقام عليها سد النهضة تاريخيًا تتبع السودان، وانضمت إلى إثيوبيا وفق هذه الاتفاقيات المبرمة بين السودان وإثيوبيا[49].

ولذا تدرك أثيوبيا خطورة الوضع وتتريث في التصرف، واتخاذ القرارات، وإن كانت تفضل الحل السلمي لضمان الموقف السوداني من سد النهضة، هذا ما يجعل إثيوبيا تتخذ مواقف وإن كانت فاضحة في سلوكها.

تاريخيًا تستطيع كل من السودان وإثيوبيا زعزعة الأمن والاستقرار في الدولة الأخرى، وذلك من خلال تجنيد أو دعم ومساندة جماعات مسلحة، أو غير مسلحة  لنشوب الفوضى، وعدم الاستقرار في كل دولة للأخرى مثل دعم إثيوبيا لجيش الحركة الشعبية لتحرير السودان في أواخر القرن العشرين، ولم يتوقف الدعم الإثيوبي لهذه الجماعات المسلحة إلا باندلاع الحرب الإثيوبية الإريترية 1998-2000، وسعت حكومة أديس أبابا بمصالحة النظام السوداني لتجنب زعزعة الأمن أو الوقوف مع الجانب الإريتري في الحرب الدائرة، وجاء الدعم الإثيوبي لهذه الجماعات المسلحة ردًا على دعم السودان الجبهة الوطنية الإسلامية في إثيوبيا ضد نظام الحكم فيها[50]. فالسودان حاليًا يمر بمرحلة انتقالية، وتترقب إثيوبيا هذه المرحلة، وإن كان لها دور فاعل في هذه العملية الانتقالية، وتعرف كثيرًا من التفاصيل حول العملية الانتقالية مما يمكنها من التدخل لزعزعة الأمن والاستقرار داخل الدولة السودانية، وجعل السودان أكثر هشاشة فتقل قدرته على فتح جبهة خارجية مع إثيوبيا، وهي قوة لا يستهان بها في منطقة القرن الأفريقي.

خاتمة

تعد أزمة الحدود السودانية- الإثيوبية أزمة قديمة حديثة في آن واحد، حيث اعتادت الأنظمة السابقة في كلا الدولتين التعامل مع هذه الأزمة بنمطية معينة، فهناك تعديات متكررة من الجانب الإثيوبي على الأراضي السودانية، وتعلن إثيوبيا أنها اعتداءات خارجة عن القانون ومن ميليشيات غير قانونية. ولكن مع التغيرات السياسية في الدولة السودانية، بدأت الدولة السودانية ترفض مثل هذه التعديات وبخاصة عندما جاءت التعديات الأخيرة في فترة تفاوض على الحدود ووضع العلامات بين الدولتين. وهذا جعل هناك انتشارًا عسكريًا على مناطق الحدود السودانية وفق ما نصت عليه اتفاقية 1902، الأمر اعتبرته إثيوبيا انتهاكًا لسيادتها وإعلانها أن هذه الحدود متنازع عليها. وظهرت نوايا أديس أبابا في إعادة ترسيم الحدود بين الدولتين، وهذا ما لا يتقبله السودان، وبدأت مناوشات عسكرية بين الجانبين دون إلحاق ضرر بكل منهما، وذلك لإيمان كلا الطرفين بالحل السلمي دون التصعيد، ولكن مع عدم تقريب وجهات النظر بين الدولتين فهما توشكان على احتمالية الصراع المسلح.

ولكن الواضح أن إثيوبيا لا تقدم على الحرب، ولكن لها وسائل أخرى تجعل السودان ينشغل بالوضع الداخلي، وبخاصة إيمان أديس أبابا أن السودان انتهز الوضع الداخلي المضطرب لإثيوبيا، وأعلنت استرداد الحدود بالقوة، فضلًا عن اتهام أديس أبابا للخرطوم بأن لها أصابع فيما يحدث في تيغراي. هذا ما يجعل إثيوبيا تستخدم وسائلها التاريخية لزعزعة الأمن والاستقرار في السودان، وهذا ليس بجديد على إثيوبيا، وبخاصة الامهرا في إثيوبيا، وإن كان هذا السيناريو الأقرب في قضية الحدود؛ حيث بدأت في الأيام الأخيرة في بداية شباط/فبراير 2021 مطالبات بإسقاط الحكومة السودانية، واضطرابات، وتظاهرات، لا يستبعد أن تكون فيه أيادٍ إثيوبية.

 

قد يهمكم أيضاً  واقع الحركة الإسلامية ومستقبل الديمقراطية في السودان

اضغطوا على الرابط لقراءة  ثورة السودان وتحدي الاختطاف

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السودان #أثيوبيا #الحدود_السودانية_الأثيوبية #أزمة_الحدود_بين_السودان_وأثيوبيا #أزمة_الحدود_السودانية_الاثيوبية #التوتر_بين_السودان_وأثيوبيا #الصراع_على_الحدود