طوى شباب السودان في الحادي عشر من نيسان/أبريل 2019 صفحة من صفحات تاريخ بلادهم طال أمدها لثلاثين عاماً. ووضع هذا الشباب الثائر وطنهم فوق منصة تأسيس جديدة تستشرف مستقبلاً جديداً لبلد دار تاريخه السياسي منذ الاستقلال في الأول من كانون الثاني/يناير 1956 في حلقة خبيثة تدور بين حكم مدني يعقبه انقلاب عسكري، يعقبه حكم انتقالي عسكري مدني، وتبدأ الدائرة في الدوران من جديد. هكذا هي حال الحكم في السودان على مدار ثلاثة وستين عاماً استأثرت الأحزاب السياسية بالسلطة فيها عبر الانقلابات العسكرية أربعة وخمسين عاماً، بينما استمر الحكم المدني الديمقراطي فيها لتسع سنين فقط.

إنَّ ثورة شباب السودان قد حققت حلمهم في وضع نهاية لحقبة حكم لطالما ارتبطت بالطغيان والاستبداد والفساد؛ ذلك الحلم الذي عجزت عن تحقيقه الأحزاب السياسية والحركات التي تحمل السلاح في محيط اتسعت رقعته من شرق السودان وجنوبه الجديد والقديم وحتى غربه في دارفور التي لحقت فصائلها بمسيرة التغيير المسلح منذ عام 2003. وبعد أن أنجز الشباب ثورته أودعها منضدة الأحزاب – وهو المستقل عنها – على أمل أن تستكمل مسيرة التغيير نيابة عنه، وأن تضع شعار الثورة المتمثل بالحرية والسلام والعدالة حيث يجب أن يكون في صدر أولوياتها وفي مقدمة برامجها، وهي أمانة عظيمة وثقة كبيرة، بل هو امتحان أعظم لا يدري أحد هل بمقدور هذه الأحزاب أن تنجح فيه أم تسقط؟

لقد تحققت الثورة في السودان في زمن يعيش فيه الإقليم متغيرات كبيرة، وتشهد فيه دول الجوار والمنطقة أحداثاً متسارعة. فجنوب السودان لم تزل الحرب الأهلية تفتك بأهله، وإثيوبيا بهشاشة تركيبها وبديمقراطيتها الوليدة ونظامها الجديد تعبُر تحديات الانتقال فتحقق كسباً في مسار وتسجل خسارة في مسار آخر؛ في بلد ظل مرتبطاً بالسودان من خلال الجغرافيا والتاريخ الأزلي الطويل. وفي شرق السودان الممتد على البحر الأحمر تتداخل الأجندة وتتقاطع المصالح في زمن صفقة القرن وما أدراك ما هي. وفي أوج حقبة الصراع الدولي على هذه البحيرة التي لطالما كانت عربية، وعلى جنوب هذا البحر الشرقي لا تزال دماء اليمنيين تنزف بفعل الصراع على هذا البلد العزيز. والسودان من أسف لم يضطلع بدوره الطبيعي في أزمة اليمن التي عرف إنسانها السودان أخاً لبلده وموطناً ثانياً له. وقد فاجأ النظام السوداني المُقتلع اليمنيين حين وضع بعض جنوده وقوداً لحرب حرقت أول ما حرقت صورة السوداني الذي عرفه اليمنيون معلماً وطبيباً مُداوياً لا معتدياً. وليس بعيداً من كل ذلك ما يجري في مصر من متغيرات، وفي ليبيا من حروب وأزمات.

إنَّ الظرف الاقليمي والدولي الذي حدث فيه التغيير ظرف بالغ التعقيد، ظل السودان مرتبطاً بتفاصيله ومساهماً في صناعة بعض ملامحه، الأمر الذي عزز مكانته في الصراع الاستراتيجي ببُعديه الإقليمي والدولي وجعل منه في الوقت نفسه مسرحاً للصراع بين الإرادات الخارجية المختلفة. فقد زاد انكشاف السودان أمام التدخلات الخارجية التي كادت تمسك بتلابيب القرار السياسي فيه على صعيد سلطة الأمر الواقع وعلى صعيد شريكتها في منصة إعلان الحرية والتغيير، الأمر الذي أضاف إلى التحديات الوطنية تحدياً يتصل مباشرة باستقلال القرار الوطني مثلما يتصل بمصير أهداف الثورة التي يتصدرها إقامة نظام حكم ديمقراطي تعددي يبسط الحرية ويقيم العدل ويرعى الكرامة الإنسانية في محيط جغرافي يرى في ذلك تهديداً لنظم الحكم القائمة على التوارث أو تلك المرتكزة على قوة السلاح.

لقد بدأت التدخلات الخارجية تتعاظم في قضايا السودان وشؤونه الداخلية منذ بداية الألفية الجديدة، فكان الخارج حاضراً في القرار السوداني الرسمي منه والحزبي. ولعل مسارات قضيتي جنوب السودان ودارفور وحرب اليمن شاهد على ذلك. بيد أن هذه التدخلات بدأت تأخذ مناحي جديدة، ولا سيما خلال ثورة الشباب في كانون الأول/ديسمبر، وبعد نجاحها في تغيير النظام السابق، حيث اتصلت الجهود الخارجية للاستثمار في علاقات أنشأتها ظروف إقليمية بمن تسنَّم مواقع متقدمة في سلطة الأمر الواقع لضمان استمرار دور النظام السابق في خدمة الأجندة الأجنبية، وفي تمتين أواصر علاقات بأطراف سياسية في منصة إعلان الحرية والتغيير التي قامت على ما يمكن وصفه بعقد المعاوضة الذي تقوم فيه هذه المنصة السياسية بضمان استمرار خدمة السلطة الانتقالية للأجندة الخارجية على النحو الذي كان قائماً إبان فترة حكم النظام المُقتلع، وأن يضاف إليها أجندة تتصل بالبحر الأحمر بكل ارتباطاته وتداخلاته، فضلاً عن اتساع رقعة الخدمة لتشمل ليبيا وغيرها من بؤر الصراع، وذلك في مقابل تحقيق حلمها في الجلوس على كرسي السلطة من خلال شراكة مع العسكر تجعل بلوغ حلم السودانيين في الاستقلال الوطني وفي الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية أمراً صعب المنال.

لقد توافق طرفا السلطة الجديدة – المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير- على اتفاق سياسي يؤسس لمرحلة حكم انتقالي جديدة، وذلك برعاية خارجية سهرت على إنجاز هذا الاتفاق الذي استُبعدت منه قوى التغيير الأخرى. وقد نصَّ هذا الاتفاق على تحويل نظام الحكم من نظام رئاسي إلى نظام برلماني (من دون برلمان) وأن يتقاسم طرفا الاتفاق مقاعد مجلس السيادة، وأن يتولى تحالف الحرية والتغيير السلطة التنفيذية. وأقر الطرفان قيام مجلس تشريعي بالتعيين اختلفا مؤقتاً على تفاصيله لكنهما اتفقا على إرجاء تشكيله لتؤول سلطة التشريع لمجلس الوزراء الذي سيجمع في آن واحد بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأن يضطلع مجلس السيادة بسلطة المصادقة على التشريعات التي يصدرها مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوماً وإلا عُدَّ التشريع مصادقاً عليه وسارياً. كما تضمن هذا الاتفاق نصاً يُحدد أجل المرحلة الانتقالية بتسع وثلاثين شهراً تبدأ بعد صدور المرسوم الدستوري الذي سيكون بديلاً لدستور السودان لعام 2005، الذي كان نتاجاً للاتفاق الذي جمع النظام المُقتلع والحركة الشعبية برئاسة جون قرنق ومكونات تحالف الحرية والتغيير التي شاركت ذلك النظام الحكم خلال الحقبة من 2005 وحتى 2011. وقد تضمن هذا الاتفاق توافقاً على أجندة المرحلة الانتقالية.

ثمة ملاحظات جوهرية تصوَّب إلى الاتفاق المبرم بين المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير يمكن إيجازها في ما يلي:

- إن الاتفاق ثنائيٌّ بين طرفيه كما أشار نص الاتفاق على ذلك، وهو مصوَّب نحو تحديد معالم المرحلة الانتقالية وآليات الحكم فيها ومدتها وبرامجها ودستورها، وهو بهذه الثنائية قد أقصى قوى التغيير الأخرى التي اعترف الطرفان بها وقررا منحها ثلث مقاعد المجلس التشريعي وحرمانها المشاركة في مجلسَي السيادة والوزراء. وبهذا الاقصاء استأثر الطرفان بالمرحلة الانتقالية بدءاً من وضع دستورها (الإعلان الدستوري)، وتحديد برامجها، واقتسام السلطة فيها، الأمر الذي يجعل بقية الأطراف غير معنية بهذا الاتفاق الذي حرمها أهم حقوقها المدنية التي تكفلها لها حقوق المواطنة كما تكفلها لها الشرعية الثورية وذلك من دون أي مسوغ منطقي.

- اتفق الطرفان على تحويل نظام الحكم من نظام رئاسي إلى نظام برلماني من دون تفويض شعبي، ومن دون وجود برلمان.

- اتفق الطرفان على كتابة دستور بديل يستند إلى اتفاقهما السياسي كمرجع وحيد له، وأن يُلغى العمل بدستور السودان لعام 2005 الذي كان لتحالف الحرية والتغيير الدور الأبرز في كتابته، وبموجب هذا الدور شارك النظام المُقتلع سلطته ولمدة ست سنوات انتهت بانفصال جنوب السودان، علماً أنَّ هذا الدستور قد حَظي بإجماع وطني وسياسي تاريخي.

- اتفق الطرفان على أن يكون أجل المرحلة الانتقالية تسعاً وثلاثين شهراً تبدأ بعد صدور الإعلان الدستوري، وهو أجل طويل يقارب أجل دورة انتخابية كاملة سيحكم خلالها الطرفان السودان من دون تفويض انتخابي. وقد تغاضى الطرفان وتغافلا عن سوابق الانتقال في السودان وفي محيطه الإقليمي الذي لم تتعدّ فترات الانتقال فيه العام الواحد تُرد بعده السلطة للشعب ليختار حكامه عبر صناديق الاقتراع.

- أغفل اتفاق الطرفين أي إشارة إلى الانتخابات بعد نهاية المرحلة الانتقالية، الأمر الذي يعزز المخاوف من التوجه الشمولي لطرفـَي الاتفاق، ومن تماهيهما مع أجندة رُعاة هذا الاتفاق الذين لا يرغبون في انتقال عدوى الحكم الديمقراطي إلى بلدانهم.

لقد فتح هذا الاتفاق وتلك المعطيات الوضع أمام معارضة واسعة، ستتعاظم حين دخول الاتفاق حيز التنفيذ، لأنَّ تحالف إعلان الحرية والتغيير قد اشتغل على تعبئة تراكمية كبيرة ومؤثرة جعلت تطلعات الشباب والشارع في أعلى السقوف. وإنَّ توجهات طرفـَي الاتفاق وطبيعة العلاقة بينهما وتحديات الحكم، وعلو سقف الأجندة الحزبية وتقدم الأُطروحات الأيديولوجية سيجعل أمر تحقيق تطلعات الشعب وشبابه أمراً عسيراً بالرغم من تعهد رعاة الاتفاق بتوفير الدعم المالي اللازم للمرحلة الانتقالية.

لكل ذلك، فإنَّ المرحلة القادمة من تاريخ السودان ستكون مرحلة شديدة الدقة، يُخشى أن تتجه فيها البلاد نحو دكتاتورية مدنية- عسكرية مشتركة، تُعلي الأجندة الخاصة، والأجندة الخارجية بكل ما لهذا من تداعيات على صعيد تحقيق أهداف الثورة، وعلى صعيد التماسك الوطني والاجتماعي، وعلى صعيد الأمن والاستقرار؛ بل على صعيد تحدي المحافظة على وحدة التراب الوطني وتحدي المحافظة على الدولة والكيان السوداني.

بهذه المعطيات يصبح المشهد السوداني مشهداً تتداخل فيه أجندة الداخل والخارج، وتتقاطع فيه خيوط الحل والتعقيد، وتختلط فيه عناصر الانفراج والانفجار، وتتشابك فيه عناصر التهدئة والتصعيد، وهو بحاجة حكمة تُعلي مصالح الوطن وتصون استقلاله، وتخاطب قضاياه.

يستشرف السودان في هذه المرحلة مستقبلاً جديداً، إما أن يكون فيه متحداً متماسكاً، يتأسس فيه بالتراضي نظام حكم يُبنى على عقد اجتماعي جديد يرتكز على قيم الحرية والعدل والكرامة الإنسانية، ويُرسي نظاماً ديمقراطياً تعددياً يضمن التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة؛ وهذا يتطلب توافقاً وطنياً بين مكونات الشعب السوداني السياسية والاجتماعية وهو المفقود حالياً، وإما أن تُختطف ثورته ويمضي في اتجاه حكم شمولي جديد يعود بالبلاد إلى الدائرة الخبيثة التي ستكون الثورة محطتها المقبلة.

 

قد يهمكم أيضاً  الحماية الدستورية لحرية التعبير في الدول المغاربية : دراسة حالة تونس، الجزائر، المغرب