مقدمة:

إن تفسير مواد الدستور اللبناني كان دائماً قضية نقاش وسجال بين الأحزاب السياسية، تزداد حدة كلما نشب صراع بينها حول توزيع الصلاحيات بين المؤسسات الدستورية، وخصوصاً بين المؤسستين التشريعية والتنفيذية. لقد أدت الثغرات وأوجه القصور القانونية في الدستور اللبناني في كثير من الأحيان إلى شلل في مؤسسات الدولة. إن أحد أوجه القصور الرئيسية هو غياب الأطر الزمنية لتشكيل الحكومة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. لذلك، فإن تشكيل الحكومة وانتخاب الرئيس عادة ما يستغرق عدة أشهر، ويستدعي تدخـلاً خارجياً من دول مثل السعودية وسورية للتوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو أن البرلمان اللبناني لم يستطع أن ينعقد لانتخاب رئيس جديد بسبب الصراع بين الأطراف اللبنانية، على الرغم من أن الفترة الرئاسية للرئيس السابق، ميشال سليمان، قد انتهت في أيار/مايو 2014.

وقد أثارت وجهات النظر المختلفة حول تفسير مواد الدستور اللبناني الحاجة إلى تعديله بُغية معالجة أوجه القصور فيه. جاءت الدعوات لتعديل الدستور بشكل رئيسي من الأحزاب المسيحية، ولا سيّما التيار الوطني الحر برئاسة ميشال عون. تبغي المطالب المسيحية توسيع صلاحيات المناصب الرئيسية التي تمثل طائفتهم في النظام السياسي. ويمكن تفسير مطالبهم هذه بالصلاحيات المحدودة التي أعطاها اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية (1975 – 1990)، للمواقع التي تمثلهم في الدولة وخصوصاً موقع الرئاسة.

على الرغم من الثغرات في الدستور اللبناني، فإن عملية تعديله غير ممكنة في المدى المنظور لأنه يحتاج إلى تغيير جذري في ميزان القوى بين الطوائف. هناك عدة عوامل تحدد القوة السياسية للطوائف في لبنان: التماسك الاجتماعي والقدرة على التوحد خلف قيادة واحدة، القوة العسكرية، التحالفات الخارجية، والحجم الديمغرافي‏[1]. وأي تغيير في ميزان القوى سوف يُمكّن الطائفة الأقوى من فرض إرادتها على المعارضين من باقي الطوائف وتعديل الدستور بما يتلاءم مع مصالحها. والجدير بالملاحظة في هذه الدعوات عدم وجود نية لأغلبية الأحزاب السياسية لإصلاح النظام السياسي من أجل إلغاء الطائفية السياسية كما هو منصوص عليه في اتفاق الطائف، إنما الدعوات لتعديله جاءت من أجل خدمة مصالحها ومصالح الطوائف التي تمثلها.

تناقش هذه المقالة آفاق التعديل الدستوري في لبنان. وترى أن عملية تعديل الدستور بحاجة إلى تغيير في موازين القوى بين الطوائف. ويزعم الكاتب أن التعديل الدستوري في لبنان غير ممكن في المدى المنظور بسبب توازن القوى بين الأحزاب الطائفية. تعتمد المقالة أساساً على مجموعة مقابلات أجراها الكاتب في العامين 2012 و2014 مع شخصيات سياسية وقانونية وصحفية لعبت دوراً في وضع الدستور والحياة السياسية اللبنانية‏[2].

أولاً: أوجه القصور في الدستور الحالي

يعاني الدستور اللبناني عدة ثغرات وأوجه قصور قانونية، بما في ذلك خلل في توزيع الصلاحيات بين المؤسسات الدستورية وعدم وجود آلية لتنظيم الصراع بين الأحزاب الطائفية. قبل تعديل الدستور اللبناني في اتفاق الطائف، كان رئيس الجمهورية يملك صلاحيات واسعة، بما في ذلك الحق في حلّ مجلسَي النواب والوزراء فضـلاً عن أنها تخوله أن يتدخل لمنع الشلل في مؤسسات الدولة وضمان أنه كلما نشب صراع سياسي بين الأحزاب، باستطاعة الرئيس أن يتدخل بغية فرض تسوية بينها. يعتبر الخبير في الدستور اللبناني، الوزير القاضي سليم جريصاتي، أن دستور الطائف ألغى دور الحَكَم، أي دور رئيس الجمهورية، على قاعدة أن نظام الدولة قائم على تقاسم السلطة، ما يعني أنه لا يحق لأي طرف أو موقع أن يمارس صلاحيات مطلقة‏[3]. لذلك حجّم اتفاق الطائف من صلاحيات الموقع الأول في الدولة وحجب عنه الكثير من السلطات، مثل الحق في حل البرلمان أو الحكومة، لأن مثل هذه القرارات يجب أن تؤخذ بموافقة جميع الطوائف. يؤيد هذا الرأي أيضاً أحد واضعي دستور الطائف، الوزير السابق ألبير منصور، الذي يعتبر أن سبب عدم وجود آلية لتنظيم الصراع هو لأنها تقف ضد فكرة مبدئية في اتفاق الطائف هي «التعايش الطائفي» أو ما يصطلح عليه في أدبيات السياسة اللبنانية «العيش المشترك»‏[4].

بسبب غياب دور الحَكَم الذي كان يمثله رئيس الجمهورية‏[5]، كان التدخل الأجنبي غالباً ضرورياً لتعزيز الاستقرار والتوافق بين الطوائف. وكانت الدول الأجنبية في كثير من الأحيان قادرة على الضغط على الأطراف اللبنانية بغية التوصل إلى اتفاقات حول القضايا الأساسية، مثل تشكيل الحكومة وصياغة قانون انتخابي جديد. وفقاً لتحليل الباحثة، ماريا جويل زاهر، حول ترتيبات تقاسم السلطة في لبنان، فإن «الحماية الخارجية كانت دائماً ضرورية – وربما تكفي – لتأمين السلام والاستقرار الداخلي، حتى من دون دعم جميع الطوائف اللبنانية»‏[6].

خلال الوجود العسكري السوري في لبنان (1990 – 2005)، كانت دمشق تتدخل لحل النزاعات بين الأطراف اللبنانية. بعد انسحابها في عام 2005، لجأت الأطراف اللبنانية إلى الدستور لحل الصراعات في البرلمان ومجلس الوزراء. على الرغم من ذلك، فإنها قدمت تفسيرات مختلفة وأحياناً متناقضة لمواده، ما أدى في كثير من الأحيان إلى شلل في مؤسسات الدولة. كان هذا جلياً عندما استقال الوزراء الشيعة (الذين يمثلون حزب الله وحركة أمل) من الحكومة في عام 2006 احتجاجاً على قرارها لتشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لمحاكمة الذين اغتالوا رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005. اعتبر تيار المستقبل، وهو الحزب السني الرئيسي، وحلفاؤه أن الحكومة شرعية لأن أقل من ثلث وزرائها استقالوا، في حين أن حزب الله وحلفاءه شككوا في مشروعيتها وميثاقيتها لأنها لا تضم ممثلين عن طائفة أساسية، أي الطائفة الشيعية‏[7].

يُبيّن القاضي سليم جريصاتي عدة ثغرات وعيوب تشريعية في دستور الطائف‏[8]: أولاً، إن الدستور الحالي لا يتضمن آلية لتنظيم الصراع، التي كان يمثلها رئيس الجمهورية، ما دفع الأطراف اللبنانية إلى اللجوء إلى دول أجنبية للتحكيم كلما نشب صراع بينهم. ثانياً، إنه لا يحدد بشكل واضح متى تصبح المؤسسات الدستورية غير شرعية وتنتهك الميثاق الوطني، كما الحال في استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة في عام 2006. ثالثاً، يفرض دستور الطائف على رئيس الجمهورية نشر القوانين والمراسيم التي تصدر عن مجلس الوزراء ضمن مهل زمنية محددة، وإلا فإنها ستدخل حيِّز التنفيذ. هذا يقوض من قدرته على أن يكون له تأثير في قرارات الحكومة أو نقضها. رابعاً، هناك غموض في المشاورات الملزمة لأعضاء البرلمان لترشيح رئيس الوزراء: هل رئيس الجمهورية ملزم بنتائج هذه المشاورات؟ وما هو عدد النواب الذين يجب أن يزكّوا رئيس الوزراء المكلف (نصف أعضاء البرلمان أو الأغلبية المطلقة)؟ بالإضافة إلى النقاط التي ذكرها جريصاتي وكما ذكرت آنفاً، فإن الدستور لا يحدد فترة زمنية لتشكيل الحكومة. وبالتالي، فإن تشكيلها غالباً ما يستغرق عدة أشهر، ويستدعي تدخـلاً أجنبياً بغية التفاوض مع الأطراف اللبنانية لتقاسم المقاعد الوزارية‏[9].

ثانياً: الطائفة المسيحية ومطالب التعديل الدستوري

منذ الانسحاب العسكري السوري من لبنان في عام 2005، ما فتئت الأحزاب المسيحية تطالب بتعديل الدستور كي تعزز نفوذ المواقع المسيحية في النظام السياسي. ويعود سبب معارضتها دستور الطائف ودعوتها لإعادة توزيع السلطة إلى سببين رئيسيين:

أولاً، أضعف الدستور الحالي الموقع المسيحي الرئيسي في الدولة، أي الرئاسة. على الرغم من أنه أبقى على المواقع الثلاثة الأولى في الدولة، الرئيس (مسيحي ماروني)، رئيس الوزراء (مسلم سني)، ورئيس مجلس النواب (مسلم شيعي)، دون تغيير كما كانت عليه في الميثاق الوطني لعام 1943؛ إذ أعاد توزيع الصلاحيات بين هذه المواقع الثلاثة. فقد نقل السلطات التنفيذية من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، والذي يرأسه رئيس الحكومة عوضاً من رئيس الجمهورية، وهذا يخالف أيضاً ما كان عليه في الميثاق الوطني. إضافة إلى ذلك، فقد تم تعزيز صلاحيات البرلمان من خلال اشتراط تعيين رئيس الوزراء من قبل رئيس الجمهورية بعد إجراء مشاورات «ملزمة» مع أعضاء البرلمان اللبناني. أما في الميثاق الوطني، فقد كان رئيس الجمهورية هو الذي يعين رئيس الوزراء من دون الحاجة إلى استشارة المجلس التشريعي.

ثانياً، إن التهميش السياسي الذي تعرضت له الأحزاب المسيحية بسبب معارضتها الوجود العسكري السوري في لبنان‏[10]، غذى الخوف لديها، ما دفعها للدعوة إلى إعادة توزيع السلطة وتعزيز الصلاحيات المعطاة للمسيحيين في مواقع الدولة. فقد أدت سياسات التهميش العديدة التي تعرض لها المسيحيون إلى معارضة التدخل السوري في لبنان ومقاطعة الانتخابات البرلمانية الأولى بعد نهاية الحرب الأهلية في عام 1992‏[11].

1 – لم تعالج الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف مشكلة المسيحيين النازحين بسبب حرب الجبل عام 1983 بين الأطراف المسيحية والدرزية، إذ كانت قضية هامشية بالنسبة إلى الحكومات التي تشكلت بعد التصديق على اتفاق الطائف فلم تضع خطة لعودتهم إلى قراهم‏[12].

2 – لم تتضمن الحكومات التي تشكلت بعد اتفاق الطائف تمثيـلاً عادلاً وحقيقياً للمسيحيين، فقد كانت الأحزاب السياسية المسيحية الكبرى غير ممثلة. لذلك، فإن تعيين مسيحيين موالين لسورية في حكومات ما بعد الطائف «لم يساعد في تعزيز الوحدة الوطنية؛ بدلاً من ذلك، فإنه أسهم في ترسيخ المناخ السياسي السلبي وعدم الثقة في سياسات النظام»‏[13]، وخصوصاً أن أحد السياسيين المسيحيين الرئيسيين ميشال عون، رئيس التيار الوطني الحر، قد تم نفيه ولم يمثل في مجلس الوزراء.

ثالثاً، إن معارضة المسيحيين القانون الانتخابي الذي اعتُمد في انتخابات عام 1992 والذي انتهك دستور الطائف غذَّى أيضاً هذا الشعور بالتهميش والغبن. فقد نص دستور الطائف على أن يكون قانون الانتخاب مبنياً على أساس المحافظة كدائرة انتخابية. فخلافاً لذلك، تم تشكيل الدوائر الانتخابية لانتخابات 1992 بشكل انتقائي لتلبية مصالح الطبقة السياسية الحاكمة في حينها، وخصوصاً الأحزاب التي تمثل المسلمين‏[14]. يعتبر النائب والباحث فريد الخازن أن السلطات اللبنانية «تصرفت… على افتراض أن معادلة القوة هي بين فائزين وخاسرين: خسر المسيحيون الحرب بينما فاز المسلمون. هذا يتعارض مع مفهوم التعايش الطائفي (العيش المشترك) الذي تجسد بداية في الميثاق الوطني في فترة ما بعد الاستقلال في عام 1943 وأعيد التأكيد عليه في اتفاق الطائف»‏[15]. يشدِّد النائب السابق لرئيس مجلس النواب، إيلي الفرزلي، على هذه النقطة بالقول إن الأحزاب التي تمثل المسلمين «تصرفت على قاعدة استباحة المسيحيين استباحة كاملة…» اعتبروا أن هناك «تفليسة» مسيحية»‏[16].

بسبب معارضة الأحزاب المسيحية الوجود السوري، استهدفتها الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية إما من خلال تغيير قياداتها أو حلّها. على سبيل المثال، أمين الجميل، رئيس حزب الكتائب، نُفي في عام 1988 واستلم رئاسة الكتائب شخصيات قريبة من سورية (جورج سعادة وكريم بقرادوني). وبالإضافة إلى ذلك، تم حظر حزب القوات اللبنانية الذي يترأسه سمير جعجع، الذي سجن عام 1994 بعد إدانته باغتيال رئيس الوزراء السابق رشيد كرامي في عام 1987‏[17].

أما ميشال عون، قائد الجيش السابق، فقد واجه عسكرياً السوريين في عام 1989 لإجبارهم على مغادرة البلاد. بعد معركة في بيروت، لكن القوات العسكرية السورية هزمته فاضطر إلى مغادرة لبنان إلى فرنسا في عام 1990 وتم سجن العديد من أنصاره. من خلال تهميش واستهداف القيادات المسيحية الرئيسية، أضعفت السلطات السورية قدرة هذه الطائفة على أن تكون ممثلة بشكل فعّال ومؤثر في النظام الطائفي. كانت الأحزاب السياسية المسيحية في البرلمان ومجلس الوزراء خلال فترة الوجود السوري تحظى بدعم مسيحي محدود، ما أضعف من موقفها التفاوضي وقدرتها على الاعتراض على قرارات السلطة السياسية‏[18].

إن تهميش الشخصيات السياسية المسيحية الرئيسية خلال فترة وجود القوات السورية وتعيين سياسيين مسيحيين قريبين من دمشق في حكومات مرحلة ما بعد الطائف لم يساعد في تعزيز الوحدة الوطنية؛ بدلاً من ذلك، فإنه عمل على ترسيخ المناخ السياسي السلبي وعدم الثقة في سياسات السلطة السياسية لدى شريحة واسعة من المسيحيين‏[19]. وقد طرح شعار «الإحباط المسيحي» ليعكس المظالم التي عاناها المسيحيون خلال الوجود السوري‏[20]. وقد أدى ذلك بالأطراف المسيحية إلى رفض الانتقال إلى نظام ديمقراطي غير طائفي. بدلاً من ذلك، دعوا إلى تعديل الدستور لتوسيع نفوذ المواقع التي تمثل طائفتهم في الدولة وذلك من أجل تأمين تأثير أوسع على السياسة الداخلية‏[21]. كان سبب رفضهم لإلغاء الطائفية السياسية يعود إلى أنه في حال تطبيقها سوف تدفع بالأحزاب التي تمثل المسلمين إلى الهيمنة على النظام السياسي كما كان الحال خلال فترة الوجود السوري. تعتبر ماريا – جوال زاهر أن انحياز الطرف الخارجي، أي السوري، إلى طرف داخلي معين (المسلمين) قد يدفع بالأطراف الأخرى «إلى التمسك بالنظام الطائفي ورفض الانتقال إلى نظام غير طائفي… إن تقاسم السلطة مدعوماً من [طرف] خارجي يعزز الشكوك والمطالب من أجل تعزيز عملية تقاسمها»‏[22].

ثالثاً: حالة اتفاق الطائف

في حين أن الحاجة إلى تعديل الدستور أمر ضروري لمعالجة ثغراته وأوجه القصور فيه لضمان تفعيل أداء ودور مؤسسات الدولة، فإن الأمل في تطبيق هذه الخطوة يبدو ضعيفاً نسبياً. تُبين لنا دراسة العوامل التي مهدت وأدت إلى توقيع اتفاق الطائف أنها معقدة وأن تحقيقها ليس بالأمر السهل.

لم يوقَّع اتفاق الطائف لو لم يطرأ تغيير على موازين القوى بين الجماعات الطائفية‏[23]. من بين العوامل الرئيسية التي أدت إلى نهاية الحرب الأهلية في عام 1990 كان التبدل في ميزان القوى لمصلحة الأحزاب التي تمثل المسلمين، ما عزز موقفهم التفاوضي لتعديل مواد الدستور حسب مصالحهم. وقد أسهمت عدة عوامل في تعزيز موقعهم السياسي: أولاً، كان خصومهم المسيحيون في حالة ضعف ومنقسمين بسبب اندلاع الحرب بين عون وجعجع في عام 1989. وقد اندلع الصراع بين عون، الذي كان قائداً للجيش في حينها، وجعجع في شباط/فبراير 1989 عندما طلب عون من الأخير نزع سلاح ميليشياته، الأمر الذي رفضه جعجع. وقد أعقب صراع عون وجعجع اشتباكات بين عون والقوات السورية أدت في النهاية إلى هزيمته وإجباره على المنفى في عام 1990‏[24]؛ ثانياً، إن تحالف الأحزاب اليسارية التي تمثل المسلمين مع القوات السورية في لبنان عزز موقف هذه الأحزاب التفاوضي لفرض وجهات نظرهم في أي اتفاق لتقاسم السلطة. وقد استطاعت دمشق فرض نفوذها بسبب تحالفها مع الأحزاب الرئيسية التي تمثل المسلمين (حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي، والأحزاب اليسارية والناصرية)، ووجود قواتها العسكرية التي وضعت حداً للنزاع العسكري مع عون واستعادت الاستقرار في منطقة شرق بيروت. وبهذا راكمت دمشق نفوذاً قوياً على الساحة السياسية، الأمر الذي جعل التصديق على اتفاق لإنهاء الحرب الأهلية يكاد يكون مستحيـلاً من دون موافقتها‏[25].

المفارقة أن المسيحيين، وبخاصة السياسيون الموارنة، رفضوا طلب المسلمين قبل اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975 لتعديل الدستور كي يعكس التغيرات الديمغرافية. لم يتحقق مطلبهم هذا حتى نهاية الحرب عندما أصبحوا قادرين على إجبار خصومهم المسيحيين على القبول بتوزيع المناصب في الدولة بالتساوي بين الطائفتين على أساس نسبة 5:5 والتي كانت سابقاً 6:5 لمصلحة المسيحيين، بما في ذلك المناصب الأمنية والإدارية. اتفاق الطائف، على حد تعبير الصحافي سركيس أبو زيد، «أخذ بعين الاعتبار موازين القوى التي كانت نتيجة الحرب وفائض القوة السورية» في إشارة إلى الوجود العسكري السوري في لبنان‏[26]. يقول الوزير السابق ألبير منصور إلى إن تصديق اتفاق الطائف كان على «أساس إنهاء الحرب وكان هناك ضغط من أجل إنهاء الحرب، خصوصاً إنهاء حرب الإلغاء وحرب التحرير، وعلى أساس أن زعماء الميليشيات لن يعودوا إلى الحكم»‏[27].

وهكذا، فإن الصلاحيات التي كانت ممنوحة لموقع الرئاسة تم تقليصها في دستور عام 1990. إن موقع الرئاسة، الذي كان له الحق في حل البرلمان ومجلس الوزراء وتعيين رئيس للحكومة، حُرم من هذه الصلاحيات في دستور الطائف. أما المواقع التي تمثل المسلمين فقد جرى تعزيز صلاحياتها. فقد تم تمديد فترة ولاية رئيس البرلمان من سنة إلى أربع سنوات لتساوي بذلك الدورة الانتخابية للبرلمان. مع تمديد ولاية رئيس المجلس لمدة أربع سنوات، لم يعد ملزماً «بمراضاة» القوى السياسية في المجلس التشريعي من أجل ضمان إعادة انتخابه كل سنة. أضف إلى ذلك، أن حضور رئيس الجمهورية اجتماعات مجلس الوزراء ليس إلزامياً في الدستور الجديد، بخلاف رئيس الوزراء فحضوره إلزامي لانعقاده. لذلك، فإن الحكومة قادرة على الانعقاد في غياب و/أو اعتراض رئيس الجمهورية، وبالتالي تضعف من تأثيره في قراراتها.

خاتمة

إن استخلاص الدروس من حالة اتفاق الطائف يقودنا إلى الاستنتاج أن احتمالات إجراء تعديل دستوري في المدى المنظور قاتمة وشبه مستحيلة. إن الأطراف اللبنانية مع ميزان القوى الحالي غير قادرة على القيام بتعديل الدستور أو إصلاحات ديمقراطية. مثال واضح على ذلك هو فشلها في تشكيل حكومة من دون تدخل أجنبي. ويرى الصحافي فداء عيتاني أن «التركيبة الداخلية لا تسمح بإدارة داخلية للأزمة، لأن موازين القوى بين الطوائف متقاربة جداً»‏[28]، وليس من الممكن في لبنان تشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية. والدليل على ذلك أنه منذ عام 2005 وحتى اليوم لم تستطع القوى السياسية تشكيل حكومة وحدة وطنية ناجحة. منذ عام 2005، وحكومات الوحدة الوطنية إما انهارت وإما أصابها الشلل بسبب الصراعات بين الأحزاب السياسية.

إن ميزان القوى الحالي متساوٍ تقريباً بين الممثلين الرئيسيين لأكبر طائفتين في لبنان: تيار المستقبل (سني) وحزب الله (شيعي). يتمتع كلا الحزبين بدعم أغلبية أبناء طائفتيهما، لذا فإن استبعادهما يعني ذلك استبعاد الفئات المجتمعية التي يمثلانها من مجلس الوزراء. وبالتالي، فإنهما غير قادرين على فرض آرائهما من دون تقديم تنازلات. مثال واضح على ذلك هو عجز تيار المستقبل عن تعيين وزراء شيعة عندما استقال حزب الله وحركة أمل من الحكومة في عام 2006. وبقيت الحكومة تفتقر إلى ممثلي الشيعة حتى عام 2008 عندما شكلت الأحزاب السياسية في لبنان حكومة جديدة وشملت ممثلين عن جميع الطوائف. حزب الله، في المقابل، اضطر إلى قبول ترشيح تمام سلام (شخصية قريبة من تيار المستقبل)، ليكون رئيس الوزراء في عام 2013، على الرغم من أن حزب الله وحلفاءه استقالوا من الحكومة في 2011‏[29]، ما أدى إلى انهيارها بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني الدستوري. وكانت استقالتهم احتجاجاً على قرار تيار المستقبل وحلفائه لتمويل المحكمة الخاصة بلبنان التي اتهمت أعضاء من حزب الله باغتيال الرئيس رفيق الحريري.

وعلى رغم من أن التدخل الأجنبي ضروري لتفعيل اتفاقات تقاسم السلطة بين الطوائف في لبنان، فإنه ليس كافياً لممارسة الضغط على الأطراف اللبنانية كي تعدل الدستور ليعكس التغيرات في التركيبة السكانية في البلاد أو لدفع الإصلاحات الديمقراطية إلى الأمام. يؤكد الباحث اللبناني أحمد بيضون، أهمية دور الدول الأجنبية في هذا الصدد، ويقول إن الشروع في الإصلاحات الديمقراطية يحتاج إلى اتفاق إقليمي بين اللاعبين الخارجيين الرئيسيين في لبنان (مثل سورية والسعودية وقطر والولايات المتحدة وفرنسا) بسبب تأثيرهم الكبير في الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية‏[30]. على الرغم من أن هذا العامل ضروري لنجاح عملية تعديل الدستور كما يقول بيضون، فإنه ليس كافياً في حد ذاته. إذا لم يتغير ميزان القوى على المستوى المحلي لمصلحة طرف معين، فإن اللاعبين الخارجيين لن يكونوا قادرين على الضغط من أجل دفع التعديل الدستوري إلى الأمام. إن ضعف أحد أطراف الصراع قد يدفع بمعارضيه المحليين والإقليميين للتدخل لفرض اتفاق جديد لتقاسم السلطة يتناسب مع مصالحهم. يقول فداء عيتاني إن «التوازن غير الثابت في النظام يجعل كل جهة خائفة وقلقة، وكل طرف خائف على مصيره ومصير طائفته في البلد، لأن أي اختلال في موازين القوى الداخلي يمكن أن يؤدي إلى حل على حساب طرف ما وقد حصل حلول على حساب طوائف، فاتفاق الطائف هو حل على حساب الطائفة المسيحية. فحالة الخوف هي حالة بنيوية من داخل النظام وليست مفتعلة، فالنظام بتركيبته الحالية يولد الخوف»‏[31].

إن أحد العوامل الخارجية الرئيسية التي قد تعوق الشروع في تعديل الدستور هو الآثار المترتبة من الصراع السوري. فقد قدم الصراع السوري فرصة للأحزاب السياسية اللبنانية للاستفادة من تداعياته لإضعاف خصومهم المحليين‏[32]. إن التحالف الوثيق بين حزب الله وسورية جعل بقاء جناحه العسكري إلى حد بعيد مرهوناً ببقاء نظام الأسد. لذلك، فإن خصومه، مثل تيار المستقبل، يراهنون على تطورات الساحة السورية بغية إسقاط النظام الذي سيضعف بشكل كبير حلفاءه المحليين، وخصوصاً حزب الله. سيؤدي ذلك إلى تحسين الموقف السياسي لتيار المستقبل ضد معارضيه لفرض وجهة نظره عليهم في حال حصل اتفاق على تعديل الدستور.

على الرغم من أن احتمالات الشروع في تعديل الدستور ليست ممكنة في المستقبل المنظور بسبب تعقيدات الصراع الداخلي وتقاطعه مع التحالفات والصراعات الإقليمية، فإنه في حال تطبيقه لن يكون على الأرجح في مصلحة المسيحيين من أجل استعادة بعض الصلاحيات التي فقدوها في اتفاق الطائف. هناك عدة عوامل تمنع المسيحيين من تحقيق هدفهم هذا. إن أبرزها هو صغر حجمهم السكاني مقارنة مع المسلمين. لذلك إن التعديل الدستوري من المرجح أن يدفع بالأحزاب التي تمثل المسلمين إلى المطالبة بتوزيع جديد لمناصب الدولة يعكس التغيرات الديمغرافية. الصراعات بين الممثلين السياسيين، مثل التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، هي عامل آخر يمكن أن يضعف موقفهم التفاوضي. إن صراعاتهم قد تؤدي بهم إلى تقديم آراء متناقضة بشأن كيفية تعديل الدستور لتعزيز التمثيل السياسي للمسيحيين. إن عدم قدرتهم على الاتفاق على انتخاب الرئيس هو مثال واضح على ذلك. منذ الانسحاب العسكري السوري في عام 2005، والخلافات بين الأحزاب المسيحية، ولا سيّما بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وتيار المردة، منعتهم من الاتفاق على ترشيح رئيس جديد، ما أدى إلى الإبقاء على موقع الرئاسة شاغراً لعدة أشهر بعد نهاية الولاية الرئاسية لإميل لحود في عام 2007 وميشال سليمان في عام 2014.

تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الإصلاحات الديمقراطية ستكون الضحية الرئيسية في حال حصل تعديل دستوري. إن مسعى الأحزاب السياسية لتعديل الدستور هو لتوسيع نفوذها ونفوذ الطوائف التي تمثلها بدلاً من الشروع بإصلاحات ديمقراطية حقيقية. ومن شأن هذه الإصلاحات، مثل إلغاء الطائفية السياسية وصياغة قانون انتخابي جديد يوفر تمثيـلاً أفضل للشعب اللبناني، أن تكون على حساب الأحزاب السياسية في لبنان. على سبيل المثال، إن وضع قانون انتخابي يؤمن تمثيـلاً صحيحاً وعادلاً قد يضعف قدرتهم على كسب الحصص المخصصة لطوائف كل منهم في مجلس النواب والوزراء ومؤسسات الدولة. على الرغم من ذلك، فإن صيغة القانون الانتخابي الحالي تتناسب مع استراتيجياتهم الانتخابية وضمان فوزهم في الانتخابات‏[33].

على الرغم من التحديات التي تواجه احتمالات التعديل الدستوري في لبنان، فإن الشروع في هذه الخطوة ضروري لتجنب الشلل في مؤسسات الدولة والحاجة إلى وساطة أجنبية كلما نشب صراع بين اللاعبين السياسيين اللبنانيين. أولاً، ينبغي أن يهدف التعديل إلى معالجة الثغرات القانونية للدستور، وعلى رأسها عدم وجود إطار زمني لتشكيل الحكومة وانتخاب رئيس للجمهورية. يجب أن يحدد أيضاً تحت أي ظرف تصبح مؤسسة دستورية مخالفة للدستور لتجنب تكرار الصراع الذي اندلع بعد استقالة الوزراء الشيعة في عام 2006. ثانياً، إن الصلاحيات الممنوحة للرئيس ينبغي تعزيزها كي يكون قادراً على أداء دور الحَكَم كلما نشب صراع بين اللاعبين السياسيين. هذا يمكن أن يقلل من الحاجة إلى التدخل الأجنبي لحل النزاعات المحلية. ثالثاً، ينبغي تنفيذ المواد في دستور الطائف المتعلقة بالإصلاحات الديمقراطية، ولا سيَّما منها تلك التي تنص على تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية التي من المفترض أن تضع الخطوات اللازمة للانتقال إلى نظام غير طائفي. كما أنها تنص على تشكيل مجلس الشيوخ الذي يضم ممثلين عن المجتمعات الدينية.

 

قد يهمكم أيضاً  تساؤلات حول الرواية التاريخية المؤسسة للكيان اللبناني: هل وجد أمير اسمه فخر الدين المعني الأول؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الدستور_اللبناني #تعديل_الدستور #الطائفية_السياسية #دستور_الطائف #إتفاق_الطائف #الأحزاب_اللبنانية #الطوائف_اللبنانية #التعديل_الدستوري_في_لبنان #لبنان #وجهة_نظر