مقدمة: الفكر والواقعية الاقتصادية

في الاقتصاد المعاصر، تتواصل الجهود الفكرية «النظرية» لإيجاد الحلول للمسألة الاقتصادية – الاجتماعية «الدائمة» المتمثلة بتحسين كفاءة استغلال الموارد المحدودة لتلبية حاجات الأفراد والمجتمعات المتزايدة. وبالتوازي، تستمر التجارب الاقتصادية الوطنية في صوغ نماذج اقتصادية تستند في تنبؤاتها إلى اختبار «واقعية» فرضيات النظريات الاقتصادية السائدة بهدف تفعيل السياسات الاقتصادية بشروط الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في الإنتاج والتوزيع. ذلك أن من الصعب التكهن بواقعية السياسات الاقتصادية ورشادتها من دون الاهتداء بنظرية اقتصادية فرضياتها واضحة ومتسقة في تحليل عوامل ودينامية الإنتاج والتوزيع. والواقعية هنا، شديدة الوضوح في الأزمة التجارية الدولية، الأحدث والأسوأ، التي أصابت بالضرر الشديد، وشبه الدائم، جميع الاقتصادات الرأسمالية ونظام التجارة العالمية، نتيجة التحول الجذري في السياسة الاقتصادية الأمريكية، معقل الرأسمالية، بفَرض الرسوم الجُمركية المُرْتَبِكَة والمُرْبِكَة والمُتَطَرِفَة، قسريًا، تجاه شركائها التجاريين. في الرأسمالية، كيف يمكن الحمائية التجارية معالجةُ المشكلة الاقتصادية الهيكلية المزمنة في أمريكا، الناشئة من الاستهلاك المُفرط وانخفاض الاستثمار والعجز في المالية العامة والحساب الجاري وتراكم الدين العام؟ وهل سياسة «أمريكا أولًا»، إن تَكَرَسَتْ، تمثل أيديولوجيا جديدة لنظام «الرأسمالية الوطنية» المنعزلة؟! الواضح، في رأينا، أن هَيمَنَة الرأسمالية «الليبرالية الجديدة»، تهتز بثقل تراكم أزماتها. فالحمائية التجارية، تتناقض مع مبادئ النظرية الرأسمالية المعاصرة «الكلاسيكية الجديدة» (Neoclassic Economic Theory) ومع نظرية الميزة النسبية (Comparative Advantage) التي تفسر مزايا التجارة بين الدول(*).

في هذا السياق الاقتصادي، الفكري والعملي، تبرز أهمية نظرية «الاشتراكية الجديدة» التي نُشِرَتْ بصيغة أكاديمية منهجية والتي تتطلب التوسع في تعريف فرضياتها وإيضاح تحليلاتها المُغايرة لنظريات الاقتصاد التقليدي والمعاصرة‏[1]. كما يُفيدُ الإيضاح، التمهيد لصوغ نموذج (نماذج) اقتصادي لتجربة معينة، وبمؤشرات موضوعية، لاختبار «الواقعية» في فرضياتها، كما في التجربة الاقتصادية العراقية.

في البدء، تَجدر الإشارة إلى أن جذور «الاشتراكية الجديدة» نجدها في المحاولات التاريخية الرائدة والمستمرة منذ ثلاثينيات القرن العشرين للمزاوجة «الفكرية» أو المفاضلة العملية، القابلة للقياس، بين أولويات الكفاءة الاقتصادية في الرأسمالية والعدالة الاجتماعية في الاشتراكية، وانعكاساتها في السياسات الاقتصادية.

«تُحَدِّدُ «الاشتراكية الجديدة» طبيعة نشاط «المنشأة الإنتاجية» (المنشأة) بإسهامات العمل ورأس المال المستثمر في الإنتاج بشرط استيفاء الكفاءة الاقتصادية، أو التكلفة الحقيقية، في استخدامهما بمعيار الكفاءة الإنتاجية الحَديّة المعادل لأسعار الظل (Shadow Prices) للعمل ولرأس المال المستثمر، وبعدالة توزيع الأرباح «فائض الاستثمار» بينهما بمقدار إسهاماتهما في تكلفة الإنتاج الحقيقية، مع تَحييد نوع مِلكية المنشأة للأصول الإنتاجية الثابتة، الخاصة أو العامة. ويؤهل تحليل النظرية لدينامية الإنتاج وتوزيع الأرباح، قياس الكفاءة والعدالة بـ«الأرقام». والنظرية، ليست نموذجًا اقتصاديًا أو سياسة اقتصادية تتلاءم مع تجارب أو حالات اقتصادية معينة تعتمد أفضلية «نوع» مِلكية الأصول الإنتاجية، واقترانها إما بحرية المنافسة التامة وإما بدور الدولة في الاقتصاد وإما بتقييد سوق العمل وسوق رأس المال، كما نلحظ في السياسة الاقتصادية الكينزية أو السوق الاجتماعية أو الاشتراكية التنافسية أو رأسمالية الدولة، وغيرها. كما أنها ليست وسيلة لصوغ برامج وأولويات الاستثمار لزيادة النمو والتشغيل وتحقيق أهداف التنمية الاجتماعية. كذلك، لا تقدم النظرية تفسيرات لنجاحات وإخفاقات تجارب الاقتصادات الوطنية المتباينة ولعلاقاتها المتبادلة.

نَعلمُ أن المَسألة الاقتصادية – الاجتماعية، الفكرية والعملية، الدائمة، تَفرضُ البحث عن نظام اقتصادي جديد أكثر كفاءة في الإنتاج، ومجتمع جديد أفضل لخدمة العدالة. وفي الجوهر، يتركز هذا البحث على تصحيح الاختلال الكبير في ميزان القوى السائد بين «قيمة» رأس المال وبين «قيمة» العمل ليكون، اقتصاديًا واجتماعيًا، أكثر قبولًا واستقرارًا. والجديد هنا، نظرية «الاشتراكية الجديدة» التي تَجمَعُ باتساق بين الكفاءة في تعبئة واستخدام الموارد من العمل ورأس المال في الإنتاج وبين العدالة الاجتماعية في توزيع الأرباح، بما يُغايرُ نظريات الاقتصاد التقليدي الرأسمالي والماركسي، واشتقاقاتها الرأسمالية «الكلاسيكية الجديدة» والمدارس الاشتراكية المعاصرة.

تُحَدِدُ النظرية، تكلفة الإنتاج الحقيقية بقيمة العمل (الأجور) زائدًا قيمة رأس المال (المالي) المستثمر لتمويل مدفوعات الأجور والمواد الأولية والإيجار والفوائد وتكلفة اندثار المعدات والأبنية المستخدمة في العملية الإنتاجية، المستقلة عن بيع المنتجات وتحقيق الأرباح بآليات السوق التنافسية، وليتم توزيعها بين العمال ومالكي رأس المال المالي المستثمر بمقدار إسهاماتهما في تكلفة الإنتاج‏[2]. تفترض النظرية، دَمْجَ دور «المُنَظِم» بدور العُمال حيث تتحدد قيمة «ريادة المُنَظِم» بالأجر المدفوع، كبقية العُمال (تتحدد الأجور بما يناسب مهارات ومهمات العمال وساعات العمل) لقاء المشاركة في تكلفة الإنتاج الحقيقية، بخلاف النظرية الرأسمالية «الكلاسيكية الجديدة»، وهذا الدَمْج لا يعني إلغاء مهمَّات المُنَظِم في «المنشأة»، بل الاستمرار في الابتكار، وحفز التقدم التكنولوجي، وتحسين توزيع الموارد المستخدمة في الإنتاج، وإيجاد منتجات وخدمات جديدة للتوسع في خيارات المستهلك، ولتلبية حاجات السوق في إطار حرية المنافسة، كجزء من متطلبات تقليل تكلفة الإنتاج في أدناها وتسويق منتجات المنشأة لتعظيم الأرباح في أقصاها. كما تفترض النظرية، تَحييد قيمة الأصول الإنتاجية للمنشأة ومِلكيتها، الخاصة والعامة، في تقييم تَكلِفة الإنتاج وفي معيار توزيع الأرباح، بخلاف النظريات الرأسمالية والاشتراكية، بما يؤهل الدولة والقطاع الخاص والقطاع العام في استثمار الأرباح المُحَققة لتمويل التوسع في المشاريع الإنتاجية وزيادة تراكم الثروة الوطنية.

تقارب نظرية «الاشتراكية الجديدة» العلاقات الاقتصادية السببية المهمة بين مفاهيم «القيمة» والتوزيع» و«الأرباح» و«النمو» في نظام الإنتاج بطريقة تختلف عن أساليب التحليل الوصفي في نظريات الاقتصاد التقليدي أو الرأسمالية «الكلاسيكية الجديدة» والاشتراكية المعاصرة. وكما في النظريات الاقتصادية، تستند «الاشتراكية» إلى شواهد تاريخية ومعاصرة ولوقائع تجارب بارزة، وهي ليست فكرًا جامدًا بالدرجة التي تَفْرِضُ قَسْرًا فرضياتها، وتُؤَطرُ في السياسة نظامها، وتُقَيّدُ الاستثمار بمعايير مسبقة، وتَفْرِضُ نظامًا واحدًا للإنتاج ولتوزيع الأرباح. فالمِلكية، الخاصة والعامة، للأصول الإنتاجية ولرأس المال المستثمر مُصانة في حقوقها. فالقطاع الخاص، كما القطاع العام، جزء من الاقتصاد الوطني وكلاهما يستهدف الكفاءة في استخدام الموارد في الإنتاج وتحقيق الأرباح من خلال آليات السوق التنافسية لزيادة الاستثمار وتراكم الثروات، ولكنهما يختلفان في التعامل مع العدالة الاجتماعية من خلال مشاركة قوة العمل وقوة رأس المال في تحديد التكلفة الحقيقية للإنتاج وفي توزيع الأرباح.

وليست «الاشتراكية الجديدة» تمرينًا فكريًا ونزعةً ذاتية، وهي لا تمنح قسرًا أولوية لقيم اجتماعية وإنسانية، إنما هي استقراء لتاريخ أبرز النظريات والتجارب الاقتصادية المعاصرة، واستشراف لمآل نتائجها الرئيسية. كما أن صيغتها الحالية «هيكل النظرية» (Theory’s Skeleton) ليست متكاملة في تفاصيلها وأبعاد تأثيراتها، فهنالك أسئلة بحاجة إلى الإجابة عنها تتعلق بالجانب العملي لنتائج فرضياتها وانعكاسها بمستوى الاقتصاد الكلي، كما سنشير إليه. ولكن، مع أهمية هذه التساؤلات، فإن فرضيات النظرية تُضيفُ الجديد إلى الفكر «النظري» وإلى آراء رواد المعرفة الاقتصادية التاريخية والمعاصرة عن ضرورة وإمكان التطابق أو الانتفاع المشترك من مزايا الكفاءة الاقتصادية في الرأسمالية ومزايا العدالة الاجتماعية في الاشتراكية.

أولًا: لماذا الاشتراكية الجديدة؟

نَعْلَمُ، أن العالم يَتَغَيْر باستمرار استخدام المعرفة وتراكمها مع التقدم الدائم في العلوم واستمرار الثورة التقانية والمعلوماتية والرقمية المدهشة، وبخاصة التوسع والتأثير المذهل لتطبيقات برامج الذكاء الاصطناعي، ومع السرعة الفائقة في الاتصالات وتقدم وسائط النقل. وَتتَغَيْرُ أيضًا، سمات مختلف الأنظمة الاقتصادية وديناميتها مع تَغَيُر الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية والثقافية المحيطة بها. لذلك، تَتَغَيّر على الدوام المفاهيم والمصطلحات وأدوات تفعيل السياسات ودلالة المؤشرات والمعايير الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لقياس الإنجازات والإخفاقات في تطور الاقتصادات الوطنية. ومعها نَعْلَمُ أيضًا، أن أذواق الناس الاستهلاكية وطموحاتهم تَتَغَير، وأن أهدافهم في العمل وزيادة الدخول والاستهلاك وتحسين مستويات المعيشة تتزايد في رحاب النمو الاقتصادي وتوسع الحريات والمطالبة بالمساواة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في توزيع الدخول والثروات الوطنية، وحيث يتزايد الأمل في المجتمعات بمحاكاة أمثلة نجاح التجارب الاقتصادية في بلدان العالم. لذلك، يتطور الفكر الاقتصادي وتصاغ النظريات بإدراك أهمية تغيير الواقع الاقتصادي ولتُنتَج أسس السياسات الاقتصادية الجديدة لمواكبة التغيير الضروري نحو الأفضل بتحسين مستويات المعيشة للناس والارتقاء بنوعية الحياة في المجتمع.

بموازاة هذه التطورات، يَعْلَمُ مجتمع الأعمال والشركات الخاصة ومؤسسات السوق، أن مصالحهم في قرارات الاستثمار التي تَهتدي بمعايير الربح والتكلفة وتجنب المخاطر، يجب أن تتكامل، ولو في حدود معيَّنة، مع قرارات الدولة الاقتصادية المتعلقة بتنمية واستثمار الموارد البشرية والطبيعية والمالية، ومنها الاستثمار في مشاريع ذات أهمية جيوسياسية واستراتيجية بعيدة المدى، بمعايير استثمار مركبة: اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية وعلمية وتكنولوجية. وفي إدارة الدولة، يدْرك الجميع أيضًا، أهمية تزامن العدالة الاجتماعية مع التقدم الاقتصادي وتأمين الاستقرار في العلاقات المتبادلة التأثير بين قوة (إدارة) السلطة السياسية وبين قوة (إدارة) المصالح الاقتصادية، حيث تبرز أهمية مشاريع الاستثمار الخاصة والعامة المتباينة إزاء تلبية مصالح الفئات الاجتماعية المتعددة.

وفي الإطار الفكري والمهني، نَعْلَمُ أيضًا، أن حوافز نَقد النظريات الاقتصادية ليست محدودة في اتساق فرضياتها في الإنتاج والاستهلاك والاستثمار، وتسويات التبادل التجاري، واستقرار التوازن العام، وفي تناسب الأسعار مع قيمة المنتجات الحقيقية وأنماط توزيع الأرباح لضمان استدامة النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية ولتنمية الموارد الطبيعية وحماية الصحة البيئية. الأكثر ضرورة وواقعية في نَقد النظريات، إدراك تأثيرات الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية والسياسات الاقتصادية المنبثقة منها في حياة الناس والمجتمعات والارتقاء في مستويات المعيشة بمعايير فرص العمل وزيادة الدخل وتحسين التعليم والصحة وتوفير السكن والرعاية والرفاهية الاجتماعية وتأمين العدالة في توزيع الدخول والثروات من جهة، وبممارسة الحريات الفردية والمساواة في الحقوق والواجبات والمشاركة الديمقراطية في السلطة السياسية الحاكمة من جهة ثانية. لهذا، لم يَعُدْ كافيًا، نَقدُ النظريات الرأسمالية والاشتراكية من دون تقديم المشروع البديل الذي يلائم حاجات الأفراد والمجتمع وكفاءة استخدام الموارد الاقتصادية بمبررات الكفاءة الاقتصادية في الإنتاج والعدالة الاجتماعية في توزيع الأرباح بمعايير واضحة وقابلة للقياس. ولقد تناول رواد الفكر الاقتصادي التقليدي الكبار والإضافات الفكرية والمهنية اللاحقة بحث هذه المهمات بمناهج وتحليلات مختلفة في صوغ النظريات الرأسمالية والاشتراكية الحديثة ولتسجل إسهاماتهم المعرفية والمهنية في تاريخ الاقتصاد التقليدي والحديث‏[3].

في هذا السياق، وبالإفادة من معطيات تاريخ الاقتصاد المعاصر ونَقد الاقتصاد التقليدي الرأسمالي والماركسي‏[4]، قُدِمَتْ مبادئ «الاشتراكية الجديدة»، وأصبح من المُفيد إيضاح فرضياتها المُغايرة لعناصر ودينامية عملية الإنتاج ولتوزيع الأرباح في نظريات الاقتصاد التقليدي لتسهيل المقاربة بينها، وبمؤشرات قياس (أرقام)، في تقييم الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والجمع المتكامل بينهما، ولتتضح أكثر المبررات في نَقد فرضيات الاقتصاد التقليدي الأساس في النظريات الرأسمالية والاشتراكية. كذلك توجد ضرورة لتوسيع الرؤية الاقتصادية المستقبلية عن متطلبات التحول «المُستهدف» نحو نظام «الاشتراكية الجديدة» بفهم دوافع التغيير، والتقدم الدائم، في الظروف الاجتماعية والسياسية والبيئية والفكرية والثقافية والعلمية والتكنولوجية من جهة، وللتأكيد أن النموذج الاقتصادي الأمثل الذي تقدمه يَتكيّفُ بمرونة مع سمات الاقتصادات الوطنية المتباينة في مستويات الطاقات الإنتاجية والموارد البشرية والطبيعية المتوافرة من جهة ثانية. ولأن «الاشتراكية الجديدة» ليست مسألة «فنية» منحصرة بقياس الكفاءة الاقتصادية في استخدام موارد الإنتاج، وبتقديم تفسير «نظري» مُختلف لأنماط توزيع الأرباح السائدة، فاستنتاجاتها الاجتماعية، المباشرة والضمنية، متعددة وتناسب التحديات الموضوعية الكبرى الراهنة، وهي: إنهاء الفقر، والبطالة المتزايدة، وتقليص التباين في توزيع الدخول والثروات، ووقف التردي في مستويات المعيشة بمعايير تحسين الخدمات العامة في التعليم والصحة والسكن والرعاية الاجتماعية، وضمان تنمية الموارد الطبيعية وحماية البيئة. لذلك، يصبح الارتقاء بالوعي الاجتماعي ممثلًا بثقافات القيم والتقاليد والعادات والفنون والدين والأيديولوجيا، شرطًا أساسيًا في قبول المجتمع للنموذج الاقتصادي الأمثل ولتأسيس الثقة بالسياسات الاقتصادية المصاحبة.

وفي إطار أوسع، تُفيد مناقشة فرضيات «الاشتراكية الجديدة» في الإجابة عن التساؤلات المتكرِّرة عن عُقم الآراء «الاشتراكية» التقليدية نتيجة فشل تجاربها العملية وقصور التحليلات في تفسير أسسها من ناحية، ومن ناحية ثانية، التساؤل في الآراء التي تجد البديل الاقتصادي – الاجتماعي الأمثل في كفاءة النظام الرأسمالي بأحدث مراحل تطوره في السياسات «الليبرالية الجديدة» القادرة على التكيّف في مواجهة الأزمات الرأسمالية الكبرى ومعالجة الاختلال الاقتصادي في المدى القصير. وبموازاة هذه التساؤلات، تبرز أيضًا، أهمية استشراف تأثير التقدم العلمي والثورة التقانية في زيادة النمو الاقتصادي بارتفاع إنتاجية العمل والسلع الرأسمالية أو زيادة البطالة نتيجة توسع النشاط الاقتصادي، ولا سيما ببرامج الذكاء الاصطناعي، من ناحية، وتأثيرها في زيادة أو تقليص دور الدولة في إدارة الاقتصاد الوطني من ناحية ثانية‏[5].

في الوقت الحاضر، مع فائدة الاستعانة بتفاصيل الأحداث والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتحليلها تحديد «هوية» النظم الاقتصادية: الرأسمالية والاشتراكية والمختلطة والهجينية، فإن هذه المحاولات لا تمثل الأساس في إدراك أهمية الإبقاء أو تغيير الفرضيات والعناصر المؤثرة في كفاءة عملية الإنتاج والتوزيع، بدمج أو استقلال توزيع الأرباح من العملية الإنتاجية، وبيان كيفية اتساق العلاقة بين العمل ورأس المال المستثمر (المال المدفوع)، لا الأصول الإنتاجية الثابتة للمنشأة، في تسيير الإنتاج وبين النظام الاجتماعي. بعبارة أخرى، لتحديد «هوية» النظام الاقتصادي، يجب مراجعة واختبار واقعية فرضيات الاقتصاد الرأسمالي التقليدي وتطوره في النظرية «الكلاسيكية الجديدة»، وكذلك مراجعة واختبار فرضيات الاقتصاد التقليدي الماركسي والمدارس الاشتراكية المشتقة. وفي الواقع، ستظل المقاربات بين الرأسمالية والاشتراكية مستمرة، لأنها تعبير عن المصالح الاقتصادية المختلفة لفئات اجتماعية متعددة‏[6].

وفي هذا السياق، تقدم «الاشتراكية الجديدة» الإطار العام لأسس النموذج الاقتصادي الأمثل الذي يتسم بكفاءة استخدام العمل ورأس المال في العملية الإنتاجية وبعدالة توزيع الأرباح بينهما، بما يؤمن التكامل بين مزايا الكفاءة الاقتصادية في الرأسمالية والعدالة الاجتماعية في الاشتراكية من جهة. ومن جهة ثانية، يُعيد تعريف الطبقات الاجتماعية بحدود مشاركة العمال ومالكي رأس المال المستثمر في الإنتاج والأرباح، ولا بمِلكية الأصول الإنتاجية الثابتة في المنشأة.

ثانيًا: المفاضلة بين الكفاءة الاقتصادية
والعدالة الاجتماعية

ليس أكثر دقة وموضوعية، مهنيًا ونظريًا، توصيف هوية واختيار النظم الاقتصادية – الاجتماعية المتعددة من قياس الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية فيها، حيث يمثلان صُلب المشكلة الاقتصادية الدائمة بضرورة التناسب بين استخدام الموارد الإنتاجية المحدودة وبين الحاجات المتزايدة من المنتجات. فمع اختلاف معايير الممارسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية، يَكتسبُ موضوع الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية قيمة عملية بالغة الأهمية ودائمة في المجتمعات. ولأن من الصعب قياس الكفاءة الاقتصادية لعوامل الإنتاج بدقة كافية، وقياس العدالة الاجتماعية بمعيار توزيع الدخل والثروات فقط، تصعب المفاضلة بينهما في الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية المعاصرة. والواضح في تاريخ الاقتصاد التقليدي، أنه ليس هنالك نظام للإنتاج والتوزيع يجمع، وبطريقة يُمكن بها بـ«الأرقام» قياس الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية معًا. لذلك، نلحظ في تاريخ الاقتصاد المعاصر، استمرار المفاضلة المثيرة للجدل الدائم بين الكفاءة والعدالة من خلال التقييم المهني لأداء التجارب الرأسمالية والاشتراكية والمختلطة في مراحل زمنية معينة واقتصادات متباينة في مستويات تطورها وتوافر مواردها من جهة، وتقييم أداء الحكومات ومشاريع القطاع العام مقابل مشاريع الأعمال وشركات الإنتاج الخاصة وتقدير فاعلية آليات السوق في استدامة النمو الاقتصادي من جهة ثانية.

في الواقع، كثيرًا ما تتناول السياسات الاقتصادية أهمية الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية بالحديث العام عن زيادة النمو الاقتصادي بمقياس الناتج المحلي الإجمالي وحصة الفرد من هذا الناتج من جهة، أو تقليص التباين في توزيع الدخول والثروات بمقياس إحصائي (Gini Coefficient) من جهة ثانية. كذلك، يثار الموضوع في تبرير الخدمات العامة الأساسية في التعليم والصحة والرعاية أو الرفاهية الاجتماعية التي تعتمدها معظم الدول المتقدمة، كذلك المطالبة بتقديم الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية الأساسية في الدول الناهضة والنامية. وهنالك أيضًا، الآراء التي تقترح نظام «الدخل الأساس الشامل» (Universal Basic Income) بمنح جميع المواطنين الحد الأدنى من الدخل بلا شروط أو الحاجة إلى العمل، أو «مدفوعات أساسية شاملة» (Universal Basic Dividend) لجميع المواطنين من إيرادات ضرائب استغلال الموارد الطبيعية العامة. كذلك، يثار الموضوع في تبرير أهمية «مشاريع القطاع العام» في المجتمع في مقابل ضرورة «المسؤولية الاجتماعية» للشركات الرأسمالية الكبرى لتقوم بتمويل بعض المشاريع الخدمية العامة. وبالرغم من الأهمية العملية لمثل هذه الممارسات والآراء، فإن معايير التفضيل أو الجمع «النظري» بين الكفاءة الاقتصادية وبين العدالة الاجتماعية التي تستخدم مؤشرات الاقتصاد الكلي أو المقارنة بين مزايا ونواقص كل من المشروع العام والمشروع الخاص، ليس كافيًا وحاسمًا، لمنح النظام الاقتصادي الأفضلية من حيث الكفاءة الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية أو الجمع بين الإثنين معًا. فالأصل في الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية منشؤه نظام الإنتاج المقترن بنمط توزيع الأرباح في «المنشأة الإنتاجية»، ومن دون تحليل فرضيات ودينامية الإنتاج والتوزيع في هذا النظام، يَصعبُ البتُّ في أيّهما أفضل في تأمين الكفاءة أو العدالة أو كليهما.

في الأدب الاقتصادي السائد، تتمحور وسائل ومؤشرات المفاضلة والتمايز بنطاق واسع بين الكفاءة الاقتصادية وبين العدالة الاجتماعية فيما بين الأنظمة الرأسمالية التقليدية، والرأسمالية «الكلاسيكية الجديدة»، والرأسمالية «الليبرالية الجديدة»، والاشتراكية الليبرالية، ورأسمالية الدولة، واشتراكية السوق، والسوق الاجتماعية، وأي نظام يجمع بين المِلكية العامة والمِلكية الخاصة لوسائل الإنتاج (أصول المنشأة الإنتاجية الثابتة) ويعمل بنظام التخطيط الاقتصادي المركزي أو بشروط آليات السوق التنافسية حيث الحرية المطلقة للقطاع الخاص في الاستثمار وحق المستهلك في اختيار المنتجات بوصفه القوة المحركة للنمو الاقتصادي. كذلك، ليس ذا قيمة عملية أو نظرية مهمة محاولات ترويج المنافسة في السوق بهدف تأمين الكفاءة الاقتصادية باستخدام «نماذج قياس التنبؤ الاقتصادي»، و«نماذج الاقتصاد القياسي» ومعايير سياسات «تنافسية الاقتصاد» ومكونات «اقتصاد المعرفة» ومؤشرات «الحرية الاقتصادية»، بما يسمح بقرار الأفضلية الصحيح في تحقيق الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية معًا. في المقابل، وحيث تتنوع التجارب الاشتراكية المحدودة، كالتجربة الكوبية والتجربة الفنزويلية والتجربة الصينية حاليًا، وتجربة الاتحاد السوفياتي سابقًا، وحيث تتصف اقتصاداتها بهيمنة الدولة على مِلكية وسائل الإنتاج في القطاعات المهمة مع منح القطاع الخاص وآليات السوق والمستهلك دورًا محدودًا في النشاط الاقتصادي مُقيدًا بأهداف الاستراتيجية الاقتصادية المستقبلية للدولة، ليس ممكنًا أيضًا تأهيل قرار التفضيل، نظريًا، بجمع العدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية معًا.

في تاريخ الاقتصاد الحديث، كانت بوادر نشأة الاهتمام بالكفاءة الاقتصادية المقترن بالعدالة الاجتماعية في القرن الثامن عشر مع الاقتصاد الرأسمالي التقليدي، حيث ظهرت الدعوة الاجتماعية الأخلاقية بضرورة تدخل الحكومة لتقليل الضرر الذي أصاب العمال والفئات الفقيرة من نشاط مالكي رأس المال، وأكدت أن العمل مصدر قيمة المنتجات. وفي القرن التاسع عشر، أكدت الماركسية أن العمل وحده أساس الإنتاج ومعيار توزيع الأرباح، ولم يكن هنالك تمييز أو تفضيل بين العدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية. وفيما بعد، أكدت النظرية «الكلاسيكية الجديدة» أن نظام الإنتاج وقوى العرض والطلب في تحديد الأسعار يؤمن الكفاءة الاقتصادية مع قليل من الاهتمام بالعدالة الاجتماعية. وفي القرن العشرين، حققت الرأسمالية تقدمًا سريعًا في النمو الاقتصادي بكفاءة الإنتاج الذي اقترن بتدخل الدولة في الاقتصاد لتحسين الخدمات العامة (العدالة) الاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية. وبموازاة تلك التطورات، تأسست عام 1918، الدولة الاشتراكية الرائدة في العالم في الاتحاد السوفياتي بِهُدى المبادئ الماركسية التي حققت تقدمًا اقتصاديًا في العقود الأولى من عمرها الذي ما لبث أن تراجع مقارنة بالتقدم الاقتصادي السريع في الدول الرأسمالية. ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين، برزت آراء اشتراكية «نَقديّة» تخالف قليلًا فرضيات الماركسية المشددة وذلك للمطالبة بمنح السوق والمستهلك دورًا أكبر في تداول السلع الاستهلاكية في محاولة لتحسين الكفاءة الاقتصادية في استخدام الموارد. ثم كان من الأسباب الرئيسية في انهيار التجربة الاشتراكية السوفياتية، الفشل في إيجاد نظام مرن لأسعار المواد الأولية ولأجور العمال المستخدمة في الإنتاج وفي تحديد أسعار المنتجات المباعة، بما يحقق الكفاءة في استخدام الموارد وزيادة النمو الاقتصادي الضروري لزيادة الاستثمار، بالرغم من تَميّز تلك التجربة في شمول العدالة الاجتماعية لجميع المواطنين بالانتفاع من النشاط الاقتصادي.

ولأن العالم دائم التَغيّر، والنظريات الاقتصادية تَتغيّر مع تَغيّر الأحداث الاقتصادية، فقد أحدثت جائحة كوفيد – 19 مطلع عام 2020 تغييرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية سريعة وعميقة التأثير في جميع بلدان العالم؛ فقد تشتتت سلاسل الإنتاج والإمدادات ومعها العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين البلدان، وبرزت قوية هَيمَنة المصالح الاقتصادية الوطنية، وانهارت أسعار الأسهم في الأسواق المالية الدولية، وانكشفت قدرة الشركات الخاصة المحدودة في التكيّف للأزمة الاقتصادية بفشلها في تسديد ديونها أو الإبقاء على العاملين فيها. كما أسهمت الحكومات في البلدان الرأسمالية، وخلافًا لسياساتها التقليدية، في تمويل القروض والمنح لدعم الشركات على نطاق واسع لمنع توقفها في الإنتاج أو إفلاسها، إلى جانب تزايد عدم اليقين لدى الرأي العام بالمستقبل الاقتصادي. وكشفت الجائحة أيضًا، تأزم النزاعات الجيوسياسية والاستراتيجية بين البلدان الكبرى، ولا سيما بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الصين، التي أنتجت، وما تزال، مظاهر مناقضة للعولمة الاقتصادية. لذلك، كان من الطبيعي أن تَفرض جائحة كوفيد – 19 تكثيف البحث والتقييم في أسباب ومجالات التغيير الاقتصادي للتصدي لمشاكل تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي ولاحتمالات الكوارث الصحية والبيئية والطبيعية في المستقبل. وبرزت أيضًا، المقاربة في تفضيل القيم الإنسانية للعدالة الاجتماعية مقابل تقييم أهمية السوق والكفاءة الاقتصادية في زيادة الإنتاج. وفي الوقت الحاضر، تفاقمت المشاكل الاقتصادية في العالم نتيجة الحروب الإقليمية والتحولات الدولية الجذرية الجيوسياسية والاستراتيجية والاقتصادية الجارية المتزامنة مع تراجع الاندماج في الاقتصاد العالمي، ولا سيما مع انكفاء السياسة الرأسمالية «الليبرالية الجديدة» ونبذ التمسك بشرطها: مبدأ حرية المنافسة في الأسواق، ومع الانزواء في معقلها (أمريكا أولًا)، التي ستنتج مرحلة تاريخية جديدة، وربما أيديولوجيات اجتماعية جديدة، وظهور نزعة استعمار (إمبريالية) جديدة في العالم لا يمكن التنبؤ بمآلها في المستقبل، كما هو واضح في نتائج فرض أمريكا العقوبات الاقتصادية والرسوم الجمركية الثقيلة على المنتجات المستوردة من شركائها ومحاولة السيطرة على الأراضي وثروات المعادن النادرة لدى بعض البلدان، والتي سببت الأضرار الشديدة باقتصادات هذه الدول، كما اقتصادها‏[7].

ثالثًا: بَرْهَنَة فرضيات «الاشتراكية الجديدة»

يُبرهَن اختبار الفرضيات الجديدة المُغايرة لأسس الاقتصاد التقليدي والمعاصر، وبتحليل الرياضيات، بتقديم تفسير جديد لعوامل ودينامية عملية الإنتاج في تحديد «القيمة» «الحقيقية» للمنتجات باستخدام رأس المال المستثمر والعمل معًا، وتبرير «توزيع» الأرباح بينهما التي تتحقق بآلية السوق خارج العملية الإنتاجية‏[8]. والتحليل النظري في «الاشتراكية الجديدة» لا يَتَحَيَّزُ مسبقًا لأية أيديولوجية اجتماعية تفاضل بين أولوية حق الفرد في مِلكية وسائل الإنتاج واستثمار الأرباح بآليات السوق التنافسية، وبين أولوية العدالة الاجتماعية وتقليص التفاوت في توزيع الدخول والثروات بامتلاك الدولة وسائل الإنتاج واستثمار الأرباح في تطوير البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وأهم الفرضيات الجديدة المُغايرة هنا: دمج وظيفة المُنَظِمْ ليكون بمثل دور بَقية العمال المشاركين في عملية الإنتاج، واستثناء الأرباح من تحديد أسعار الكفاءة الإنتاجية الحديّة لعوامل الإنتاج، كما في النظرية «الكلاسيكية الجديدة». وأن وظيفة المُنَظِمْ، مع أهمية ريادة الابتكار وتطوير التكنولوجيا واستشراف المستقبل التي تستحق أجورًا مرتفعة، هي في الجوهر تتماثل كبقية العمال في الإنتاج، وفرضية تَحييد نوع مِلكية المنشأة الإنتاجية، القطاع الخاص والقطاع العام، في توزيع الأرباح. كما تفترض النظرية، «التماثل» بين الكفاءة الإنتاجية الحَديّة أو الكفاءة الاقتصادية وبين أسعار الظل المُعبرة عن الندرة النسبية للموارد الاقتصادية المستخدمة في الإنتاج. ويُؤكد التحليل أن تأثير قانون العرض والطلب في تحديد أسعار بيع المنتجات يتم خارج العملية الإنتاجية واستيفاء شرط الكفاءة الاقتصادية،

باختصار، يمكن مقاربة «الاشتراكية الجديدة» مع نظريات الاقتصاد التقليدي والمعاصر، كالآتي:

- في الاقتصاد الرأسمالي التقليدي، المُحَدَّث بالنظرية «الكلاسيكية الجديدة» وتطبيقاتها «النقية» في السياسات «الليبرالية الجديدة»، المالية العامة والنقدية، التي تُهَيمنُ حاليًا على إدارة معظم اقتصادات العالم، يُخاطر رأس المال باستثمار موارده في توظيف العمل، كسلعة اقتصادية مثل رأس المال، والأرض، وريادة المنظم، في العملية الإنتاجية لتحقيق أقصى الأرباح الممكنة في إطار آليات السوق التنافسية ليمتلكها كاملة القطاع الخاص الذي يَمتلكُ رأس المال في الأصول الإنتاجية الثابتة للمنشأة. في الرأسمالية، يؤمن نظام الإنتاج درجة عالية من الكفاءة الاقتصادية في استغلال الموارد، ولكنه قاصر عن تحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع منافع النمو الاقتصادي بين المشاركين في الإنتاج ولتأمين مستلزمات المجتمع العامة، كما في حصر حق مالك «المنشأة» التصرف المطلق بجميع الأرباح (فائض الاستثمار)، وبغضّ النظر عن نتائج التوزيع المؤدية لتوسع التباين في الدخول والثروات بين الأفراد والمجتمعات.

- وفي الاقتصاد الماركسي التقليدي، وتطوره في المدارس الاشتراكية المتعددة وتطبيقاتها المحدودة الراهنة، تَكون قوة العمل، كسلعة اقتصادية، مصدر «القيمة» في الإنتاج والأرباح، والعمل نقيض رأس المال الخاص المستثمر (الأصول الإنتاجية كافة الثابتة والمتغيرة) في عملية الإنتاج وتوزيع الأرباح، الذي يُكَرسُ استمرار الصراع الطبقي بين العمال وأصحاب رأس المال إلى حين سيطرة العمال على مِلكية رأس المال (المنشأة الإنتاجية). في الماركسية، يؤمن نظام الإنتاج درجة عالية من العدالة الاجتماعية بهَيمنة الطبقة العاملة المنتجة. وفي التجارب الاشتراكية المعاصرة، تتدخل الدولة من خلال التخطيط الاقتصادي المركزي بتمويل الاستثمارات في المِلكية العامة «المُهَيمِنَة» في البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والمشاريع الصناعية ذات الأهمية السياسية والاستراتيجية بدرجات تتناسب مع ظروف الأسواق المحلية والأجنبية، مع منح القطاع الخاص حرية الاستثمار والمستهلك حرية الاختيار. في هذه التجارب، نلحظ أن السياسات والقرارات الاقتصادية والمالية للدولة ذات طبيعة مرنة ومتغيرة، كمنح العمال أسهمًا في الشركات العامة أو تقديم مزايا نقدية وعينية، وفي تحسين الخدمات الأساسية العامة في تناولها مسألة العدالة الاجتماعية مع محاولة تحقيق الكفاءة الاقتصادية باستغلال الموارد من العمل ورأس المال في العملية الإنتاجية لتحسين القدرة التنافسية للاقتصاد في الأسواق المحلية والخارجية والضرورية لاستدامة النمو الاقتصادي والتشغيل بزيادة الاستهلاك والاستثمار وتراكم الثروة الوطنية.

- أما في «الاشتراكية الجديدة»، فإن استثمار قيمة رأس المال (المتمثل بمدفوعات الأجور والإيجار والفوائد واندثار المعدات والمواد الأولية ومستلزمات الإنتاج) بحاجة إلى «قيمة العمل» (الأجور)، وأن العمل ليس سلعة اقتصادية يتم تملكها وتداولها كرأس المال في عملية الإنتاج. كما أن قوة «العمل» بحاجة إلى «رأس المال» أيضًا في العملية الإنتاجية، وكلاهما يحددان القيمة الحقيقية للمنتجات التي تتحدد بقيمة العمل وقيمة رأس المال المستثمر بشرط تحقق الكفاءة الاقتصادية التي يمكن تقديرها بأسعار الظل المعادل لمفهوم الإنتاجية الحديّة للعمل ولرأس المال. ولزيادة الاستثمار بتمويل الأرباح (فائض الاستثمار) لاستدامة النشاط الاقتصادي، تتحدد الأرباح، المنفصلة عن العملية الإنتاجية والمستقلة عن نوع مِلكية الأصول الإنتاجية الثابتة للمنشأة، العامة أو الخاصة، بأسعار بيع المنتجات بأعلى من قيمتها الحقيقية وفقًا لقوانين العرض والطلب في الأسواق، حيث حرية المستهلك المطلقة في الاختيار، ولِيجري توزيعها بمقدار إسهامات «العمل» و«رأس المال» معًا في العملية الإنتاجية. هنا يجب إيضاح أهمية التمييز بين المِلكية العامة للمنشأة العامة وبين المِلكية الخاصة، بأن المنشأة العامة ضرورية لزيادة الإنتاج بتعبئة الموارد البشرية والطبيعية المتاحة لتلبية حاجات الأفراد والمجتمع مع تقليص التفاوت في الدخول والثروات بين الأفراد، بخلاف أهداف المِلكية الخاصة للمنشأة المتمثلة بزيادة الإنتاج لزيادة الأرباح والاستثمار مع تراكم الثروات الخاصة. وفي «الاشتراكية الجديدة»، ستبقى آلية السوق أداة رئيسية في تحديد أسعار المنتجات وقيمة العمل ورأس المال، بالتوازي، مع دور التخطيط الاقتصادي المركزي وإدارة الدولة للسياسات الاقتصادية للتأثير بالأسعار، ولا سيما الأجور والضرائب، بهدف تمويل المشاريع الإنتاجية والخدمات العامة، ولتوفير الكهرباء والمياه الصحية والسكن، وتقليل التفاوت في الدخل والثروات، ولتلبية حاجات المجتمع، والارتقاء بجودة الحياة في البلاد.

ولأن الفكر الاقتصادي مرآة تاريخ الاقتصاد، فإن «الاشتراكية الجديدة» هي وليدة نَقْد التجارب الاقتصادية المعاصرة البارزة والاقتناع بعدم قدرتها على التَكيّف مع التغييرات الاقتصادية العميقة والتقدم العلمي والثورة التقانية التي يشهدها العالم منذ نصف قرن. أيضًا، لأن الفكر الاقتصادي يرتبط بواقع الاقتصاد وتوقعات المستقبل، فإن محاولة استشراف مستقبل «الاشتراكية الجديدة» وملاءمة أسسها للواقع وللمستقبل لا يمكن اختباره مسبقًا في المناقشات الفكرية والمهنية والثقافية لفرضياتها واستنتاجاتها وحسب، بل بأبحاث اجتماعية ودراسات فنية أيضًا، تستند إلى سلوك وريادة أطراف العمل الاقتصادي كافة في استثمار وتداول الموارد الاقتصادية المحدودة ولضمان حقوق المِلكية من جهة، وفي القدرة على تلبية رغبات الأفراد والمجتمع المتزايدة من المنتجات السلعية والخدمات الاستهلاكية من جهة ثانية، كما في توقعات نماذج تقديرات النمو، والتنبؤ بتطور المتغيرات الاقتصادية الرئيسية بنماذج الاقتصاد القياسي، أو استخدام نماذج «الرياضيات» في المضاربة بأسعار الأسهم في الأسواق المالية‏[9]. والحديث المُبَكِر عن واقعية تطبيق «الاشتراكية الجديدة»، ومنها حدود مشاركة العمال والقطاع الخاص في القرارات الاقتصادية للدولة أو تكرار التساؤل العام والمثير للجدل عن بديل الأنظمة الرأسمالية أو الاشتراكية، لا يبتعد كثيرًا من حقيقة أن القيمة العملية للفكر الاقتصادي «الجديد»، أي جديد، تتحدد بمدى تأثيره في الارتقاء بالوعي الاجتماعي والانتشار في الحَيّزْ الجغرافي والمكاني وفي الوقت المناسب.

وأمام تحديات التساؤل في واقعية مستقبل «الاشتراكية الجديدة»، يُفيدنا البحث الدائم في الواقع الراهن وتحليل القضايا المهمة السائدة، مثل: الفقر، والبطالة، وانخفاض الأجور، وتوسع الاحتكارات، والتباين الواسع بين الدخول والثروات، ودور الدولة والقطاع الخاص في الاقتصاد والتنمية، وثنائية التخطيط الاقتصادي المركزي وآليات السوق التنافسية، وقدرة الاقتصادات التنافسية في إطار الاندماج بالاقتصاد العالمي، والتغيرات الجارية في هيكلية النظام الاقتصادي والمالي والتجاري العالمي، وبروز أقطاب «اقتصادية» جديدة مُهيمنة ومتباينة: الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والصين، ومنظمة بريكس (BRICS) وحلفائهم، كما تُفيدنا أيضًا الدراسة التفصيلية لحالات اقتصادية متمايزة.

وفي أهمية استخدام الرياضيات في تحليل عملية الإنتاج وتوزيع الأرباح، نَعلمُ أن استخدام الرياضيات منذ قديم الزمان قد أتاح التطور السريع في العالم ولا سيما مع، والأهم، حساب أضلاع المثلث القائم الزاوية‏[10]، التي استخدمت منذ القرن الخامس قبل الميلاد في الهندسة وعلم الفلك والفيزياء، واستخدام الرياضيات في معاملات الأسواق المالية، ولا سيما في المضاربة بأسعار مشتقات الأسهم التي أسهمت تفسيراتها الخاطئة في الأزمة المالية العالمية (2008 – 2009)‏[11]، وأخيرًا، وظفت رياضيات الخوارزميات في برامج الذكاء الاصطناعي لاستخدامها المُفيد، والضار باحتمالات انحياز أو إخفاء بعض بياناتها ودقة قرارات تنفيذ أهدافها، في مختلف مجالات توظيفها‏[12]. ولم يكن التحليل الرياضي منفصلًا عن تحليل سلوك المتغيرات الاقتصادية نظريًا، كما في الاستقرار (التوازن) الاقتصادي الكلي، أو التحليل تحت فرضيات مستمدة من تجارب الواقع بمستويات متعددة: المنشأة الإنتاجية، والقطاع الاقتصادي، والاقتصاد الكلي، والتنويع الاقتصادي الهيكلي، والسياسات المالية والنقدية الكلية، ومعايير الاستثمار، وسياسات التجارة الخارجية‏[13]. ومع ذلك، فإن استخدامها في الأدب الاقتصادي كان محدودًا.

هنا نزعم، أن استخدامنا الرياضيات فريد حيث استخدمت أول مرة في التحليل الاقتصادي النظري لبرهنة ملاءمة فرضيات «الاشتراكية الجديدة»‏[14]. والجديد المهم، الاستخدام الواسع للرياضيات في تطوير برامج الذكاء الاصطناعي لتشمل تطبيقاتها المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية وغيرها، والمنافسة الشديدة بين برامج الذكاء الاصطناعي التي تنتجها احتكارات القلة من الشركات الرأسمالية وبين شركات التكنولوجيا في الصين التي تفوقت في توظيف الخوارزميات لإنتاج هذه البرامج بتكلفة أقل وأداء أفضل، مع مجانية تطبيقاتها‏[15].

رابعًا: العالم يَتَغَيّر ويَتَقَدم باستمرار

برزت «الاشتراكية الجديدة»، ونُميّز تسميتها عن الماركسية ومدارسها الاشتراكية التي نُعَرِفُها في هذه الدراسة بعنوان «الاشتراكية» فقط لتسهيل المقارنة، بإدراك المُعيب في تعريف فرضيات واستنتاجات الاقتصاد التقليدي التي تجاوزت أهمية الترابط بين مسألتين في الواقع المادي، ويثيران اهتمامنا الدائم، نظريًا ومهنيًا، وهما تكامل الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وبالتحديد: «الجَمع المُتفاعل»، لا الجَمع الأصَمّ المُفتَعَل، بين وصف «الكفاءة الاقتصادية» التي تعني كفاءة استغلال وتنمية الموارد وتراكم الثروة الوطنية، وبين وصف «العدالة الاجتماعية» التي تعني توزيع الدخل والثروة بما يؤمن تماسك النسيج الاجتماعي بين الناس، في إطار يُعيد الاتساق بين عوامل ودينامية عملية الإنتاج في تحديد التكلفة الحقيقية للمنتجات وبين توزيع الأرباح التي تتحدد بقوانين العرض والطلب وآليات السوق بين العمل ورأس المال، مع تَحييد مُلكية المنشأة الإنتاجية – الحفاظ على حقوق المُلكية الخاصة والعامة والمٌعَرَفَةِ مصادرها – بفرضيات وشروط جديدة تناسب متطلبات الإنتاج والاستهلاك والاستثمار.

نَعلَمُ أن العالم دائم التغيير، وفي الوقت الحاضر نشهد زخمًا متزايدًا واستثنائيًا من النزاعات والحروب الإقليمية والتحوُّلات الدولية الجذرية من الصعب التكهن بمآل نتائج اتجاهاتها المتناقضة الهادفة إلى تكريس هَيمَنَة الدول المتقدمة من خلال إعادة تنظيم مؤسسات النظام العالمي الأمنية والسياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والبيئية المتدهورة، ولامتلاك مزايا جيوسياسية واستراتيجية واقتصادية من بقية بلدان العالم، ولا سيما الأقل قوة والضعيفة اقتصاديًا، لضمان تبعيتها واحتلال أراضيها واستغلال ثرواتها الطبيعية والمعدنية النادرة. ولعل إحداث التغيير الجذري المفاجئ في السياسة الاقتصادية الرأسمالية في الولايات المتحدة الأمريكية بفرض العقوبات الاقتصادية الأحادية والرسوم الجُمركية (ضرائب الاستيراد) الثقيلة والأحادية على شركائها في التجارة والعلاقات الاقتصادية والمالية، شواهد موضوعية ليس فقط لتراجع السياسات «الليبرالية الجديدة»، بل أيضًا، بروز أسباب الاستعمار التقليدي الجديد – القديم في السياسة الأمريكية‏[16].

لم تَعُدْ الرأسمالية «الليبرالية الجديدة» التي تمثلها النظرية «الكلاسيكية الجديدة» قادرة على تجاوز أزماتها بريادة القطاع الخاص وتأمين حرية المنافسة التامة في الأسواق، وبتنفيذ السياسات المالية والنقدية الحكومية لمنع الاحتكار والتحكم في التضخم بالأسعار وتقليص الحمائية التجارية. فالواقع يشير إلى تَقييد المنافسة والمشاركة في إنجازات العلوم وابتكارات التكنولوجيا بين اقتصادات العالم، وتركُّز احتكار الشركات الاقتصادية الكبرى وشركات التكنولوجيا المُهيمنة، والحد من انتقال القوى العاملة بين الدول، وعرقلة تيار الاندماج في الاقتصاد العالمي، والتحكم الأحادي في تسيير ومراقبة نظام المدفوعات المالية الدولية بالدولار‏[17]. كذلك، لم تَعد السياسة الرأسمالية، بصيغتها «الليبرالية الجديدة» الحالية الأكثر تطورًا وتطرفًا، قادرةً على تأمين العدالة الاجتماعية بإنهاء الفقر، وزيادة الأجور المتناسبة مع ارتفاع الأرباح، وتقليص التباين الكبير في توزيع الدخول والثروات، وتحسين مستويات المعيشة بمعايير الخدمات العامة في التعليم والصحة والسكن والرعاية والرفاهية الاجتماعية والثقافية. ومن الواضح أيضًا، أن فرض الضرائب الثقيلة على الاستيراد، والعقوبات الاقتصادية الأحادية، وممارسة السياسة الاستعمارية التقليدية باستخدام القوة العسكرية لاستغلال الموارد الغنية في الدول الضعيفة، سيُكرس تراجع هيمنة الرأسمالية «الليبرالية الجديدة».

كذلك، ليست «الاشتراكية» التقليدية، قادرة بشروطها الثقيلة المتمثلة بهَيمنة المِلكية العامة لوسائل الإنتاج وسيادة الطبقة العاملة المطلقة في الإنتاج وإدارة الاقتصاد والاستهلاك والاستثمار، على النهوض، ولو بصيغ «اشتراكية» هجينة. إذ من دون «نظرية» واضحة الفرضيات، القابلة للقياس، لتحديد عوامل ودينامية الإنتاج والتوزيع بتنفيذ آلية للأسعار الموارد والمنتجات وتوفر شروط الكفاءة الاقتصادية في استغلال موارد الإنتاج من العمل ورأس المال مع ضمان الحرية المطلقة لاختيارات المستهلك، يصعب تحقيق زيادة النمو الاقتصادي وتأمين الفائض الاقتصادي والمالي للاستثمار في تطوير مشاريع البنية الأساسية المادية (الاقتصادية) والاجتماعية والبيئية، ولتمويل مشاريع القطاع العام الإنتاجية.

وفي المستقبل، ولأن اقتصادات العالم دائمة التغيير مع استمرار الثورة العلمية والتكنولوجية والأحداث المفاجئة، كما في تأثيرات جائحة كوفيد – 19 المتزامنة مع النزاعات الصعبة والتحولات الدولية الجذرية الجارية، فإن من المغالطة التكهن بانحسار النظام الرأسمالي بسبب أزماته المتكررة ببديل النظام الاشتراكي التقليدي. ذلك، أن قاعدة النظام الرأسمالي الإنتاجية التي تستند لحقوق المِلكية الخاصة وحرية الاستهلاك والاستثمار وللريادة الفردية في الابتكار، راسخة وتتميز بالمُرونة العالية في السياسات والطاقات الإنتاجية للتَكيّف مع المتغيرات والأحداث الاقتصادية الكبيرة. كما أن العلاقات الإنتاجية الاجتماعية فيها منظمة وتمارس في إطار المؤسسات الديمقراطية السياسية والاجتماعية. وفي المقابل، من الصعب تصور انتعاش النظام الاشتراكي التقليدي «المتعثر» الذي يَفتقدُ أسس الكفاءة الاقتصادية بآلية تحديد الأسعار كبديل للنظام الرأسمالي. فهذا النظام القائم على المِلكية العامة لوسائل الإنتاج ودكتاتورية الطبقة العاملة، وحيث الدور الحاسم للدولة في إدارة الاقتصاد بنظام الأسعار الإدارية العَقيمْ، يَفتقدٌ الشروط الاقتصادية للدَمجْ القَسري بين الإنتاج والتوزيع ليكون بعهدة العمال والسيطرة على السلطة السياسية الحاكمة بدون القطاع الخاص وآليات السوق التنافسية وضمان حرية المستهلك في تحديد أسعار المنتجات من السلع والخدمات وأسعار الموارد العامة لتناسب الحاجات المتزايدة للاستهلاك وللاستثمار.

خامسًا: الاشتراكية الجديدة: تساؤلات متعددة؟

نَعلمُ، ليست كافية محاولة ترويج فرضيات «الاشتراكية الجديدة» والتحقق من فاعليتها بإثارة التساؤلات «الافتراضية» عن أبعاد تطبيقها المحتملة. الأكثر أهمية، تجربتها العملية في الواقع. وفي هذه المرحلة، التجربة هذه مُهمَة مشروع يمكن إنجازه من جانب منشأة إنتاج خاصة أو شركة للقطاع العام أو بفريق لسلطة سياسية اشتراكية. ومع ذلك، تُفيدُ التساؤلات في مقاربة فرضيات النظرية مع بعض التجارب الاقتصادية المعاصرة والمثيرة نتائجها للجدل. لهذه التساؤلات بالتأكيد إجابات متعددة.

في ستينيات القرن الماضي، تناول الفكر الاقتصادي إمكان التطابق (Convergence) بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي في المستقبل نتيجة استمرار أزمات تجاربهما وللإفادة من مزاياهما‏[18]، ومعه أيضًا، كانت المحاولات الفكرية في تجديد الماركسية بنَقد النظرية الرأسمالية «الكلاسيكية الجديدة»‏[19]. أما الحاضر، فيشهد ممارسات عملية (براغماتية) في تكييف السياسات المالية والنقدية الكلية والتجارية والاستثمارية للتخفيف من وطأة أزمات الرأسمالية «الليبرالية الجديدة». ولكن الأهم، نشهد التغير الجذري الجاري نحو تقييد حرية المنافسة الاقتصادية في الأسواق الخارجية. كذلك، هنالك المحاولات الفكرية الجادة لتجديد الاشتراكية المستندة إلى الماركسية بتحليلات تتناول أسباب تراجع الرأسمالية‏[20]، ومعها نلحظ النقيض في بعض الكتابات الماركسية كالغَرق في الحلقات المفرغة من الآراء وتفاصيل الأحداث الماضية ونبش المفردات الهامشية التاريخية‏[21].

وكما أشرنا، ليس أدق في تعريف «الاشتراكية الجديدة» من إيضاح معياري التفضيل الأساسية: الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في النظريات والأدب الاقتصادي المعاصر. ومع ذلك، يتكرر التساؤل: كيف ستكون المشاركة السياسية للعمال ولمالكي الأصول الإنتاجية «للمنشأة»، الخاصة أو العامة، في السلطة الحاكمة بما يناسب إسهاماتهم في تكلفة الإنتاج وفي توزيع الأرباح، وبالتالي، كيف ستكون هيكلية النظام الاقتصادي – الاجتماعي وهرم الطبقات والفئات الاجتماعية وواقع عدم المساواة بينها. في الإجابة، تطرح الآراء المتعددة من الحلول العملية بسبب اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مراحل زمنية معينة في التجارب الاقتصادية التي تتباين فيها وفرة الموارد ومستويات التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعلمي والثقافي وكفاءة أداء الحكومات والقطاع العام وكفاءة القطاع الخاص‏[22]. ويُحيط فرضيات «الاشتراكية الجديدة» تساؤلات تتعلق بالمواءمة بين المنشأة التي تعتمد «الاشتراكية الجديدة» مع آليات السوق التنافسية؟ ودينامية استدامة النمو؟ والتوازن بين مشروع الإنتاج (المنشأة) وبين الاقتصاد الكلي؟ كذلك، نتساءل عن المظاهر الاجتماعية المتوقعة من مشاركة العمال والرأسماليين معًا في عمليات الإنتاج وتوزيع الأرباح؟ وكيف تؤدي آلية الأسعار دورها في تقييم التكلفة الحقيقية للإنتاج ولأسعار بيع المنتجات؟ هنا، تتسع المناقشات كثيرًا في ملاءمة آليات السوق التنافسية لتعدد الفرضيات والاستنتاجات وتباينها منها: كمناقشة ظروف الاحتكار ودرجاته حيث تُهيمن المنشأة الإنتاجية الخاصة في الأسواق لتزيح شرط المنافسة «التامة» بين المنتجين وتؤدي إلى نتائج متباينة بالنسبة إلى المنتج والمستهلك، أو في حالة زيادة الأسعار والأرباح مع خفض تكلفة الإنتاج بالانتفاع من اقتصادات النطاق الواسع.

وفي مجال مهم، كيف ستزداد الرفاهية الاقتصادية للفرد وللمجتمع؟ للإجابة، نَعلم أن الاستهلاك من المنتجات هو جوهر النشاط الإنساني للفرد، وأنه مصدر الاستثمار الضروري للنمو الاقتصادي الذي يشترط الكفاءة الاقتصادية في استغلال الموارد وتحقيق الأرباح، وأن تحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الأرباح بمنح العمال مردود إسهاماتهم في العملية الإنتاجية، يُحَفزُ على زيادة الاستهلاك والإنتاجية معًا بما يؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي والتشغيل. لذلك، فإن زيادة الاستهلاك وحرية المستهلك في الاختيار سيحتل مكانة رئيسية في السياسات الهادفة لزيادة الإنتاج ولتحسين مستويات المعيشة والرفاهية للفرد وللمجتمع. والتساؤل الآخر، كيف يسهم تحقيق الأرباح وزيادة الاستثمار في استدامة العمليات الإنتاجية بمديات زمنية متتالية ومستمرة؟ والسؤال المتفرع، كيف يتصرف القطاع الخاص أو القطاع العام في توزيع الأرباح؟ أو، كيف يحصل التوفيق بين هدف القطاع الخاص في توزيع الأرباح لمصلحة التوسع في الاستثمار إلى أقصاه مع زيادة محدودة للاستهلاك (الأجور)، وبين توزيع الأرباح في القطاع العام بين الاستثمار الضروري وبين زيادة الاستهلاك لأقصاه (الأجور)؟

السؤال أيضًا، كيف البداية في تحديد أسعار موارد الإنتاج: أجور العمال، ومنهم أجور المُنَظِّم، وأسعار الفائدة لرأس المال المستثمر، وقيمة مستلزمات الإنتاج، وقيمة الإيجار، وقيمة اندثار الأصول الإنتاجية الثابتة، في مشروع الاستثمار؟ وفي الإجابة، بعد تحديد القيمة الحقيقية للمنتجات والبدء ببيعها في السوق، يباشر مالك المشروع، القطاع الخاص والقطاع العام، في تحديد أسعار البيع بهدف تحقيق أقصى الأرباح في ضوء التوقعات السابقة أو اللاحقة لعملية إنتاجها: توقعات الطلب أو الاستهلاك من ناحية، وتقدير آثار المنافسة السعرية للمنتجات المثيلة من جهة ثانية. يُعيدنا هذا الواقع إلى احتمال تحقق الفرضيات التالية: في الحالة المثلى: أن يكون (أحد) مالك المشروع، القطاع الخاص أو القطاع العام، قد حقق الأرباح بمستواها الأقصى مع استيفاء شرط الكفاءة الاقتصادية في استغلال العمل ورأس المال المستخدم في العملية الإنتاجية، في مقابل (الآخر) مالك المشروع، القطاع الخاص أو القطاع العام، المنافس قد حقق الأرباح القصوى مع استيفاء شرط الكفاءة الاقتصادية أيضًا. عندئذٍ، يبدأ التفاضل بينهما بتوزيع هذه الأرباح بين مالك رأس المال المستثمر وبين العمال، ومآل استخدامها بين الاستثمار والاستهلاك.

بالتأكيد، هنالك أسئلة أخرى لا تقتصر على المشاركة الاقتصادية «للعمال ومالك رأس المال» وانعكاساتها السياسية بإطار الممارسات الديمقراطية في نظام «الاشتراكية الجديدة». والمهم أيضًا، إيضاح المحتوى الاجتماعي لهذه المشاركة بسبب صعوبة تقديم تصور واضح للإطار الاجتماعي الذي يناسب التحليل الاقتصادي ليكون صالحًا في الكثير من المجتمعات. ومع ذلك، تُفيد دلالة مشاركة «دخل العامل» و«دخل مالك رأس المال» في قيمة الإنتاج والمشاركة في توزيع الأرباح بينهما، حيث تُسهم هذه المشاركة في زيادة الاستثمار وفي تقليص التفاوت في الدخول والثروات نتيجة تشغيل المنشأة الإنتاجية وامتلاك قوة «فائض الاستثمار»، وبالتالي، التأثير ليس فقط في زيادة استهلاك المنتجات من السلع المادية والخدمية المتنوعة والتمتع بالمنتجات الثقافية الترفيهية، بل أيضًا، في تحسين واقع الحريات الفردية والقيم والتقاليد والثقافات السائدة. وهذا يعني، أن البيئة الاجتماعية في «الاشتراكية الجديدة» ليست مصممة مسبقًا لتلبية رغبات ومواقف ذاتية أخلاقية أو ثقافية أو إنسانية محددة لمجتمعات معينة، لكن الذي يُسهِمُ في تكييف هذه «المٌثُلْ» والبيئة الاجتماعية هو الواقع المادي وقت تفعيل العمل بنموذج «الاشتراكية الجديدة» في الحَيّزْ الجغرافي للمجتمع، وبفعل إرادة السلطة السياسية الحاكمة وتفضيلها هذا النموذج لتحقيق التعادل بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.

سادسًا: المستقبل نحو الاشتراكية الجديدة:
حالة التجربة الاقتصادية العراقية

يُغايرُ منهج المقاربة بين «الاشتراكية الجديدة» وبين التجارب الاقتصادية الوطنية النامية والناهضة، الأسلوب الشائع في مقاربة النظريات الرأسمالية التي تستمد فرضياتها واستنتاجاتها من تجارب الدول الرأسمالية (الاستعمارية) المتطورة لتفسير تخلف التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول الفقيرة والنامية، وتفسير أزمات النمو في الدول الناهضة في العالم، الذي يتجاوز الترابط أو التزامن «المطلوب» بين تحقيق الكفاءة الاقتصادية في الإنتاج والعدالة الاجتماعية في التوزيع، كما في نظرية «مراحل النمو الاقتصادي» الرأسمالية المُتَحَجِرَة‏[23]. وتُفيدُ المقاربة أيضًا، في دَحض الآراء التي تختلط فيها معايير التمييز بين الرأسمالية والاشتراكية، كما في «نظرية أنظمة – العالم» (World-Systems Theory) التي تكرس هَيْمَنَة «المركز» الذي يمثل مجموعات من الدول الرأسمالية الاستعمارية المتطورة لفرض تبعية الدول النامية والفقيرة لها‏[24]. ولقد أسهمت تلك النظرية منذ ستينيات القرن الماضي في كشف أسباب نشاط حركات التحرر الوطنية في البلدان النامية للتخلص من التبعية واستعمار الدول الرأسمالية المتطورة لها، وأيضًا، في البحث عن متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية المستقلة من جهة، ومن جهة أخرى، وسعت المناقشات في معايير البديل الاشتراكي للرأسمالية التي تحمل مراحلها المتقدمة بذور أزماتها وانهيارها، كما الرأي الماركسي‏[25].

ولاختبار واقعية العمل بنظرية «الاشتراكية الجديدة»، تُفيدُ المقاربة مع معطيات التجربة الاقتصادية العراقية الحديثة، الوفيرة في مواردها البشرية والاقتصادية، التي نُمَيّزً فيها الحقبتين (1951 – 1979) و(2003 – 2025) حيث يظهر فيهما التأثير الكبير لإنفاق «ريع» المِلكية العامة للثروة النفطية في الاقتصاد بإدارة الدولة مركزيًا، وتتباين بينهما السياسات الاقتصادية التي تراوح بين الرأسمالية والاشتراكية والمختلطة وباختلاف الأنظمة السياسية: الديمقراطية الناقصة، والاشتراكية المحدودة، والدكتاتورية، والديمقراطية التوافقية‏[26]. فقد شهدت الحقبة (1951 – 1979) نهضة اقتصادية ليبرالية واعدة في الخمسينيات، ثم بداية توسع القطاع العام في الستينيات، ليصبح النظام الاقتصادي في السبعينيات اشتراكيًا بمعيار هَيمنة المِلكية العامة للموارد الطبيعية وللأصول الإنتاجية في الاقتصاد مقابل الدور المحدود للقطاع الخاص. في هذه الحقبة، تحقق الكثير من الإنجازات: زيادة النمو الاقتصادي والتشغيل بزيادة الاستثمار الحكومي وتحسين مستويات المعيشة. أما الحقبة (2003 – 2025)، فقد شهدت انحسار النمو وتآكل البنية الأساسية الاقتصادية، وتراجع مؤشرات التنمية الاجتماعية والبيئية، وتبديد في الموارد البشرية والطبيعية، واستنزاف «ريع» الثروة النفطية في الإنفاق الاستهلاك الحكومي المُفرط، وتراكم الدين العام.

بهذه الخلفية، ونضيف إليها الحقائق التالية، التي تؤكد أهمية التغيير الجذري في السياسة الاقتصادية الرأسمالية الجارية ببديل يناسب أهدف «الاشتراكية الجديدة»:

- يتسم الاقتصاد الوطني بضآلة الطاقات الإنتاجية ويعاني الأزمة الاقتصادية الهيكلية المزمنة التي لا يمكن معالجتها من دون تقليل الاعتماد الكبير على صادرات النفط الخام من خلال تدخل الدولة المباشر والواسع لتمويل الاستثمارات الضخمة في مشاريع تطوير البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ولإقامة مشاريع الصناعات التحويلية المتقدمة تكنولوجيًا، ولا سيَّما الرقمية، والقادرة منتجاتها على المنافسة في الأسواق المحلية والخارجية، ولتمويل المشاريع الاستراتيجية والأساسية للارتقاء بمكانة الدولة‏[27]. وتؤكد التجربة، أن تنمية وتأهيل الموارد البشرية الراغبة في العمل، وبدعم الدولة، سيؤمن تطوير القدرات العلمية والتكنولوجية المتقدمة، ومنها الذكاء الاصطناعي، والتوسع في المعرفة وإطلاق حرية الابتكار والريادة في إدارة النشاط الاقتصادي.

- إن فرادة المِلكية العامة (ملكية الدولة) لقوة الثروة النفطية العظيمة، تزيح قَيْدَ العملات الأجنبية من إمكان زيادة الاستثمار والاستهلاك بحدود «واقعية» تتناسب وأهداف خطط التنمية وتنفيذها من خلال ثنائية التخطيط الاقتصادي المركزي وآلية السوق التنافسية لحفز استثمارات القطاع العام والقطاع الخاص في إطار «المشروع الاقتصادي الوطني»‏[28].

- لأهمية الثروة النفطية في المقاربة بين الاقتصاد الوطني وبين «الاشتراكية الجديدة»، نشير إلى سمتين رئيسيتين: أولاها، أن القيمة الاقتصادية الحقيقية للثروة النفطية الطبيعية المَملوكة أصولها الإنتاجية للدولة، تتحدَّد بمقدار الإنتاج الأمثل للنفط الخام (والغاز مستقبلًا ريع صادرات الخام + مصادر الطاقة + مستلزمات الإنتاج في القطاعات كافة) الذي يتناسب مع أهداف التنمية ومتطلباتها في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية كافة، وليس صحيحًا التقييم تجاريًا بأسعار صادرات النفط الخام (والغاز مستقبلًا) في السوق العالمية. وأن الزيادة والانخفاض في مستويات الإنتاج الأمثل للثروة النفطية تُحَدِّدُ، وبعلاقة عكسية، أسعار صرف الدينار (الثابت مع الدولار أو مع سلة من العملات أو المرن)، وبالتالي تحديد قيمة الاستيراد والتحويلات الخارجية من الدولار أو العملة الأجنبية. وثانيتها، بسبب المِلكية العامة للثروة النفطية، وهَيمَنة إسهاماتها في الاقتصاد من خلال تمويل الإنفاق الحكومي والاستيراد المتزايد مع ضآلة الصادرات، تصبح مركزية التخطيط الاقتصادي ضرورة لترشيد استثمار إيرادات صادرات النفط الخام والغاز مستقبلًا. وفي المديين القريب والبعيد، حيث احتمالات انخفاض الطلب العالمي على النفط الخام، ومضاعفة جهود إيجاد بدائل جديدة للطاقة، فإن الإنتاج الأمثل للثروة النفطية، سيكون بالضرورة مقترنًا بأولويات الاستثمار العام في مشاريع توسيع الطاقات الإنتاجية، والصناعية المتقدمة تكنولوجيًا بخاصة، وإقامة وتطوير مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية المادية والاجتماعية والبيئية والتكنولوجية المتقدمة. كما سيؤدي إلى تقليص التباين الخطير في مستويات الدخول وتراكم الثروات بين المواطنين والمحافظات‏[29].

- للأفكار الاشتراكية جذور تاريخية في المجتمع تتمثل بالدور الإيجابي للدولة في إقامة مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية والبيئية ولمشاريع القطاع العام في تقديم الخدمات العامة الأساسية في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والسكن والمياه الصالحة للشرب وتوفير الكهرباء، وبالتالي تحسين مستويات المعيشة. وشهدت التجربة محاولة جادة لمشاركة العمال بأرباح الشركات، كما في تأميم البنوك وشركات التأمين وعدد من الصناعات عام (1964). وشهدت أيضًا، تأميم مِلكية الصناعة النفطية في الإنتاج والصادرات عام (1975)‏[30].

- تُفيد التجربة الاقتصادية الحديثة (1951 – 1979) بإنجازاتها المهمة وإخفاقاتها القليلة‏[31]، وأن الأيدي العاملة الوطنية كانت قادرة وراغبة في العمل وزيادة الإنتاج والإنتاجية، وأن إعادة تأهيل مهاراتها، فنيًا ومهنيًا وعلميًا، يتحقق بتنفيذ مشاريع الدولة المكثفة لتنمية الموارد البشرية بالتوازي مع زيادة الأجور وتحسين مستويات المعيشة. وأن إنجاز هذا التأهيل والتطوير، سيؤمن تطوير القدرات العلمية والتكنولوجية المتقدمة، ومنها الذكاء الاصطناعي، والتوسع في المعرفة والابتكار والريادة في إدارة النشاط الاقتصادي. وتفيد التجربة أيضًا، في إمكان تأهيل مشاريع القطاع العام ليواكب أداء الشركات العالمية في الإنتاج والاستثمار والقدرة على المنافسة في الأسواق المحلية والخارجية‏[32]. وقد شهدت الحقبة، مجالات واسعة لتشجيع القطاع الخاص والإسهام في زيادة الاستثمار في المشاريع الإنتاجية القادرة على المنافسة بتفعيل السياسات الاقتصادية المناسبة.

- في المقابل، وخلال الحقبة 2003 – 2025، شهدت التجربة تحوُّلًا جذريًا نحو اقتصاد السوق الحرة والعمل بالسياسات الاقتصادية «الليبرالية الجديدة» المُرْتَبِكَة والمُرْبِكَة لتجريد الدولة من مسؤولياتها في التخطيط الاقتصادي المركزي وتمويل الاستثمارات العامة، التي فشلت ذريعًا ليس فقط بمؤشرات المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الرئيسية، بل وأيضًا، في الحد من تفاقم وتكريس الأزمة الاقتصادية الهيكلية المزمنة، وانتشار الفقر وتجذر الفساد. والتجربة تزخر بالأمثلة الدالة على فشل السياسة المالية والنقدية، كما في عجز الموازنة المالية وفشل نظام الصرف الأجنبي لتثبيت سعر صرف الدينار مقابل الدولار، وانحسار الاستثمار الحكومي في غير قطاع النفط الخام، ومنها أيضًا، المغالطة بمبررات خصخصة مشاريع القطاع العام والفشل القطاع الخاص البديل‏[33].

- في ظروف البلاد السائدة، ليست خافية أهمية بناء الدولة المدنية الديمقراطية الوطنية المستقلة بمبادئ دستور «جديد» تحكم مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية والتعريف بعلاقاتها البينية، ومنها: تأمين الحريات الفردية والعامة، وحماية المِلكية الفردية، وإدارة تنمية المِلكية العامة للموارد الاقتصادية الطبيعية والأصول الإنتاجية وإعادة توزيع منافعها بعدالة بين المواطنين. وفي الظروف السائدة أيضًا، ليس أكثر أهمية من دور الدولة (الحكومة) المركزية الكفء والحازمة لا لإنفاذ القانون وفرض النظام العام فقط، بل لإدارة الاقتصاد والتنمية الاجتماعية والبيئية بصورة المباشرة أيضًا.

وفي الاستنتاج، مع تزايد مساوئ الواقع المتخلف وتكريسها، تتعمق ضرورات إحداث التغيير الجذري بآفاق الفكر والمعرفة وبفعل إرادة العمل الجاد المشترك: السياسي والاقتصادي. وأن من خيارات التغيير نحو المستقبل: «الاشتراكية الجديدة».

الملحق:
«مثال رمزي: تكلفة الإنتاج وتوزيع الأرباح في الاشتراكية الجديدة»

في هذا المثال الرمزي: نفترض رأس المال (المالي) المستثمر في المنشأة الإنتاجية التي يمتلكها القطاع الخاص أو القطاع العام. ونفترض أيضًا، أن أنواع المنتجات تتأثر بالتكنولوجيا المستخدمة والظروف الاقتصادية السائدة. في هذه المنشأة، يتم حساب تكلفة الإنتاج الحقيقية وكيفية توزيع الأرباح، كالآتي:

أولًا: نفترض أن تكلفة أو قيمة الإنتاج الحقيقي لهذه المنتجات، تقدر كالآتي:

- أن قيمة العمل المستثمر في العملية الإنتاجية، أي الأجور (تتباين الأجور بما يناسب مهارات العمال ومهامهم وساعات العمل في العملية الإنتاجية)، وتساوي 25 وحدة نقدية،

- وأن قيمة رأس المال المستثمر، تقدر بالأجور المدفوعة وتساوي 25 وحدة نقدية، وبدفع إيجار الأصول الثابتة في المنشأة وتساوي 5 وحدات نقدية.

- وأن قيمة الفوائد المدفوعة مقابل اقتراض رأس المال تساوي 5 وحدات نقدية، وقيمة اندثار المعدات المستخدمة في الإنتاج وتساوي 5 وحدات نقدية، وقيمة المواد الأولية المستخدمة في الإنتاج تساوي 30 وحدة نقدية، وقيمة مستلزمات الإنتاج المستخدمة 5 وحدات نقدية.

- وبذلك يصبح مجموع قيمة رأس المال المستثمر في الإنتاج 75 وحدة نقدية، أي أن تكلفة الإنتاج الحقيقية تساوي 25 + 75 = 100 وحدة نقدية.

ثانيًا: في حالة بيع المنتجات بأسعار ـتحددها آليات العرض والطلب بقيمة 150 وحدة نقدية، تصبح قيمة الربح المحقق 150 – 100=50 وحدة نقدية. ويتم توزيع الربح بين العمل ورأس المال، كالتالي:

- حصة العمل= 25÷100×50= 12.5 وحدة نقدية،

- وحصة رأس المال =75÷100×50= 37.5 وحدة نقدية.

وهذا يعني، أن قيمة استثمار العمل ورأس المال في العملية الإنتاجية ومن أرباح بيع المنتجات تصبح كالتالي:

- قيمة العمل تساوي 25+12.5= 37.5 وحدة نقدية،

- وأن صافي الربح من استثمار رأس المال يساوي 37.5 وحدة نقدية بعد تسديد مدفوعات رأس المال المستثمر من الأجور والإيجار والفوائد والاندثار والمواد الأولية ومستلزمات الإنتاج.

وهذه حالة التوازن الاقتصادي والاجتماعي الأمثل في ميزان القوى بين قيمة العمل وقيمة رأس المال.

أما في حالة اختلال هذا التوازن نتيجة خفض قيمة الأجور، مثلًا من 25 وحدة نقدية إلى 20 وحدة نقدية، وبالتالي انخفاض تكلفة الإنتاج الحقيقية من 100 إلى 95 وحدة نقدية، في مقابل ارتفاع قيمة الأرباح إلى 55 وحدة نقدية، فإن مقدار الاختلال سيكون 10.25 وحدة نقدية حيث يساوي الفرق بين قيمة العمل في المشروع التي ستنخفض إلى 20 + 20÷100×55= 31 وحدة نقدية وبين قيمة رأس المال المستثمر في المشروع التي سترتفع إلى 75÷100×55 = 41.25 وحدة نقدية.

وفي هذه الحالة يتم تصحيح الاختلال في التوازن من خلال سياسة الحد الأدنى للأجور.

كتب ذات صلة:

نظريات العلاقات الدولية: من التأسيس إلى المراجعات الشاملة

تفكيك الاشتراكية العربية

الرأسمالية والاشتراكية والتعايش السلمي

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 558 في آب/أغسطس 2025.

صبري زاير السعدي: خبير ومستشار اقتصادي عراقي.

[1](*) يقدم الكاتب جزيل شكره وتقديره إلى الاقتصادي العراقي معاذ عبد الرحمن صالح، الأكاديمي المتقاعد في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية (SAOS) في جامعة لندن، لمناقشته الثقافية المنهجية وملاحظاته النقدية في مسألتين مهمتين: ضرورة المزيد من الإيضاح في نقل التحليل الاقتصادي النظري من مستوى المنشأة الإنتاجية إلى مستوى الاقتصاد الكلي وبيان ديناميته بمتغير الزمن. والمسألة الثانية، تحديد المشاركة السياسية للعمال ولمالكي رأس المال في النظام الاجتماعي «المستهدف»، لتأكيد تكامل مفهوم النظام الاقتصادي – الاجتماعي في «الاشتراكية الجديدة» وتمييزه من مجرد قوانين توزيع الأرباح في صناديق التقاعد للعمال أو منح الأجور الإضافية في الدول الرأسمالية المتقدمة.

انظر: صبري زاير السعدي «نحو مقاربة جديدة للنموذج الاقتصادي الأمثل: الاشتراكية الجديدة ونقد الاقتصاد التقليدي،» المستقبل العربي، السنة 43، العدد 504 (شباط/فبراير 2021)، و«النظام الاقتصادي واستشراف المستقبل العربي: الاشتراكية الجديدة،» المستقبل العربي، السنة 45، العدد 525 (تشرين الثاني/نوفمبر 2022).

[2] المزيد من التفصيل بالأرقام، انظر الملحق في نهاية هذه الدراسة.

[3] أبرزهم آدم سميث مؤسس اقتصاد الرأسمالي التقليدي، حيث المنافسة الحرة، ودايفيد ريكاردو الذي أسهم في نظريات «قيمة العمل» و«الريع الاقتصادي» و«المنافع التنافسية» في القرن الثامن عشر مرورًا بكارل ماركس مؤسس الاقتصاد التقليدي الماركسي في القرن التاسع عشر. وعن مشاركة الرواد الاشتراكيين، ومنهم الاقتصادي والسياسي العراقي الراحل محمد سلمان حسن، في مناقشة فرضيات الاقتصاد التقليدي بمنهجية، انظر: أوسكار لانكة ومايكل كالتيسكي، الاقتصاد السياسي، الجزء الثالث: الرأسمالية والاشتراكية، تعريب وتقديم محمد سلمان حسن (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1980). وللإيضاح: في المناقشات الفكرية والأدب الاقتصادي يشار أحيانًا إلى مفهوم «الاقتصاد السياسي للرأسمالية وللاشتراكية» بمعنى يرادف دلالة «الاقتصاد الكلاسيكية الرأسمالي والاشتراكي» الذي يدرج في هذه الورقة. أما مصطلح الاقتصاد السياسي الشائع استخدامه فهو يعني تأثير السياسة في الاقتصاد من خلال العلاقات المتفاعلة بين المواطنين والحكومات في إرساء السياسة العامة المتعلقة بالمصالح الاقتصادية للمواطنين وللمجتمع.

[4] عن تفاصيل تاريخ الاقتصاد وعوامل تطور الفكر الاقتصادي في المجتمعات والدول الأوروبية قبل، وما بعد، تطور النظم وتبلور النظرية الرأسمالية في أمريكا والاقتصادات الغربية المتقدمة، انظر على سبيل المثال: John Kenneth K. Galbraith, A History of Economics: The Past as the Present (London: Pelican Books, 1989), republished in Penguin Books (1991).

وعن الريادة في عرض جوانب وتفاصيل مهمة في تاريخ الاقتصاد، والفكر الاقتصادي، ومحتواه الاجتماعي في العراق قبل عصر النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر الميلادي، انظر: عبد العزيز الدوري، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري (بغداد: مطبعة المعارف، 1948)، والصادر بالطبعة الثانية في بيروت، دار المشرق، 1974، والصادر في طبعته الثالثة في بيروت عن مركز دراسات الوحدة العربية، 1995. الدراسة رسالة دكتوراه معدة سنة 1942 ومجازة من جامعة لندن البريطانية.

[5] من الأمثلة الجزئية الحديثة، مشكلة التعامل بنظم العملات الرقمية الإلكترونية (المشفرة) عبر الإنترنت كعملة (Bitcoin) التي يتسع انتشارها، يتجاوز دور الدولة والبنوك المركزية ونظام المدفوعات المالية الدولية (SWIFT) في رصد التبادلات المالية الدولية، والتهرب الضريبي من إنجاز معاملات البيع والشراء بين الأفراد والشركات، ومراقبة في فرض العقوبات الاقتصادية الأحادية. ونلحظ أن إدراج الولايات المتحدة الأمريكية العملات الرقمية «المشفرة» في أرصدة الاحتياطيات الاستراتيجية، يعني حسبانها ليس فقط كأداة للاستثمار والمضاربة، بل أيضًا، كجزء من السياسة النقدية والمالية. في المقابل، تسعى مجموعة دول بريكس (BRICS) لتأسيس نظام جديد بديل سميّ «تسويات بريكس» (للمزيد من التفاصيل، انظر الهامش الرقم 19)، وهناك محاولات البنوك المركزية لتأسيس نظمها النقدية الرقمية الخاصة بها (Govcoins) لإيداع الأصول النقدية للأفراد وللشركات وتسهيل التبادل بينها. الأكثر أهمية، أن العملات المشفرة تستخدم الآن في أمريكا كجزء من الاحتياطيات المالية والنقدية للدولة. ويبرز حديثًا، أن البنوك الخاصة تواجه تحديات إنجاز مهماتها في جمع الأصول النقدية للأفراد وللشركات من ناحية، وتزايد دور الدولة والبنوك المركزية في القيام بهذه المهمات من ناحية ثانية، وتأثير ذلك في فاعلية السياسات المالية والنقدية الكلية. حول تفاصيل هذا الموضوع المهم والمقاربة مع مستقبل أدوات النظم النقدية الحكومية، انظر دراسة الموضوع المنشورة في مجلة الإيكونوميست اللندنية:           The Economist (London) (8 May 2021).

[6] تفيد الإشارة إلى قصور بعض الآراء السياسية العربية الشائعة، بأن منح صفة «اليسار» للحكومات وللأحزاب وللمؤسسات والشخصيات الاجتماعية البارزة يكون كافيًا بمعيار معاداة الدول الرأسمالية الإمبريالية (الاستعمارية) لاستغلالها الثروات والموارد الوطنية في البلدان النامية بالهيمنة العسكرية أو السياسية أو الضغوط الاقتصادية واحتكار الاستثمار. هذا في مقابل منح صفة «اليمين السياسي» لهذه الجهات التي تؤكد شرعية استثمارات الشركات الرأسمالية في هذه البلدان. وفي الاقتصاد السياسي، يعرف «اليسار الاشتراكي» بمعيار التحيز لمصلحة الفئات الاجتماعية الفقيرة والعمال والمتدنية الدخول، في حين يعرف «اليمين السياسي» بمعيار التحيز لمصلحة الرأسماليين والأثرياء مالكي الأراضي والعقارات ورواد الأعمال. أما في الاقتصاد، برأينا، ليس كافيًا أو صحيحًا الرأي باقتران موقف «اليسار الاشتراكي» بانتهاء النظام الرأسمالي «المطلق» بمعنى انتفاء دور القطاع الخاص وآليات السوق التنافسية في تعبئة وتوزيع الموارد الاقتصادية لمصلحة دور الدولة والقطاع العام في الهيمنة التامة على النشاط الاقتصادي، كما في بعث أبدية الاشتراكية. كذلك، ليس كافيًا أو صحيحًا، الرأي باقتران موقف «اليمين الرأسمالي» بإلغاء النظام الاشتراكي «المطلق» بمعنى انتفاء دور الدولة والقطاع العام في إدارة الاقتصاد وتقديم الخدمات العامة، كما في حلم أبدية الرأسمالية.

[7] عن التفاصيل في خطأ التبريرات الاقتصادية والتقنية لفرض هذه الرسوم (يوم التحرير 3 نيسان/أبريل 2025) ومقاربتها التاريخية المعكوسة بحدوث الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وما قبله، وتقدير أضرارها الشاملة في المستقبل، انظر: «Ruination Day: How to Limit The Global Damage,» The Economist (5 April 2025), pp. 9 and 61.

[8] انظر: السعدي، «نحو مقاربة جديدة للنموذج الاقتصادي الأمثل: الاشتراكية الجديدة ونقد الاقتصاد التقليدي».

[9] تنتشر تطبيقات هذه النماذج في تقديرات النمو والمتغيرات الاقتصادية الرئيسية للدول على نطاق واسع في المؤسسات الاقتصادية والمالية الحكومية والدولية والمراكز الأكاديمية، كما يتم تطبيق المعادلات الرياضية في قرارات الاستثمار بتوقع أسعار الأسهم المستقبلية في الأسواق المالية العالمية. هنا، يجب التأكيد أن مواكبة التطور التكنولوجي السريع والمذهل في تأثيراته الإيجابية لزيادة وتسارع النمو الاقتصادي، يحسن كثيرًا في أساليب قياس الإنجازات واستشراف التقدم المتوقع في الفعاليات الاقتصادية بمختلف مستوياتها.

[10] كان من اختراع حكماء بابل بوادي الرافدين (العراق) الذي يُنَسَبْ في الأدب الشائع للفيلسوف اليوناني فيثاغورس.

[11] انظر: Ian Stewart, Seventeen Equations that Change the World (London: Profile Books Ltd, 2021).

[12] في تحليل ثاقب، يكشف الاقتصادي والسياسي يانيس فاروفاكيس عن تطور «مرحلة» الرأسمالية الجديد باستخدام احتكارات القلة «إقطاعيات» لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وبروز أداة استغلال جديدة، سميت رأس المال السحابي (Capital Cloud) لحصاد «ريع» قيمة العمل، من دون دفع الأجور، من خلال استغلال ثروات الضخمة من البيانات والمعلومات المتراكمة في بنوك البيانات السحابية (Cloud Data) – التي يمكن، في رأينا، التَحَيّزْ في اختيارها في صوغ الخوارزميات – بترويج الشركات الرأسمالية وبالتالي زيادة النشاط الاقتصادي. يتلخص الاقتصاد السياسي لهذا الرأي، بأن «أفول» الرأسمالية يتحقق بعاملين: انخفاض الأرباح المؤدي إلى تراجع استثمار الشركات، وبالتالي تقييد «فائض القيمة» في المستقبل، ولزيادة الديون بسبب الاقتراض من المستقبل بحيث يصعب في وقت ما تسديدها نتيجة انخفاض إنتاج فائض القيمة، يناسب نظرية فائض القيمة الماركسية التي تفترض انهيار الرأسمالية نتيجة للتناقضات الداخلية فيها. ولكن العقم في النظرية الماركسية، أنها تعتمد قوة العمل تعادل قيمة المنتج وأن العمال هم فقط أصحاب الحق في أرباح فائض القيمة وملكية المنشأة الإنتاجية. انظر: Yanis Varoufakis, Technofeudalism: What Killed Capitalism (New York: Vintage, 2024).

[13] تفيد الإشارة هنا إلى تعدد وتطور المناهج الاقتصاد الأكاديمية في دراسة استخدام الرياضيات: الاقتصاد الرياضي، والاقتصاد القياسي والنماذج الاقتصادية النظرية بمستويات مختلفة، ونماذج التخطيط الاقتصادي المركزية، ونماذج الرياضيات في تحليل الأسعار في الأسواق المالية، واستخدامها في زيادة الإنتاجية في أنشطة البناء والتشييد وفي النقل والاتصالات.

[14] نقصد هنا رياضيات نماذج البرمجة المستقيمة الأمثلية (Mathematical Optimization Linear Programming Models). انظر: السعدي، «نحو مقاربة جديدة للنموذج الاقتصادي الأمثل: الاشتراكية الجديدة ونقد الاقتصاد التقليدي».

[15] عن تفوق الصين العالمي في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، انظر: «Artificial Intelligence,» The Economist (15 March 2025), pp. 59-61.

[16] يمكن معرفة أزمة الاقتصاد الأمريكي الحالية بتراكم نسبة الدين العام 114.88 بالمئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي البالغة 24.88 ترليون دولار، ويبلغ العجز في الميزان التجاري 785 مليار دولار بإحصاءات 2023. انظر:«<https://www.cia.gov> CIA World Factbook,» . وتشير التقديرات المنشورة الآن، أن قيمة الدين العام بلغت 35.22 ترليون دولار وبنسبة 124 بالمئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي البالغة 28.403 ترليون دولار لسنة 2024.

[17] لأهمية المنافسات الاقتصادية والجيوسياسية الدولية الجارية، من المُهم الإشارة إلى نظام المدفوعات المالية الدولية بالدولار (SWIFT) كأحد أبرز أمثلة الهَيْمَنَة الأحادية، من خلال التحدي الذي أعلن بمبادرة مؤتمر قمة دول مجموعة بريكس (في كازان بروسيا 2024) التي تضم في عضويتها البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا ومصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة، بضرورة تأسيس نظام جديد بديل للمدفوعات الدولية لتعزيز التعاون المالي والتجاري فيما بين أعضائها ومع شركائهم التجاريين يختلف جذريًا عن خصائص نظام (سويفت SWIFT)، وسميت المبادرة: مبادرة بريكس للمدفوعات العابرة للحدود: (BRICS Cross-Border Payment Initiative – BCBPI BRICS Clear) أو تسويات بريكس.

تشير المبادرة إلى أن النظام المستهدف يتصف بالسرعة والكفاءة وانخفاض تكلفة التحويلات المالية والأمان والشفافية ما يقلل من القيود التجارية وأن يسمح بالمشاركة – تطوعًا – فيه ومن دون تَحيّز، وأن يتم استخدام العملات المحلية في التحويلات المالية بين البلدان المشاركة وشركائهم التجاريين بديلًا لنظام المدفوعات المالية الدولية بالدولار (سويفت) الذي تُهَيمِن أمريكا على إدارته ومراقبة المدفوعات الدولية بالدولار عبر البنوك المراسلة المنتشرة في العالم بما يجعل «بنك أمريكا» (Bank of America) مركز هذه التحويلات المالية من جهة، ويسمح أيضًا، بإحكام قيود العقوبات التي تفرضها لمقتضيات سياسية أو اقتصادي على بعض البلدان من جهة ثانية. والمثير للاهتمام أن من مزايا النظام المستهدف لدى مجموعة بريكس، أن استعماله يتم بواسطة البنوك المركزية للدول المشاركة مباشرة، وليس البنوك المراسلة، باستخدام النقود الرقمية (Digital Money)، وأن النظام لا يسمح لأي دولة مشاركة فرض العقوبات على دولة أخرى. انظر: الفقرة 65 و66 من إعلان كازان لمؤتمر قمة بريكس عام 2024. انظر: BRICS Summit 24, Kazan Declaration, Kazan, Russian Federation, 23 October 2024.

وعن جديّة إنجاز هذا النظام، نلحظ، كما تؤكد حديثًا مجلة الإيكونوميست اللندنية، قلق البنوك المركزية واندفاعها في زيادة تراكم احتياطاتها من الذهب تحسبًا لتراجع العمل بنظام سويفت والدولار. المزيد من التفاصيل، انظر دراسة مجلة الإيكونوميست اللندنية:          The Economist (26 October 2024), pp. 55-56.

[18] كانت مهمةً آراءُ الاقتصاديين الرواد الذين وجدوا في التجربة العملية للنظام الرأسمالي المبررات لتطوير النظام الاشتراكي، أبرزهم: أوسكار لانكه وأبا ليرنر عن «السوق الاشتراكية أو الاشتراكية التنافسية» في الثلاثينيات من القرن العشرين حيث اقترح فرضية حرية (سوق) المنتجات الاستهلاكية وحرية (سوق) العمل في مقابل احتكار الدولة لسوق السلع الرأسمالية والموارد الإنتاجية. وكانت مهمةً أيضًا، آراء رواد الاقتصاد الليبرالي في تعزيز دور الدولة بإدارة الاقتصاد: إسهامات جان تنبركن عن النماذج الاقتصادية الكلية «الكمية» في صياغة السياسة الاقتصادية ودور الدولة في تخطيط التنمية الاقتصادية على مراحل، ورانجر فريش عن التخطيط الاقتصادي المركزي الشامل في الستينيات، انظر: Oskar Lange, «On the Economic Theory of Socialism,» Review of Economic Studies, vol. 4, no. 1 (October 1936); Oskar Lange and Fred M. Taylor, On the Economic Theory of Socialism (Minneapolis, MN: University of Minnesota Press, 1948), fourth printing 1956; Jan Tinbergen, Development Planning (London: World University Library, 1967), and R. Frisch, «How to Plan,» Institute of National Planning in Cairo, memo no. 380, Cairo, 1963.

[19] كانت الريادة في هذا التحليل، للاقتصادي الشهير بيرو سيرافا، انظر: Piero Sraffa, The Production of Commodities by Means of Commodities (London: Cambridge University Press, 1960).

[20] انظر:        Varoufakis, Technofeudalism: What Killed Capitalism.

[21] كمثال، يتم تجاوز الموقف من نظام الإنتاج في الاقتصاد الماركسي لدى البعض بتكرار «المسلّمات الشائعة» عن التعريف بالأصول الاجتماعية الطبقية والتمييز بين «البروليتاريا» وبين «البروليتاريا الرثة» و«حثالة البروليتاريا». يفتقد هذا التمييز التبرير الاقتصادي ويتجاهل الدوافع الإنسانية والأخلاقية والثقافية للإنسان.

[22] من الضروري الإشارة إلى أن مهمات القطاع العام وفاعليته في الظروف الجديدة تتطلب تغيير معايير إدارة الشركات الإنتاجية المملوكة للدولة بما يتناسب مع شروط الكفاءة الاقتصادية المقترنة بالعدالة الاجتماعية. عن التفاصيل، انظر مثلًا: Sabri Zire Al-Saadi, «New Economic model for Iraq: Future Vision and Market-Oriented State Corporations Foster Liberalization of Oil-Rentier Economies,» The Culture and Conflict Review (Naval Postgraduate School), vol. 6, no. 2 (2017).

وأعيد نشر الدراسة باللغة العربية، انظر: صبري زاير السعدي، نموذج اقتصادي جديد للعراق: الرؤيا المستقبلية وشركات الدولة الكبرى والريع النفطي (ألمانيا: دار نور للنشر، 2017).

[23] تفترض النظرية المهتدية بنموذج النمو الاقتصادي الرأسمالي الأمريكي أن مراحل الخمسة (المجتمع التقليدي، ظروف قبل الانطلاق، الانطلاق، الاندفاع نحو النضوج، مرحلة الاستهلاك الكثيف) تحدد مسارًا واحدًا للنمو الاقتصادي في كل البلدان، بغضّ النظر عن المزايا النسبية المتباينة التي تمتلكها اقتصادات البلدان من الموارد الطبيعية والنادرة والجغرافية الاقتصادية والثقافات والأنظمة السياسية والاجتماعية. عن الخلاصة المكثفة والوافية لهذه النظرية، انظر المقالة: W. W. Rostow, «The Stages of Economic Growth,» The Economic History Review, New Series, vol. 12, no. 1 (1959), pp. 1-16.

والمعاد نشرها في (WILY) نيابة عن «The Economic History Society». انظر: <https://www.jstor.org/stable/2591077>.

[24] تتجاوز هذه الآراء النظرية دور الدولة الوطنية، المنفردة في ظروفها وثقافتها، في مقابل دور أنظمة مجموعة أو مجموعات متماثلة من الدول الرأسمالية المتطورة اقتصاديًا التي تسمى المركز (Core) التي تَفرضُ هَيمنتها وتبعية البلدان النامية لها الواقعة في إطار الجغرافية الاقتصادية، والمسماة الأطراف المحيطة بالمركز (Peripheral) من خلال استغلال هذه الدول لمواردها الاقتصادية الرخيصة (مثال: مصادر الطاقة الرخيص من النفط الخام) والأيدي العاملة المتوافرة (بالأجور الزهيدة وتشجيع هجرة الكفاءات) مع توسيع توريد منتجاتها الصناعية الاستهلاكية وزيادة مساعداتها والديون المالية إليها، لتحقيق هدفين: الأول، الاستفادة الاقتصادية القصوى لمجموعة بلدان نظام «المركز» من خلال تنشيط التجارة الخارجية باستغلال الموارد الاقتصادية من البلدان النامية. والهدف الثاني، تكريس تبعية البلدان النامية وتقييد النمو الاقتصادي والتنمية فيها لضمان عدم منافستها. وبالموازاة، تمارس البلدان النامية دورها أيضًا في استغلال الموارد الاقتصادية والأيدي العاملة المتوافرة في الدول الأقل نموًا أو الفقيرة الواقعة في الأطراف شبه المحيطة بالمركز (Semi-Peripheral)، انظر إسهامات رائدها: Immanuel Wallerstein, «The Modern World-System,» (four volumes of studies published during 1974-2011).

سبق أن تناولنا جوانب في الموضوع بإطار ملاءمة ظروف البلدان العربية المتباينة لتوسع تيار العولمة الاقتصادية، انظر: صبري زاير السعدي، «الاقتصاد السياسي للتنمية والاندماج في السوق العالمية: ملاحظات مستقاة من بعض التجارب العربية،» المستقبل العربي، السنة 22، العدد 249 (تشرين الثاني/نوفمبر 1999).

[25] نلحظ انتشار هذه الآراء الفكرية الثرية عن الرأسمالية والاشتراكية ودور القطاع العام والخاص في المنطقة العربية بموازاة التجربة التحررية والاشتراكية في مصر التي بدأت مطلع الستينيات. انظر على سبيل المثال: سمير أمين، «إشكالية الاشتراكية وما بعد الرأسمالية: ماهية الاشتراكية وطبيعة أزمتها الراهنة،» المستقبل العربي، السنة 9، العدد 96 (شباط/فبراير 1987)، وكذلك استكمال رأيه أيضًا في: «طبيعة أزمة الاشتراكية الراهنة وأسبابها وظواهرها: طبيعة نظم الاشتراكية المحققة وما بعد الرأسمالية؟،» المستقبل العربي، السنة 9، العدد 97 (آذار/مارس 1987). انظر أيضًا: محمود عبد الفضيل، الفكر الاقتصادي العربي وقضايا التحرر والتنمية والوحدة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1982). انظر أيضًا لآراء مجموعة من الاقتصاديين البارزين منهم: إسماعيل صبري عبد الله وإبراهيم سعد الدين ومحمد محمود الإمام وإبراهيم العيسوي، في: القطاع العام والقطاع الخاص في الوطن العربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1990). انظر أيضًا: يوسف الصايغ، التنمية العصية من التبعية إلى الاعتماد على النفس في الوطن العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992).

[26] عن المقاربة الأولية بين التجربة الاقتصادية العراقية والاشتراكية الجديدة، انظر: صبري زاير السعدي، «مقدمة في بديل التجربة الاقتصادية العراقية (2003 – 2024)،» صحيفة العالم الجديد العراقية الإلكترونية، 24/9/2024،     <https://al-aalem.com>.

[27] عن أحدث تقييم لواقع ومستقبل الاقتصاد العراقي، انظر: صبري زاير السعدي، «تكريس الأزمة الاقتصادية المزمنة في العراق والمشروع الاقتصادي الوطني،» المستقبل العربي، السنة 44، العدد 512 (تشرين الأول/أكتوبر 2021).

[28] انظر: صبري زاير السعدي، «قوة الثروة النفطية والنظام الاقتصادي في العراق: ثنائية التخطيط الاقتصادي المركزي وآلية السوق التنافسية،» المستقبل العربي، السنة 42، العدد 493 (آذار/مارس 2020).

[29] للمزيد من التفاصيل، انظر: صبري زاير السعدي، «الإنتاج الاقتصادي الأمثل للثروة النفطية في العراق،» المستقبل العربي، السنة 45، العدد 530 (نيسان/أبريل 2023).

[30] للأهمية التاريخية، يجب التذكير بإسهامات رواد الاقتصاد العراقيين الذين اتسعت آراؤهم لتشمل المناقشات الفكرية الماركسية والاشتراكية المقترنة بمشاركاتهم المهنية خلال المدة (1950 – 1979). هنا يمكن الإشارة الرمزية إلى نماذج محدودة جدًا لأعمالهم الاقتصادية والسياسية البارزة. في الماركسية، انظر: إبراهيم كبة، دراسات في تاريخ الاقتصاد والفكر الاقتصادي: الجزء الأول (بغداد: مطبعة الإرشاد، 1970)؛ هذا هو طريق 14 تموز: دفاع إبراهيم كبة أمام محكمة الثورة (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1969)؛ محمد سلمان حسن، «نظرية القيمة والنظم الاجتماعية،» في: أوسكار لانكة ومحمد سلمان حسن، الاقتصاد السياسي: عملية الإنتاج والنظم الاجتماعية (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1976)، ومحمد سلمان حسن، دراسات في الاقتصاد العراقي (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1976)، وعن تطبيقات «الاشتراكية العربية» في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، انظر أيضاً: خير الدين حسيب، «نتائج تطبيق القرارات الاشتراكية في السنة الأولى،» تقرير مقدّم من المؤسسة الاقتصادية في 16 تموز/يوليو 1965 بمناسبة توزيع الأرباح على العاملين فيها. وعبد العال الصكبان، «معنى الاشتراكية العربية،» محاضرة ألقيت في الموسم الثقافي لدائرة الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة بغداد بتاريخ 20 نيسان/أبريل 1964، نشرت من شركة الطبع والنشر الأهلية، بغداد. وبإيضاح أوسع لمدلولات وتطبيقات «الاشتراكية العربية» كما في آراء حزب البعث العربي الاشتراكي، انظر: وزارة الإعلام العراقية، التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث العربي الاشتراكي في كانون الثاني عام 1974، بغداد. وتجب الإشارة إلى إسهامات الحزب الشيوعي العراقي الرائدة (تأسس 1934) في نشر الآراء الاشتراكية الماركسية، ولا سيما في تعاظم نفوذه السياسي والشعبي وانتشاره الثقافي اليساري خلال المدة (تموز/يوليو 1958 – شباط/فبراير 1963)، ثم تراجع نفوذه بقمع الحكومات المتعاقبة، واضطراب خياره (الفكري) الاشتراكي تحت تأثير انهيار تجربة الاتحاد السوفياتي الاشتراكية والعجز في إيجاد نموذج اقتصادي اشتراكي بديل، وكما يظهر في وثيقة صادرة عن المؤتمر الوطني الثامن أيار/مايو 2007 والمدرجة في وثائق المؤتمر الوطني التاسع في آذار/مارس – أيار/مايو 2020، تلخص تصوره للاشتراكية كالتالي: «1 – الدفاع عن مصالح العمال والكادحين وعموم شغيلة اليد والفكر، 2 – الاسترشاد بالماركسية ومنهجها، وبالتراث الفكري التقدمي الوطني والإنساني لما فيه خير الإنسان وتطلعه إلى «وطن حر وشعب سعيد»، انظر: منصة الحزب الشيوعي العراقي، وثيقة خيارنا الاشتراكي <https://www.iraqicp.com>.

[31] للمزيد من المعرفة عن إسهامات العراقيين في الفكر الاقتصادي العربي، انظر: خير الدين حسيب، مصادر الفكر الاقتصادي العربي في العراق 1900 – 1971 (بيروت: دار الطليعة، 1973).

[32] عن المصدر، انظر الهامش الرقم (23).

[33] في تحليل مؤشرات إحصائية رسمية منشورة وصادرة في عام 2017، يظهر أن مشاريع القطاع العام تتفوق بمعيار الكفاءة الاقتصادية المتمثلة بانخفاض نسبة استخدام قيمة مستلزمات الإنتاج إلى قيمة الإنتاج (11.938 بالمئة) مقارنة بمشاريع القطاع الخاص التي بلغت نسبتها (33.236 المئة). كما تتفوق بمعيار العدالة الاجتماعية المتمثلة بارتفاع نسبة قيمة الأجور والرواتب والمزايا المدفوعة للعاملين من مجموع القيمة المضافة البالغة (32.071 بالمئة) في مقابل قيمة الأرباح والإيجار والفوائد لمالكي الأصول الإنتاجية البالغة نسبتها (67.929 بالمئة). انظر: صبري زاير السعدي، «العراق: السياسة النفطية في غياب الرؤية الاستراتيجية المستقبلية،» المستقبل العربي، السنة 42، العدد 488 (تشرين الأول/أكتوبر 2019).


صبري زاير السعدي

خبير ومستشار اقتصادي عراقي.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز