مقدمة
مثلت حرب 15 من نيسان/أبريل 2023، والتي اشتعلت في السودان وما زالت مستمرة، أسوأ مرحلة يمكن أن يصل إليها بلد ما. نظرًا للبعد الإنساني فقط من المأساة، بلغت أعداد النازحين أكثر من 9.1 مليون شخص بما يعتبر أكبر نسبة نزوح داخلي على مستوى العالم، 1.2 مليون لاجئ خرجوا يبحثون عن مأوى لهم في دول العالم، والأعداد تزيد بمعدل مضطرد يوميًا. والكارثة الأكبر، متوقع حدوثها نتيجة وتيرة التصعيد العسكري وخيبات القوى السياسية، تعرض أكثر من 20 مليون للمجاعة داخل السودان أي ما يمثل 42 بالمئة من عدد السكان[1]. مرت ثمانية وستون عامًا منذ استقلال السودان سنة 1956 وخروج المستعمر البريطاني، والسودان لم يشهد استقرارًا سياسيًا يمكن أن يعبد الطريق إلى تنمية مستدامة ورفاهية حقيقية لمواطنيه. فشلت أحزابه السياسية بكل تنوعها – الطائفي، العقائدي، الليبرالي والجهوي – في الحفاظ على نظام سياسي يؤسس على الاحتكام إلى إرادة شعبه، ويوفر مرجعية دستورية متوافقً عليها وقادرة على ضمان استقراره واستدامته. رغم أن الفاعلين في الحروب هم العسكر إلا أن السياسيين (المدنيون) هم عرابوها وسدنتها، إذ تتحمل الأحزاب المسؤولية الأخلاقية والسياسية في إشعال الحروب وإثقال كاهل مجتمعاتهم ودولهم بتكلفتها الإنسانية والمادية العالية. المؤسسة العسكرية في أي دولة يتركز دورها في حماية الدولة وشعبها من أي غزو أو تدخل عسكري خارجي، ويتفاوت هذا الدور وفق الدستور الخاص بكل دولة. وفي الأنظمة الديمقراطية تخضع المؤسسة العسكرية لسياسات وقرارات المؤسسات السياسية (القيادات المدنية المنتخبة)[2].
كشفت حرب السودان الجارية عن ضعف بنية النظام الاجتماعي ومؤسساته الأهلية والمدنية وضمور قيمها الوطنية والأخلاقية نتيجة ولوغ نسبة مقدرة من قياداتها ومنتسبيها في خضم الحرب إما انحيازًا لكيان أهلي أو دفاعًا عن أيديولوجيا أو تكسبًا لمصلحة مادية. إجمالًا وضعت الحرب القائمة الآن السودان ممثلًا بأحزابه السياسية، وكياناته الاجتماعية، ونخبه ومثقفيه في اختبار عظيم؛ من الأحق بالانحياز له الكيان أم الفكرة؟ الوطن الأكبر أم المصلحة الخاصة؟ الشعب أم الأيدولوجيا؟ الماضي أم المستقبل؟
أولًا: الحروب الداخلية، الدوافع والآثار
تعرف الحرب بأنها ظاهرة اجتماعية تشير إلى نشوء نزاع مسلح بين طرفين أو أكثر، يكون بين دول/شعوب أو داخل دولة/شعب واحد. وهي حالة يحاول فيها طرف أن يفرض إرادته وأجندته بالقوة على الطرف الآخر. والحرب التي تنشأ داخل دولة/شعب واحد، يطلق عليها حرب أهلية. حيث عرف جيمس فيرون – باحث في الحروب الأهلية بجامعة ستانفورد الأمريكية – الحرب الأهلية؛ بأنها (نزاع عنيف داخل بلد ما تخوضه مجموعات منظمة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة في المركز أو في منطقة ما، أو لتغيير سياسات الحكومة)[3]. بينما أثبتت الدراسات السياسية أن النزاعات والحروب الداخلية (أو الأهلية) ظاهرة دولية، تعود أسبابها إلى عوامل متعددة، مركبة ومعقدة في غالب الأحيان، منها السياسي، والثقافي، والاقتصادي وغيرها. بل لوحظ أن معظمها تسبب في خلق ذريعة للتدخل الخارجي، سواء بقصد أو بدون قصد، زاد من تفاقم الأزمة ومن سوء عواقبها. حيث ينشط دائمًا التدخل الخارجي بدافع الحفاظ على مصالحه في المناطق الاستراتيجية التي تتمتع بجاذبية اقتصادية أو عسكرية أو الاثنين معًا[4]. ويلاحظ أن السلطة، الوصول إليها تنافسًا سلميًا أو الاستيلاء عليها بالقوة، مثل الدافع الأساس وراء كل نزاع وصراع داخلي. ويعزو المختصون في الدراسات السياسية محركات هذا النوع من الصراعات داخليًا إما إلى وجود خلاف بين المجموعات المتنافسة حول شرعية السلطة القائمة أو شعور بالظلم نتيجة ممارستها غير العادلة. وتبرز في كل المجتمعات التي تعاني أزمة سلطة، أدوار نوعية للمدنيين (السياسيين) وأخرى للعسكريين، متأثرين بجدلية العلاقة بين الأغلبية والأقلية أو المركز والهامش وهي ما تسم معظم النزاعات الداخلية. بينما السياسيون هم أصحاب اتخاذ قرار الحرب، العسكريون هم الذين يخوضون غمارها ويتولون عبئها. وقد شهدت ظاهرة الحروب الداخلية أو الأهلية في العالم تصاعدًا ملحوظًا في أعدادها ولا سيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، إذ وصل الأمر مبلغًا تزامن فيه حدوث أكثر من 20 حربًا أهلية في وقت واحد. تسببت هذه الحروب إنسانيًا في فقد ضحايا من الأشخاص تجاوزوا 25 مليونًا فضلًا عن ملايين النازحين واللاجيئن، بجانب الدمار الاقتصادي الذي ابتليت به هذه المجتمعات – الصومال وبورما وسورية واليمن وليبيا مثالًا – (انظر موقع ويكبيديا).
ثانيًا: المدنيون والعسكريون والسلطة
السودان ليس بدعًا من المجتمعات التي تعاني نزاعًا داخليًا مطولًا، إذ بدأ فيه النزاع بتخطيط وتدبير المستعمر البريطاني وتشكل، وتعقد وتطور بعد خروجه في عام 1956، من نزاع سلمي إلى عنيف ومسلح خلال مدة زمنية قصيرة لم تتجاوز العامين. يوثق التاريخ السياسي الوطني أن الأحزاب السياسية الطائفية (الأمة القومي/الأنصار، الوطني الاتحادي/الختمية) كانت الوريث الشرعي للنظام الاستعماري وسيطروا كليًا على السلطة والمشهد السياسي عمومًا. ثم بدأت تظهر أولى علامات التنافس غير الشريف بينهما من ناحية، وداخل كل منهما من الناحية الأخرى. وقد تبدى كل ذلك حتى قبل أن تتعلم الأحزاب السياسية مبادئ، أسس وقواعد الممارسة الديمقراطية، فخسروا السلطة وأفقدوا البلاد والشعب فرصة تعلم الممارسة الديمقراطية وترسيخ النظام السياسي الديمقراطي. ومنذ ذلك التاريخ، توالت على البلاد ثلاثة أنظمة عسكرية وشمولية تنتهي بثورة شعبية، تعقبها أنظمة انتقالية لفترة قصيرة جدًا ثم أنظمة ديمقراطية لا تصمد أكثر من عامين أو ثلاثة على الأكثر لينقض عليها العسكر بواسطة انقلاب آمن خلال ساعات فقط. بحسابات الجرد السياسي، جملة الأعوام التي حكم فيها المدنيون في ظل الأنظمة الديمقراطية لم تزد على عشرة أعوام فقط، بينما حكم العسكريون ما يزيد على 52 عامًا في حالة افتراض أن الحكومات الانتقالية لم تكن خاضعة للعسكر تمامًا. النتيجة التي يمكن الخروج بها أن المدنيون/الأحزاب السياسية فشلوا في بناء نظام ديمقراطي دستوري، بل وعجزوا عن الحفاظ على السلطة خلال كل تجاربهم رغم قوة التأييد الذي حظوا بها من الشعب في كل مرة تسلم لهم السلطة.
على وجه العموم، هناك – ربما – كثير من الأسباب التي يمكن أن يعزى لها هذا الفشل ولكن يمثل الجانب المتعلق بنشأتها، فلسفتها وبنيتها التنظيمية الأكثر تأثيرًا على توجهاتها، ومواقفها وممارستها. حيث نجدها – دون استثناء – تفتقر إلى أبسط مقومات الحزب السياسي، وتتشابه كلها باختلاف طبيعتها الطائفية أو العقائدية أو الليبرالية أو الإقليمية في كثير من المشتركات السالبة. ولعل ضعف المعرفة والإيمان بفكرة الديمقراطية نفسها وبالتالي فلسفة وجود الحزب السياسي يعتبر أكبر مهدد وسبب لفشلها في الممارسة السياسية الديمقراطية، وأيضًا في الحفاظ على السلطة لأطول فترة ممكنة. فإذا كانت فكرة الديمقراطية تقوم أساسًا على تمكين الفرد والمجتمع من تشكيل حياتهما وتوسيع خياراتهما بما يحقق لهم أفضل حياة ومستقبل، والحزب السياسي الأداة الأفضل التي توصلت إليها المجتمعات البشرية حتى الآن في القيام بهذا الدور. فما هو الحزب السياسي؟
الحزب السياسي عبارة عن مجموعة أفراد تجمعهم أهداف، وقيم، ومصالح، ولهم برنامج سياسي يسعون إلى تنفيذه من خلال وصولهم إلى السلطة تنافسًا سلميًا مع الآخرين. إذًا الأحزاب السياسية تمثل أجسامًا وسيطة بين الشعب والحكومة معنية بالمساهمة في وضع أو توجيه الأجندة السياسية والسياسات العامة التي تؤطر مصالح الشعب. وتقوم الأحزاب السياسية بوظيفتها في إطار نظام سياسي يُعلي من إرادة الشعب في الاختيار لقادته والترجيح للبرامج والسياسات التي يريد أن تطبق عليه. النتيجة، لا يتصور وجود نظام ديمقراطي بدون أحزاب سياسية، فهي بمنزلة القلب منه، إذا صلحت سلم النظام، وإذا فسدت أو تعطلت فسد النظام وعجز عن أداء وظيفته. إذ تعتمد فعالية الأحزاب السياسية في قدرتها على بلورة الآراء، والقضايا والمصالح الكلية للمجتمع والتعبير عنها والتنافس عليها (سلميًا) في إطار النظام السياسي.
يطرح هنا سؤال أساسي؛ هل الأحزاب السياسية السودانية تقترب مثالًا أو ممارسة من هذا النموذج النظري؟ التجربة والانتقادات الكثيرة الموجهة ضدها تؤكد عكس ذلك، إلا أنها تصر أن تفرض أجندتها المعطوبة والمشوهة على توجهات، مسار ومستقبل البلد. وهي تصر على القيام بهذا الدور وكيانها ينزف أرطالًا من الدماء وكأن ما تقوم به هو أعظم مهمة مقدسة تؤديها وهي في رمقها الأخير. تعود نشأة الأحزاب السياسية إلى ما قبل استقلال السودان بعشرة سنين أو أقل. تميزت نشأت أكبرها – الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي – بحظوة الرعايا الخاصة من الخارج (الدولة المستعمرة)، وبسيطرة زعامة الطائفة الدينية (الأنصار والختمية) من الداخل. الأمر الذي أسهم في التأثير سلبًا على تطور هذه الأحزاب سياسيًا وزاد من خضوعها لإرادة زعمائها – على الأقل – على حساب إرادة الشعب إن لم نقل للخارج. وذات الأمر في النشأة للأحزاب العقائدية (الإسلاميين، الشيوعيين، البعثيين) جاءت الفكرة من الخارج وتمت رعايتها إلى فترة ثم جرت محاولات توطينها، فسيطر قادتها الأوائل على نفوذها ومسارها. وربما كانت تلك الخلفية المشتركة سببًا في خلق أنماط فكرية وسلوكية متشابهة شكلًا ومختلفة توجهًا بين الأحزاب الطائفية والعقائدية، وهو ما أسهم لاحقًا في خلق ثنائيات متضادة ومسارات متوازية وسمت كل مجالات الحياة السودانية؛ سياسيًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، واقتصاديًا وغيرها. أفضل ما يشير ويجسد هذه المعاني والصور النص التالي:
(السودان منذ استقلاله يدور فيه صراع حاد بين القوى اليمينية ممثلة بالأحزاب الطائفية والاسلامية وحلفائهما، والقوى اليسارية ممثلة بالأحزاب الشيوعية والبعثية والناصرية وحلفائهما. جوهر الصراع يدور حول السلطة، ولكن تجلياته ومجالاته متعددة. ويمكن اختزالها في ثلاث قضايا أساسية؛ الوحدة الوطنية، العلاقة بين الدين والدولة، والدستور الدائم. مثلت الأحزاب السياسية برؤاها الفكرية وبرامجها السياسية، الأطراف الرئيسة للصراع السياسي. وكانت السلطة السياسية بالنسبة إلى الأحزاب، خاصة العقائدية منها، هي محل الصراع وأداته. فطرحت قوى اليمين مشروعها السياسي القائم على الإسلام، مقابل طرح قوى اليسار الذي يقوم مشروعه على فصل الدين عن الدولة (العلمانية)، ولم تتنازل أو تتفاوض أي من القوى السياسية أو تساوم على مشروعها. فاتخذ الصراع أشكالًا متعددة، أشرسها الذي يستخدم السلطة والدولة لحسم الصراع لصالح الطرف المتمكن. وكانت قضايا الوحدة الوطنية، والعلاقة بين الدين والدولة، والدستور الدائم في قلب هذا الصراع السياسي والذي غالبًا ما يحسم بأدوات السلطة الباطشة، الإكراه والعنف والحرب وليس سلمية السياسة. إن التاريخ السياسي السوداني تأكيدًا لما ذهبنا إليه، يشير إلى نمط من السلوك السياسي يسعى بالقوة إلى فرض أهمية هرمية لمسائل: العرق واللغة والدين على التوالي. ظهرت نتيجة السلوك التسلطي غير الديمقراطي من قبل الأنظمة الحاكمة والقوى السياسية المؤيدة لها (يمينية أو يسارية، إسلامية أو علمانية) في غياب أو بالأحرى تغييب المشروع الوطني الذي تتفق فيه القوى الوطنية على الكليات والمصالح الوطنية وتختلف على الرؤى والسياسات والبرامج)[5].
فالنص مرآة صادقة لما حدث وظل يحدث في السودان، والنتيجة واضحة جدًا في المصير البائس الذي يكابده بسبب الحرب الجارية بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع المتمردة، وهي أسوأ مرحلة يمكن أن يصل إليها بلد في العالم.
ثالثًا: من أشعل الحرب في السودان؟
يعتبر السؤال مشروعًا في ظل النتائج والآثار المدمرة بشريًا وماديًا للحرب، ومدخلًا مهمًا لعملية الجرد والمحاسبة السياسية والجنائية للأطراف المسؤولة عن إشعالها. والإجابة عنه لا تحتمل الاختزال أو الاتهام الأعمى للأطراف المشاركة في الحرب. السؤال أخلاقيًا هنا أكثر منه سياسيًا، ولكن لا يمكن الإجابة عنه إلا من خلال قراءة المواقف السياسية المختلفة للأطراف المدنية والعسكرية. ولعل القراءة السليمة لأسباب ودوافع الحرب وأطرافها تعود إلى الفترة ما قبل سقوط البشير وما تلاها من مرحلة انتقالية إلى لحظة اندلاع الحرب. بناءً عليه يمكن إعادة سرد الأحداث والمواقف بشكل عام بحثًا عن الأسباب والدوافع دون الخوض في التفاصيل بما يتناسب وهدف المقال.
القراءة قبل قيام ثورة ديسمبر 2018، تشير إلى حدوث صراع سياسي داخل الحزب الحاكم نتج منه – ربما – تخطيط مجموعة منه (سياسية وعسكرية) لإحداث تغيير في النظام متحكم فيه من خلال التعاون مع مجموعات محددة من داخل الأحزاب السياسية المعارضة آنذاك (مثال: أحزاب الأمة القومي، والشيوعيون، والبعثيون، والجمهوريون). ولعل الإشارة إلى العامل الداخلي وأثره في إحداث التغيير في السودان لا ينفي أو يقلل من أثر العامل الخارجي في التخطيط والتمويل والدعم السياسي والاعلامي. ولكن الفرضية الأساسية للمقال، أن شروط التغيير لا تكتمل في أي سياق اجتماعي إلا باكتمال ونضج عوامله الداخلية أولًا، ومن ثم تأتي العوامل الخارجية مكملة ومستفيدة من الأولى. وعندما تكاملت العوامل الداخلية والخارجية، نجح التغيير وأسقط نظام البشير .. ثم انقلبت المجموعات السياسية المعارضة على المجموعة السياسية والعسكرية التي خططت ونفذت معهم الانقلاب من الحزب الحاكم، ولكن هذه المرة بتعاون مع قيادة الدعم السريع ومجموعة من كبار قيادات الجيش استطاعت من خلاله الإطاحة بكل القيادات العسكرية والسياسية معًا التي خططت ونفذت معهم الانقلاب. النتيجة؛ كانت فرض قيادة الدعم السريع ممثلة بمحمد حمدان دقلو (حميدتي) نفسه كقوة مستقلة في المعادلة السياسية والعسكرية الجديدة. وفي المقابل أيضًا فرضت المجموعة السياسية المعارضة من الأحزاب التي شاركت في الانقلاب نفسها كقوة مدنية وسياسية حاضنة للنظام الجديد. أما الجيش فقد وجدت قياداته الجديدة المصعدة نفسها في وضع القيادة الفعلية للمرحلة السياسية ما بعد البشير.
النتيجة النهائية .. برز إلى الوجود ما عرف بالمكونين العسكري (الجيش، الدعم السريع، المخابرات، الشرطة) والمدني (الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والنقابات). بدأت المرحلة الانتقالية بعد تجاذبات مختلفة للأطراف في الساحة وخلف الكواليس بصيغة شراكة سياسية تجمع المكونين العسكري والمدني بتوقيعهم على الوثيقة الدستورية في أب/أغسطس 2019. ثم بدأ الصراع، الخفي والعلني معًا، بين الطرفين المدني والعسكري والذي حاول فيه الأول فرض سيطرته على الفترة الانتقالية والتخلص من المكون العسكري من خلال طرحه ما عرف بالإصلاح العسكري من ناحية، وبادعاء أن الاسلاميين – الفلول/ قادة النظام السابق – يسيطرون عليه ويتحكمون فيه وهو ما يعيق مسار الثورة والتغيير المنشود. النتيجة كانت حدوث انقلاب 25 أكتوبر 2021 والذي أطاح بالمكون المدني من السلطة وأخضعها للمكون العسكري تمامًا. وبعد أن آلت السلطة حصريًا للمكوّن العسكري أعاد المكوّن المدني تموضعه معارضًا له مدعومًا من القوى الخارجية (الولايات المتحدة والدول الأوروبية والاتحاد الاإفريقي والإيغاد). ثم لاحقًا استطاع المكون المدني وحلفائه الغربيين – إكراهًا أو إغراءً – أن يستميلوا إليهم قيادة الدعم السريع ويدفعوها إلى اتخاذ مواقف سياسية مؤيدة لهم (تبني وثيقة الاتفاق الإطاري) في مقابل محاصرة قيادة الجيش والحكومة الانتقالية معًا. النتيجة كانت أن أسهم هذا الانحياز (حميدتي) في تصعيد المواجهة السياسية بين المكون المدني ممثلًا بالأحزاب السياسية المكونة للحرية والتغيير في مقابل القيادة العسكرية للدولة إلى أن وصلت مرحلة التهديد بالحرب[6] في حالة رفضهم التوقيع على الاتفاق الإطاري والذي يهدف إلى نقل كامل للسلطة إلى المكون المدني وإبعاد المكون العسكري ممثلًا بالجيش عن العملية السياسية مع الاحتفاظ لقيادة الدعم السريع باستمرار استقلاليتها العسكرية عنه. ولما أعلن الجيش رفضه للاتفاق الإطاري وعدم توقيعه عليه إلا في حالة تحقيق الدمج الكامل لقوات الدعم السريع في الجيش وتوسيع أطراف الاتفاق لتشمل كل القوى السياسية الوطنية. وأعلنت في المقابل قيادات من القوى الاسلامية معارضتها للاتفاق الإطاري مهما كلفها ذلك[7].
قبل أيام معدودة من اشتعال الحرب، بدأت مظاهر التحشيد والاستعداد الفعلي للحرب من أطراف المكون العسكري وظهور الاختلاف حول تحركاتهم وما تستهدفه وتهدد به. ثم أطلقت الرصاصة الأولى في يوم 15 نيسان/أبريل 2023، واندلعت الحرب في الخرطوم ولم تصمت نيرانها حتى لحظة كتابة المقال. لا يجدي كثيرًا سؤال من أطلق الرصاصة الأولى؟ لأنه مضل وغير مفيد طالما الحرب اشتعلت، فالحروب لا تحدث بين يوم وليلة وانما نتيجة تراكم لمواقف وأحداث كثيرة. إنما الأهم معرفة من المسؤول عن دفع الأمور إلى أن وصلت هذا الدرك السحيق من عدم الأخلاق واللا انسانية من تقتيل وتشريد شعب، ودولة على وشك الإنهيار؟ نحتاج أن نخاطب جذر المشكلة وليس عرضها.
بقيام وتوسع الحرب بدأت مرحلة جديدة في السودان حيث تمايز الصف المدني الوطني إلى مجموعتين؛ الأولى تقف مع الجيش والشعب وتدعم بقاء الدولة ومؤسساتها، في مواجهة المجموعة الثانية التي تقف مع قوات الدعم السريع وحلفائه الخارجيين ضد الجيش والشعب والدولة. إن اتهام الاطراف المدنية السياسية بعضها البعض بأنها وراء اشعال الحرب دليل واضح على تورطهم في قيامها ودورهم في توسعها. تحالف قحت/تقدم يتهم حزب المؤتمر الوطني (المحلول) بأنه من حرض الجيش على بدء الحرب ضد قوات الدعم السريع. في المقابل يتهم المؤتمر الوطني وكثير من القوى السياسية الأخرى قوى قحت/تقدم بأنها من خطط ونفذ الهجوم على الجيش ومقارّه بهدف الاستيلاء على السلطة. فتبادل الاتهامات بين الطرفين المدنيين، في أفضل الحالات يثبت ويؤكد أنهم يستخدمون الأطراف العسكرية بشكل أو آخر في تنفيذ أجنداتهم السياسية، وفي أسوئها أنهم مجرد أدوات يلعب بها العسكر (الجيش والدعم السريع) لإحكام سيطرتهم على السلطة والتخلص منهم لاحقًا.
بالنظر إلى الشعارات التي يرفعها طرفي الحرب، الجيش والدعم السريع، يلاحَظ أنها تمثل دعوات سياسية تتبناها بعض القوى السياسية المؤثرة في المشهد السياسي. إذ يقول الدعم السريع إن حربه على الجيش والحكومة تهدف إلى القضاء على وجود قيادات النظام السابق (الفلول والاسلاميين) والعمل على فرض الديمقراطية والحكم المدني. وهي ذات الأجندة والشعار الذي ترفعه قحت/تقدم وحلفائها. بينما يطلق الجيش على حربه (معركة الكرامة) وأنها ضد قوات الدعم السريع المتمردة ومن يقاتل معها من المرتزقة الأجانب وحلفائها المدنيين. وشعار معركة الكرامة أطلقته القوى الوطنية والاسلامية التي تساند الجيش وتصطف معه في حربه ضد الدعم السريع. إذًا يعتبر طرفا المكون المدني المحركين الفعليين لتوجهات السياسة في المشهد السياسي – الاجتماعي العام بالسودان، والمسؤولين حصريًا أمام الشعب عن كل النتائج الكارثية التي وصلت لها البلاد وكان الشعب ضحيتها. لقد حرصت أطراف المكون المدني (المؤيدة للجيش أو الدعم السريع) على احتكار السلطة والقضاء على الطرف الآخر مهما كلف ذلك، واللافت أنه لا يجد حرجًا ولو كان على حساب انهيار الدولة والقضاء على الشعب كله. ترى ما الذي يبرر هذا الموقف للمكوّن المدني بحيث يكون فعلًا مقدسًا يستحق الثمن الذي يضحى به من أجله ؟!
ولما اتسمت الظروف السياسية التي صاحبت المرحلة ما بعد سقوط نظام البشير بقدر عالٍ من التعقيد لكثرة الفاعلين في المشهد العام واختلاف وتناقض توجهاتهم ومصالحهم مثلت الفترة الانتقالية تحديًا كبيرًا للقوى السياسية (المكون المدني) وللسودان ومستقبله. إذ في مرحلة الفترة الانتقالية الأولى والتي أطرتها الوثيقة الدستورية الموقعة بين المدنيين والعسكريين، ركز الفاعلون من الطرفين على خلق معادلة تحفظ وجودهم في السلطة وتمكنهم من احتكارها لاحقًا، وكل منهم وضع حساباته وفقًا للكرت الذي يضمن له التفوق على الآخر في الوقت المناسب. المكون المدني (قحت) اعتمد على القوى الخارجية والتحشيد الداخلي لمؤيديه، بينما راهن المكون العسكري (الجيش والدعم السريع) على احتكاره للقوة المسلحة. وظلت بذلك السلطة واحتكارها غاية دونها الكثير بالنسبة إلى كافة الأطراف الفاعلة سياسية كانت وعسكرية. استنادًا إلى ذلك مثل الاستفراد بالسلطة هدفًا للقوى السياسية (قحت) الممثلة للمكون المدني بوصفه الطريق الأوحد للتخلص من خصومهم الإسلاميين، وفرض أجندتهم السياسية والاحتفاظ بالسلطة لأطول فترة ممكنة. ولما كان المكون العسكري هو العقبة الكؤود أمامهم جعلت منه قوى الحرية والتغيير/ قحت (المكون المدني) خصمًا يجب التخلص منه بكل السبل ومهما كان الثمن باهظًا. وفي ذلك عملت قحت على إضعاف المكون العسكري بشق صفوفه والوقيعة بين أطرافه الأساسية وهم الجيش والدعم السريع. فنجحت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)/قحت في استمالة قيادة الدعم السريع إلى صفها وإغرائه وتحريضه ضد الجيش ومن ثم استخدامه في إضعافه واستلام السلطة منه دون مقاومة. وقد خططت قحت وقيادة الدعم السريع ومن ورائهم دول أجنبية (غربية وعربية) لاستلام السلطة من الجيش سلمًا أو حربًا، وقد كانت الحرب هي الخيار الذي لجأت إليه بعد فشل المسار السياسي الذي رسموه (الاتفاق الاطاري). اذًا القوى السياسية المدنية ونتيجة عجزها عن قيامها بوظيفتها السياسية وفق مبادئ، أسس وقواعد العملية السياسية الديمقراطية أو الانتقالية على أدنى الفروض، تسببت في توفير كل الشروط الضرورية لإشعال الحرب وأسهمت في نفخها وتسعيرها يومًا بعد يوم أملًا منها في فرض الحل الذي يحقق لها أهدافها دون النظر في كلفة أعداد الضحايا والدمار والخراب الذي أحدثته.
كتب ذات صلة:
من سلطة الهوية إلى نص التمثّل: قراءة نقدية لممارسات فكرية في السودان
السودان على مفترق الطرق: بعد الحرب.. قبل السلام
التطورات السياسية في السودان المعاصر 1953 – 2009: دراسة تاريخية وثائقية
المصادر:
.عمر الخير ابرهيم: أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزيرة، مدير المركز السوداني للديمقراطية والتنمية
[1] المفوضية السامية للاجئين بالأمم المتحدة، موقع المفوضية على الإنترنت؛ https://www.unhcr.org/ar/global-trends
[2] Rozetta Meijer: “The Role of Military in Political Transitions: Egypt a Case Study”, a Master Thesis, p. 7, Published in the internet; https://studenttheses.universiteitleiden.nl/access/item%3A2659156/view
[3] https://web.archive.org/web/20070317031517/http://www.foreignaffairs.org/20070301faessay86201/james-d-fearon/iraq-s-civil-war.html
[4] سامي الخزندار، أسباب ومحركات الصراعات الداخلية العربية، الجزيرة نت: https://www.aljazeera.net/2004/10/03/
[5] د. عمر الخير إبراهيم: (دور الأحزاب السياسية في تحقيق التحول الديمقراطي بالسودان)، مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيل، إصدار المركز الديمقراطي العربي، برلين، آذار/مارس 2022م، المجلد الرابع، العدد 15، ص 21 ــ 22.
[6] هناك فيديوهات منتشرة في السوشال ميديا لقيادات من قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) مثل؛ بابكر فيصل، مريم المهدي، جعفر حسن وشوقي عبد العظيم.
[7] هناك فيديوهات منتشرة في السوشال ميديا لقيادات من المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي مثل؛ أنس عمر والناجي عبد الله على التوالي.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.