أولاً: خريطة القوى السياسية في ليبيا بعد 2011

إثر سقوط نظام القذافي، أدت الثورة الليبية إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية الليبية بطريقة جذرية لمصلحة القوى غير الحكومية، التي أصبحت اللاعب والعامل الرئيس في المعادلة السياسية الليبية الجديدة. وتتمثل هذه القوى بالمجالس المحلية والتجمعات القبلية والميليشيات المسلحة. حيث استطاعت هذه القوى المحلية أن تسيطر على الحياة السياسية في ليبيا وتهمِّش القيادات السياسية التي كانت تشكل المجلس الوطني الانتقالي السابق، والحكومات الانتقالية المتعاقبة، وتمكنت من زيادة نفوذها، والتأثير في المشهد السياسي والأمني الليبي، على حساب بناء مؤسسات على المستوى الوطني، وخصوصاً في قطاعي الأمن والجيش.

بعد انتهاء العمليات العسكرية مباشرة، بدأ الصراع على السلطة بين القوى المحلية والنخبة السياسية في المجلس الوطني الانتقالي في مرحلة أولى، ثم المؤتمر الوطني العام (البرلمان المنتخب) في مرحلة ثانية، ما دفع بعدد كبير من القيادات السياسية البارزة إلى الخروج من المعادلة السياسية بسبب ضغوط القوى المحلية، إما عن طريق الانتخابات أو الضغط الشعبي كما هي الحال بالنسبة إلى حكومتي محمود جبريل وعبد الرحيم الكيب السابقتين.

أقر المجلس الوطني الانتقالي تكوين المؤتمر الوطني العام من 200 مقعد، قُسّمت إلى 120 مقعداً للنظام الفردي، و80 مقعداً لنظام القوائم، وُزع إجمالي مقاعد المؤتمر الوطني العام على أساس جهوي، إذ استحوذت المنطقة الغربية على 100 مقعد، والمنطقة الشرقية على 60 مقعداً، والمنطقة الجنوبية على 40 مقعداً[1]. وبخلاف ما حصل في بلدان الربيع العربي الأخرى، جاءت نتيجة التصويت على القوائم الحزبية لمصلحة التيار الموصوف بالليبرالي بزعامة محمود جبريل أول رئيس حكومة بعد الثورة بواقع 39 مقعداً، وجاءت نتائج الجبهة الوطنية المنسوبة إلى الجبهة الوطنية للإنقاذ بزعامة محمد المقريف دون التوقعات، حيث لم يحصل إلا على ثلاثة مقاعد فقط، لكنها نجحت في الحصول على رئاسة المؤتمر الوطني العام، وكذلك على رئاسة الحكومة بعد تحالفها مع حزب العدالة والبناء.

في المقابل، حصل حزب العدالة والبناء المنبثق من الإخوان المسلمين على 17 مقعداً، وحصل تياران إسلاميان آخران هما حزب الأمة الوسط بزعامة سامي الساعدي، والوطني الوسطي بزعامة علي الترهوني على مقعدين لكل منهما. وحصل حزب الاتحاد من أجل الوطن بزعامة عبدالله السويحلي المنتمي إلى مصراته على مقعدين، في حين توزعت بقية المقاعد على عدة أحزاب صغيرة بمعدل مقعد لكل منها[2]. غير أن مسار الحياة السياسية لم يبقَ محكوماً بالمؤشرات التي أظهرتها الانتخابات الأولى، بل تحكمت به عوامل أخرى أبرزها الولاءات غير المعلنة للنواب الــ 120 المنتخبين على القوائم الفردية، والذين برزت أهميتهم عقب تزايد الاستقطابات بين الأحزاب والتيارات المتنافسة والفشل المستمر للحكومة، هذا إلى جانب قوة الميليشيات على الأرض وسعيها إلى فرض جداول أعمالها القبلية والجهوية والفئوية[3].

لقد أسفرت انتخابات المؤتمر الوطني العام في يوليو/تموز2012 عن هيمنة تحالف الإسلاميين المكون من حزب العدالة والبناء – الإخوان المسلمين – والجماعة الليبية المقاتلة السابقة وقوى «جهادية» انخرطت في العمل السياسي وتحالفات قبلية وميليشيات، على مؤسسات الدولة الانتقالية، ونجحت في تقليص المساحة السياسية التي حازها تحالف القوى الوطنية ذو التوجه الليبرالي. ولم يمضِ وقت طويل بعد تشكيل الحكومة الليبية الأولى حتى بدأت شخصيات في الساحة السياسية تدفع باتجاه إدخال قانون من شأنه استبعاد كل من تورطوا مع النظام السابق وحرمانهم تولي مناصب في الحكومة وفي النطاق الأوسع للإدارة[4]. بناء عليه، جاء «قانون العزل السياسي» الذي تم إقراره في كانون الأول/ديسمبر 2012، تحت ضغط الميليشيات المسلحة التي قامت بمحاصرة وزارتي العدل والخارجية، والهادف إلى حرمان أعضاء النظام السابق المشاركة في الحياة السياسية. وقد اشتعل الخلاف بعد أن قام النواب بتجديد ولاية المؤتمر الوطني العام قبل فترة قصيرة من انقضاء فترة ولايته الأصلية في السابع من شباط/فبراير 2014‏[5].

ولا شك في أن هذا القانون سوف يكون له الأثر الكبير في الحياة السياسية في ليبيا واستقرارها، على المديين القريب والمتوسط بحسب الآلية التي سوف تعتمد من أجل الفصل بين من يستطيع أن يشارك في الحياة السياسية في ليبيا ومن لا يحق له المشاركة بموجب هذه القانون. ومع تصاعد الأزمة السياسية أعلن اللواء المتقاعد آنذاك بالجيش الليبي، خليفة حفتر، عن إطلاق ما أسماها «عملية الكرامة»، في بنغازي في 16 أيار/مايو 2014، لمحاربة الإرهابيين والتكفيريين، وتبع ذلك هجوم لقوات «الزنتان» على المؤتمر الوطني العام في محاولة لاعتقال ممثليه وحله بالقوة. في المقابل هاجمت قوات «فجر ليبيا» كتيبتي «القعقاع والصواعق» المتمركزتين منذ سنوات في مطار طرابلس الدولي وانتزعته منهما، لتبدأ مرحلة التغييرات الكبيرة. فقبل تلك العملية كان يسود البلاد صراع سياسي بين أحزاب ليبرالية وأخرى إسلامية داخل ردهات المؤتمر الوطني العام والحكومات المتعاقبة.

لكن بعد انتخاب مجلس النواب في تموز/يوليو 2014 (حل محل المؤتمر الوطني ثم قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستوريته)، أبدى المجلس، الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق، دعماً لعملية حفتر بلغ حد اعتبار قواته «جيشاً نظامياً»، ثم ضم المجلس «عملية الكرامة» إلى عمليات ما يسميه بـ «الجيش»، وقرر إعادة حفتر إلى الخدمة العسكرية، بحيث أضحى هناك حكومة وبرلمان في طرابلس وحكومة وبرلمان في طبرق، فضلاً عن قوة عسكرية هنا وأخرى هناك يسميها كل فريق «الجيش».

فمع حكومة طرابلس يصطف 11 كياناً مسلحاً، هي: «قوات فجر ليبيا»، و«درع الغربية»، و«تنظيم أنصار الشريعة»، و«درع الوسطى»، و«ثوار مصراته»، و«كتائب الدروع»، و«مجلس شورى ثوار بنغازي»، و«كتيبة راف الله السحاتي»، و«تنظيم مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها»، و«تنظيم شباب شورى الإسلام»، وأخيراً «كتيبة الفاروق».

على الجهة الأخرى، مع حكومة طبرق، يصطف 12 كياناً عسكرياً، وهي: ما يسمى «قوات رئاسة أركان الجيش»، و«قوات حرس المنشآت النفطية»، و«كتائب الزنتان»، و«درع الغربية»، و«كتائب ورشفانة»، و«صحوات المناطق»، و«كتيبة حسن الجويفي»، و«كتيبة 319 التابعة للجيش»، و«كتيبة 204 دبابات»، و«كتيبة 21 صاعقة»، و«قوات الصاعقة»، وأخيراً «كتيبة محمد المقريف»[6].

تتقاطع القوى السياسية في الساحة الليبية مع تحالفاتها من الميليشيات العسكرية، فتتشابك السياسة مع القوة العسكرية لتنتج وضعاً فريداً ومقلقاً، ويعود ذلك إلى غياب واضح وخطير لمظاهر الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية المبنية على أسس وطنية، وتقوم الدولة الليبية على ثلاث مرجعيات، القبيلة والمدينة والجهة (الإقليم). وتعبر الفئات عن ردود فعلها وقلقها عبر توظيف القوة وعمليات مسلحة واغتيالات ومحاصرة المؤسسات.

ثانياً: طبيعة جماعات العنف وتأثيرها في المشهد السياسي والأمني الليبي

ساهمت الظروف الأمنية المتردية بشكل كبير في مرحلة ما بعد سقوط نظام القذافي في ظهور جماعات العنف المسلحة، وإن كانت تلك المرحلة قد وفّرت محفزات عدة لهذه الجماعات، وتنامي دورها في المشهد السياسي والأمني الليبي، سوى أنه يمكن القول إن السياسات الأمنية التي لجأ إليها نظام القذافي طوال 42 عاماً، لمواجهة التيار الإسلامي، أدّت دوراً كبيراً في تحوله إلى العنف، خاصة في ظل دولة تسهم في بنيتها القبلية، وطبيعة اقتصادها الريعي النفطي في إضعاف جاذبية الإسلاميين كبديل سياسي[7].

لقد أصبحت ليبيا البيئة الحاضنة لاستقطاب الجماعات المتشددة ينتمي أغلبها إلى تنظيم القاعدة أو للإخوان المسلمين، وتلقت هذه الجماعات دعماً من دول عديدة مثل قطر وتركيا ما مكّنها من تكوين ميليشيات مسلحة وفرض إرادتها على الأرض بقوة السلاح، ساهمت بشكل أو بآخر في تعثر المسار الديمقراطي في ليبيا، مثل ميليشيا فجر ليبيا في طرابلس وأنصار الشريعة في بنغازي التي بايعت تنظيم داعش[8].

المعلوم أن ميليشيا فجر ليبيا منحازة إلى التنظيمات الجهادية المتشددة، وتسعى إلى فرض سيطرتها على مؤسسات الدولة، وعلى عدد من المنشآت الحيوية، حيث صدّت القوات الحكومية هجوماً مباغتاً شنته ميليشيا فجر ليبيا للاستيلاء على ما يعرف بمنطقة الهلال النفطي أغنى مناطق البلاد بالنفط، بحسب ما أفاد مسؤولون عسكريون. ناهيك بمشاركتها في المعارك العبثية ضد الجيش الوطني الليبي المناهض للإرهاب والتطرف[9].

تتوزع القوى المتنافسة في ليبيا بين تنظيمات سياسية ومجموعات مسلحة عديدة تتفاوت في توجهاتها الأيديولوجية، ومواقفها الفكرية، وقدراتها العسكرية. وتعد الكتائب والميليشيات المسلحة هي التي تملك القوة العسكرية والسياسية في البلاد، وتضم العديد من التنظيمات أهمها الجماعات الجهادية المسلحة التي ترفض المنظور الوطني للدولة الليبية، وترفع شعارات تطبيق الشريعة، ورغم أن الجماعات الجهادية أدّت دوراً ملموساً في القتال ضد نظام القذافي، فإنها مثلّت في مرحلة ما بعد سقوطه عائقاً أمام عملية بناء الدولة[10].

تعد «الجماعة الليبية المقاتلة» أحد أبرز الجماعات الجهادية المنخرطة في العمل السياسي، وأحد التنظيمات المسلحة التي تحمل فكر السلفية الجهادية[11]. بالرغم أن عبد الحكيم بلحاج وهو أكثر الشخصيات النافذة من الجماعة قال إنه تم حلها، وليس لها وجود على الأرض، على أساس أن أعضاءها انضووا تحت لواء «الحركة الإسلامية للتغيير»، وأنه يؤيد دولة مدنية ديمقراطية[12].

أما الجماعات الجهادية المسلحة الرافضة للانخراط في العمل السياسي برغم أنها شاركت في القتال ضد قوات القذافي، وهي جماعات ترفض المنظور الوطني للدولة الليبية، وتكفِّر المجتمع، وتسعى إلى تطبيق الشريعة بقوة السلاح، مستفيدة من بيئة إقليمية تصاعد فيها دور التيارات الجهادية، لا سيَّما مصر وتونس، ناهيك بضعف الدولة الليبية وعدم قدرتها على نزع أسلحة الميليشيات، بسبب التأخر في بناء المؤسستين الأمنية والعسكرية، ورفض بعض الثوار المسلحين الانضمام إليها خوفاً من تهميشهم في معادلة الثورة والسلطة المتنازع عليها. تحمل تلك الجماعات في مضمونها فكر تنظيم القاعدة، خاصة على صعيد التقارب الأيديولوجي، ومن أبرزها جماعة أنصار الشريعة، وكتيبة شهداء بوسليم، وألوية الشهيد عمر عبد الرحمن، وجماعات التوحيد والجهاد. وقد سعت تلك الجماعات إلى فرض الشريعة بالقوة في بعض المناطق كدرنة خصوصاً. كما أنها متهمة بالضلوع في اغتيال رموز نظام القذافي والهجوم على المصالح الغربية، خاصة الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي، وتدريب المتطوعين الذاهبين إلى سورية، والتنسيق مع بعض الجماعات الجهادية في الإقليم، ولا سيَّما تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي[13].

ويعد محمد الزهاوي، وهو أحد أبرز عناصر جماعات العنف الليبية، مسؤولاً عن تنظيم «أنصار الشريعة» في بنغازي، وتنامى دوره في الساحة الليبية، خلال ثورة السابع عشر من شباط/فبراير وبعدها. وبدا ذلك جلياً عندما هدد الزهاوي، باستدعاء من سماهم «أهل التوحيد» من كل أنحاء الأرض لمواجهة حفتر، خصوصاً بعد أن أطلق ما سماه «عملية الكرامة» في شرق ليبيا في أيار/مايو 2014، لمواجهة التطرف والإرهاب، ويضم أنصار الشريعة في صفوفه بجانب الليبيين، مقاتلين من جنسيات عربية أخرى، خصوصاً تونس والجزائر.

سياسياً، يرفض الزهاوي الديمقراطية، ويقطع بأنها تخالف الشريعة الإسلامية، وينظر إلى المشاركين في الانتخابات على أنهم معادون للإسلام، ناهيك بالهجوم على التيارات السياسية غير الإسلامية، وبخاصة الليبرالية التي يساويها بالعلمانية التي هي مرادفة للكفر لديه. وبالتالي يرى أن المسار السياسي بعد الثورة الليبية مجرد صنيعة غربية لإبعاد البلاد عن الإسلام.

جدير بالذكر أن الزهاوي دعا إلى إقامة دولة إسلامية في شرق ليبيا، حيث يرى أن مسألة تحكيم شرع الله تمثل منطلقاً أساسياً لجماعة المسلمين، وأن تطبيقها يعد حداً فاصلاً بين دارَي الكفر والإيمان، وبالتالي يربط بين تطبيق الدولة الليبية للشريعة الإسلامية، وتخلي تنظيمه عن السلاح[14].

إن نجاح المسار الديمقراطي في ليبيا يتوقف على نبذ الجماعات المتشددة للعنف والإرهاب وإلقاء السلاح، والانخراط في العمل السياسي والمساهمة في الحفاظ على أمن المدن من منطلق أنهم ليبيون يمكن أن تتحول طاقاتهم إلى عمل نافع يسهم في تعزيز أمن البلاد وتطورها.

ثالثاً: عوامل تعثر المسار الديمقراطي في ليبيا

ترافقت العوامل الداخلية، وبصفة خاصة الاعتبارات القبلية والمناطقية وما ترتب عن سلوكاتها من نشوء تشكيلات لجماعات تنتهج العنف في ترجمة مظالمها ومطالبها، مع بعض العوامل الخارجية، المتمثلة بتقديم الدعم لقوى خارجية في الصراع بين قوى سياسية ليبية لمصلحة طرف دون آخر، مؤدية إلى مزيد من تصاعد أعمال العنف وتفاقم الأزمة السياسية في ليبيا. جملة تلك العوامل كان لها أثر مباشر في تعثر المسار الديمقراطي.

1 – عوامل داخلية

بينّت مرحلة ما بعد سقوط نظام القذافي وضعية ليبيا على أنه بلد غير مستقر وتسوده التنافسات السياسية والأيديولوجية القاسية، ووليدة التجربة ما ينذر بدخول البلاد بين المجهول ومخاطر الفوضى. وأفرز الوضع الليبي عدة ظواهر، أبرزها التدهور السياسي وفقدان الأمن وانتشار الميليشيات والسلاح خارج إطار الشرعية، وغياب الخدمات واستشراء الفساد وتصاعد الأزمات السياسية وضعف المؤسسات خصوصاً الأمنية والعسكرية، ورافق ذلك تحولات بنيوية في طبيعة الحكم قادت إلى تبلور طبقات سياسية منفصلة عن بنية المجتمع نفسه، ومنها نجد فقدان ثقة المواطن بالنخبة، وفقدان الثقة بين النخب، وفقدان الثقة بين المكّونات[15].

وهكذا سقط نظام القذافي ليترك مجتمعاً منقسماً، تسوده فوضى سياسية، وهشاشة مؤسساتية، وقلق على المستقبل في ظل غياب مرجعية متفق عليها، وفي ظل طبقة سياسية تتصرف بناءً على مصالحها الضيقة، وهي الإرث الذي خلّفه نظام القذافي، في حين أن الليبيين كانوا بحاجة إلى دولة المؤسسات الديمقراطية الحديثة والمجتمع المدني، إضافة إلى دولة قوية تكمن في مؤسسة عسكرية وأمنية تتكون في إطار الشرعية المنبثقة من الإرادة الشعبية الجديدة بعيداً من المحاصصات المناطقية والفئوية، لا أن نستبدلها بالعصابات التي تمارس عمليات التخريب الآن، أو خيار عسكري يعود بنا إلى الحقبة السابقة، وهذا جزء من سيناريو تشويه المكسب الثوري وإطاحته. كما هم بحاجة أكبر إلى هامش كافٍ من الوقت لنجاحها وليس بحاجة إلى دولة الميليشيات التي تصنع وتفرّخ بعيداً من الأجندة الوطنية.

إن ما جرى، وبخاصة في الآونة الأخيرة، من أحداث الاقتتال المتكرر بين المسلحين، خصوصاً حول مطار طرابلس العالمي بين مناطق مصراته والزنتان وما صاحبها من أزمات متتالية، هي تعبيرات عن حراك ينم عن توتر لا ينبغي تجاهله. هذا التوتر يعكس هوة بدا من الواضح أنها باتت تفصل بين السلطة والناس، فقد اتضح تماماً أن السلطات الانتقالية لا تمتلك حتى الآن أي سلطة مدعومة بالقوة إلا السلطة المعنوية أو الأدبية، حيث لا يمكنها إقرار البرنامج الانتقالي على الأرض من دون الحصول على توافقات، إذ جعل موقف القوى السياسية المختلفة وفئات الثوار من توافرها أمراً صعب المنال[16].

علاوة على ذلك، هناك مخاوف أن تُضرب المصالحة الوطنية عرض الحائط نتيجة لقانون العزل السياسي، الذي تم إقراره تحت تهديد السلاح ومحاصرة واقتحام وزارتي العدل والخارجية من قبل الميليشيات المسلحة. إن ما عرف بقانون العزل السياسي يغامر ليس فقط بتوفير الظروف الملائمة لنشوء معارضة قوية، بل إنه يفتح الباب لانقسام أكثر تتضاءل أمامه القدرة والرغبة في التسامح، وهو ما يعرّض الديمقراطية الناشئة للخطر؛ خصوصاً إذا اعتمد منهج واسع في تنفيذه، ما يؤدي إلى تهميش جزء كبير من الشعب الليبي ويهدّد وحدته. لقد بدأت تداعيات هذا القانون واضحة في عدد من الأزمات الأخيرة[17].

كما أصبح الإرهاب والتطرف الديني يشكل خطراً يهدد مسار التحول الديمقراطي في ليبيا إلى درجة أنه يهدد وحدة وكيان الدولة، وأن استمرار انتشار الإرهاب والتطرف وعدم محاربته بكل الوسائل المشروعة قد يتسبب في تعطيل أو تجميد عملية التحول الديمقراطي وقد يقضى عليها تماماً، وخصوصاً أن ليبيا لم تزل تعاني غياباً واضحاً في الأمن وانتشار فوضى السلاح والميليشيات خارج سلطة الدولة.

لقد أضحت أزمة الشرعية في ليبيا هي محور الصراع السياسي بين أغلب المكوّنات، فعدم استقرار الوضع السياسي أثناء عملية التحول الديمقراطي أدى إلى استمرار الصراع والتنافس السياسي حول الشرعية ما بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية والقانونية، خصوصاً في ظل التنافس الحاد بين مجلس النواب في طبرق، والمؤتمر الوطني العام في طرابلس بعد إصدار المحكمة الدستورية بعدم شرعية مجلس النواب الذي زاد من تفاقم الأزمة السياسية في ليبيا، ناهيك بتراجع الفكر الديني المعتدل وضعف خطابه، فكلما فشل الفكر الديني المعتدل في أن يكون الضابط للخطاب الديني السائد وأن يكون المرجعية للتيارات الإسلامية السياسية، كلما زاد انتشار الخطاب المتطرف في مواجهة الخطاب الديني المعتدل سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، وبالتالي ساعد على توفير المناخ الملائم لتنامي خطر الإرهاب والتطرف، ما يهدد العملية الديمقراطية بأكملها، كون الفكر المتطرف هو أحد العوامل والأسباب التي أوجدت الإرهاب والتطرف[18].

2 – عوامل خارجية

لا شك في أن للعامل الخارجي أثراً كبيراً في ما تمر به ليبيا من عدم الاستقرار وغياب الأمن، وحضور العنف بأبشع صورة، ليزيد من تعقيدات الوضع الداخلي وصعوبة تحقيق المصالحة الوطنية بين الفرقاء السياسيين في ليبيا.

ففي سياق العبث الخارجي الذي يلعب بعيداً من اعتبارات المصالحة الليبية وأهميتها في معادلة الاستقرار والأمن الداخلي، أكدت تقارير استخباراتية أن ثمة دوراً لبعض البلدان العربية في ما يحدث في ليبيا، رغبة منها في السيطرة على الحركات المتشددة، وحرصها على كبح نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا. ناهيك برغبة هذه الأطراف الجامحة إلى تبديد المخاوف الثورية على تخومها، وحشر الربيع العربي في زاوية ضيقة. وترصد هذه التقارير دعماً مالياً ولوجستياً لتحركات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بالتوازي مع الدعم الاستخباراتي والتقني[19].

وقد أفاد مسؤولون أمريكيون بأن طائرات إماراتية مستخدمة قواعد عسكرية في مصر نفذت غارات جوية على متشددين في العاصمة الليبية طرابلس في آب/أغسطس الماضي. لكن مصر من جانبها نفت ضلوعها في الغارات. ولم يرد أي تصريح مباشر من الإمارات[20]. ورأى تقرير وكالة أسوشيتد برس الأمريكية أن التدخل العسكري المصري يعزز فكرة أن ليبيا أصبحت ساحة معركة بالوكالة لصراعات إقليمية أكبر (تركيا وقطر بدعمها للمتشددين الإسلاميين، ومصر والسعودية والإمارات والجزائر بدعمها اللواء المتقاعد خليفة حفتر)[21].

أدت العوامل السابقة في مجملها إلى تصاعد أعمال العنف القبلي والمناطقي، حيث سجلت العديد من المدن حدوث انتهاكات كثيفة لحقوق الإنسان، وخصوصاً في منطقة قبائل ورشفانة جنوب طرابلس وككلة في الجبل الغربي، الأمر الذي دفع المفوضية العليا لحقوق الإنسان إلى إرسال محققين لتقصي الحقائق وإجراء تحقيقات في الانتهاكات التي ارتُكبت في أثناء أعمال العنف التي وقعت مؤخراً، ولم تقتصر تداعيات الأزمة على الأوضاع السياسية، بما في ذلك تدهور الأوضاع الأمنية والاستقرار في البلاد فحسب، بل شملت أيضاً الظروف المعيشية والأوضاع الاقتصادية للمواطنين، من نقص في الوقود والغذاء وارتفاع في الأسعار.

رابعاً: التجربة الليبية المعاصرة في عملية الانتقال الديمقراطي

بعد سقوط نظام القذافي في أواخر 2011، تطرح التجربة الليبية جملة من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية الداخلية التي رافقت السنوات منذ ما بعد التغيير والفشل في تقديم حلول ومعالجات جادة لها. وتعدد التدخلات والتأثيرات الخارجية بأنواعها المختلفة، الإقليمية والدولية والأممية.

كل ذلك ترك، ولا يزال، وسيترك آثاراً في مجمل أوضاع المشهد الليبي الذي يتميز بحالة من عدم الاستقرار ودوامة العنف والتوتر وإنتاج وإعادة إنتاج الأزمات بأنواعها المختلفة. ولكن ذلك لا يلغي عدة حقائق جديرة بالاهتمام يجب الإشارة إليها:

القضية الأولى: في العام 2011 سقط نظام مستبد، حكم ليبيا لأكثر من اثنين وأربعين عاماً، ومارس أبشع صنوف القمع والتنكيل بحق الليبيين، سواء في الداخل أو الخارج، وافتعل الأزمات والحروب مع الدول المجاورة. وبسقوط النظام المباد طويت صفحة الدولة الشمولية التي استمرت لأكثر من 42 عاماً (1969 – 2011).

القضية الثانية: منذ العام 2011 حتى الآن أنجزت خطوات مهمة غيّرت طبيعة والنظام السياسي وشكله الذي تحول من الاستبداد باتجاه الديمقراطية، وما رافق العملية السياسية من مكاسب مهمة كالتعددية السياسية والحزبية. لقد أجرت ليبيا أول انتخابات ديمقراطية في سابقة هي الأولى من نوعها بعد أكثر من نصف قرن في تموز/يوليو 2012، وتم انتخاب مؤتمر وطني من 200 عضو ليتولى قيادة المرحلة، كما حددتها خريطة الطريق بالإعلان الدستوري المؤقت[22]. وبدأت قوى سياسية مختلفة بالتعبير عن نفسها بأشكال وتعبيرات وتمثلات متعددة، بولادة أشكال ومستويات مختلفة من العمل السياسي الحزبي أو المجتمع المدني؛ حيث تشهد الساحة ولادة منظمات وتنظيمات جديدة باستمرار[23].

إلا أن انتخاب مجلس النواب في 25 حزيران/يونيو 2014 وما أسفر عنها من نتائج، والتي أظهرت عن هزيمة ثقيلة للجماعات الإسلامية وصعود وجوه مدنية بالأساس، أدت إلى اندلاع الاضطرابات وتصاعد أعمال العنف التي شهدتها مدن ليبية عدة.

وعكس الاقتتال الدائر في طرابلس وبنغازي مدى الانقسام الذي وصلت إليه النخب الليبية وحجم التصدع في النسيج الاجتماعي الذي تنامى بين عدد من المدن الليبية بسبب التصارع على مراكز السلطة والموارد والنفوذ. هذا الصراع تسبب في خسائر مادية وبشرية أثرت في حياة المواطن وأصبح يهدد بدخول البلاد في نفق مظلم من التجاذبات والاقتتال في ظل تعنُّت الأطراف المتقاتلة التي لم يستطع أي منها الحسم لمصلحتها حتى اللحظة، وما سيترتب عنه إطالة أمد الصراع، ما يهدد تماسك الدولة الليبية وسيادتها.

في ضوء ذلك يمكننا القول إن ليبيا تمر بمرحلة انتقالية، ترافقها مجموعة من المشكلات وعلى مختلف الصعد. هذا التحول أنتج – إضافة إلى المكاسب التي تمت الإشارة إليها – ديمقراطية هشة، وأزمة ثقة بين القوى السياسية والمكونات الاجتماعية. فالديمقراطية في ليبيا ما زالت في طور التخلص من ذهنية ما قبل الديمقراطية. لأن الديمقراطية لا تعني مجرّد انتخاب، وإنما هي منهج وقيم وحالة ثقافية لا تلقينية، إنها تفترض تأطير النوازع السلطوية البدائية وكبحها، وهذه عملية تتحقق بالتمرين والمراس، وتقود إلى نظام حكم يقوم على الترتيبات المؤسسية والاجتماعية الأساسية التي تشيّد هيكلية آليات الحكم وتحدد وسائل ومضمون العلاقات بين الدولة والمجتمع على أسس ديمقراطية[24].

كما إن عملية الانتقال الديمقراطي تتطلب بيئة اجتماعية حضارية ترفض همجية العنف لمصلحة التعامل السلمي، وترفض التفرد بالقبول بالتعددية، وتقوم على بناء دولة قانون ذات مؤسسات سياسية واجتماعية قوية تحترم إرادة الناخبين من خلال تكريس التعددية السياسية ومبدأ التداول السلمي للسلطة. لكننا في التجربة الليبية افتقدنا مثل هذه السياسة. لقد شهدت البلاد الصدامات المسلحة، وغيرها بين مختلف الجماعات التي كانت توحدت في مواجهة نظام القذافي، هذا الصراع يتميز بغياب القادة الملتزمين بالديمقراطية، فيما ارتفع عدد الحوادث المرتبطة بهذا الصدام والصراع على الموارد والوظائف والزعامة.

لا يبدو أن الطبقة السياسية الموجودة الآن التي تشكل المؤسسات الانتقالية، تعكس ما يمكن أن نسميه التوجه العام المجتمعي، بل تعبر عن توجهات مختلفة ونزعات متعلقة بالأطراف التي تنافس المركز، وتعبر عن مصالح فئوية متنوعة وتغلب عليها روح الحصول على المكاسب، وهو ما يرسّخ القبلية والجهوية والشخصنة وغيرها من الممارسات، بما يؤدي إلى المزيد من الانقسامات، فيجعل الطريق نحو الديمقراطية متعثراً ومليئاً بما هو أكثر من العقبات والتحديات[25].

خامساً: فرص نجاح الانتقال الديمقراطي في ليبيا

في ظل استمرار تصاعد أعمال العنف، بذلت العديد من الجهود الدبلوماسية لتسوية الأزمة، وعودة الهدوء إلى المشهد السياسي والأمني الليبي، وفي هذا الاتجاه برزت محاولات أممية عديدة من أجل لمّ شمل فرقاء العمل السياسي، ودعت كل الأطراف إلى حل النزاع عبر الحوار بما يسهم في الحد من عبث فوضى جماعات العنف.

وسعياً منها لإيجاد مخرج للأزمة الليبية الراهنة بعد فشل حوار «غدامس 1» أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا من خلال مبعوثها الخاص إلى ليبيا برناردو ليون عن اعتزامها الدعوة إلى جولة جديدة من الحوار السياسي بين الأطراف المعنية، في كانون الأول/ديسمبر 2014 بهدف إيجاد حل سريع وعاجل للوضع المتأزم في ليبيا، حيث قالت البعثة إنها تواصلت مع جميع الأطراف في محاولة منها للتوصل إلى إنهاء الأزمة السياسية والأمنية في البلاد من خلال الحوار، ودعت جميع الأطراف المؤثرة لبذل المزيد من الجهود لوقف العنف والاقتتال وإتاحة المجال أمام الحوار الذي سيشارك فيه جميع الفرقاء[26].

في السياق ذاته، دعا د. علي الصلابي عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أطراف الأزمة الليبية إلى ضرورة الجلوس إلى طاولة الحوار لحل الخلافات وإلى عدم الارتهان للخارج، وأدان الدور الذي تؤديه دول إقليمية لعرقلة الحوار الليبي الداخلي، مرحباً بالدور الجزائري في رعاية الحوار الوطني الليبي، مشيراً إلى الدور الإيجابي الذي يمكن للجزائر أن تؤديه في حل الأزمة السياسية[27].

وقد رجح مراقبون فشل حوار «غدامس 2» في ظل تعنت الأطراف المعنية وإطلاقها شروطاً تعجيزية، حيث اعتبر مجلس النواب في طبرق أن تمسك ميليشيا فجر ليبيا بشرعية المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته سيساهم بشكل كبير في عرقلة المشاورات من أجل بلورة حلول عاجلة للأزمة، فيما اعتبر الطرف المقابل أن مجلس النواب قد انتهت شرعيته بحكم المحكمة الدستورية، غير أن الكثير من المحللين السياسيين فنَّدوا هذا الحكم بالقول إن حكم المحكمة كان نتيجة لضغوط المتشددين بقوة السلاح[28].

تمثل فرصة الحوار الوطني التي أضحت الشغل الشاغل للساحة السياسية الليبية الآن، فرصة ذهبية لجميع الأطراف، وهي مطالبة بالالتفاف حول الحوار كأضمن الطرق نحو إنجاح الانتقال السياسي. فأوضاع ليبيا الراهنة لم تعد تحتمل مزيداً من الصراع، لذلك ينبغي أن يعمل الجميع على إنجاحها، حتى يتوقف نزف الدم والموارد التي أصبحت السمة الغالبة على حال البلاد.

إن فرص نجاح الحوار الوطني تتوقف على مدى التنازلات التي ينبغي أن يقدمها الأطراف المتحاورون، ومدى المرونة التي يجب أن تبديها الأطراف السياسية والمسلحة. حتى لا تضيع هذه الفرصة التي يبدو في حال فشلها أن البلاد ستنزلق إلى مستنقع الفوضى.

وعلى جميع الأطراف السياسية والحركات المسلحة أن يكونوا حُصفاء في هذه المرحلة الحرجة، وأن يتسموا بالمرونة التي تضمن أمن البلاد واستقرارها، وعلى وجهاء وحكماء القبائل أن ينشطوا في أداء مهمتهم التي ينتظر الشعب والوطن منهم أداءها، وهي أن يكونوا مقربين لوجهات النظر بين الفرقاء السياسيين. من هنا يصبح نجاح عملية الانتقال الديمقراطي مرهوناً بعملية التوازنات والتوافقات. هذه التوازنات والتوافقات تبدو أصعب نيلاً بفعل تراكمات ما جرى في مرحلة الثورة، مثلما يجعلها التدخل الخارجي هدفاً صعب المنال، على جميع المستويات، وتسير إلى كثافته وتقر بوجوده كل أطراف اللعبة السياسية.

تبدو آفاق نجاح الانتقال الديمقراطي في ليبيا رهينة لهذه الأنساق من القيم السائدة، وهو ما يجعل تمكُّن الليبيين من إنجاح العملية الديمقراطية محفوفة بالمخاطر.

ومن هنا ضرورة التشديد على مجموعة من القضايا أهمها:

1 – أهمية توافر إرادة سياسية لدى الأطراف، تتبلور في إطار بناء مؤسسة أمنية وعسكرية وفق أسس وطنية بعيداً من الولاءات والمصالح الفئوية والمناطقية الضيقة، والاهتمام بقضايا الأمن والخدمات، ومحاربة الفساد والإفساد.

2 – السير على نهج التعددية السياسية من أجل الوصول إلى تعددية حزبية حقيقية، وخلق واقع ديمقراطي يتجاوز القبلية والمناطقية.

3 – مصالحة وطنية شاملة بين كل الأطراف الليبية من أجل تحقيق الديمقراطية الحقيقية، والانتقال الديمقراطي السليم.

4 – اعتماد خطاب إعلامي وسياسي يقوم على العقلانية والتسامح وعدم تأجيج المشاعر والكراهية، وتعزير رؤية التعايش المشترك في إطار احترام التباين في الرؤى.

5 – عدم إغفال دور الجماعات المتشددة في تحرير البلاد من قبضة النظام السابق، ومساهمتها في المحافظة على أمن المدن، والانطلاق من فرضية أنهم ليبيون يمكن أن تتحول طاقاتهم إلى عمل نافع يسهم في تعزيز أمن البلاد وتطورها.

6 – حث جماعات العنف المتشددة على التحول إلى مؤسسات مدنية تعبّر، كيفما شاءت، عن أفكارها بشكل سلمي، ويتطلب ذلك تبني استراتيجية متعددة الآجال، الطويل منها والقصير، تتضمن تطوير مناهج التعليم، وتطوير وسائل الإعلام، وتحقيق العدل الاجتماعي والاقتصادي والشفافية والمحاسبة، وحفظ الحقوق السياسية والمدنية واحترام القيم والمبادئ الإسلامية، وتضمين كل ذلك في دستور لكل الليبيين.

7 – الحرص على عدم تدخل القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، والغربية بشكل خاص، في السياسات الداخلية والخارجية للنظام الجديد في ليبيا، بما يسهم في تحقيق مصالحة وطنية بين كل مكونات المجتمع الليبي.

خاتمة

كارثة الأوضاع الأمنية التي تمر بها ليبيا في ظل غياب المؤسسة العسكرية الفاعلة المبنية على أسس وطنية تركت الساحة الليبية مرتعاً لفوضى جماعات العنف والميليشيات المسلحة المتناحرة على اختلاف مسمياتها بأبعادها السياسية والمناطقية وفق حسابات ضيقة الأفق، ما ساهم في تعثر المسار الديمقراطي، وجعل الساحة الأمنية أكثر انكشافاً على تجاذبات إقليمية ودولية تحاول تسجيل وقائع ترجح كفة توجهاتها المصالحية، في ضوء الحراك الشعبوي التي تمر بها الساحة الليبية، كل ذلك يستدعي الاهتمام بإعادة بناء المؤسسة العسكرية وفق أسس وطنية لتجنيب البلاد ويلات استمرار العنف، حيث إن أكبر تهديد في الواقع يتصل بالفشل في عدم التوصل إلى توافقات حول التوجهات والمسائل الرئيسية المتصلة بالانتقال الديمقراطي، الذي يبدو مهدداً باستمرار الانتهازية السياسية لأطراف اللعبة الداخلية متمثلة بجماعات العنف المتشددة الواقعة تحت تأثير العامل الخارجي.

أحد أهم محددات النجاح يتعلق بالتنبّه إلى الانكشاف الأمني والسياسي الناتج من صراع بين قوى ثورية وقوى انقلابية تسعى إلى العودة إلى السلطة مستفيدة من نهم التدخل الخارجي الكبير لتثبيت أركان قوتها في الساحة الليبية. أما الأمر الأكثر أهمية، فيتعلق بحدود قدرة النظام السياسي في ليبيا على بناء بيئة ديمقراطية تقلص اللجوء إلى العنف.

إن نجاح ليبيا في إتمام عملية ديمقراطية حقيقية بعد ثورة 17 فبراير والتغلب على حالة الاستقطاب الحالية، سيكون فارقاً في إعادة تعريف السيناريو الديمقراطي، ويعتمد قدرٌ كبيرٌ من مستقبل الديمقراطية على مخرجات حالة الاستقطابات والتجاذبات الراهنة بين بعض تيارات الإسلام السياسي والتيارات العلمانية والتي ستمثل اختباراً حقيقياً لمدى قدرة النظام السياسي في ليبيا على دمج جماعات العنف في العملية السياسية، فضلاً عن قابلية هذا التيار للاندماج التعددي أساساً.

من الحكمة أن يتمسك الجميع بالديمقراطية كآلية للحكم والحوار ونبذ العنف مع احترام حق التعبير والاختلاف، فبلا الديمقراطية لن نستطيع بناء «الدولة النموذج». وليبيا اليوم تحتاج إلى بناء اتفاق وطني عام على من يحكمها، وتحييد العامل الخارجي في صياغة مستقبلها، بما يجذب ولاءات المواطنين من مختلف المناطق والقبائل، ويكرّس لدولة القانون، مع ضرورة أن يترفع الجميع عن المصالح الخاصة، ويغلّب المصالح الوطنية العليا للبلاد والتكاثف حول خريطة طريق واضحة لإنقاذ البلاد من الدمار والسير نحو مستقبل أفضل لشعبها.

 

قد يهمكم أيضاً  السخرية السياسية زمن التحول والعنف: قراءة في الرسائل النصية الليبية بعد القذافي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #ليبيا #الأوضاع_الأمنية_في_ليبيا #الميليشيات_الليبية #ليبيا_ما_بعد_القذافي