مر عام على حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة وما زالت السجالات الإيبيستيمية في العلوم الاجتماعية حول آلية تشخيص ما يحدث في قطاع غزة، وعن كيفية تصنيفه وأدوات فحصه وأي مفهمة قد تكون ناجعة مستمرة بين التيارات التي ما زالت تقع تحت الاحتكار الضحووي الذي يتعامل بانتقائية مع حالات تاريخية معينة؛ بين تيار يرفض حتى استقدام هذه المقاربات وبين تيارات ترى ضرورة ولادة انفكاك هذا التغييب المعرفي. على مستوى العالم، وفي سياقات أخرى، ثمة حروب طاحنة أديرت وما زالت تدار حول تصنيف الفظائع التي ارتكبت خانة الإبادة الجماعية. في سياق عدد المجلة، رغم أن كل المعطيات الآتية من ميدان القتل والتوحش بالمعنى البحثي تُظهر مشروعية الاستخدام، وبل بأحقية عقد المقارنات التاريخية وإنهاء الاحتكارات الضحووية للاستخدام بحالات محددة. وتفتح الباب مشروعًا لإعادة التفكير بفرادة التجربة التاريخية للهولوكوست والعقدة التاريخية لمعالجتها من قبل الكثير من الباحثين في العالم. ما زال الكثير من المنظرين العالميين منشغلين بإنكار تطبيق مفهمة الإبادة الجماعية على حرب الإبادة على قطاع غزة تحت ذرائع الموضوعية والحياد المعرفي والحجية؛ طارحين أسئلة على شاكلة هل ممارسات »إسرائيل» في قطاع غزة جرائم قد ترقى إلى الإبادة الجماعية؟ وذلك في الوقت الذي أضحى فيه قطاع غزة مختبرًا لطحن الكرامة الإنسانية على نحو فرجوي، وكذلك معملًا للعنف الإبادي. يتخلله إبادة عامة تشمل إبادة ما يقارب ٣ بالمئة من السكان، الأحواز المعيشية والحميمية، وإبادة الأحواز المكانية، وإبادة التاريخ الثقافي ومس ذاكرات المدن وهويتها، وتهديم الموروث المعماري لمدن قطاع غزة ومعالمها، وإبادة الجماعات العلمية والتربوية والمجتمعية والصحية؛ وإبادة الجسد ومحاولة السيطرة عليه وسرقة الأعضاء، ومجمل السياسات الصحية الإبادية، وسياسات الموت والحياة وتمظهُرات التوحش فيها.

يمكن تعريف الإبادة الجماعية على أنها عملية تهدف إلى التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة اجتماعية توصف بأنها مختلفة أو دونية. وهي تنطوي على تعريف جماعة ما، ووضع حد (سياسي أو اجتماعي أو ديني) لها. والتي يمكن أن تحدث على مدة طويلة – أو قصيرة – من الزمن. وقد تكون الإبادة تعني الإماتة العامة من خلال القتل والتدمير المادي أو الرمزي لجماعات معينة. يسعى البعض إلى الاهتمام بمظاهر محددة من القتل والإبادة ذات الطابع العيني أي الاهتمام بعدد الضحايا؛ ليصبح المعيار لاستدعاء مفهمة الإبادة الجماعية. بينما ترشدنا العلوم الاجتماعية أنه يمكن النظر إلى الإبادة الجماعية عبر تذكر بعض الأعمال المؤسسة التاريخية مثل عمل كريستوفر براونينغ مؤلف كتاب رجال عاديون (Ordinary Men)اا(Browning, 1993) أو كما في حقل علم النفس الاجتماعي، مثل عمل ستانلي ميلغرام (Milgram, [1974]; Milgram, 2017)، على نحو يمكننا من فهم الإبادة الجماعية، والمجازر على نحو أعمق من خلال مقاربات متعددة التخصصات في سياقات تاريخية مقارنة؛ كما فعل ديدي فاسان  (Fassin, 2023)  الذي أجرى مقارنة الإبادة الجماعية لشعبَي الهيريرو والناما مع الحالة الإبادية الفلسطينية وتركيزه على التشابه البنيوي.

نهتم هنا بالإبادة الهادفة إلى محاولة القضاء على مجتمع، أو منطقة ما، شاسعة إلى حد ما، تسيطر عليها أو تشتهيها قوة ما ومرتبطة بفكرة «تطهير» أو «تنقية» هذه المساحة من وجود الآخر، الذي يُعَدّ غير مرغوب فيه. ولذا فهي مرتبطة بصورة عضوية بمفهوم «الاستئصال» لأن في أصله يشير إلى فكرة «قطع الجذور»، «الاستئصال من الأرض»، أو بقول آخر «الاجتثاث»، كما نقول عن نبتة شريرة أو مرض معدٍ. وهي تعني كذلك إنفاذ العنف المفرط كشكل من أشكال الأفعال التي تقع في «ما وراء العنف» التي تتسم بالتطرف غير المحدود. ويشتمل هذا المصطلح على نوعين مترابطين بفعل التدمير والعمل على الإخفاء الجماعي للسكان المدنيين أو العزل (المذابح والترحيل). ويشير العنف المتطرف، بتعريفه على هذا النحو، إلى ظاهرة كمية (عنف جماعي) ونوعية (أفعال تهدف إلى الإضرار بالسلامة البدنية أو النفسية لفئة من السكان. ومن المفارقات أن استخدامها يعني البقاء في مستوى من العمومية والتجريد. وأن ممارسات القسوة التي تكمن في صميم العنف الشديد مرتبطة برغبة الجناة في إلحاق أقصى قدر من المعاناة الجسدية و/أو النفسية بضحاياهم. وفقًا لـ فيرونيك ناحوم – جراب  (Nahoum-Grappe 1996: 273- 323)، فإن القسوة تنطوي على شيء يتجاوز العنف، بوصفها قسوة تتجاوز الهدف.

ومن الضروري حسبان عواقب الخطاب الذي نبنيه عن الآخرين موضوعًا للدراسة كما يبين بوين (Bowen 2002a: 382-395) وبالنظر إلى هذا الاستحضار في الإبادة الجماعية يعمل على استجلاب خطاب الحيوانية، وليس المقصود حيوانية الحيوان، بل هي حيوانية الإنسان المحروم من إنسانيته؛ بالنظر اليه كأقل من حيوان ممثل لجنسه، أي إنسان من دون ما يربطه بنفسه وبالآخرين. هذا الاستدعاء هو في صلب مصوغات قادة الاستعمار في الحرب الإبادية المستمرة. وتشير بصورة جلية إلى اللاإنسانية أي إلى نزع إنسانيتهم، والميل إلى التسبب في المعاناة من طريق إثارة الألم الذي يجب أن يصل إلى ذروته، ويصبح العنف عندئذٍ نهايته، يتجلى هذا النوع من العنف من خلال عدة أنماط غير حصرية من الفعل: الاستيلاء على الأجساد (الاغتصاب، إخفاء الجثث، عمليات تهدف إلى قطع أجساد الضحايا ومحوها؛ تعريض المعاناة و/أو الموت: إما من خلال تمثيل الرعب أو من خلال حالات يتم فيها تعريض جسد الضحية على نحو مشهدي فرجوي، تدنيس الأماكن المقدسة للآخر (تدمير ونهب القبور، القتل في الأماكن المقدسة، إلخ). ترتكز هذه الأنماط من الأفعال على الرغبة في التسبب في المعاناة على مستوى عالٍ جدًا من الشدة، ولكن أيضًا في محاولة خلق حالة ذهنية وسلوكية معينة تعتمد على اللذة، أو حتى الاستمتاع، التي يثيرها الألم، والتي تأخذ شكل ضحك أو سخرية أو، على الضد، غياب تام للمشاعر أو العواطف. تظهر هذه المحددات في جل العمليات التقنية في الإبادة الحالية.

من المؤكد أن ثمة غزارة في الاستخدام القانوني لمفهمة الإبادة الجماعية بمعناها الإجرائي منذ شيوع الاستخدام عبر مساهمة ليمكن (Lemkin, 1946: 212-222) أي التركيز على خصائص الإبادة بالمعنى القانوني. في حين تهتم المقاربة التي نسعى إلى التركيز عليها كيفية قراءتها كعنف دائم، والتي أسميها «عنف شامل» تحتوي بداخلها على الإبادة كأحد تمظهراتها. يشير العنف المتطرف في سياق الحرب إلى مجموعة واسعة جدًا من الممارسات المرتبطة بأشكال وحشية من الأفعال المتفاوتة الشدة والحدة؛ ولا يكون للصفة «المتطرفة» معنى إلا في ما يتعلق بالمعايير الاجتماعية التي تنتجها مجموعة ما. أي باستعارة أرندت (Arendt, 1966 [1991]) كتجسيد للشر الأكثر فظاعة والأكثر اعتيادية».

تركز بعض المقاربات الكلاسيكية على أن الحرب نفسها مرتبطة بالدولة نفسها كما يكتب تشارلز تيلي (Tilly 1990: 20-28) في العصر الحديث «الدول تصنع الحرب والحرب تصنع الدول». ثمة مقاربات مهمة تربط الإبادة بالحداثة مثل دراسة مارك ليفين (Mark 2005: 10) بوصفها منتجة لخطابات ثقافية تجعل من إبادة مجموعات إثنية وعرقية معينة مقبولة. أو كما يطرح أليكس ألفارز (Alvarez, 2001) بأن الحداثة عملت على إعادة صوغ الحداثة لتضحي أكثر فعالية وعقلانية قادرة على القتل الصناعي، بإبدالها آليات القديمة بآليات جديدة للإبادة. يبرز فوكو (Foucault, 1997) اللحظة التي أصبحت فيها العنصرية جزءًا من آليات الدولة لأن العنصرية كانت موجودة قبل ذلك، ولكن في مكان آخر؛ ومع ظهور السلطة البيولوجية. أضحت السلطة البيولوجية هي ذلك الشكل من أشكال السلطة التي تختلف عن السلطة السيادية الكلاسيكية من حيث إنها تمارس على الحياة من خلال تدريب الأجساد وتنظيم السكان في نظام سياسي يرتكز على السلطة البيولوجية، أي على حماية الحياة، وتصبح العنصرية هي الوسيلة التي يمكن من خلالها ممارسة سلطة الموت. في الواقع، ستجعل العنصرية من الممكن تقسيم الجنس البشري، وتجزئة السكان إلى مجموعات فرعية، وإلى أعراق. إضافة إلى ذلك، فإن العنصرية تجعل من الممكن إقامة علاقة إيجابية بين موت الآخر وحياة الفرد: موت الآخر يضمن التقوية البيولوجية للذات، وعلى هذا النحو تعمل دولة الاستعمار وإن كانت ليس ضمن الاهتمامات البحثية لفوكو ولكنها في رأينا مقاربة تؤسس لفهم أنها جزء من بنية الدولة نفسها ونتاج لولادتها كبنى ذهنية مؤسسة في بنية الدولة الاستعمارية نفسها.

في سياقات مغايرة، ولكنها تذكرنا بممارسات الدولة الاستعمارية نفسها، يمكننا رؤية العزلة المكانية والإقصاء الاجتماعي للسكان المعينين في غيتو مراكز المدن الأمريكية، كما أوضح لويك فاكون (Wacquant: 1997: 340-348). إذ تذكرنا هذه المقارنة، في سياق مغاير، بالسياسات الاستعمارية لخلق غيتوهات فلسطينية منعزلة، وتذكرنا بالأسس التاريخية لدولة الاستعمار في سياق الإبادة الحالية ضمن ثنائيات: اعتيادية الشر، الخير والشر/التحضر والتوحش/التنوير الظلام، حيونة الفلسطيني/تحضُّر «الإسرائيلي»، مقابل تخلُّف الفلسطيني، التحضر/البربرية، الدعوة للتهجير، والإبادة الحضرية، وإبادة المنازل، وإبادة العائلات ومسحها من السجل المدني واستهدافها بوصفها بنى جمعية يقوم عليها المجتمع الفلسطيني، وإبادة الأطفال، وإبادة الحاضنات الاجتماعية للجماعات الفلسطينية المختلفة، ومحاولة تبديل الأدوار الاجتماعية عبر المسّ بالبنى الاجتماعية والاقتصادية وتقويض الأدوار الاقتصادية والثقافية والرمزية المنوطة بها. وإبادة المنازل والمسّ بفضاءاته الحميمية وتمثلاته والمس بها ماديًا ورمزيًا.

في سياق الشرط الاستعماري الاستيطاني الإحلالي الذي يطبع حالة فلسطين، والتي يجب أن ننظر إلى حالة الإبادة الحالية كشكل متقدم من نشوء النكبة نفسها وتبعاتها، والذي يرتكز على مفهمة «العنف الشامل» لتحليل البنية الاستعمارية «لإسرائيل» وآليات التحكم المنهجي والهيكلي فيها. كأداة مركزية لفهم طبيعة العنف الذي تمارسه دولة الاستعمار، فهو يُمارس من قبل الدولة الاستعمارية كممارسة متعمدة لتعطيل جميع مكونات المجتمع ومحاولة محوه واجتثاثه، ويشمل تدمير جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويراوح ذلك بين العنف الشديد كمحاولات المحو والقتل والتدمير وصولًا إلى العنف العادي اليومي (السقا، 2022).

على نحو استفكاري يتحتم علينا كباحثين في العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية إعادة مفهمة الإبادة الحالية ومقارنتها مع صنوف الإبادات الأخرى في العالم، والقطع مع الانحيازات المهيمنة، وإعادة التفكير في الحداثة والدولة وفي الحرب ومفهمته وتمحيص سياسات الموت والحياة والإماتة الممنهجة، وضرورة البدء بتقديم مساهمات أصيلة تعمل على تشجيع هذا النوع من التنظير.

كتب ذات صلة:

غزة: بحث في استشهادها

التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي: الكتاب السنوي 2023

جيوبوليتيك حوض المتوسط: ترسيم الحدود البحرية وقضايا السلام والأمن الدوليين