تستحضر «الإبادة الجماعية» إلى الذهن محارق البشر، وجبال الجماجم، والمقابر الجماعية، وهو ما فعله النازيون بيهود أوروبا، والخمير الحمر بمواطنيهم الكمبوديين، وما فعله متعصبو الهوتو بأقلية التوتسي في رواندا. ويبدو المصطلح شنيعاً بوصفه ممارسة للموت والدمار الاجتماعي، كما أن الاتهام بالإبادة الجماعية بمنزلة الإنذار؛ فعندما تحدث هذه الجريمة أو أنها قد حدثت بالفعل، فإنه ينبغي أن يترتب على ذلك الاتهام أثر في الجناة.
تستند مقاربتنا هذه إلى تعَقُّب التاريخ السياسي لمصطلح الإبادة الجماعية في القانون والفقه القضائي، ومقارنة بعض السياقات التي يشير إليها المصطلح سواء تلك السياقات التي حدثت فيها ممارسة الإبادة الجماعية، أو تلك التي تمَّت فيها مساءلة مرتكبي الجرائم. مع الأخذ بعين الاعتبار أين ولماذا يوجد عدم وضوح في بعض استخداماته، كما نقدم بعض الأفكار حول التوظيف السياسي للمصطلح والضرر الذي يصاحب تهمة الإبادة الجماعية.
ويمكن القول إنه بسبب خطورة العواقب المحتملة التي قد تترتب على الإبادة الجماعية، فإن استعمال المصطلح بطريقة لا تتفق مع تعريفه القانوني يهدد بإضعاف قوته، وهذا ما قد يزيد إلحاق الضرر خطورة بأولئك الذين يقعون ضحايا لممارسات عنيفة من قبل الدولة. ولكن علينا أن نبحث الأمر مع الجهات المختصة بتقرير ما هي المعايير التي تم الاعتماد عليها، لتحديد ما إذا كان استعمال مصطلح الإبادة الجماعية له ما يبرره. لكن بالمقابل، من يستعملون هذا المصطلح (بطريقة لا تتفق مع محدداته القانونية) فإنهم يتخذونه مسوغاً لوصف تعامل الحكومة مع الأمريكيين السود؛ فربما يكون هذا هو السبيل الوحيد لتسليط الضوء على قتل الشرطة كثيراً من الأشخاص العُزَّل، ومقارنة هذا الأمر بالإعدام خارج القانون الذي كان نتيجة مباشرة لاستعباد السود. حيث يعد الرق نظام إبادة جماعية، سواء في استباحة دماء السود، أو في فرض الموت الاجتماعي على المستعبد. وتظهر نتائج السجن الجماعي المعاصر[1] في التدمير المادي والاجتماعي لحياة السود ومجتمعاتهم، الذين يشكلون النسبة الكبرى في السجون الأمريكية، ويوفر هذا مصدراً جديداً للسخرة والعمل غير مدفوع الأجر، بشكل لا يختلف عن العبودية. في هذا السياق يمكن القول إن الطريقة إلى إرغام الأمريكيين على النظر بجدية في كارثة عنف الشرطة المستمر، وكذلك السجن الجماعي للسود، هي ربطهم بتاريخ العنف الأكثر وحشية الذي يؤثر فيهم. وبطريقة مماثلة فإن استعمال مصطلح «الإبادة الجماعية» من قبل الفلسطينيين الذين يناضلون ضد اضطهاد وظلم ممنهج على المدى الطويل الذي يعانونه منذ عام 1969، بل في الواقع منذ عام 1947، قد مكنهم من الدفع بمحادثات سلام مع الإسرائيليين، ولولا ذلك لما كان لتلك المحادثات أن تبدأ.
نكتب «يمكن القول» لأن الإبادة الجماعية مصطلح له معنى، ومع ذلك لا يزال تطبيقه محل اختلاف كبير. يمكن تعريفه من وجهات نظر مختلفة: قانونية، واجتماعية، وسياسية، وتاريخية. جميعها مترابطة وتستند إلى تجارب وافتراضات ومعايير تقييمية مختلفة. يعتمد تحديد – بشكل معقول – ما إذا كانت إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو أي حكومة أخرى قد ارتكبت جرائم إبادة جماعية، على نطاق تلك الاتهامات وهدفها، وما إذا كانت سياسية أو قانونية. ومن أجل التوصُّل إلى مفهوم قانوني للإبادة الجماعية، فإن أي معيار يتفق مع المعايير المنصوص عليها في القانون الدولي، يقتضي المقارنة بين الادعاءات والأحكام الصادرة عن قضايا الإبادة الجماعية التي سمعتها و/أو بتتها المحاكم الدولية، مثل محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومختلف المحاكم المتخصصة المكلفة باتخاذ مثل هذه الأحكام.
ولكن حتى التحقيقات الأكثر تفصيلاً – كما سنوضح لاحقاً – ربما لا تؤدي إلى الجزم ما إذا كانت ممارسات، أو سياسات، معينة قد تجاوزت الحد الأدنى للمفهوم، ذلك أن معايير تحديد الإبادة الجماعية المستخدمة حالياً لا تزال غامضة بشكل متعمد، ولا تزال الأحكام القضائية محدودة وحديثة؛ إذ يعود تاريخها إلى عشرين عاماً. وعليه نستعرض هنا المعايير القانونية والمنطقية، في سياق الاتهامات الأخيرة الموجهة إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في ما يتعلق بسجلهما القانوني، وأخيراً نقترح كيف يمكن تقييم سياقات العنف في ضوء توسع التوظيف السياسي والاجتماعي للمصطلح.
أولاً: نشأة الإبادة الجماعية
تضمن كثير من الصراعات والحروب عبر تاريخ البشرية الكثير من أعمال القتل الجماعي ضد مجموعات سكانية بكاملها، وهي يمكن وصفها اليوم – بشكل لا لبس فيه – بأنها إبادات جماعية. ففي القرن الثامن الميلادي تسببت ثورة لوشان في الصين والغزو المغولي لأوراسيا بمقتل ما يعادل مئات الملايين من البشر بالقياسات السكانية المعاصرة، وهو ما يجعل نتائج الحربين العالميتين مجتمعة تبدو متقزمة أمام هذه النسبة. وخلال القرنين الماضيين، تم استهداف المدنيين – على نحو متزايد – بأعمال قتل واسعة النطاق؛ ويعود ذلك إلى عوامل متعددة، منها توسع نفوذ الجيوش؛ والتقدم التقني في الأسلحة التي سمحت للمدفعية، والقنابل المحمولة جواً، والصواريخ بعيدة المدى، بأن تصل إلى المناطق الخلفية من أراضي العدو؛ وصعود «أيديولوجيات شمولية» تشجع على العنف ضد جميع أعضاء مجتمع العدو. وقد أشار ألكسندر داونز (Alexander Downes)، إلى أنه في حروب القرن العشرين، سقطت «أعداد هائلة من الضحايا المدنيين» وتم «التنكيل بهم» وتحديداً في الوقت الذي برز فيه توافق في الرأي على أن استهداف المدنيين عمل غير أخلاقي وينبغي حظره. وقد أخذ هذا الإجماع شكله تحت عنوان: القانون الإنساني الدولي (IHL)، الذي يعود أصله إلى أواخر القرن التاسع عشر.
كانت الولايات المتحدة أول بلد يحاول فرض توازن بين الضرورة العسكرية والاعتبارات الإنسانية في شن الحرب. وكان قانون ليبر (Lieber Code)، الذي أصدره الفيلسوف السياسي الأمريكي فرانسيس ليبر(Frances Lieber) ووقعه الرئيس أبراهام لينكولن في عام 1863، عبارة عن مجموعة من الأوامر العسكرية التي اتخذت «أفضل الممارسات» من قوانين وأعراف الحرب لتحكم جيش الاتحاد خلال الحرب الأهلية الأمريكية. ويتضمن القانون حظر الهجمات المتعمدة أو غيرها من أشكال إساءة معاملة المدنيين في الطرف المعادي. وقد أصبح قانون ليبر مصدر إلهام لاتفاقيتي لاهاي لعامي 1899 و1907 اللتين شكلتا الخطوات الأولى في تطوير القوانين الدولية الحديثة للنزاع المسلح، وحدّدتا أن الانتهاكات أو «جرائم الحرب» تشمل الهجمات المتعمدة ضد المدنيين خلال الصراعات بين الدول.
غير أن هذه القواعد الجديدة لم تضع حدّاً للانتهاكات، بل على الضد من ذلك، فقد أعقبتها المذابح الجماعية التي قامت بها الدولة العثمانية لأكثر من مليون شخص من الأرمن، والحصار المروِّع على نحو مشابه (ولكن أقل من ذلك كثيراً) الذي قامت به دول الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبولندا) ضد دول المحور (ألمانيا، والدولة العثمانية، والنمسا، والمجر، وبلغاريا)، خلال الحرب العالمية الأولى. لم يكن هناك توجه رسمي ضد جرائم الحرب ناهيك بمساءلة الجناة. ولكن هذه الأحداث ألهمت تطوير مفهوم «الجرائم ضد الإنسانية»، وهو مصطلح استخدمته أولاً قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى لوصف المذابح العثمانية للأرمن، وبعد ذلك مفهوم «الإبادة الجماعية»، لكنها لم تحصل على أي خاصية بوصفها مفاهيم قانونية، حتى محاكم نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية.
كما صاغ الباحث اليهودي البولندي رافائيل ليمكين (Raphael Lemkin)، مصطلح «الإبادة الجماعية» في عام 1943. وقد استمر في المتابعة على مدى العقود الماضية من أجل الحصول على اعتراف دولي بأن ما قام به العثمانيون ضد الأرمن يجب أن يتم الاعتراف به بوصفه عملاً فظيعاً ومجرماً، أو ما أسماه – في الأصل- «Crime of Barbarity» (جريمة البربرية) (في ورقة أكاديمية عام 1933) وتشمل القتل الجماعي، وكذلك «محاولة تدمير أمة وطمس شخصيتها الثقافية» بدافع من «الاعتبارات العرقية أو القومية أو الدينية».
لقد وفرت الإبادة النازية لليهود والمجموعات السكانية الأخرى في ألمانيا والدول التي احتلتها في أوروبا الفرصة لرفايئل ليمكين من أجل الدفع بحجته، ليسمي هذا النوع من العنف «Genocide» (الإبادة الجماعية)، التي تجمع بين الكلمة اليونانية القديمة «Génos» (العرق، العشائر) واللاحقة اللاتينية Cide (قتل). في مقالة نشرت عام 1946 في مجلة أميريكان سكولار (American Scholar)، شرح فيها الباحث تعريف المصطلح، موضحاً أنه ينطوي على «الطمس الشامل للأمة»، و«قتل الملايين وتدميرهم»، والتدمير السكاني «ديمغرافياً وثقافياً» داخل البلدان. والأهم من ذلك، رأى ليمكين أن الإبادة الجماعية تعد جريمة دولية؛ إذ إن ارتكابها كان يهم جميع الدول، وليس فقط تلك المتأثرة مباشرة، وكجريمة يمكن أن تحدث خلال زمن السلم وكذلك في زمن الحرب.
وبالنظر إلى خلفية الحرب العالمية الثانية، ليس من المستغرب، أن يحاجج ليمكين بأن «الإبادة الجماعية يمكن أن تتم من خلال أعمال ضد الأفراد، عندما يكون القصد في النهاية هو إبادة المجموعة بأكملها التي تتألف من هؤلاء الأفراد… وعلاوة على ذلك، فإن القصد الإجرامي لقتل أو تدمير جميع أفراد مثل هذه المجموعة يظهر سبق الإصرار والترصد، وحالة الإجرام الممنهج بوصفه ظرفاً مشدداً للعقوبة». وقد تكون أهداف هذه الخطة «تفكيك المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافة واللغة والوطنية والمشاعر، والدين، والوجود الاقتصادي للمجموعات الوطنية، والقضاء على الأمن الشخصي والحرية والصحة والكرامة وحتى حياة الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الجماعات». وفي عام 1946، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة الجديدة (التي أنشئت في العام نفسه)، القرار 96 (1) الذي ينص على أن الإبادة الجماعية تنطوي على «إنكار الحق في وجود جماعات بشرية بأكملها».
وبفضل عمل ليمكين وشغفه، أصبح هذا المصطلح محوراً في التحول الثوري للقانون الدولي عقب الحرب العالمية الثانية. وقد حوكم النازيون بسبب الجريمة – المسماة والمعرَّفة حديثاً – وأقرت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها من قبل الأمم المتحدة في عام 1948، وظهر أول قانون دولي لحقوق الإنسان. وكما هو منصوص عليه في المادتين الثانية والثالثة من الاتفاقية، فإن الإبادة الجماعية تتضمن عنصراً «معنوياً» و«مادياً» على حد سواء، وتعرف بأنها «نية تدمير جماعة وطنية أو إثنية أو عرقية أو دينية كلياً أو جزئياً على هذا النحو». ويشمل ذلك ارتكاب أعمال القتل، والتسبب في أذى جسدي أو عقلي خطير، وإلحاق الضرر عمداً في ظروف حياة جماعة تستهدف تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، وفرض تدابير ترمي إلى منع الولادة، و/أو نقل الأطفال قسراً خارج المجموعة المضطهدة.
ووفقاً لاتفاقية الإبادة الجماعية، فإنه حتى وإن لم يشمل الموت والتدمير معظم أو حتى بعض أعضاء المجموعة المستهدفة، فإن العنف وتنظيمه «يجب أن يكون كافياً لتغيير نمط حياتها». وفي المادة الثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية، تشمل الأفعال التي يعاقب عليها القانون التآمر والتحريض ومحاولات ارتكاب الإبادة الجماعية، فضلاً عن التواطؤ في هذه الأعمال، حتى وإن لم تنفذ بنجاح. وقد تم الحفاظ على هذا التعريف الأساسي وتعزيزه في العقود السبعة التالية، بما في ذلك في نظام روما الأساسي لعام 1998 لإنشاء محكمة جنائية دولية (ICC).
وعلى الرغم من هذه الاستمرارية في التعريف القانوني للإبادة الجماعية منذ عام 1948، فإن المصطلح لم يكن ثابتاً. وفي الوقت الذي يجري فيه التفاوض على الاتفاقية، كان الخبراء، بمن فيهم ليمكين، يدفعون من أجل تضمين تعريف الجريمة مكوناً ثقافياً صريحاً، تعارضه الولايات المتحدة بشدة، لأن هناك خوفاً كبيراً من أن الأقليات المضطهدة يمكن أن تتابع دعاوى الإبادة الجماعية بزعم تدمير ثقافتها أو استيعابها القسري في المجموعة المهيمنة. وبالمثل، فإن تعريف الجماعات المحمية استبعد عمداً الحركات السياسية أو الأحزاب، على الرغم من أنها – أو ربما لأنها – كانت من بين أكثر الأهداف شيوعاً لعنف الدولة على نطاق واسع.
ثانياً: تطوير القانون الدولي
على مدى أكثر من عقد بعد صدور اتفاقية الإبادة الجماعية في عام 1948 واتفاقيات جنيف الأربع في عام 1949، جمَّدت الحرب الباردة مواصلة تطوير القانون الدولي. ولكن مع زوال المستعمرات الأوروبية وصعود الدول المستقلة حديثاً، بدأ عصر جديد من القانون الدولي لحقوق الإنسان. وشمل ذلك إعلان 1960 بشأن منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة الذي يدين «الاستعمار بجميع أشكاله ومظاهره» (بما في ذلك المستوطنات غير القانونية التي أنشأها السكان المستعمرون). وقد ربطت، صراحة «الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965» العنصريةَ الهيكليةَ[2] الجارية بالاستعمار.
تدين «الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها 1973» هذه الجريمة وتعتبرها «جريمة دولية ضد الإنسانية»؛ فهي «العنصرية اللاإنسانية» التمييزية التي ترتكبها الدولة والتي يرتكبها أفراد الدولة بهدف إقامة هيمنة مجموعة عرقية من الأشخاص على أي مجموعة عرقية أخرى واضطهادها وقمعها بشكل منهجي. وقد تم تأكيد الطبيعة الإجرامية لأي نظام فصل عنصري في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (ICC) لعام 1998. وتعتبر كل هذه القوانين «قطعية»، بمعنى أن كل بلد ملزم قانوناً باحترامها، سواء كان موقعاً هذه الاتفاقيات أم لا، وبغض النظر عن مصالحها الاستراتيجية الخاصة.
وقد تم تطوير التطبيق القانوني لجريمة الإبادة الجماعية من خلال عمل محكمتين متخصصتين أنشأتهما الأمم المتحدة في التسعينيات، لمحاكمة مجرمي الحرب المشتبه بهم في يوغسلافيا السابقة ورواندا، وكذلك إنشاء المحكمة الجنائية الدولية (ICC). حيث أنشئت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة (ICTY) في عام 1993، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR) في عام 1994، وبدأت المحكمة الجنائية الدولية بالظهور في عام 2002، عندما تم تجاوز الحد الأدنى من الموقعين على نظام روما الأساسي.
لم يكن من السهل أن تعمل هذه المؤسسات القانونية على التحقيق في الاتهامات ومقاضاتها، ففي الواقع كانت هناك معارضة قوية منذ البداية. وقد قاومت بلدان كثيرة منذ فترة طويلة تصنيف فئة الإبادة الجماعية حتى في أشد الحالات تطرفاً، لأن هذه البلدان وعملاءها وحلفاءها قد انخرطوا في أعمال عنف يمكن أن تندرج تحت تعريف الإبادة الجماعية، ولأن القيام بذلك في سياقات أخرى يلزمها بالعمل على وقفها فوراً، بغض النظر عن الآثار العسكرية أو الاستراتيجية أو الاقتصادية والصعوبات المترتبة عليها للقيام بذلك. وقد عارضت الولايات المتحدة – على وجه الخصوص – وسم الحالتين المتولدتين للإبادة الجماعية في حقبة ما بعد الحرب الباردة على هذا النحو؛ كما في حالة البوسنة، حيث طلبت إدارة كلينتون من المحامين الحكوميين – على حد تعبير محام سابق في وزارة الخارجية – «أداء الجمباز القانوني لتجنب تسمية هذه بالإبادة الجماعية»، وعملت بالمثل في خضم الإبادة الجماعية الرواندية خشية أن «تهيِّج الرأي العام من أجل المطالبة بتحرك عملي ضد تلك الإبادة». وعلى النقيض من ذلك، كانت إدارة بوش تسرع في استدعاء مصطلح الإبادة الجماعية في دارفور، في حين كانت إدارة أوباما أكثر تردداً في إدانة النظام السوداني.
وعلى الرغم من خوف ومعارضة جهات عالمية فاعلة، فقد حاولت الأمم المتحدة – على الأقل – محاسبة المسؤولين عن عمليات الإبادة الجماعية الأخيرة من طريق المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة (ICTY) والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR)، ومن ثم لاحقاً من خلال المحكمة الجنائية الدولية (ICC). وأدت المحاكمات التي جرت من خلال هذه المحاكم إلى إجراء مناقشات هامة بشأن أفضل طريقة لتعريف الإبادة الجماعية. ولكن من المؤسف أن أياً من هذه المحاكم لم تقدم توضيحات عن الجانب الأكثر غموضاً في التعريف الوارد في الاتفاقية، وهو: إلى أي مدى يكون نطاق الموت والدمار جزئياً (في جزء) من تدمير مجموعة محمية؟
يعد حكم محكمة العدل الدولية 3 شباط/فبراير 2015 في قضية الاتهامات المتبادلة بين كرواتيا وصربيا[3] من بين المحاولات الأخيرة الأكثر شمولاً من قبل القانونيين الدوليين لتقديم تعريف أكثر دقة. تسأل المحكمة، في حكمها، على وجه التحديد في مسألة «معنى ونطاق» تدمير «مجموعة» و«حجم تدمير المجموعة» و«معنى تدمير المجموعة» جزئياً». وقد رأت كرواتيا أن «القصد المطلوب لا يقتصر على نية تدمير المجموعة مادياً، بل يتضمن أيضاً النية لوقفها عن العمل كوحدة». أي أن الاتفاقية لا تعني «التدمير المادي للمجموعة فحسب» ولكن يمكن أن تشمل أيضاً تدمير ثقافتها. ورفضت صربيا هذه المقاربة العملية لتدمير المجموعة، ورأت أن ما يهم هو نية تدمير المجموعة بالمعنى المادي، حتى لو كانت الأفعال المدرجة في المادة الثانية قد تبدو أحياناً أقل من أن تسبب هذا التدمير.
وعند بت هذه المسألة، أشارت محكمة العدل الدولية (ICJ) إلى أنه في حين أن الإبادة الجماعية الثقافية قد أُدرجت في المسودة الأصلية للاتفاقية، فإنه قد تم إلغاؤها في نهاية المطاف ومن ثم «تقرر بناء على ذلك تحديد نطاق الإبادة في الاتفاقية بالتدمير المادي أو البيولوجي للمجموعة فقط». ورأت المحكمة أن هذا يعني أنه حتى في الحالات التي لا ينبغي فيها اعتبار إجراء الإبادة الجماعية متعلقاً بشكل مباشر بالتدمير المادي أو البيولوجي لأعضاء المجموعة، فإنه ينبغي أن ينظر إليه على أنه «يشمل الأفعال المرتكبة بقصد تحقيق الأهداف المادية أو التدمير البيولوجي للمجموعة، كلياً أو جزئياً».
ثالثاً: البيولوجيا مقابل الثقافة: دروس من تجربة الأمريكيين الأصليين للإبادة الجماعية
يستحيل في الواقع فصل الجانب الجسدي أو البيولوجي عن الجانب الثقافي. فتصنيف البناء الاجتماعي للعرق اعتماداً على جوهره السياسي بدلاً من جوهره البيولوجي يجعل فكرة «الديمومة» و«الاستقرار» مجرد إدعاءات كاذبة في هذا العرق. على سبيل المثال، في القرن السادس عشر، كان الغزاة الأوروبيون للأمريكتين يضعون الدين ونشر المذاهب المسيحية المتعصبة من جانبهم، و«الوثنية» الموجودة في الشعوب الأصلية، كفوارق أساسية يميزون بها أنفسهم عن تلك الشعوب، (أو بتعبير آخر ما يعدّونه الفرق بين «التحضر» و«التوحش»). وقد بدأت بَيْلَجَة العرق (Biologization) في القرن الثامن عشر من خلال ظهور «العنصرية العلمية»، التي استخدمت لتبرير مزاعم الأوروبيين بالتفوق في مشاريعهم الإمبريالية والاستعمارية. وتستبعد العنصرية العلمية حتى إمكان التحسين الثقافي، لأن التسلسل الهرمي في هذا النظام ثابت في الطبيعة؛ فهو يوفر أساساً منطقياً مستقراً (متجاوزاً) السياسات العنصرية وغيرها من السياسات القمعية، بما في ذلك الإبادة الجماعية المحتملة. وهكذا، فإن تعريف «العرقي» ينطوي على إشكالية بطبيعته لأنه لا يوجد تعريف واضح لـ«العرق» من حيث المصطلحات البيولوجية. (تعترف الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري ضمناً بالطابع الإشكالي لمصطلح «العرق» عندما تصف التمييز العنصري بعبارات عامة، على أنه يعني «أي تمييز أو استبعاد أو تقييد أو تفضيل على أساس العرق أو اللون، أو الأصل القومي أو الإثني …»).
لذا، إذا كان العرق ليس في المقام الأول تصنيفاً بيولوجياً، فمن الواضح أنه لا يمكن فصله عن الثقافة، ثم إن «الإبادة الجماعية» بالضرورة ينبغي أن تنطبق على التدمير الثقافي للمجموعة وكذلك تدميرها المادي. حالة السكان الأصليين لأمريكا هي خير مثال على ذلك. ويقدر الديمغرافي روسل ثورنتون (Russell Thornton) عدد سكان الأمريكتين في الشمال والجنوب عام 1492 بأكثر من اثنين وسبعين مليون نسمة. وبحلول القرن العشرين، أدت الإبادة الجماعية التي قام بها الاستعمار الأوروبي إلى خفض عدد السكان إلى ما بين أربعة ملايين وأربعة ملايين ونصف المليون. في الولايات المتحدة، في ما سيصبح 48 ولاية، تقدر أرقام ثورنتون عدد السكان البالغ في عام 1492 بأكثر من خمسة ملايين نسمة، انخفضت إلى 250,000 نسمة مع حلول نهاية القرن التاسع عشر من خلال الحرب والتطهير العرقي والحرب البيولوجية التي تمثلت بالانتشار الواسع للجدري، وحجب التطعيم واللقاح عن السكان الأصليين (وكلاهما تطور في القرن الثامن عشر). ما من شك في أن مستوى الموت والدمار يمثل تجربة سكان أمريكا الأصليين بوصفها تجربة إبادة جماعية، ولكن لم يتم تصنيفها رسمياً على هذا النحو، كما لن تعترف الولايات المتحدة أو غيرها من الحكومات في الأمريكتين بهذا التصنيف في المستقبل القريب، نظراً إلى ما سيترتب على هذا الاعتراف من تداعيات أخلاقية وسياسية، وربما قانونية.
كل مجتمعات الأمريكيين الأصليين يعرفون أنفسهم ثقافياً بأن لغاتهم ورؤيتهم للعالم، لا تحتوي على تعارض بين الطبيعة والثقافة. في الواقع، لا توجد فئة من «الطبيعة» متميزة أو منفصلة عن المحيط الثقافي أو الاجتماعي. في الولايات المتحدة، لم يكن حتى منتصف القرن التاسع عشر، مع قضية الولايات المتحدة ضد روجرز 1846، حيث بينت أن مصطلح «الهندي الأحمر» كان مصنفاً على أساس العرق ليضع الرجال البيض الذين تم تبنيهم في القبائل – ومن ثم يخضعون للقانون القبلي – تحت السلطات الفدرالية للولايات المتحدة. وعلى المنوال نفسه، في نهاية القرن التاسع عشر، فرضت الحكومة الأمريكية قانوناً لنسبة الدم[4] (Blood-Quantum Regime) على القبائل الأصلية في ما يقرب من 48 ولاية من أجل تقليص عدد الهنود الحمر. اعتمدت القبائل نفسها هذا النظام في ثلاثينيات القرن الماضي بعد قانون إعادة التنظيم الهندي لعام 1934. كانت فكرة نسبة الدم دائماً خيالاً بيروقراطياً لأن متطلبات العضوية القبلية تختلف جذرياً من قبيلة إلى قبيلة؛ وهذا ما يكشف عن الأساس الثقافي والسياسي لما يعتبر قانونياً هوية عرقية. وبالفعل، في قرار مورتون ضد مانكاري (Morton v Mancari) الصادر عام 1974، نقضت المحكمة العليا – على ما يبدو – الموقف السابق بإعلان أن تفضيلات التوظيف الهندية في مكتب الشؤون الهندية (BIA) لا تشكل تمييزاً عنصرياً، لأن مصطلح الهندي الأحمر في ظروف معيَّنة يشير إلى دلالة سياسية، لا بيولوجية، وفي كلتا الحالتين تشكل سابقة في الفقه القضائي الأمريكي.
ومنذ مجزرة (الركبة الجريحة) التي ارتكبها الجيش الأمريكي ضد الهنود الحمر عام 1890، استمرت الإبادة الجماعية للهنود الحمر في الولايات المتحدة بوسائل أخرى غير الطمس المادي. ويشمل ذلك – على سبيل المثال – الاحتواء القسري عن طريق نظام التعليم الداخلي (الذي يأخذ أطفال السكان الأصليين من أسرهم) والذي استمر من أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، والإعقام القسري لنساء السكان الأصليين في السبعينيات، ونقل أطفال الهنود الحمر إلى أسر من البيض (انتهت جزئياً في عام 1978 مع إقرار قانون رعاية الطفل الهندي الأحمر)، وحرمانهم الاعتراف الاتحادي بالقبائل، وعدم إدراج أفراد القبائل في سجلات قبائلهم من قبل القبائل نفسها. في هذه الحالة الأخيرة، كما علَّمنا فرانز فانون، «المستعمَرون قد يقومون بعمل المستعمِرين».
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: في أي مرحلة يكون تدمير الثقافة التي تشكل هوية الجماعة (مثل القيم التقليدية كاللغة وأنماط التفاعل مع أعضاء المجموعة من خلال روابط القرابة الممتدة) (محاولة أو فعل) إبادة جماعية؟ وببساطة، يمكن ارتكاب الإبادة الجماعية من دون التدمير المادي للمجموعة أو حتى جزء منها، على الرغم من أن التدمير المادي تاريخياً مهَّد الطريق للتدمير الثقافي؟ وعلى الأقل في الوقت الراهن، فإن استبعاد الثقافة كفئة معترف بها في تفسير اتفاقية الإبادة الجماعية يحول دون جعلها جزءاً من التحديد القانوني للإبادة الجماعية. وعلى المنوال نفسه، تم استبعاد الجماعات السياسية أو الانتماءات الأيديولوجية (مثل العضوية في حزب أو حركة معينة) بسبب الضغط الذي تمارسه الحكومات التي تخشى أن يقع اضطهادها للأحزاب المنشقة تحت عنوان الإبادة الجماعية. وهو ما تم تبريره من خلال التركيز في تعريف جريمة الإبادة الجماعية بأنها تكون على مجموعات أكثر «استقراراً» و«دواماً» حيث لا يستطيع الناس الانضمام إليها أو تركها «بإرادتهم».
نستعرض إمكانات وتأثيرات توسيع التعريف القانوني للإبادة الجماعية، ودور التعاريف والمناقشات غير القانونية (أي الاجتماعية والسياسية) في تلك العملية في خاتمة هذه المقالة. والآن، دعونا نعود إلى النظام القانوني القائم الذي يشمل المصطلح، حيث يظل حجم التدمير المادي/البيولوجي لمجموعة أو أفراد ذا أهمية قصوى.
رابعاً: مقياس الإبادة الجماعية
في ما يتعلق بمسألة «حجم الدمار» للمجموعة المستهدفة، رأت محكمة العدل الدولية في قضية كرواتيا – صربيا، أنه «في غياب إثبات مباشر، يجب أن يكون هناك دليل أفعال على مستوى يثبت النية ليس فقط لاستهداف أفراد معينين بسبب كونهم في مجموعة معينة، ولكن أيضاً لتدمير الجماعة نفسها كلياً أو جزئياً». أما حول أي مدى يجب أن يتأثر جزء من المجموعة قبل أن تعتبر هذه الأعمال قد استوفت معايير الإبادة الجماعية (بدلاً من أن تكون «مجرد» جريمة ضد الإنسانية)، فقد أشارت محكمة العدل الدولية إلى حكمها الصادر عام 2007 بشأن انطباق اتفاقية الإبادة الجماعية على الحرب الصربية ضد البوسنة، ولاحظت أنه «من المقبول على نطاق واسع أن الإبادة الجماعية تم ارتكابها، حيث النية هي تدمير المجموعة ضمن نطاق جغرافي محدد… [إذا] كان جزء معيَّن من المجموعة رمزاً [أي نموذجاً] للمجموعة ككل، أو أنه أمر ضروري لبقائها، الذي قد يدعم النتيجة، حين يكون الجزء جوهرياً في معنى [القانون]».
المشكلة هنا هي كيف يتم تحديد ما إذا كان جزء من المجموعة – قيد النظر – يعد «تمثيلاً رمزياً لها». فخلال النزاع الذي دام أكثر من قرن على أرض نافاجو- هوبي (Navajo-Hopi Land) (في الولايات المتحدة الأمريكية) – على سبيل المثال – تم إبعاد ما يقرب من اثني عشر إلى أربعة عشر ألفاً من النافاجوس قسراً من منازل أجدادهم في ما أصبح يعرف – بأمر من المحكمة – هوبي لاند. وكانت آثار هذه الإزالة مدمرة في التعبيرات النفسية والاجتماعية والثقافية لهؤلاء الناس حيث تعتبر الأرض في ثقافات القبائل الأصلية جزءاً من صلة القرابة، فهي كيان حيٌّ. ومن بين هذه الأسر عائلات في نافاجو، التي لا يوجد سوى عدد قليل منها ما زالت تطلق ما يسمى الأراضي المقسمة على هوبي، وهي من أكثر مناطق نافاجوس تقليدية، إذ تعد مستودعات للثقافة التاريخية، بما في ذلك، بالطبع، الأرض التي أزيلوا منها – تقليدياً – حيث يدفن النافاجوس الحبال السرية لأطفالهم على أرضهم وعندما تموت أو يموت فرد نافاجو، يفترض أن تدفن أو يدفن مع حبله السري.
هل نحن نعتبر إذاً هذا «الجزء» «نموذجاً» لأكثر من ثلاثمئة ألف من سكان نافاجوس؟ وما هي آثار هذه الإزالة في ثقافة نافاجو؟ هذه التساؤلات – التي ليست بلاغية – لم تنظر فيها المحاكم التي فرضت عقوبات ضد التطهير العرقي في هذه المنطقة؛ بدلاً من ذلك، ركزوا على مجموعة محدودة من الأسئلة المتعلقة بحقوق الأرض. علاوة على ذلك، وكما سنناقش أدناه، فإن «التطهير العرقي» ليس في الوقت الحاضر قانونياً جزءاً من التعريف القضائي للإبادة الجماعية.
بيد أن تجربة نافاجو – هوبي تخبرنا أنه في حين قد يكون هناك سبب وجيه للتعريف القانوني للإبادة من أجل الاحتفاظ بـ «أرضية» ديمغرافية لا تأخذ الأفعال (في مقابل النية أو التحريض) بعين الاعتبار لتلبي الحد الأدنى، مستندة إلى تحديد قانوني للإبادة الجماعية إلى حد كبير على هذا النحو، فإن هذا الأمر يشكل إشكالية كبيرة. ومع ذلك، يبقى أن حكم محكمة العدل الدولية لعام 2015، مثل قرارها لعام 2007، وقرارات المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الجنائية الدولية وغيرها من التحقيقات التي تجريها الأمم المتحدة مثل تلك التي تدرس عمليات الإبادة الجماعية المحتملة في جمهورية الكونغو الديمقراطية ودارفور، كلها تميل إلى التمسك بفهم أنه لكي يعتبر إجراء معين عملاً من أعمال الإبادة الجماعية، فإنه يجب أن ينطوي على «تدمير مادي أو بيولوجي» لدرجة أن استمرار أداء المجموعة الأكبر وحتى بقاءها معرض للتهديد «بشكل قاطع» و«مقنع». ويمكننا أن نتصور أن الحالات الجارية أو التي تم استكمالها مؤخراً في السودان وأوغندا وجمهورية أفريقيا الوسطى وكينيا وجمهورية ساحل العاج ستزيد من توضيح المعايير القانونية لمحاكمات الإبادة الجماعية.
الواقع أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا قد قررتا، أنه عندما تكون هناك أدلة دامغة وبراهين موثقة ومباشرة (مثل محاضر الاجتماعات أو البيانات الخاصة أو العامة أو الخطط التي تتضمن غاية محددة) من نية الإبادة الجماعية، هو بالتحديد مقياس الفظائع المرتكبة والنيات الواضحة للجناة «لتدمير جزء جوهري على الأقل من المجموعة المستهدفة» وهذا هو العامل الحاسم. وبما أن محكمة العدل الدولية اختتمت حكمها الصادر في عام 2015 في قضية كرواتيا مع صربيا، فإن «الإبادة الجماعية تفترض النية المسبقة لتدمير جماعة على هذا النحو، وليس إلحاق الضرر بها أو إزالتها من منطقة ما، بصرف النظر عن كيفية وصف هذه الأعمال في القانون».
خامساً: تطبيق مقاييس الإبادة الجماعية على تاريخ فلسطين وإسرائيل
الآن بعد أن فهمنا المقاييس الغامضة المحيطة بالتحديد القانوني للإبادة الجماعية، يمكننا أن ننظر إلى الإجراءات التي قامت بها إسرائيل خلال نصف قرن من احتلالها للضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، بل حتى بالعودة إلى حرب 1948، من أجل محاولة النظر في ما إذا كانت تشكل جريمة إبادة جماعية كلياً أو جزئياً. دعونا نبدأ بحرب 1948، التي تضمنت عشرات الحوادث التي شملت القتل العمد لأعداد كبيرة من المدنيين، وعدة مجازر، شملت عشرات أو مئات القتلى.
يقترح مارتن شاو (Martin Shaw) تفسيراً واسعاً لمفهوم الإبادة الجماعية، مع إشارة محددة إلى حرب 1948 والنكبة الفلسطينية: قائلاً «إن فعل الإبادة الجماعية لا يهدف فقط إلى احتواء السكان أو السيطرة عليهم أو إخضاعهم، بل إلى تحطيم وتدمير وجودهم الاجتماعي. وهكذا، فإن الإبادة الجماعية مخصصة، ليس بواسطة شكل معين من أشكال العنف، بل عن طريق العنف العام والسائد…» وقد نقترح أن تفسير شو يثير بعض الأسئلة مثل: ما هو الحد الفاصل – على سبيل المثال – بين الاحتواء والتدمير؟ متى يصل الاحتواء إلى تدمير الوجود الاجتماعي للمجموعة؟
وهناك أيضاً مسألة تحديد متى يصبح العنف «عاماً ومنتشراً» بدلاً من «محدود»، وبخاصة عندما يعتمد ذلك الحكم أولاً على تحديد من تعتبر وفاته هدفاً مقصوداً ومن تعتبر وفاته غير المتعمدة «ضرراً جانبياً». وفي حالات القتل الأقل حجماً مثل «المجازر الجزئية»، وفقاً للمعايير الضيقة (الفيزيائية والبيولوجية) التي تستخدمها مختلف المحاكم المكلفة بالفصل في دعاوى الإبادة الجماعية، يجب أن يكون هناك دليل على النية في القتل الجماعي والتدمير الاجتماعي لكي تشكل إبادة جماعية؛ فإن مدى أو نطاق عمل معين من أعمال العنف يجب أن يقصد به بوضوح تحقيق الهدف – حتى لو لم يتحقق – من التدمير المادي للمجموعة ككل.
المصطلح الحاسم هنا هو «النية». وبأي معايير يمكن تحديد نية الجناة، وهل يمكن توسيع نية ارتكاب الإبادة الجماعية لتشمل المعرفة بأن من المرجح أن تؤدي بعض الإجراءات المتعمدة إلى الإبادة الجماعية حتى لو لم تكن هذه هي النية المعلنة تحديداً؟ وهذا مجال آخر يمكن فيه للفقه القضائي وعلم الاجتماع (والمعرفة بوجه عام) أن تصدر استنتاجات مختلفة بشأن معايير ومحددات الإبادة الجماعية.
ومن وجهة نظر شاو فإن الأعمال الصهيونية/الإسرائيلية خلال حرب 1948، سواء من حيث التطهير العرقي الواسع النطاق للفلسطينيين، أو في سياق المذابح المتعددة للمدنيين، تكشف عن «عقلية إبادة جماعية ناشئة» تعكس «الاحتلال الاستيطاني» و«القومية الإقصائية» وتجسد الصهيونية ومن ثم الهوية، والأيديولوجيات والسياسات الإسرائيلية. إن الجمع بين النيات والأيديولوجيا الكامنة مع أعمال العنف الاستثنائية ضد السكان المدنيين (ولا سيَّما القتل الجماعي و/أو تدمير قرى بأكملها تقريباً، التي تجسدها مذبحة دير ياسين ومعركة اللد)، وحرمان الفلسطينيين من حقهم الأساسي في تقرير المصير، وتشتيت أغلبية السكان، وتدمير كل المؤسسات الوطنية تقريباً، يمكن أن يؤدي إلى وصف ذلك بالإبادة الجماعية. ومن ناحية أخرى، فإن الاستثناء المتعمد للتطهير العرقي من اتفاقية الإبادة الجماعية، حتى وإن كان السكان في جميع أنحاء العالم (أبرزها تقسيم الهند وباكستان) قد جرى «تطهيرهم» من ديارهم لخلق مناطق أكثر تجانساً، كان هذا نقصاً أساسياً متعمداً وكبيراً جداً في مدى نطاق عمل اتفاقية الإبادة الجماعية.
وعلى الرغم من أهمية حرب 1948 والنكبة الفلسطينية تاريخياً، فإن الادعاءات المعاصرة بأن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية ضد الفلسطينيين قد ركزت أساساً على احتلالها المستمر للضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.
كما أن هناك العديد من التقارير والتقييمات التي أجرتها منظمات محلية ودولية رائدة في مجال حقوق الإنسان (بما فيها منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش ومنظمة مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان، والمركز القانوني لحماية حقوق الأقليات العربية «عدالة»، ومركز فلسطين لحقوق الإنسان والحق، ومنظمة مراقبة السلام الآن، ومنظمة الدفاع عن الأطفال الدولية)، وكذلك تقدم الأمم المتحدة، ووزارة الخارجية الأمريكية، أدلة قوية وحججاً دامغة بأن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب لا حصر لها وجرائم ضد الإنسانية. وكثيراً ما تنتهك إسرائيل حتى أوسع التفسيرات لمبادئ التمييز (التمييز بين الأهداف العسكرية المشروعة والمدنيين وغير المقاتلين) والتناسب (الحد من استخدام القوة بالقدر الضروري لتحقيق أهداف عسكرية مشروعة).
تشمل قائمة الجرائم الموثقة: الهجمات القاتلة العشوائية والمتعمدة ضد المدنيين، والمعاملة اللاإنسانية، والعقاب الجماعي، والحرمان من الحق في محاكمة عادلة، وإغلاق مناطق بأكملها، وحبس المدنيين داخلها، واستخدام السكان دروعاً بشرية، وعمليات هدم المنازل، والاحتجاز غير القانوني والتعسفي، والتعذيب، وسجن الأطفال، والاغتصاب، والنهب، وتدمير البنية التحتية، وعمليات القتل خارج القانون، وترحيل السكان ونفيهم، ورفض السماح للمدنيين بالعودة إلى ديارهم بعد الأعمال الحربية، فضلاً عن إقامة المستوطنات غير العسكرية، وتحركات مواطنيهم اليهود الإسرائيليين في هذه المناطق المحتلة. وبصرف النظر عن تصرفات إسرائيل أثناء الأعمال العدائية الفعلية، فإن العمل اليومي للاحتلال وأهدافه وغاياته غير قانونية بطبيعتها، حيث إنها مستمرة ودون إبطاء، تشمل مصادرة الأراضي بصورة غير مشروعة وسرقة المحاصيل والموارد الطبيعية وتدميرها، وسرقة إمدادات المياه والتلويث والتسميم المتعمَّدين، وإعاقة بل وحظر تنمية الاقتصاد الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال.
إن ما وصفه الجغرافي الإسرائيلي جيف هالبر (Jeff Halper) بأنه «مصفوفة السيطرة» الإسرائيلية على الأراضي المحتلة ينطوي على مستوى من السيطرة الكاملة تقريباً على الحركة الفلسطينية، والتنمية الاقتصادية، والسياسية إلى درجة تنتهك فيها إسرائيل كل التزاماتها تقريباً، بوصفها قوة احتلال معترف بها دولياً. إن تصرفات إسرائيل في الأراضي المحتلة تتميز – كما وصفتها محكمة العدل الدولية – بـ «الإفلات من العقاب». وهذه الإجراءات والسياسات التي تستند إليها بوضوح تفي بمعيار الجرائم الدولية مثل الاضطهاد، والاستعمار، والتمييز العنصري، وحتى الفصل العنصري.
سادساً: موقف المسؤولين الإسرائيليين من تدمير فلسطين
في السنوات الأخيرة، اقترح العديد من المسؤولين الإسرائيليين ووسائل الإعلام المؤثرة «حق» الدولة في القضاء على الفلسطينيين، ودعوا إلى القتل على نطاق واسع، وحتى الإبادة الجماعية للفلسطينيين. على سبيل المثال، دعا حاخام الجيش الكبير، إيال قارم (Eyal Qarim)، صراحة إلى اغتصاب «نساء الأغيار» – في هذه الحالة يقصد الفلسطينيات – كما أعلنت وزيرة العدل الحالية – أيليت شاكيد (Ayelet Shaked) – أن «الشعب الفلسطيني كله عدو» ودعت إلى تدميره، «بما في ذلك كبار السن والنساء والمدن والقرى والممتلكات والبنية التحتية». وكما يتضح من المناقشة أعلاه، فإن بيان شاكيد يعد دعوة لا لبس فيها إلى الإبادة الجماعية، كما يوجه كبار المسؤولين الإسرائيليين نداءات مماثلة تعمل على تشكيل سياسات الحكومة بشكل مباشر وتؤثر في مواقف الجنود الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين.
وعلى الرغم من أن معايير، وعواقب التحريض في التشريعات الدولية لا تزال متخلّفة، فإن متحف الهولوكوست في الولايات المتحدة يبيِّن أنه «يمكن ملاحقة التحريض العلني على الإبادة الجماعية حتى لو لم يتم ارتكاب الإبادة». ويمكن حشد طاقة هذه اللغة في ما يتعلق بالتحريض وفي ما يتعلق بالدعوات التي تنادي بـ «الموت للعرب» أو رغبة بعض المسؤولين في تحويل غزة إلى «مقبرة». فمع مرور السنوات، أصبحت اتهامات التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية واضحة بشكل متزايد، وبخاصة عندما ترتبط بالجرائم على نطاق واسع التي ارتكبت في الاعتداءات على غزة خلال العقد الماضي.
وعلى الرغم من فظاعة أعمال إسرائيل في الأراضي المحتلة، وبموجب التفسيرات القانونية الحالية للإبادة الجماعية، فإنه من المستحيل – عملياً – مقاضاة أي مسؤول إسرائيلي أو أحد مسؤولي الدولة حول هذه الجريمة. وبكل بساطة، فإن عدد القتلى ونسبتهم من السكان الفلسطينيين سواء في الوطن التاريخي لهم أو في الشتات، لا يرتفعون إلى مستويات القتل التي حدثت في النزاعات والتي جرت فيها ملاحقة مرتكبي الإبادة الجماعية، لأن التفسيرات الحالية وإجراءات التنفيذ تتوقف على مسألة «المقياس».
وإذا ركزنا على أحدث الصراعات، في غزة في الأعوام 2008 و2009 و2014، فقد بلغ عدد القتلى المدنيين تقريباً 900 شخص في الفترة 2008-2009، وألف وخمسمئة شخص في عام 2014. كما قتل أكثر من مئة شخص من المدنيين خلال فترة الصراع المكثف في عام 2012. وإجمالاً فإن عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل خلال السنوات الخمسين الماضية يشكل أقل من واحد في المائة من السكان الفلسطينيين في العالم اليوم.
إن هذه الأرقام مرعبة ولا مبرر لها في أي تشريع عسكري أو منطق استراتيجي يقوم على معايير التمييز والتناسب أو قواعد الاحتلال العسكري، الذي يضع حداً لاستخدام القوة من جانب قوة شرطة الاحتلال ويحظر استعمال الأسلحة الثقيلة والهجمات العشوائية التي تفضلها إسرائيل. (نحن لا نناقش هنا الإصابات والوفيات الإسرائيلية أو استخدام الإرهاب من قبل الفلسطينيين، لأن كلا الحجتين قد تكونان أو يمكن أن تكونا بمنزلة محاولة أو حتى تحريض على الإبادة الجماعية؛ ولأن نية العنف الفلسطيني ومجاله ضد الإسرائيليين لا يعفيان أو يخففان من الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، ومن ثم فهما غير ذوي صلة بهذه المناقشة). والسؤال المطروح أمامنا – في سياق التطور القانوني والفقهي لتاريخ الإبادة الجماعية التي تم تناولها في ما تقدم – هو حول ما إذا كان مستوى العنف ضد الفلسطينيين، – سواء ما يتعلق بأعداد القتلى، أو الأرقام الأكبر كثيراً من الجرحى، والسجناء المدافعين عن أراضيهم، وغير ذلك من جرائم الحرب الإسرائيلية، والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، والفصل العنصري، والعنف اليومي الممنهج خلال نصف قرن من الاحتلال – يرتفع إلى مستوى الإبادة الجماعية المحددة في القانون الدولي.
وقد قارن كثير من منتقدي عنف الدولة الإسرائيلية، بما في ذلك بعض اليهود الإسرائيليين وغير الإسرائيليين وحتى مسؤولي الفاتيكان، الوضع في غزة بمحنة اليهود في معسكرات الاعتقال النازية أو في غيتو وارسو (Warsaw Ghetto) بيد أن المقارنة لا تنعقد إحصائياً؛ ذلك أن ثمانية وتسعين بالمئة من يهود وارسو قد لقوا حتفهم في نهاية المطاف، كما أن ثلاثة وستين في المئة من يهود أوروبا ما قبل الحرب قد قتلوا خلال المحرقة، مقارنة مع خمسة بالمئة من سكان غزة واثنين بالمئة من مجموع الفلسطينيين الذين قتلوا منذ سحب إسرائيل جنودها ومستوطنيها من غزة في كانون الثاني/يناير 2005. وفي المقابل، قتل ما يزيد على ثمانمائة ألف من التوتسي الروانديين (خمسة وسبعون بالمئة من السكان) خلال مئة يوم من الإبادة الجماعية في عام 1994، في حين أن أكثر من مئتي ألف مسلم بوسني (عشرة بالمئة من السكان المسلمين قبل الحرب) قد قتلوا على يد الصرب بين عامي 1993 و1995.
وإذا تجاوزنا عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل إلى جوانب أخرى من معاناة الحياة في ظل الاحتلال، بما في ذلك حصار غزة منذ عام 2005 (وهو شكل غير قانوني من أشكال العقاب الجماعي وجريمة ضد الإنسانية)، فقد أدى الاحتلال بوضوح إلى خسائر كبيرة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الفلسطينية، بما في ذلك الآثار المدمرة المتعلقة بأبسط مستويات التنمية البشرية، مثل سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي (التي وصلت إلى مستويات مزمنة، بحسب توثيق منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر ومنظمات الإغاثة الأخرى). وقد وصفت الباحثة بجامعة هارفارد، سارة روي، الاتجاه الإجمالي بأنه يشير إلى ما هو أبعد من مجرد الإحباط أو الضعف في التنمية، ووصلت إلى حالة يمكن أن يطلق عليها «اللاتنمية»، وهذا يعني أن إسرائيل قد دفعت – بنشاط – مسار التنمية في المجتمع الفلسطيني إلى الخلف.
وعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن من الاحتلال، فإن المجتمع الفلسطيني لا يزال نابضاً بالحياة ومرناً بشكل مثير للدهشة، فهو بلد «متوسط الحد الأدنى من الدخل» وقد زادت مستويات التنمية البشرية فيه بشكل ملحوظ في العقود الأربعة الماضية، وبالتأكيد ليس بقدر ما لو كانت فلسطين دولة مستقلة، ولكنها تشكل نسبة أفضل من الدول العربية الأخرى مثل مصر أو سورية (قبل الحرب). ولا نقول إن هذه الأرقام تشير إلى أن الحكم الإسرائيلي أمر مفيد. ولكن هناك أسباباً عديدة – غير الاحتلال – وراء ارتفاع مستويات التنمية البشرية الفلسطينية التي لا علاقة لها بالسياسات الإسرائيلية، بما في ذلك التحويلات من أفراد الأسر العاملين في الخارج، في ظل المستويات المتدنية جداً للمعونات الخارجية. علاوة على ذلك، فإن ظروف الحياة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، ولا سيَّما تلك التي تقع خارج فلسطين التاريخية، لا تزال في وضع أقسى كثيراً من تلك الموجودة داخل الأراضي المحتلة.
ويمكن إثارة السؤال حول كيفية فهم المستويات الحالية للتنمية البشرية الفلسطينية، بالعودة إلى ادعاء التحريض أو التآمر أو النية في ارتكاب الإبادة الجماعية. ونعتقد أن المسؤولين الإسرائيليين سيجادلون بأنه على الرغم من قدرتهم على إلحاق أضرار كبيرة بغزة، فإن حالة عدم إلحاق أضرار بقدرة هذه القوة تدل على عدم وجود نية لديهم لارتكاب الإبادة الجماعية بموجب التعريف القانوني الحالي. وفي الواقع، فقد جادلوا مراراً وبنجاح بأن استخدامهم للقوة تم قياسه نسبياً باستخدام هذه المؤشرات. ولكن بالمقابل، فإن رغبة القادة الإسرائيليين في «إبقاء اقتصاد غزة على وشك الانهيار» (المذكور في الوثائق التي نشرتها ويكيليكس نقلاً عن دبلوماسيين إسرائيليين) تشير إلى نية ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لأن ذلك ينطوي على انتهاكات متكررة للمادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة.
ما الذي يمكن أن نستخلصه إذا نظرنا إلى مجمل تصرفات الاحتلال من حيث التعاريف القانونية للإبادة الجماعية؟ هل يمكن أن نقول، بعد المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه (Ilan Pappé): إن المقياس الكامل لأعمال إسرائيل على مدى نصف قرن يشكل ما أطلق عليه «الإبادة الجماعية»؟ وبموجب الفهم القانوني الحالي للإبادة الجماعية، فإن الإجابة – على الأرجح – هي لا، لعدة أسباب؛ ليس أقلها عدم الاعتراف بهذا التصنيف الزمني من قبل المحاكم المختصة. ولكن بابيه ليس الوحيد من قام بنشر مثل هذا المفهوم. وفي غرب بابوا (Papua) بإندونيسيا، تعطلت حياة سكان بابوا بسبب إحدى أكبر عمليات التعدين في العالم. وقد حذر الباحثون والحقوقيون من أن الناس هناك يواجهون «إبادة جماعية بطيئة» حيث تدمر المناجم موطنهم وطريقة حياتهم. ويزيد ذلك تفاقماً: التمييز الممنهج للحكومة ومعاملتهم باعتبارهم «عدواً»، ورفد المنطقة بالإندونيسيين من أمكنة أخرى جعلت البابويين أقلية في مناطقهم.
إن ديناميات غرب بابوا ليست مختلفة عن تلك الموجودة في البيئات والمستعمرات الاستيطانية الأخرى مثل أستراليا أو فلسطين/إسرائيل. وفي تحليل الوضع في بابوا، يقدم كيل أندرسون (Kjell Anderson) الباحث في الإبادة الجماعية من أجل «تطوير نموذج تحليلي جديد» لتحديد درجات وأطر زمنية مختلفة للإبادة الجماعية – وتحديداً – يميز أندرسون «الإبادة الجماعية» الساخنة «ذات الكثافة العالية» التي تجسدها الهولوكوست، عن ما يسميه «غير نمطية» أو «الباردة» أو «إبادة جماعية بطيئة». وهذه لا تنطوي على قتل جماعي، بل تحدث «بشكل تدريجي، على مدى سنوات، أو حتى أجيال». ويجادل أندرسون، بأنه كثيراً ما تحدث عمليات الإبادة الجماعية الاستعمارية أو الاستعمارية الجديدة، مستهدفة الشعوب الأصلية على هذا النحو. وفي هذه الحالة قد لا يكون التدمير المادي للسكان الأصليين مقصوداً بصورة مباشرة؛ بل إن الجناة يعمدون إلى تقويض أسس وجود مجموعات السكان الأصليين أكثر فأكثر من خلال القمع الممنهج أو السياسات الطائشة. وكثيراً ما تكون هذه السياسات متجذرة في نزع الكرامة الإنسانية للمنتمين للشعوب الأصلية، حيث يقال إن السكان الأصليين يشكلون فيها عقبات بدائية أمام التقدم الحضاري، والمصالح الجماعية للمجتمع السياسي الشرعي للدولة.
هل يمكن لمعاملة إسرائيل للفلسطينيين أن تتوافق مع معايير أندرسون للإبادة الجماعية البطيئة أو الباردة؟ من ناحية، فإن نموذجه أقرب إلى الحالة على أرض الواقع من التعريف القانوني التقليدي للإبادة الجماعية مع تركيزه على مدى الوفاة المقصودة أو الفعلية والتفكك المجتمعي. من ناحية أخرى، فإن أكثر محاولة «لتدمير» السكان الفلسطينيين سواء كانت سريعة أو بطيئة الحركة ستؤدي – بعد هذا الوقت الطويل – إلى خسائر فادحة في السكان كما حدث بالفعل أو كالتي عاناها سكان بابوا الغربية. ولا تزال قضية «المقياس» ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى الحساب القانوني.
لهذه الأسباب، نرى أن من الأهمية بمكان زيادة الوعي بشأن توسيع الفهم العلمي للإبادة الجماعية؛ لأن هذه المناقشات يمكن – بل ينبغي – أن تؤدي في نهاية المطاف إلى مناقشات مماثلة في المحاكم الدولية المختصة. إن فكرة إنشاء مقياس لفعل الإبادة الجماعية (لا ينبغي الخلط بينه وبين التحريض أو التآمر أو النية لارتكاب جريمة إبادة جماعية) تشمل خبرات مجتمعات، مثل بابوا الغربية وفلسطين. وفي العملية أيضاً إعادة دمج مفاهيم مثل الإبادة الجماعية الثقافة والسياسية (التي كانت تسمى في الأصل «إبادة سياسية politicide») في مصفوفة المعاني القانونية لتستحق الدراسة من قبل الباحثين والحقوقيين. ويبدو أن مثل هذا النهج يفسح مجالاً لمفاهيم عمليات الإبادة الجماعية الناشئة كالتدمير الاجتماعي (شاو)، أو المتدرج (بابيه)، أو الحركة البطيئة (أندرسون) والتي تمت مناقشتها هنا؛ لتصبح جزءاً من المناقشة القانونية مع تطور المصطلح.
مع ذلك، في البيئة القانونية الحالية، نعتقد أنه سيكون من الصعب جداً إثبات أن الحكومة الإسرائيلية قد اعتزمت أو تآمرت لارتكاب الإبادة الجماعية أثناء الاحتلال، (سواء كانت تدريجية أو مركزة). (وقد توصل آخرون إلى استنتاج معاكس؛ من ذلك ما صدر مؤخراً، من تحليل نشره مركز الحقوق الدستورية بعنوان «الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني: قانون دولي ومنظور حقوق الإنسان»).
غير أن التحريض مسألة أخرى. حيث نعتقد أن هناك أدلة على التحريض من قبل القادة الإسرائيليين لارتكاب الإبادة الجماعية، وينبغي معالجتها فوراً على المستوى الدولي. فلغتهم تتفق مع الحالات التي يعود تاريخها إلى نورمبرغ، حيث تمت محاكمة القادة السياسيين بسبب التحريض. وللتحريض أهمية خاصة لأنه جريمة «غير مكتملة» بموجب القانون الجنائي الدولي؛ أي أن الجريمة المرتكبة على أساسها «لا تحتاج إلى أن تحدث فعلاً من أجل إثبات الجريمة»، ولأنها مجال من مجالات قانون الإبادة الجماعية حيث حدث تطور في الفهم والتعاريف القانونية للمفهوم، على الصعيدين المحلي والدولي.
سابعاً: شعرية الإبادة الجماعية: من الفهم القانوني إلى الفهم الاجتماعي والسياسي
في رأينا أن «شعرية الإبادة الجماعية» ستدعو إلى الدراسة والإدراك الحاسم من أجل توسيع فهمها القانوني وغيره. تحاول الشعرية إيجاد حدود تعريف مصطلح معين (كما فعل أرسطو مع مصطلح المأساة في فن الشعر). وهكذا، فإن الشعرية مطلوبة عندما تكون حدود المصطلح غير واضحة بأي شكل من الأشكال. ونحن نؤكد أن الحاجة إلى مثل هذه الشعرية ملحَّة؛ لأن مصطلح الإبادة الجماعية قد تم استخدامه في السنوات الأخيرة لوصف حالات معينة حيث أدى استخدامها إلى إحداث الارتباك والتناقض.
وإذا لم يتعرض الفلسطينيون في السنوات الخمسين الماضية لإبادة جماعية – كما هو محدد في السوابق القضائية الدولية، وتفسره الهيئات القضائية – فإن ذلك لا يعني أنهم لم يعانوا تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي الجائر. والواقع أن إسرائيل – كما ذكرنا أعلاه – ارتكبت بشكل روتيني وممنهج جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. والمدى الذي بلغته جرائم إسرائيل يمكِّن مبدئياً من مقاضاة مسؤولي الدولة عن الجرائم الدولية المتعلقة بالاضطهاد والاحتلال والفصل العنصري. وأي متابعة لهذه الدعاوى من شأنها أن تغير بشكل عميق الموقع الدولي لإسرائيل، حيث يمكن أن تخضع لجزاءات وغيرها من التدابير القاسية حتى تتوقف عن ارتكاب هذه الجرائم. وبكونها موقعة الاتفاقيات التي تحدد هذه الجرائم، فإن داعميها من الحكومات الأجنبية، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، سيكونون في موقف حرج لتجنب معاقبة إسرائيل بشكل جدي عقب هذا الحكم.
وبالنظر إلى أنَّ أعداداً متزايدة من الأمريكيين والأوروبيين الآن على استعداد للنظر في المسؤولية الإسرائيلية عن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية والفصل العنصري، فإننا نحث على بذل جهود قوية ومتضافرة لبناء الحالة القانونية والعامة لمثل هذه المحاكمات. ونعتقد أيضاً أن التركيز في هذا السياق على اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية – كمسألة قانونية – لا يزال ينطوي على نتائج عكسية استراتيجياً؛ لأنه سيشتت الجهود بعيداً من العمل المكثف اللازم لاتخاذ قرار بشأن الجرائم الدولية الخطيرة الأخرى، وقد يوحد المشككين والخصوم حول موقف يبالغ فيه الفلسطينيون في تصوير معاناتهم، وينفر قطاعات من الناس والرأي العام، حيث هناك حاجة إلى دعمه لإجبار المحاكم الحذرة سياسياً من أجل النظر في تلك الجرائم.
لذلك نقترح التركيز على متابعة القضايا التي يحتمل أن يتم الفصل فيها. ولكننا نؤيد أيضاً متابعة أخرى ومتزامنة للانخراط في العمل المستمر من أجل تغيير التعريف القانوني المعمول به للإبادة الجماعية ليشمل إجراءات أخرى لا تنص عليها المعايير الحالية. وقد يكون للإبادة الجماعية تعريفات ومعان اجتماعية وقانونية. لكننا لا نتحدث عن الحجج الاجتماعية هنا؛ فالاحتلال الإسرائيلي هو – أولاً وقبل أي شيء – قضية قانونية. إذا كان المطلوب مواجهته وهزيمته في نهاية المطاف، فسوف يكون ذلك اعتماداً على القانون أكثر كثيراً من علم الاجتماع. ولكن في الوقت نفسه، نحن بحاجة إلى النظر في الكيفية التي يمكن أن يتطور بها المصطلح القانوني، أولاً من خلال تطوره في إطار النظرية الاجتماعية والسياسية والقانونية، ومن ثم من خلال التطبيق التدريجي لتفسيرات ولمفاهيم أحدث، من قبل المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من الهيئات القضائية في القضايا الحالية.
وعندما يناقش المرء قوة القانون، فإن مسألة التفسير، وسلطة تحديد معنى اللغة (لغة القانون في هذه الحالة) أمر بالغ الأهمية. إن تراتبية السلطة القانونية استعمارية في جوهرها، وهذا صحيح حتى في السياقات المعاصرة «ما بعد الاستعمارية». وعندما نناقش مشكلة التفسير، يجب أن نعالج مشكلة الترجمة. كانت الجريمة الأساسية للقانون الهندي الفدرالي الأمريكي (US Federal Indian Law) – على سبيل المثال – هي ترجمة علاقات السكان الأصليين إلى أرض، حيث تعد الأرض غير قابلة للتبديل لأنها جزء من صلة القرابة، في علاقات الملكية، التي أطلق عليها الباحث القانوني روبرت ويليمز: التسويغ القانوني للإبادة الجماعية.
ولو أخذنا أمثلة من سياق آخر، ففي القانون الحالي في بوليفيا والإكوادور حيث كان للشعوب الأصلية في كلا البلدين تأثير كبير في كتابته، تم منح الأرض (الباشامامة (pachahmama)، أو الأرض الأم) حقوق الإنسان. فقتل الأرض (ومن وجهة نظر السكان الأصليين هو تحويلها إلى ممتلكات)، ثم، يكون ذلك ارتكاب إبادة جماعية. واحدة من التهم الموجهة من قبل المدافعين الأصليين ضد خط الأنابيب الواصل ولاية داكوتا (مقرها في ولاية داكوتا الشمالية الأمريكية) هي «الإبادة الجماعية البيئية». إذاً فالسؤال هو، من الذي يضع القانون، ومن الذي يفسره؟ ما المصطلحات التي يتضمنها ويستثنيها؟ من هو داخل القانون ومن خارجه، وبماذا تُبنى التعاريف الداخلية والخارجية، وكيف يمكن أن تؤثر مفاهيم وتعاريف سياق في تلك الموجودة في سياق أخرى؟
وكما ذكرنا في ما تقدم، فإن الإبادة الجماعية الثقافية والتطهير العرقي هما فئتان من التدمير كان يمكن إدراجهما في محددات اتفاقية الإبادة الجماعية، ولكن لم يتم ذلك لاعتبارات سياسية. والواقع أنه في نقاش جرى مؤخراً بين بيني موريس ودانيال بلاتمان حول التطهير العرقي الذي حصل في عام 1948، نشر في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، يقول موريس: إن الأشخاص الذين لا يغادرون مباشرة مناطقهم الواقعة تحت النار لا ينبغي اعتبارهم قد تعرضوا لتطهير عرقي حتى ولو لم يسمح لهم بالعودة إلى منازلهم بعد الصراع. وتقدم هذه الحجة نموذجاً سلبياً على أهمية توفير أساس قانوني أكثر حزماً للنظر في التطهير العرقي بوصفه جريمة دولية وتحديد علاقتها بالإبادة الجماعية.
إن الضوابط التعريفية والتفسرية للإبادة الجماعية، في ما يتعلق بالتدمير المادي/البيولوجي واستبعاد التدمير الثقافي أو السياسي، قد وُضعت جزئياً لمنع الشعوب التي تعرضت للاستعمار من تقديم دعاوى ناجحة عن الإبادات الجماعية التي قام بها المستعمرون. وقد ارتكب ليمكين نفسه مثل هذه التوجه، حيث عارض إضافة الاستعمار إلى قائمة الجرائم؛ لأنه قد يؤدي إلى توجيه اتهامات من هذا القبيل ضد القوى الأوروبية ذاتها التي لم يكن لاتفاقية الإبادة الجماعية أي فرصة لاعتمادها أو التصديق عليها من قبل الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها لولا دعم تلك الدول. وكما يوضح ويليام شاباس (William Schabas) في مقدمته عن الإبادة الجماعية في القانون الدولي، أنه «على مدى عقود، طلب من اتفاقية الإبادة الجماعية أن تتحمل عبئاً لم يكن مقصوداً، وذلك أساساً بسبب حالة التخلف النسبية للقانون الدولي، في التعامل مع المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان… وقد تغير هذا في السنوات الأخيرة».
بتعبير آخر، ومع تغير البيئة القانونية والسياسية الدولية، هناك مجال للفهم القانوني للإبادة الجماعية ومعناها. ولكن لكي يحدث ذلك، يحتاج علماء القانون إلى أن يبذلوا الكثير من الجهد لخلق الأسس القانونية والسياسية والأخلاقية المهمة لهذا التطور.
في هذا السياق، ينبغي التأكيد مجدداً، أنه لم يطرأ سوى توسع ضئيل في التعريف القانوني للإبادة الجماعية منذ عام 1948، غير أن المفهوم اتسع نطاقه اجتماعياً. وقد اكتسبت مفاهيم مثل «الإبادة السياسية» أو «الإبادة العرقية» – التي استثناها صائغوها صراحة من الاتفاقية – قبولاً متزايداً بين العلماء وصناع السياسات وبعض قطاعات الرأي العام. ونعتبر أن الإبادة السياسية مصطلح مفيد بوجه خاص لأنه أدرج في المسودة الأصلية لاتفاقية الإبادة الجماعية، ولكنه استبعد من الصيغة النهائية، بسبب المخاوف من أن تستخدمها الجماعات والأحزاب السياسية المقموعة لتوجيه الاتهامات إلى حكوماتها، ولأنه لا يعتقد أن العضوية في هذه الجماعات لديها من «الاستقرار» ما يتفق مع متطلبات حمايتها من قبل الاتفاقية.
استخدم عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلينغ (Baruch Kimmerling) المفهوم السياسي، بدلاً من الإبادة الجماعية، لوصف هدف إسرائيل الواضح وتنفيذها الناجح للسياسات طويلة الأجل الموجهة إلى «إنهاء وجود الشعب الفلسطيني ككيان اجتماعي وسياسي واقتصادي مشروع» من خلال منع أي إمكان لحصول الفلسطينيين على السيادة والاستقلال في دولتهم القومية.
ومن أجل الانخراط في الشعرية، قد نسأل بعد ذلك، ما هي حدود الإبادة الجماعية؟ متى تبدأ ومتى تنتهي؟ لكي لا نتصور أن الماضي لا يحدد المستقبل بشكل مسبق، فإن المعاناة الحالية في ظل الاستعمار الأمريكي المستمر ومواجهته لكثير من المجتمعات الأمريكية الأصلية، تذكرنا بأن جرائم القرون السابقة يمكن أن تؤثر بشكل مباشر في مظالم الحاضر؛ إذا لم يتم التصدي لها بشكل مباشر ومعالجتها. ولا يمكن أن نتوقع أن يحصل الفلسطينيون على عدالة أكثر من الأمريكيين الأصليين، إذا ما احتفظت إسرائيل بمستوى السلطة نفسه والإفلات من العقاب في المستقبل المنظور، ولم تحاسب على ماضيها.
خاتمة: توسيع المصطلحات
تثير الآليات التي من خلالها جرت عملية القضاء على الأمريكيين الأصليين، واستمرار اضطهادهم، السؤال التالي: هل يمكن ارتكاب الإبادة الجماعية دون تدمير مادي للمجموعة أو حتى جزء منها، على الرغم من أن التدمير المادي تاريخياً قد نفذ التدمير الثقافي؟ يبدو أن الجواب «نعم»، ولكن هذه إجابة سوسيولوجية حتى الآن، من دون أي آثار قانونية، ما لم تستخدم إحدى الهيئات القضائية ذات الصلة هذه الحقائق؛ للمساعدة على إعادة صياغة التعريف القانوني للإبادة الجماعية.
يجب على الفقهاء والعلماء توسيع نطاق التصورات المفاهيمية للإبادة الجماعية في ما يتعلق بالمجموعات المحمية، وما هي الأعمال التي تعنيها اتفاقية الإبادة الجماعية؛ بغية جعل جريمة الإبادة الجماعية موضع نقاش وجدال في سياق الأوضاع التاريخية أو الراهنة، سواء في فلسطين المحتلة أو في المناطق الحضرية الأمريكية، حيث لا تتوافق الشروط القائمة مع التعريف القانوني الحالي. مع العلم أن الفلسطينيين يشكلون بالفعل مجموعة محمية («وطنية»)، مشمولة بالاتفاقية. وبالمثل، من المهم توسيع نطاق المسؤولية الجنائية إلى ما هو أبعد من شرط تقديم الدليل الذي يقضي بأن الجناة ينوون على وجه التحديد ارتكاب الإبادة الجماعية إلى «نهج قائم على المعرفة» من شأنه توسيع نطاق المسؤولية الجنائية لتشمل الوعي بالآثار المحتملة للأعمال المتخذة. غير أن هذا التغيير لن يؤثر في التقييم في هذه الحالة دون تغيير نوع الإجراءات التي تشملها الاتفاقية ونطاقها.
من ناحية أخرى، وبخاصة في ضوء التصريحات المعلنة المتزايدة من قبل المسؤولين الإسرائيليين الذين دعوا إلى الاغتصاب، والقتل الجماعي، والتدمير، والجرائم الدولية الأخرى ضد الفلسطينيين، فإننا نكرر التأكيد أن اتهامات التحريض لارتكاب الإبادة الجماعية أصبحت أكثر قابلية للتصديق على نحو متزايد، عندما ترتبط بجرائم واسعة النطاق تورطت بها إسرائيل في الهجمات ضد غزة على مدى العقد الماضي. على أقل تقدير، فإن الأثر المستمر للفتوى الاستشارية الصادرة عن محكمة العدل الدولية في لاهاي عام 2004 بشأن «الجدار العازل» في الضفة الغربية يوضح أنه إذا كان من الممكن إقناع هيئة تابعة للأمم المتحدة مثل الجمعية العامة (التي طلبت الرأي عام 2004) بطلب رأي محكمة العدل الدولية، فإن التحقيق الناتج في جميع القضايا المثارة في هذا المقال سوف يقطع شوطاً كبيراً نحو توضيح الفهم القضائي الدولي لسلوك إسرائيل مع مرور نصف قرن من الاحتلال.
غير أن هذا الإجراء منفصل عن التساؤل الأوسع الذي حاولنا أن نتناوله في هذا المقال وهو: هل من الممكن ومن المستحسن توسيع تعريف الإبادة الجماعية ليشمل الإجراءات التي لا تعتبر اليوم كافية لتبرير تطبيق المفهوم في المحكمة؟ توضح المناقشة السابقة الحالة التي تواجه سكان أمريكا الأصليين، فضلاً عن الإيذاء المستمر الذي يتعرض له الأمريكيون السود – الذي بينته «حركة من أجل حياة السود» (Movement for Black Lives) (التي تسببت بضجة في العام الماضي عندما اشتمل البيان على لغة تتهم إسرائيل بالإبادة الجماعية) – كما تقترح أسباب القيام بذلك. والواقع أن بلداناً مثل فرنسا ورومانيا شهدت في السنوات الأخيرة توسعاً في مفهوم الإبادة الجماعية في السوابق القانونية.
ببساطة، يمكن أن يحدث التغيير، وإن كان ذلك ببطء شديد في كثير من الأحيان. ونؤكد هنا أننا لا ندعو إلى «خفض مستوى المعايير» أو معيار الإبادة الجماعية بحيث تشمل الأفعال التي لا تنطوي بوضوح على النية، أو السياسات، أو التدمير المادي الفعلي أو تجزئة المجتمعات المحلية. بدلاً من ذلك، فإننا ندعو إلى النظر على نطاق أوسع في معرفة أنواع الإجراءات التي تفي بالمعيار القائم.
وفي حالة الأعمال الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، يبدو أن هناك حاجة إلى وضع استراتيجية ذات شقين: الأول، تعريف الرأي العام بمدى الجرائم الإسرائيلية، وشدتها، وإمكان تطبيق الاتفاقيات والقوانين الدولية القائمة عليها، مثل تلك الاتفاقيات التي تستهدف الفصل العنصري، والتمييز العنصري، والاضطهاد، والجرائم ضد الإنسانية. إن انتهاك إسرائيل الروتيني والمستمر لهذه القوانين ينطوي بالفعل على عواقب قانونية وخيمة إذا ما طبقت هذه الاتفاقيات عليها. الآخر، الدعوة إلى توسيع التعريف القانوني للإبادة الجماعية؛ لتشمل الجرائم التي تنطوي على التطهير العرقي، والقتل الجماعي للجماعات غير المحمية حالياً (أي تلك القائمة على أساس الثقافة أو الانتماء السياسي)، وكذلك التدمير السياسي، لتصبح جزءاً من نظرية المعرفة القانونية والفقهية المحيطة بالإبادة الجماعية.
ختاماً، إن توسيع التفاهمات الاجتماعية ومن ضمنها تعريفات قانونية للإبادة الجماعية، سيؤدي دوراً مهماً في النضال من أجل إجبار إسرائيل والولايات المتحدة وعدد كبير من الحكومات الأخرى على إنهاء القمع الوحشي الممنهج وطويل الأمد للسكان، والامتثال للقانون الدولي. ولكن قبل أن يحدث ذلك، هناك حاجة إلى المزيد من العمل الأساسي، فيجب أن ينظر الناشطون والأكاديميون إلى الخسائر السياسية والاستراتيجية المترتبة على اتهام الحكومات بالإبادة الجماعية، قبل وجود البيئة القانونية والسياسية لمثل هذه الاتهامات كي تؤتي هذه الدعاوى ثمارها.
قد يهمكم أيضاً الحرب الباردة الثانية واستراتيجية الدفاع الفلسطينية: دونكيشوتية؟
اقرؤوا أيضاً العار والذنب والفشل العربي في التغلب على العجز
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الإبادة_الجماعية #القانون_الدولي_والإبادة_الجماعية #جرائم_الحرب #العنصرية #جرائم_ضد_الإنسانية #الإرهاب #الجرائم_الاسرائيلية #دراسات
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 473 في تموز/يوليو 2018.
(**) مارك ليفاين: أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا، وأستاذ زائر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة لوند – السويد.
(***) إيريك شيفيتس: أستاذ في الدراسات الأمريكية والعلوم الإنسانية، جامعة كورنيل – نيويورك.
(****) محمد المحفلي: زميل باحث زائر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة لوند – السويد.
[1] يطلق مصطلح السجن الجماعي (Mass Incarceration) من قبل علماء الاجتماع والباحثين ويقصدون به الزيادة الكبيرة في نسبة الأمريكيين السود في السجون الأمريكية بفعل القوانين العنصرية التي شجعت على ذلك (المترجم).
[2] العنصرية الهيكلية (Structural Racism) هي العنصرية القائمة على ممارسات السياسات العامة والمؤسسات والتمثلات الثقافية وفق عمل منهجي ومنظم، ومن منطلقات معينة قائمة على العرق أو اللون أو الأيديولوجيا.. إلخ. (المترجم).
[3] قضية كرواتيا- صربيا، قضت فيها محكمة العدل الدولية في عام 2015 برفض الاتهامات المتبادلة بين البلدين بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وقد ادعى كل طرف أن الآخر ارتكب جرائم إبادة جماعية أثناء الحرب التي دارت بعد الانفصال عن يوغوسلافيا السابقة التي استمرت بين 1991 – 1995 (المترجم).
[4] أصدر الأمريكيون هذا النظام أو القانون عام 1705 لتحديد من يمكن أن يكون أمريكياً أصلياً ومن لا يكون كذلك بناء على ما إذا كان الأب أو الأم أمريكياً أصلياً، ويترتب على هذا التحديد عدد من الإجراءات والحقوق التي تميز بين السكان الأصليين عن غيرهم من ذوي الأصول الأوروبية (المترجم).
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.