تشير مجموعة من المعطيات التي اجتمعت حالياً على الصعيدين الخارجي والذاتي الفلسطيني إلى أن المرحلة المقبلة، وبالتحديد خلال ولاية ترامب الثانية، سيكون لها تداعيات ذات أثر كبير في القضية الفلسطينية، وربما أثر حاسم على صعيد المحاولات التي استمرت طويلاً لإنهائها، وإغلاق الملف المتعلّق بمعالجة الحقوق الوطنية الشرعية للشعب الفلسطيني. ما يجعل هذه المرحلة محفوفة بالمخاطر المتوقع مواجهتها فلسطينياً، أنها تأتي مع تكالب مجموعة عوامل خارجية، أمريكية وإقليمية وإسرائيلية، ضاغطة بشدة باتجاه حسم الصراع العربي/الفلسطيني – الإسرائيلي، من جهة، في وقتٍ وصل الوضع الداخلي الفلسطيني إلى حالة من الوهن الشديد، الناتج من فقدان المناعة الذاتية، وهو ما يقلّص بقدر كبير القدرة الفلسطينية على التمكّن من مواجهة الضغوط الوافدة بالنجاعة المطلوبة، من جهة أخرى. المقلق جداً مع هذا الوضع هو ارتفاع إمكان تمرير «تسوية الحدّ الأدنى» على الفلسطينيين، والاضطرار إلى الانجرار لقبولها، إن لم يتم العمل الفلسطيني السريع والفعّال لمعالجة تردّي الأوضاع الداخلية، واستعادة ولو الحدّ الأدنى من المناعة المهدورة.

* * * * *

لاستقراء تأثير العوامل الخارجية في مستقبل القضية الفلسطينية، من الضروري استقصاء منطلقات وأهداف، واستيضاح أثر تقاطع مصالح، الفاعلين الأساسيين الخارجيين في هذا الملف. ويمكن تقسيم هؤلاء الفاعلين على ثلاثة صعد: الدولي والإقليمي والإسرائيلي.

1 – على الصعيد الدولي

مع أن النظام الدولي الأحادي القطبية يشهد تحولات، وإن كانت بطيئة، باتجاه التحوّل إلى التعددية القطبية، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تستأثر، حالياً وعلى مدى المستقبل المنظور، بالمكانة الأهم والنفوذ الأوسع دولياً على منطقة الشرق الأوسط، وبالاستحواذ المطبق على ملف تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. هذا الاستئثار يستمر ليس بسبب اتساع مدى وعمق تغلغل المصالح الأمريكية في المنطقة فقط، وما أنتجه ذلك من روابط في مجالات متعددة مع أنظمة حكم متعددة فيها، وخصوصاً العلاقة العضوية التي تربطها بإسرائيل، بل لعدم إيلاء الصين أولوية لهذه المنطقة أيضًا، وهي تُرسّخ من صعودها، وتُعزز من منافستها لأمريكا، من جهة، ولانكماش القدرة التأثيرية الروسية فيها، لمصلحة توسيع التغلغل في مناطق أخرى، وخصوصاً في أفريقيا، من جهة ثانية، ناهيك بالتذييل التبعي الأوروبي لأمريكا بوجه عام، من جهة ثالثة. على هذا الأساس، فإن مستقبل القضية الفلسطينية، ومسار ومآل ما يمكن أن يُطرح من تسوية مقبلة لها، سيتأثران إلى حدٍّ كبير خلال السنوات الأربع المقبلة بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وبنظرته وأولوياته الأساسية تجاه العالم، وموقع منطقة الشرق الأوسط في خارطة هذه الأولويات، ومحددات رؤيته لكيفية معالجة الملف الفلسطيني.

نظراً إلى المرتكزات التي حكمت رؤية ترامب وتصرفاته خلال حقبة رئاسته السابقة، وإلى تصريحاته المتواترة حالياً، فإن سياسته خلال حقبة رئاسته المقبلة ستتمحور حول القضايا الكبرى. وبالنسبة إليه فإن هذه القضايا تتعلق بالأساس باستعادة مكانة أمريكا في العالم. وتحت شعار «أمريكا أولاً» سيعطي ترامب كامل اهتمامه لمعالجة القضايا الداخلية التي يعدّها أولوية وضرورية لإعادة بعث التفوق الأمريكي، ويأتي في مقدمها تمتين الوضع الاقتصادي، وبسط الأمن الداخلي، والحدّ من الهجرة غير الشرعية. ويأتي مترافقاً مع ذلك، وبالأهمية نفسها، مواجهة ما تتعرض له البلاد من منافسة خارجية، وبالتحديد في مجال التبادل التجاري، تستهدف إضعافها وتقويض مكانتها، لا من جانب الصين فحسب، وإنما من جانب دول أخرى تدخل تقليدياً في خانة الحلفاء والأصدقاء. ولا يريد ترامب في مسعاه على الصعيدين الداخلي والخارجي، أن يحيده عن تحقيق الفوز استمرارُ التورط في حروب عسكرية، والانشغال بصراعات جانبية. فالحروب التي يستعد لخوضها هي ذات طابع مختلف، كالمتعلق منها بالتعرفة الجمركية، وتحتاج إلى إعادة تجميع الموارد، لا تبديدها في مجالات وقضايا لا يرى أنها تحقق المصلحة الأمريكية؛ فهذه المصلحة، بالنسبة إليه، شديدة الوضوح، محددة ومركزة، ولا تحتمل استمرار التشتيت بالانغماس في شؤونٍ يعُدُّها غير أساسية لإعادة بناء مستقبل أمريكا، واستعادة مكانتها المتفردة في النظام الدولي.

مع أن منطقة الشرق الأوسط تبقى مهمة لترامب، إلا أنها لا ترقى في حساباته إلى مكانة القضايا المركزية، ولا تقع ضمن القضايا العليا في سلم أولوياته. لذلك فإن ما يريده هو تحقيق استقرارها، بهدف إزاحتها عن جدول أعماله المزدحم بملاحقة أهداف أهم. وفي سبيل ذلك، هدد بأنه لن يتوانى عن مواجهة أي طرف في المنطقة يريد إعاقة تحقُق هذا الاستقرار. أما أساس الاستقرار الذي يحافظ على المصالح الأمريكية في المنطقة فيرتكز على استمرار الدعم الثابت والمطلق لإسرائيل، الحليف ذي العلاقة العضوية (ما فوق الاستراتيجية) بأمريكا، وتمكينها كقوة إقليمية مهيمنة. ويتحقق ذلك من خلال أمرين: استكمال تطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية، وبوابتها السعودية، وإضعاف إيران وتقليص نفوذها الإقليمي وإنهاء مساعيها لتطوير السلاح النووي. وبما أنه لا يريد الانشغال بحرب، فمن المتوقع، وهناك مؤشرات تدل على ذلك، أن يحقق ترامب الهدف مع إيران بإبرام صفقة مواتية تُعدّ منذ الآن برويّة. أما بالنسبة إلى الدول العربية التي ما تزال قائمة ولم تتفكك بعد، فهي بوجه عام لا تحظى منه بدرجة عالية من التقدير، وهو لا يحسب لها حساباً كثيراً، إذ يعدّها مطواعة ومضمونة التبعية والولاء، تؤدي نظمها السياسية الأدوار الوظيفية المطلوبة منها بانتظام. ضمن هذا الإطار يخصّ ترامب السعودية بوضع مميز، لا لثروتها وعلاقتها الاستراتيجية الممتدة عبر قرابة القرن مع أمريكا فقط، بل لما تتمتع به أيضاً من مكانة دينية تؤهلها لقيادة العالمين العربي والإسلامي. هذا ما يجعل منها شريكاً يُعتمد عليه لتحقيق استقرار المنطقة، ويستفاد منه في معالجة قضايا أخرى خارجها. وفي ما يتعلق بتطبيع علاقات دول متعددة في المنطقة مع إسرائيل، فقد كان الموضوع نافذاً، لكن حال دون إتمامه اندلاع الحرب في عقب عملية «طوفان الأقصى». ونتيجة للحرب وتداعياتها الكارثية على قطاع غزة، طالبت السعودية لإتمام اتفاق التطبيع المتوقف أن يتضمن التزاماً بحلّ القضية الفلسطينية على أساس «حلّ الدولتين»، ومساراً موثوقاً لإقامة الدولة الفلسطينية.

وفي ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فهي بالنسبة إلى ترامب ليست أكثر من عامل اضطراب وعائق يحول دون استقرار المنطقة. ومنطلق معالجتها، بالنسبة إليه، ليس عقائدياً – أيديولوجياً، وإنما يريد وفق أسس براغماتية التوصل إلى تسوية في شأنها، يحكمها أمران: تحقيق المصلحة الأمريكية باستقرار المنطقة، من جهة، وتحقيق مصلحة إسرائيل، من جهة أخرى. ومع أنه يبدو أول وهلة أن المصلحتين متماثلتان، إلا أنهما في واقع الأمر تتقاطعان كثيراً، ولكنهما لا تتطابقان كليًا؛ فالمصلحة الإسرائيلية أضيق من المصلحة الأمريكية المتشعبة والمتشابكة في المنطقة. لذلك فإن تسوية ترامب للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، لن تأتي بالضرورة متطابقة تماماً مع رؤية حكومة نتنياهو اليمينية – الدينية الحالية، كون استقرار المنطقة بتطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية، تتطلب استجابة، ولو بالحدّ الأدنى، للمطلب السعودي. ولدينا في «صفقة القرن» التي طرحها ترامب خلال حقبة رئاسته الأولى خير دليل على ذلك، إذ لم تتطابق رؤيته فيها مع الموقف الإسرائيلي بالحؤول دون إقامة دولة فلسطينية، بل قامت خطته على إقامة هذه الدولة، مع أنها لم تتعدَّ بالتفاصيل كونها «دولة بقايا» تتكون من فتات متقطع الأوصال.

2 – على الصعيد الإقليمي

منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، شهدت المنطقة، وما تزال، تحولات جوهرية في موازين القوى الإقليمية، وهو ما سيكون له تداعيات ذات أثر عميق في مستقبل القضية الفلسطينية، وبالتحديد في مضمون التسوية السياسية المحتملة. ويجدر التنويه، أولاً، أن القوى الأساسية التي تشكّل الركائز الفاعلة والمؤثرة في المنطقة هي الدول غير العربية؛ إسرائيل وإيران وتركيا، مع انحسار مدى القوة والقدرة التأثيرية العربية، وتجمّعها لدى بعض الدول الخليجية، وبخاصة عند السعودية. أما بقية الدول العربية فهي إما منكفئةً على معالجة مشاكلها الداخلية المتفاقمة، وإما تمثِّل – وبخاصة في المشرق العربي – ساحات وغى للصراعات الدولية والإقليمية العنيفة. كما يجدر الاعتراف، ثانياً، أن حالة التضامن الرسمي العربي تمرّ في أوهن مراحلها، بعد أن تعززت مكانة الدولة القطرية خلال العقود الماضية، وخفتت مقابلها المؤثرات السياسية الفعلية للقومية العربية، وهو ما أدى إلى تقديم مصالح الدول الفردية، المتعارضة في أحيان كثيرة، على المصلحة الجمعية للأمة ولما كان يُدعى «العالم العربي».

عقب عملية «طوفان الأقصى» التي فاجأت بها حركة حماس إسرائيل، كان للحرب التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة، ثم على لبنان، تداعيات سلبية عليها، شملت مختلف المجالات، ولا تزال تعانيها حتى الآن. لكن هذه الحرب التي كان من المؤمَّل عند بعض الأطراف أن تُنهك إسرائيل وتُضعف مكانتها الإقليمية على نحوٍ مستدام، هذا إن لم تودِ بها بالكامل، لم تُنتج المأمول؛ فقد استطاعت إسرائيل، بإسناد خارجي هائل من حلفائها الغربيين، وفي مقدمهم أمريكا، أن تستوعب، وإن كان بصعوبة بالغة وأثمان باهظة، مجمل الصدمات التي تلّقتها، وأن تقوم بارتدادات عنيفة غيّرت بواسطتها ميزان القوى الإقليمي في المنطقة؛ فبحرب تدميرية عنيفة على قطاع غزة، أضعفت إسرائيل على نحوٍ جوهري من قدرة حركة حماس العسكرية، ومن إمكان استمرار سيطرتها على القطاع. وبحرب خاطفة ومكثفة على لبنان، تمكنت من إعطاب حزب الله وإخراجه فعلياً من المواجهة معها لمرحلة طويلة مقبلة، إن لم يكن على نحوٍ نهائي ومستدام. وعقب توجيه ضربة مؤثرة في العمق الإيراني، قامت بإسهام فعّال بالقضاء على حكم الأسد في دمشق، فأنهت بذلك الوجود الإيراني في سورية، وقطعت خط إمداد إيران الرئيسي لحزب الله، ناهيك بالتوسع في احتلالها لمزيد من الأرض السورية.

بغضّ النظر عن استمرار الحرب بالشعارات، استطاعت إسرائيل فعلياً تقويض قدرة «محور المقاومة»، وتفكيك «وحدة الساحات»، وإضعاف موقع إيران كقوة منافسة لها في الإقليم. وبذلك تكون عملية «طوفان الأقصى» وتداعياتها المتلاحقة حتى الآن، قد أفضت، بالحصيلة، إلى خفض حالة التوتر والاحتقان الشديد والمتصاعد في المنطقة، من جهة، وقلّصت، لمصلحة إسرائيل، من حدة حالة الاستقطاب الإسرائيلي – الإيراني فيها، من جهة ثانية. وبذلك تكون النتيجة أن إسرائيل استطاعت، بمعاناة شديدة سيكون لها آثار سلبية فيها في مستقبلًا، أن تُعزز من مكانتها كقوة إقليمية في المنطقة، وأن توفّر في الوقت نفسه الأرض الملائمة لفرض الاستقرار الذي يريده ترامب لها، حتى قبل أن يتسلّم منصبة، وأن تسهل له مهمة استكمال هذا الفرض بعد تسلُّم المنصب.

يتحقق هذ الاستكمال بمعالجة ترامب للملفين المتبقيين. الأول، الملف النووي الإيراني، الذي زاد احتمال أن تكون إيران في ضوء التغيرات الحاصلة في الإقليم، قد أصبحت أكثر انفتاحاً وقبولاً لعقد صفقة مع ترامب في شأنه، تؤدي إلى رفع متدرج للعقوبات التي أنهكت اقتصادها، وإعادة استيعابها كدولة أكثر انفتاحاً وإيجابية في المنطقة. والثاني، هو المتعلق باستكمال «الاتفاقيات الإبراهيمية» التطبيعية بين إسرائيل وبقية الدول العربية، التي ربطتها السعودية بتحديد مسار إيجابي لإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بإقامة الدولة الفلسطينية. في هذا السياق، يجدر الانتباه أن الكثير من المؤشرات تدل على أن القضية الفلسطينية لم تعُد في العقود الأخيرة، وبخاصةٍ بعد تمتين وضع الدولة القطرية، من جهة، وتزايد إشكاليات الأوضاع الداخلية الفلسطينية والأعباء «المقذوفة» على هذه الدول بسببها، من جهة أخرى، تمثِّل لأنظمة الحكم فيها قضية حق عربي مهدور يجب استعادته، بل أصبحت تعدُّ عبئاً ثقيلاً ومصدر إزعاج تريد الكثير من هذه الأنظمة التخلص منه وإزاحته عن كاهلها. من هذا الباب، انحسر تأييد هذه الأنظمة الفعلي للقضية، في حين استمرت وتيرة التأييد المظهري والشكلي على حالها، وإلى الدرجة التي أصبح الكثير منها منهمكاً في الوساطة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. فهذه الأنظمة باتت تبحث عن مخرج، وترضى بتسوية سياسية لا يتعدى سقفها مستوى تلبية متطلبات الحدّ الأدنى، وتمارس مختلف الضغوط على الفلسطينيين لتنزيل سقف مطالبهم، والقبول بتسوية السقف المنخفض، لتتغطى به وتزيح عن كاهلها العبء واستمرار الحرج. إنها تريد إغلاق الملف وإزالة العثرة التي تحول دون تجاوبها مع المطلب الأمريكي بالتطبيع الكامل والعلني للعلاقات مع إسرائيل.

3 – على الصعيد الإسرائيلي

بعد مرور أكثر من قرن من العدوان المعزز بدعم غربي على فلسطين، يواجه المشروع الصهيوني الذي بُني على أسطورة «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض» معضلة وجودية أساسية. فعلى الرغم من استيلاء إسرائيل على كل أرض فلسطين التاريخية، ومع كل ما اتبعته من سياسة ممنهجة لطرد وتهجير الفلسطينيين من وطنهم، فإن عدد الفلسطينيين الآن في إسرائيل والأرض المحتلة يزيد على عدد الإسرائيليين اليهود. ولاستكمال تحقيق الهدف الصهيوني الأساسي، وجدت إسرائيل في الحرب التي تشنها حالياً فرصة مواتية لحسم موضوع الأرض المحتلة، وتقليص عدد الفلسطينيين فيها إلى أدنى مستوى ممكن. ومع أن الظاهر هو استهداف قطاع غزة، وهو كذلك، إلا أنه يجب ألا يغيب عن البال أن الضفة هي المستهدف الأساس؛ ففي حين يمثِّل القطاع في الجوهر معضلة أمنية لأغلبية الإسرائيليين، فإن للضفة اعتبارات ذات أبعاد أهم وأشمل، توراتية واستراتيجية وعسكرية واقتصادية، تجعل من الاستيلاء عليها، بعد القدس، أولوية الأولويات.

يتحكم في إسرائيل الآن حكومة يمينية أصولية، تسيطر فيها أيديولوجية صهيونية – توراتية. لم تأت هذه الحكومة مصادفةً، كما لم تكن وليدة حاجة طارئة، بل هي نتاج عملية تحوّل طويلة، ابتدأت بفوز «الصهيونية التصحيحية» لجابوتنسكي، الذي كان يمثلها حزب حيروت بزعامة بيغن، في انتخابات عام 1977، وتأليف الحكومة. منذ ذلك الحين، استمر التوجه اليميني في الصعود وتعزيز مواقعه في الحكم، وتصاعدت مع ذلك وتيرة تهويد القدس والضفة، بتوسيع عمليات مصادرة الأراضي وتكثيف الاستيطان والتركيز على زيادة أعداد المستوطنين فيها، وبخاصةٍ بعد تنفيذ شارون خطة فك الارتباط مع غزة عام 2005. ترافق مع تزايد أعداد المستوطنين، وبخاصةٍ العقائديون، تأسيسهم لوبي «دولة يهودا والسامرة» القوي داخل الدولة، الذي نجم عنه التصاعد المتواتر لنفوذهم وتغلغلهم في مفاصل المؤسسة السياسية، وانزياح الساحة السياسية المتواصل نحو التشدد، لا تجاه إمكان التوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين، فقط بل تجاه قضايا داخلية أيضاً. وما وصول الحكومة الحالية إلى سدة الحكم، وهي حكومة يتحكم في بقائها لوبي «دولة يهودا والسامرة»، إلا دليل على تعمّق الانزياح نحو التطرف اليميني في إسرائيل.

تسعى هذه الحكومة منذ تسلمها مقاليد السلطة، بكل الوسائل، للبناء على ما حققته سابقاتها، وحسم وضع الضفة الغربية لمصلحة إسرائيل، وهي تنطلق من مبدأ عقائدي توراتي أن «يهودا والسامرة» حق يهودي أصيل وغير قابل للمساومة، وجزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل. على هذا الأساس، اتخذت جميع القرارات والسياسات اللازمة، وسخرّت كل الإمكانيات المتاحة، لضمان الشطب العملي لـ«حل الدولتين»، للحؤول نهائياً دون إمكان قيام دولة فلسطينية. ولضمان ذلك، تستمر هذه الحكومة في عملية تفتيت هذه الأرض، لتمنع وحدتها الجغرافية، وتفرط كينونتها الفلسطينية. من أجل ذلك، هي تستمر على نهج سابقاتها في الفصل بين الضفة والقطاع، وفي منع السلطة الفلسطينية من مدّ سلطتها من الضفة للقطاع، بل تتخذ مختلف الإجراءات التي من شأنها إضعاف هذه السلطة، في مسعى لتقليص قدرتها ودورها تدريجًا، وصولاً إلى إنهائها كلياً. من ناحية أخرى، هي تقوم أيضاً باستكمال تفتيت جغرافية الضفة، وحشر الفلسطينيين في معازل مغلقة ببوابات، تفصل بعضها عن الآخر الأراضي المصنفة (ج)، وتستعد لضمها بمجملها، وإن تعذّر ذلك بسبب الرغبة في إبقاء فلسطينيي المعازل خارج النطاق القانوني لدولة إسرائيل، فيكون الضم انتقائياً ويشمل المنطقة (ج)، التي تمثِّل تقريباً ثلثي مساحة الضفة. ومع أن قطاع غزة لم يعد جزءاً من توجه الضم بعد تفكيك المستوطنات والانسحاب من داخله، ولم يحُز بعد ذلك اهتمامَ إسرائيل، إلّا في ما يتعلق بالنواحي الأمنية، فإن عملية «طوفان الأقصى» أعادته إلى دائرة الاهتمام، وأصبح هدف تفريغه من أكبر نسبة من الفلسطينيين، وبخاصةٍ من اللاجئين، أولوية إضافية، وعادت أصوات يمينية متطرفة ترتفع مطالبة بإعادة احتلاله واستيطانه من جديد.

كان هدف إسرائيل المعلن من شنّ الحرب على القطاع عقب تلك العملية، القضاء على حركة حماس، وبنيتها العسكرية، وإنهاء حكمها لقطاع غزة. وجاء مع هذا الهدف المعلن هدف آخر هو تدمير القطاع وجعله مكاناً غير صالح للحياة، لدفع أكبر عدد من الفلسطينيين إلى مغادرته. وقد استغلت الحكومة الإسرائيلية تركُّز الاهتمام العالمي على الأهوال المقترفة بحق الغزيين، لتقوم بتسريع وتعميق وتيرة سيطرتها الاستحواذية في الضفة، متسلحةً في ذلك بتحول الرأي العام الإسرائيلي باتجاه تصاعد نسبة الرافضين لعقد تسوية سياسية مع الفلسطينيين، وذلك كرد فعل على الهجوم الذي باغتت فيه حركة حماس إسرائيل. وتعدُّ الأوساط الأكثر يمينية فيها أن مدة رئاسة ترامب الثانية ستمثِّل الفرصة الذهبية لاستكمال موضوع الضم وإغلاق الملف، ولا سيَّما أنه خلال مدة رئاسته الأولى أبدى تفهمه وتجاوبه مع الرغبة الإسرائيلية، فاعترف بضم القدس ونقل سفارة بلاده إليها، واعترف أيضاً بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.

* * * * *

تدلُّ التفاعلات والتحولات الجارية على الصعد الثلاثة، الدولي والإقليمي والإسرائيلي، على وجود اشتراك بينها في الرغبة في ترتيب أوضاع المنطقة، حتى وإن لم تتطابق رؤاها كلياً على المخرجات النهائية لهذا الترتيب؛ فالأطراف الرئيسية الثلاثة، الأمريكي والعربي والإسرائيلي، تتفق على هدف تحقيق استقرار المنطقة، وعلى ضرورة ترجمة رغبة ترامب في تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية، التي يعدُّها أساس الاستقرار المنشود، إلى واقع ملموس. ولكن مع الاتفاق على الهدف العام، إلا أن هناك دواعيَ ومصالحَ متباينة للطرفين العربي والإسرائيلي يجب أخذها في الحسبان. فمع أن موقف معظم نظم الحكم العربية لا تعارض التطبيع مع إسرائيل من حيث المبدأ، وبعضها قام بذلك بالفعل، فإن البقية تطالب، لانخراطها فيه، بغطاء وقاية. هذا الغطاء لا يتطلب الكثير، بل يُكتفى بتوافر الحدّ الأدنى المتمثل بفتح مسار لتسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، مع وعد بأنه سينتهي بإقامة دولة فلسطينية. هذا يتعارض مع موقف الحكومة الإسرائيلية، التي تريد حسم الصراع بالضم، وتتلكأ في الدخول في مسار تفاوضي يعطي وعداً، حتى ولو بصيغة غير ملزمة، بقيام دولة فلسطينية. ويحتاج التوفيق بين الموقفين إلى تدخل خارجي، ينتظر الطرفان صيغة ومضمون الموقف الذي سيتخذه ترامب بعد تسلُّم منصبه للمواءمة بينهما.

إذا كانت العقدة المعطِّلة لتحقيق استقرار المنطقة ترتبط بالدخول في مسار تسوية تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية، وتنتظر موقف ترامب، فإن هذا الموقف واضح ولن يتعدى في سقفه الأعلى ما عُرض سابقاً في «صفقة القرن». بل إن الأمر الأكثر احتمالاً هو أن تؤدي المتغيرات التي حصلت في المنطقة مؤخراً، إلى انكماش «العرض» المتضمَن في تلك الصفقة.

سيبقى منطلق ترامب تجاه التسوية المطلوبة كما كان، يعبّر عن ضرورة براغماتية، وهو غير نابع من قناعة بضرورة إحقاق حق للفلسطينيين طال أمد انتظاره. لذلك، على الأغلب أن يتجاوب مع الهدف النهائي للطلب السعودي بأن تكون النتيجة النهائية للتسوية التي سيرعاها هي إقامة دولة فلسطينية، كون ذلك يؤدي إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية، ويضع حدّاً لسبب أساسي لاضطراب المنطقة. ومع أن ذلك يتعارض مع الموقف الإسرائيلي، إلا أن ترامب قد يجزئ عرضه في شأن الدولة الفلسطينية، بحيث يتجاوب مع الموقف الإسرائيلي بأن لا تتضمن أجزاء من الضفة، وأن تنحصر لحقبة مديدة في قطاع غزة، وبخاصةٍ أن الاعتبارات الإسرائيلية تجاه الضفة والقطاع مختلفة، وكونها محصورة بالشأن الأمني أساسًا في القطاع. على هذا الأساس، إذا قرر ترامب المضي قدماً وتبني خطة لتسوية الصراع، فمن الممكن أن يبنيها هذه المرّة على أساس أنها ستقود في النهاية إلى إقامة دولة فلسطينية، ولكنها ستقوم على مسار يحتاج تنفيذه إلى عدّة سنوات للمرور بمراحل متعاقبة، تستند كل منها إلى ضرورة تحقيق نتائج إيجابية من سابقتها.

على الأرجح أن تشتمل المعالم الرئيسية للمرحلة الأولى من تسوية ترامب الجديدة، النسخةِ المعدلةِ من «صفقة القرن»، على التوصل إلى اتفاق ينهي الحرب الدائرة في قطاع غزة، ويضع ترتيبات لمرحلة انتقالية، على الأغلب أن تتضمن وجودًا دولياً وعربياً لمساعدة «هيئة» فلسطينية، على صلة رخوة بالسلطة الفلسطينية، لإدارة شؤون القطاع. تُستثنى حركة حماس من المشاركة الرسمية في هذه «الهيئة»، لكن احتفاظها بـ «قدرة معطِّلة» في ما يتعلق بمستقبل القطاع قد يقود إلى إيجاد تفاهمات معها في هذا الخصوص. يتم خلال تلك المرحلة إعادة استتباب الأمن، ووضع قواعد واتخاذ جميع الإجراءات الضرورية لضمانه مستقبلاً، وبما يؤكد إنهاء التهديد الأمني لإسرائيل، وهو الشرط الأساسي لسحب الفيتو الإسرائيلي عن إقامة دولة فلسطينية يكون مركزها قطاع غزة. وبالتزامن مع توسع بسط المنظومة الأمنية الجديدة، تُجرى انسحابات متتالية للجيش الإسرائيلي، تقود إلى إخلائه مع نهاية هذه المرحلة. ويشرع أيضاً خلال هذه المرحلة ببدء تنفيذ مشروع دولي وإقليمي ضخم لإعادة إعمار القطاع، يشتمل أيضاً على تأهيل مناطق في شمال سيناء لإقامة مشاريع اقتصادية لاستيعاب جزء مهم من الأيدي العاملة الغزية في المستقبل. كما يتم خلال هذه المرحلة رعاية تنفيذ إجراءات جوهرية لإعادة تأهيل السلطة الفلسطينية، المتمركزة حالياً في رام الله، لـتصبح «سلطة متجددة» وقادرة على أن يكون لها خلال المرحلة الثانية دور متنامي في حكم قطاع غزة. كما تتيح هذه المرحلة لحركة حماس فسحة لإعادة «تأهيل» نفسها، ويتم تشجيعها لإحداث التغييرات اللازمة لتصبح من المكونات السياسية الفلسطينية «المقبولة». أما بخصوص الحكومة الإسرائيلية، فالمطلوب منها خلال هذه المرحلة قبول هذا التوجه، والحفاظ على إبقاء الوضع القانوني في الضفة على حاله. وإذا أبدت معارضتها وعاندت، فهي ستتعرض لاستهداف من جانب ترامب، يُسهم في إطاحة تركيبتها الحالية، واستبدال تركيبة تتحلى بالمرونة المطلوبة بها؛ فالجائزة المنتظرَة لإسرائيل كبيرة ويجب عدم تفويتها أو التسويف بخصوصها، وهي التطبيع مع السعودية، التي سيلبي إعلان ترامب مطلبها، ويفتح لها أبواب عواصم عربية وإسلامية متعددة.

أما المرحلة الثانية، فعلى الأغلب أن تشهد استكمال الإجراءات التي انطلقت في المرحلة الأولى، ولكنها ستشهد الإعلان عن إقامة الدولة الفلسطينية التي ستتركز في قطاع غزة، تحت حكم السلطة الفلسطينية المتجددة، والتي يمكن أن يكون لحركة حماس المتحولة مشاركة فيها. وستؤول التبعية القانونية للفلسطينيين في الضفة لهذه الدولة لحظة الإعلان عنها. وتحت رعاية دولية وإقليمية كثيفة، وبعد ضمان الترتيبات الأمنية الكافية لإسرائيل، ستعطى هذه الدولة مظاهر سيادية تتسع تدريجًا، بما فيها إقامة مطار وميناء. سيكون مقابل ذلك ثمنٌ يدفع في الضفة، وهو اعتراف أمريكي، قد يأتي في نهايات حقبة ترامب الرئاسية، بتقسيم الضفة رسمياً، وضم مساحات واسعة من المنطقة (ج) إلى إسرائيل، والقيام بما يلزم من ترتيبات للفصل بين ما سيُضم إلى إسرائيل عن المعازل الفلسطينية، التي سيُعمل على ربط بعضها ببعض بمنافذ تؤدي إلى تقليص الاحتكاك مع المستوطنين، مع الإبقاء على الوضع الحالي التي يعطيها منفذاً مع الأردن.

أما المرحلة الثالثة، فهي التي سيتم فيها اتخاذ القرار المتعلق بتحديد المستقبل النهائي لتبعية المعازل الفلسطينية في الضفة. على الأرجح أن يُسعى لوضع ترتيبات خاصة لربط هذه المعازل بالدولة الفلسطينية، مع أن مسألة الوصل بينها سيواجه معارضة إسرائيلية، سيكون أمر تذليلها صعباً، وسيحتاج إلى إجراءات وضمانات متعددة. ولكن، إن تم التغلب على هذه المصاعب، فعلى الأغلب، ألا تتمتع هذه المعازل بمستوى المظاهر السيادية نفسها التي ستتركز في القطاع، وسيتم وضع إجراءات لضبط عملية التنقل بين الجزءين، وبما يضمن عدم تمكين الغزيين من الانتقال والاستقرار في الضفة.

بناء على ما هو معروف ومتداول عن شخصية ترامب، وطريقة تفكيره، والكيفية التي يتخذ فيها قراراته، هذه هي الملامح العامة لـ «صفقة» محتملة قد يتبناها للتسوية، على أساس أنها تمثِّل «الحل الوسط»، وتفي بكونها «تسوية حدّ أدنى»، تفي بغرض جميع الأطراف، وتخرجهم كلهم، من وجهة نظره، رابحين. ومع أن تنفيذها سيأخذ مدة قد تمتد لعقد من الزمن، فهي، من وجهة نظره، ستسهم على نحوٍ إيجابي وسريع في استقرار أوضاع المنطقة. فهي تعطي للسعودية، ومعها دول عربية أخرى المخرج لإغلاق ملف مؤرق، والمضي قدماً في إرساء علاقات وقواعد عمل جديدة في المنطقة. كما تعطي لإسرائيل، إضافة إلى تطبيع عريض لها في المنطقة، أفضل معالجة ممكنة، وتحقق لها أكبر فائدة ممكنة، لوضع حالي مع الفلسطينيين غير قابل أو قادر على الاستمرار كما هو لمرحلة مفتوحة مقبلة. وهي تمنح الفلسطينيين دولة، يعتقد بأن أحداً غيره لن يتمكن من تحقيقها لهم، ويفتح لهم بذلك أملاً بمستقبل أفضل.

* * * * *

من المتوقع أن يكون ردّ الفعل العربي الرسمي إيجابياً ومرحِّباً بخطة كهذه، وبخاصةٍ في ضوء المتغيرات الحاصلة في الإقليم. وفي ظل الوضع المتراجع فلسطينياً، على صعيدي واقع كل من السلطة الفلسطينية وحركة حماس، ستقوم الأطراف العربية النافذة بممارسة الضغوط على الفلسطينيين للقبول بها. أما في إسرائيل فسيكون هناك ممانعة، قد تؤدي إلى تغيير تركيبة الحكومة، ينجم عنه قبول مشروط، مصحوب بقائمة طلب مساعدات ضخمة وضمانات متعددة. قد يكون هذا القبول تكتيكياً لتخطي مرحلة وتحصيل الفوائد، ثم تبدأ المماطلات الإسرائيلية المعهودة، وصولاً بالخطة إلى غرفة الإنعاش، لتموت سريرياً. هذا بالضبط ما حصل مع اتفاق أوسلو، وهو ما يمكن أن يحصل مع خطة ترامب؛ فالهدف الإسرائيلي سيتمحور حول عدم إغضاب الرئيس الأمريكي شخصياً، وتحصيل أقصى ما يمكن من منافع منه خلال أربع سنوات، وهي مدة تنقضي بسرعة، ليتم التعامل مع رئيس جديد. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فستكون المرحلة المقبلة صعبة عليهم وسيتعرضون لأقصى الضغوط من كل حدب وصوب. ولن يتزحزح ترامب باتجاههم تأثراً بدعواهم أنه يجحف بهم، ويقوم ببتر حقهم الشرعي بالحرية والاستقلال على كامل الأرض المحتلة عام 1967. بل على العكس تماماً، إذ سيمنّ عليهم، وسيلاقي الكثير من الصدى، بأنه يمنحهم الفرصة الوحيدة والأخيرة لتحصيل دولة، فإما أن يأخذوها، وإما أن يفقدوها نهائياً.

عندما طرح ترامب «صفقة القرن» قبل خمس سنوات تقريباً، تم فلسطينياً رفضها أو التعامل معها. كان هذا الرفض متوقعاً من إدارة ترامب، لذلك تضمنت الخطة حينها المرور بمرحلة انتقالية من أربع سنوات، لتفتح المجال لحصول متغيرات سياسية تدفع السلطة الفلسطينية للقبول بها. وها قد مرّت السنوات تلك، وحصل الكثير من المتغيرات العميقة الأثر، وبخاصةٍ في السنة الأخيرة. فكيف سيكون عليه الموقف الفلسطيني؟ هل سيتم التعاطي إيجابًا هذه المرّة مع «تسوية الحدّ الأدنى»، التي أفضل ما يمكنها أن تمنح الفلسطينيين هو «دولة بقايا» ليست سيادية بالكامل، بل ستكون، إن أتت، على هيئة «دولة ناقص»، وفقاً لمصطلح رابين، أو «حكم ذاتي زائد» وفقاً لتعبير نتنياهو؟ أم سيتم رفضها وتحمُّل تبعية الضغوط التي ستنهمر على السلطة الفلسطينية؟ والسؤال الأهم في هذا السياق قد يكون: هل باستطاعة الفلسطينيين، في ظل حالتهم الحالية، مواجهة ما هو قادم عليهم بفاعلية، وخصوصاً إذا كان الرفض هو موقفهم؟

مع أن الفلسطينيين، بوجه عام، لن يكونوا راضين عن مثل خطة كهذه، فإن الكثير من الدلائل تشير إلى أن الوضع الفلسطيني وصل حالياً إلى حالة من الوهن الشديد، بسبب فقدان معظم مناعته الذاتية، وهو ما يعني انحسار القدرة الفلسطينية على التصدي الناجح لمجموعة الضغوط الوافدة عليه من الخارج، وبالتالي خوض غمار ممانعة ناجحة وفعالة. فقد تجمعت على مدى سنوات متعددة تراكمات تراجعاتٍ أصابت مختلف جوانب الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال. ومع أن لإسرائيل المحتلة دور أساسي ورئيسي في تردي الحال الفلسطيني، وهي التي تتّبع سياسات منهجية لإيصاله إلى هذا الوضع الطارد لاستمرار الوجود الفلسطيني، إلا أن ذلك لا يعفي الفلسطينيين من المسؤولية الذاتية لما آلت إليه أوضاعهم.

منذ أكثر من عقدين من الزمن، يعاني النظام السياسي الفلسطيني حالة تكلُّس، أفقدته على نحوٍ متواصل ومستمر الفاعلية السياسية، حتى أُوصل ووصل الآن إلى حالة متقدمة من الشلل والعجز عن التأثير السياسي، داخلياً وخارجياً على السواء. فقد قام هذا النظام بتعطيل متتابع لأدوات الفعل السياسي التي تربطه إيجابًا بالمجتمع؛ وقد ساعده على النجاح في تكريس هذه الأدوات، ما أنتجه هذا التعطيل نفسه من انقسام في الجسم السياسي، أصبح مزمناً بمساعدة استقراره على فصل جغرافي بين الضفة والقطاع. في غياب مجلس تشريعي، وأحزاب سياسية فاعلة، وانتخابات دورية نزيهة، وسلطة قضائية مستقلة، وإعلام حر، أُغلق المجال السياسي، واحتُكر في كلٍ من منظومتيه الضفيّة والغزية، وغابت عنه الرقابة والمساءلة والمحاسبة الفاعلة. ومع تصاعد اعتماده على دعم قواعده الزبونية، تقلصت المساحة المتاحة للأفراد للمشاركة السياسية، ما أدى إلى تصاعد نسبة عزوف المجتمع عن الاهتمام بالشأن السياسي، وتزايد افتراق النظام والمجتمع أحدهما عن الآخر، فكلٌ منهما في واد. وحين يتكلَّس النظام السياسي ويتقوقع على نفسه، يتراجع التأييد والدعم الداخلي له، فتتآكل مناعته الذاتية، وتضعف قدرته على الأداء ومواجهة ما يتعرض له من تحديات.

تخطت حالة الانقسام الفلسطيني المزمن حدود قسمة الانتماء السياسي للمجتمع على فصيلين رئيسين، أحدهما يسيطر على الضفة، والآخر على غزة، ليصل إلى استحكام حالة من تعصُّب الولاء ما قسّم الشعب الفلسطيني إلى معسكرين متضادين، لا حول الهدف المنشود، وإنما حول الوسيلة الفضلى لتحقيقه. أدى ذلك إلى إحداث شرخ عميق بين معسكرين متضادين، أحدهما يدعم التوجه السياسي – التفاوضي، والآخر يدعم المقاومة المسلحة. ومع مرور الوقت زاد تقوقع المعسكرين كلٌ على موقفه، وتصاعدت وتيرة الارتياب وتراشق الاتهامات بينهما، وصولاً إلى درجة التخوين. وكانت النتيجة أن انغلق مجال السياسة على «مع» و «ضد»، وهو ما خنق مساحة التفكير الحر والنقاش الفعال، وأدى إلى موت الحياة السياسية في البلاد. وتحجّرت منظومة الفكر السياسي على مجموعة من المسلمات، التي أصبحت تُتداول في كلا المعسكرين على أنها حقائق يقينية قطعية ونهائية، لا تخضع لتمحيص ومراجعة. وقاد التخندق على المواقف، والتعنت في خصوصها، إلى أن تصبح المواجهة بالنسبة إلى المعسكرين داخلية أكثر منها خارجية، وهو ما أدى إلى تلكؤ المستوى السياسي لكليهما في اتخاذ قرارات صعبة، ولكن ضرورية، أصبحت عند الاضطرار إلى اتخاذها تأتي متأخرة، تقدم تنازلات غير مفيدة لإحداث الأثر المرغوب فيه. وبما أن السياسة الفلسطينية أصبحت تعاني الارتداد على الذات، وتركز على كسب «المعركة» الدائرة داخلياً، فقد فقدت ما تبقى لها من رصيد فاعلية قديم على الصعيد الخارجي، وتحول فعلها إلى مسلسل مستمر من ردود الفعل على مطالب خارجية متصاعدة.

ترافق هذا الشلل الذاتي المتزايد مع تصاعد وتيرة الهجمة الإسرائيلية، وبخاصةٍ بعد تسلُّم الحكومة اليمينية المتطرفة مقاليدَ الحكم في إسرائيل، المستهدفة حسم المواجهة مع الفلسطينيين، وبالتحديد في الضفة. وبعد عملية «طوفان الأقصى» أُضيف قطاع غزة إلى الأجندة. ومع حرب مدمرة على القطاع لا تزال مستعرة منذ أكثر من عام، تقوم هذه الحكومة بحرب منهجية مستترة، ولكن عميقة، في الضفة، بغرض تعميق البيئة الطاردة للفلسطينيين، وتهيئة الظروف للضم المنشود. ويمثِّل إضعاف السلطة الفلسطينية، وحرمانها الموارد الضرورية لاستمرار البقاء، هدفاً مركزياً لهذه الحكومة. أدى هذا الاستهداف، إضافة إلى سلبيات التناحر الفلسطيني الداخلي، إلى معاناة الوضع الفلسطيني من انهيارات غائرة، أصابت مجمل البُنى الاقتصادية والتعليمية والصحية والخدمية، والأهم من ذلك إعطابها جوانبَ إيجابية مهمة من منظومته القيمية. ومع تزايد نقص الموارد المتاحة لتلبية المطالب المتنامية، تقلص أداء النظام السياسي إلى الحد الأدنى، وأصبح جلّ اهتمامه منصبّاً على المناورة من أجل البقاء.

 * * * * *

في ظل ظروف خارجية ضاغطة، وداخلية متهالكة، لن يكون بمقدور نظام سياسي يناور من أجل البقاء، التصدي بأي قدر من النجاح لـ «تسوية الحد الأدنى» إذا تم طرحها من جانب ترامب بعد توليه منصب الرئاسة في العشرين من كانون الثاني/ يناير المقبل. ونتيجة محاصرته بالضغوط الدولية والإقليمية، ورغبته في المحافظة على الذات، ربما لا يجد هذا النظام بديلاً من إيجاد الذرائع للتساوق مع هذه التسوية، وحشد تبريرات الاضطرار للانخراط بها، وبخاصةٍ أنها ستأتي تحت راية تطبيق مبدأ «حل الدولتين»، وهو المبدأ المعتمد فلسطينياً لتسوية الصراع مع إسرائيل.

مذ اعتمدت منظمة التحرير الفلسطينية مبدأ «حل الدولتين»، وأعلنت افتراضياً قيام الدولة الفلسطينية عام 1988، وتوصلت على أساسه لـ «اتفاق أوسلو» مع إسرائيل، يسعى النظام السياسي الفلسطيني، مدعماً بقبولٍ متأخر من حركة حماس، لترجمة هذه الدولة فعلياً على أرض الواقع، على أساس الافتراض أن الأرض المحتلة عام 1967، مع تعديلات طفيفة ومتبادلة، ستشكل إقليم هذه الدولة. وأصبح مبدأ «حل الدولتين»، وفقاً لهذا الافتراض، ركيزة السياسة الفلسطينية وأهم مسلماتها بخصوص التسوية مع إسرائيل، من دون تمحيص أو مراجعة لما قد ينتجه هذا المبدأ في ضوء المتغيرات المفروضة إسرائيلياً بالقدس والضفة على وجه الخصوص، على مدار أكثر من نصف قرن. فقد كان الافتراض الثاني، الذي عُدَّ حقيقة مسلماً بها، أن كل ما تغير بفعل العملية المنهجية المتصاعدة من الاستيطان والتهويد، التي ابتدأت بعد ثلاثة أسابيع من وقوع الاحتلال، ولا تزال مستمرة حتى الآن، سيعود ويتغير بالاتجاه المعاكس. وبما أن الأمر من المسلمات، لم يتم فلسطينياً إيلاء أدنى اهتمام للكيفية التي من المفترض أن تحقق الافتراض الثاني، والتأكد من وجود طرف قادر وراغب على إرغام إسرائيل بوقف مسارها المعتمد والانعطاف بالاتجاه المعاكس. كان الشعار الفلسطيني لمعالجة هذا الموضوع الجوهري يتلخص بوجوب توافر الإرادة الدولية، وضرورة الاستمرار بحشد دعم المجتمع الدولي، مع أن جميع المؤشرات تدل على عدم جدوى الركون إلى إمكان تحقق ذلك. وخير دليل هو عدم تطبيق الكم الكبير المتراكم على مدى عقود من القرارات الدولية المناصرة للحق الفلسطيني، وخلو اعتراف الدول المتزايد بدولة فلسطين من تحديد إقليمها، وهو ما يعني أن هذا الاعتراف سينطبق فقط على الإقليم بعد تحديده في المفاوضات اللاحقة مع لإسرائيل.

تقليدياً، استند مبدأ «حل الدولتين» إلى ضرورة تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين، إحداهما موجودة، وهي إسرائيل ضمن حدود عام 1948، والثانية، وهي فلسطين، التي يجب أن تصبح موجودة على الجزء المتبقي الذي تحتله إسرائيل منذ عام 1967. ولكن، لأن الماجريات الإسرائيلية المستمرة غيّرت من وضع القدس والضفة، لم يعد في مقدور «حل الدولتين» أن يُنتج دولة فلسطينية بهذه المواصفات، بل تراجع فعلياً منذ عقد «اتفاق أوسلو»، وأصبح يعني تقسيم الضفة، وتكريس احتفاظ إسرائيل بجزء كبير منها. لذلك، فإن استمرار تشبث الموقف الفلسطيني بضرورة تطبيق «حل الدولتين» يعني قبولاً ضمنياً بمبدأ تقسيم الضفة، والدخول في مفاوضات للتوصل إلى اتفاق في خصوص ماهية وكيفية هذا التقسيم. هذا يعني أن الموقف الفلسطيني الرسمي يقبل، من حيث المبدأ، التعاطي مع تسوية حد أدنى، سيحاول من خلال عملية تفاوض مع إسرائيل رفع سقفها بالقدر المستطاع.

من الضروري فلسطينياً التوقف عن الاستمرار بخداع الذات، ورفع شعارات لن تتحقق واقعياً؛ فـ «حل الدولتين» لا يمكن أن يُنتج للفلسطينيين أكثر من «دولة بقايا» منقوصة السيادة، وأن أفضل ما يمكن تحقيقه تحت هذا السقف هو النجاح في زيادة نسبة هذه «البقايا» من المساحة التي ستستولي عليها إسرائيل في الضفة. فإن كان هذا المتاح مقبولاً من الجهات الفلسطينية الرسمية، وهو كذلك فعلياً، فيجب عدم استمرار المراوغة في شأنه، بل مواجهة الجمهور الفلسطيني به، والتعاطي مع «تسوية الحد الأدنى» التي من المحتمل أن تأتي خلال مدة ولاية ترامب الثانية. أما إن لم تكن تلك النتيجة لـ «حل الدولتين» مقبولة، فذلك يعني ضرورة التخلي عن السعي للتوصل إلى تسوية ضمن إطاره، واعتماد بديل آخر مختلف كلياً عنه.

إن أخطر ما يواجه القضية الفلسطينية في المستقبل هو القبول بتسوية أساسها تقسيم الضفة وضم إسرائيل الانتقائي لجزء كبير منها. فبتكلفة الحد الأدنى، تتيح هذه التسوية لإسرائيل تحقيق هدفين طالما سعت لتحقيقهما: زيادة مساحتها بضم الأجزاء المفرغة من الفلسطينيين في الضفة، في الوقت الذي تُقصي فيه نهائياً التأثير المستقبلي لفلسطينيي الضفة والقطاع في كينونتها الديمغرافية. وما دامت «تسوية الحد الأدنى» لن تعطي الفلسطينيين دولة كاملة الاستقلال والسيادة على الأرض المحتلة عام 1967، فقد يصبح ضم إسرائيل الكامل لهذه الأرض، بمن عليها، أفضل من السماح فلسطينياً لها بالضم الانتقائي فيها. فبخلاف الضم الانتقائي الذي يغلق الباب نهائياً على نتيجة بخسة للفلسطينيين، فإن الضم الكامل يبقي الباب مفتوحاً على إمكان خوض صراع على الحقوق المتساوية، والتحوُّل على المدى البعيد من دولة أبارتايد إلى دولة ثنائية القومية، لينتهي بها الحال إلى دولة جميع مواطنيها.

إضافة إلى معارضة أطراف ستتضرر مصالحها في حال التخلي عن «حل الدولتين»، سيكون رأي الكثير من الفلسطينيين أن هذا البديل غير متاح، لأن إسرائيل لا يمكن أن توافق عليه. ولكن إسرائيل لا توافق أيضاً على «حل الدولتين» وإقامة الدولة الفلسطينية، ومع ذلك فإن الجهد الفلسطيني ما يزال محصوراً فقط في محاولة تحقيقه. ولمواجهة مخاطر المرحلة المقبلة، وستكون شديدة الفعل والأثر، ليس المطلوب من الفلسطينيين استبدال بديل بآخر، بل التوقف عن الإغلاق الذاتي للخيارات، وفتح المجال للتداول في خصوصها، والإفادة من وجودها في مواجهة الآخرين. هل هناك إمكان لذلك؟ الأمر مشكوك فيه، لأنه يتطلب إعادة بث الروح في الحياة السياسية، وإزالة التكلُّس عن النظام السياسي، وهذا أمر يحتاج إلى إرادة لم تتوافر بعد.

كتب ذات صلة:

غزة: بحث في استشهادها

في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسية