الأخوة والأخوات الأعزاء قرّاء مجلة المستقبل العربي.
يسعدني جداً أن أقدم لكم افتتاحية هذا العدد الجديد من مجلتكم الغراء التي تُعنى بالشؤون العربية وتهتم بمسألة التضامن والوحدة بين مكونات أمتنا كافة، خدمة لقضايانا العادلة وفي مقدمها قضية فلسطين.
أخاطبكم من رحاب مدينة القدس، المستهدفة والمهددة والمستباحة في هويتها وتاريخها وتراثها ومقدساتها، فمنذ أن تم احتلال مدينتنا وحتى اليوم ونحن نشهد أمعاناً في السياسات الاحتلالية الظالمة، التي تستهدف مدينتنا ومقدساتنا وأوقافنا الإسلامية والمسيحية، كما تستهدف أبناء شعبنا ولا يُستثنى من ذلك أحد على الإطلاق.
وقد ازدادت في الآونة الأخيرة وتيرة السياسات الاحتلالية في مدينتنا المقدسة، حيث استغلت دولة الاحتلال الأوضاع المضطربة في محيطنا العربي وسعت لتمرير مشاريعها وأجندتها ومؤامراتها ضد المدينة المقدسة، فحال مدينتنا اليوم تختلف عما كانت عليه قبل ما سمي زوراً وبهتانا «الربيع العربي».
وحال مدينتنا اليوم تختلف عما كانت عليه قبل 30 أو 40 عاماً، وأوضاع مدينتنا ستزداد سوءاً إذا ما استمرت الحالة العربية على ما هي عليه اليوم، وإذا ما استمرت حالة الانقسام الفلسطيني الداخلي.
وقد أتى الإعلان الرئاسي الأمريكي المشؤوم تتويجاً لهذه المؤامرة غير المسبوقة التي تعرضت لها مدينتنا المقدسة وما زالت تتعرض لها في ظل حالة عربية مؤسفة ومحزنة، وكنا نتمنى أن تكون أوضاعنا العربية أفضل كثيراً مما هي عليه اليوم.
إن واقع مدينة القدس مأساوي، فهي مدينة تُسرق منا وتُبتلع في كل يوم وفي كل ساعة. قبل سنوات كنا نقول إن القدس في خطر، أما اليوم فنحن نقول إن القدس في كارثة حقيقية. وقد أتى الإعلان الأمريكي الأخير لكي يُظهر بصورة واضحة الانحياز الأمريكي الكلي لدولة الاحتلال، وبخاصة في ما يتعلق بمدينة القدس؛ فالدعم الأمريكي العدواني واللاإنساني واللاقانوني للاحتلالالغاشم لمدينة القدس ولكل فلسطين إنما يعَدّ تطاولاً على القضية الفلسطينية، التي هي أعدل قضية عرفها التاريخ الإنساني الحديث. وإن التطاول على مدينة القدس هو تطاول على شعبنا بمكوناته الاسلامية والمسيحية كافة؛ ففي فلسطين يوجد شعب فلسطيني واحد يناضل من أجل الحرية والكرامة والانعتاق من الاحتلال الغاشم؛ في فلسطين لا توجد أقليات، بل توجد مكونات لشعب فلسطيني واحد، نحن فلسطينيون نفتخر بانتمائنا إلى فلسطين وسنبقى ندافع عن عدالة قضيتنا مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات.
ولا توجد قضية فلسطينية من دون القدس، التي يعدّها الفلسطينيون عاصمتهم الروحية والوطنية وحاضنة أهم مقدساتهم الإسلامية والمسيحية. القدس هي عاصمة فلسطين؛ والإجراءات الاحتلالية الغاشمة والانحياز الأمريكي الكلي للاحتلال لن تغير من واقع مدينتنا، التي ستبقى مدينة عربية فلسطينية؛ ومسؤولية الدفاع عنها ليست مسؤولية الفلسطينيين وحدهم بل هي مسؤولية أمتنا العربية من المحيط إلى الخليج، كما أنها مسؤولية أحرار العالم ومناصري القضية الفلسطينية كافة، بمختلف انتماءاتهم الدينية والعرقية وخلفياتهم الثقافية.
القدس أمانة في أعناقنا، إنها أمانة في أعناق المسلمين والمسيحيين، وهي التي تحتضن أهم مقدساتهم وتراثهم الروحي والإنساني، ونحن الفلسطينيين لن نتخلى عن مدينتنا وعاصمتنا رغماً عن كل من يستهدفنا ويمارس في حقنا الاضطهاد ومحاولات التهميش والإضعاف أو الإلغاء.
إن المسجد الأقصى المبارك والمقدسات والأوقاف الإسلامية مستهدفة في مدينتنا، ولكن ما يجب أن تعرفوه وأن يعرفه أصدقاء القدس كافة، وفي كل مكان، هو أننا نشهد أيضاً تهديداً غير مسبوق لأوقافنا المسيحية التي تُستهدف بأساليب متنوعة معهودة وغير معهودة وبواسطة أدوات وعملاء ومرتزقة وسماسرة أوجدهم الاحتلال خدمة لمشاريعه وأجنداته وسياساته.
رسالتي إلى الشعب الفلسطيني هي ضرورة أن تنتهي الانقسامات والتصدعات الداخلية، فقد أصبح من العيب والعار أن تبقى هذه الانقسامات في الجسد الفلسطيني الواحد، والقدس مستهدفة ومستباحة على هذا النحو. يجب أن تنتهي هذه الانقسامات وأن نكون نحن الفلسطينيين موحدين في دفاعنا عن فلسطين وفي دفاعنا عن القدس، لأن وحدتنا هي قوة لنا في دفاعنا عن حقوقنا السليبة حتى نستعيد حريتنا ونرفع راية فلسطين خفّاقة فوق كنائس القدس العتيقة ومساجدها وأسوارها.
ورسالتي إلى أمتنا العربية، التي تعَدّ فلسطين قضيتها الأولى، هي ضرورة أن نعمل معاً وسوياً من أجل إنهاء حالة التشرذم والانقسامات التي تحيط بنا وتستهدف أقطارنا ومجتمعاتنا العربية. لقد خطط أعداؤنا وما زالوا يخططون لتحويلنا من أمة عربية واحدة إلى طوائف وقبائل ومذاهب متناحرة في ما بينها، لكي يتسنى لهم تمرير مشاريعهم وأجنداتهم الاستعمارية في منطقتنا.
إن الوحدة العربية مسألة ضرورية بهدف الحفاظ على قوميتنا وحضارتنا وثقافتنا وهويتنا وقيمنا وانتمائنا الأصيل إلى هذا المشرق العربي، بل للحفاظ على أمننا وكرامتنا أيضاً. إن وحدة العرب هي قوة لهم في دفاعهم عن قضيتهم الأولى قضية فلسطين وفي دفاعهم عن أمتنا العربية الواحدة المستهدفة في تاريخها وتراثها ووحدتها وأصالتها. يؤلمنا ويحزننا ما تمر به منطقتنا العربية من حالة اضطراب وتشرذم وتفكك، من هو المستفيد من هذا «الربيع العربي» المزعوم الذي هو في واقعه ربيعاً لأعداء الأمة العربية في الأرض العربية؛ من هو المستفيد من كل هذا الدمار والخراب والعنف والإرهاب؛ من هو المستفيد من كل هذا الدمار الذي حل بسورية والعراق واليمن وليبيا وفي غيرها من الأماكن العربية؛ من هو المستفيد من ثقافة الموت والعنف والإرهاب المنتشرة في منطقتنا وفي غيرها من الأماكن في عالمنا.
أعداؤنا يخططون لتدميرنا والنيل من وحدتنا وتضامننا، وبعض العرب يمولون هذا المشروع الاستعماري من أموالهم النفطية التي كان من المفترض أن تُستخدم وأن تُستعمل من أجل نهضة بلداننا ودعم صمود شعبنا الفلسطيني.
أُغدقت الأموال النفطية بغزارة على هذا المشروع الاستعماري الذي استهدف مشرقنا العربي، مئات المليارات من الدولارات دُفعت حتى اليوم من أجل إشعال الحروب في منطقتنا ومن أجل تدمير سورية والعراق واليمن وليبيا وغيرها من البلاد العربية، فلو استعمل هذا المال العربي استعمالاً جيداً لما بقي إنسان فقير في منطقتنا ولتمت معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية كافة التي نلحظها في مشرقنا ومغربنا العربيين. لو استعمل هذا المال استعمالاً جيداً لتم دعم صمود شعبنا الفلسطيني على نحو أفضل. ولكن يبدو أن المال العربي النفطي ليس للعرب، بل هو مسخّر في أيادي أعداء أمتنا من أجل إشاعة الفوضى الخلّاقة وتفكيك المفكك وتجزئة المجزّأ وتدمير حضارتنا وثقافتنا ووحدتنا.
لا تتوقعوا أيها الأحباء أن تتغير إسرائيل في وقت من الأوقات، ولا تتوقعوا أيها الأعزاء أن تتبدل أمريكا في وقت من الأوقات؛ فما يجب أن يتغير هو واقعنا العربي لكي يكون العرب أكثر وحدة وتضامناً في دفاعهم عن قضاياهم وعن تاريخهم وتراثهم، وفي دفاعهم عن قضيتهم الأولى، قضية فلسطين.
لن تتحول إسرائيل إلى شيء مختلف عما نعرفه عنها، ولن تتغير أمريكا لكي تكون صديقة للعرب كما يراهن البعض، فما يجب أن يتبدل وأن يتغير هو واقعنا العربي لكي يكون العرب أكثر تضامناً وإلفة ومحبة لبعضهم البعض، وأن تكون بوصلتهم في الاتجاه الصحيح. إن البوصلة التي لا تكون نحو القدس إنما هي بوصلة مشبوهة، فالبوصلة العربية يجب أن تكون دوماً باتجاه فلسطين وعاصمتها القدس.
أحييكم جميعاً، مع تمنياتي لكل واحد منكم بالتوفيق والنجاح والفلاح في خدمة قضايا أمتنا العربية وفي مقدمها قضية فلسطين.
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 467.
(**) المطران عطا الله حنا: رئيس أساقفة سيبسطية للروم الأرثوذكس – القدس الشريف.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.