مدخل
في ذروة الحروب المباشرة وغير المباشرة (بالوكالة) التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفها الأطلسي بعد عصر الحرب الباردة والثنائية القطبية، لاستدامة السيطرة على العالم والتحكُّم في ثرواته وإراداته السياسية، بدءًا من حرب الخليج الثانية، مرورًا بحروب أفغانستان والعراق وليبيا وسورية واليمن…، وصولًا إلى أوكرانيا، تتصاعد المواجهة الروسية – الأمريكية على خلفية الإصرار الأمريكي على لجم أي طموح روسي لاستعادة روسيا دورها القطبي في العالم وسعيها لتغيير هياكل النظام العالمي الأحادي القطبية والتحكّم الأمريكي في هذا النظام. ولا تتوقف هذه المواجهة اليوم عند حدود أوكرانيا بل أخذت تمتد، بوسيلة أو بأخرى، إلى ساحات أخرى في العالم لفرض أحد الطرفين نفوذه فيها أو لإضعاف نفوذ الطرف الآخر وضرب مصالحه حتى ولو كان ذلك بخيار الفوضى.
تمثل سورية اليوم واحدة من الساحات في العالم التي تشهد مواجهة روسية – أمريكية بوتيرة منخفضة لكنها قابلة للتصاعد في ظل سعي كل من الطرفين لإضعاف نفوذ الطرف الآخر وانتزاع بعض النقاط الاستراتيجية من يده. وفي هذا السياق أخذت سورية تشهد احتكاكات عسكرية متبادلة بين الطرفين، وبخاصة في الأجواء السورية، عقب اندلاع المواجهة بينهما في أوكرانيا. وفي ظل تصاعد وتيرة هذه الاحتكاكات أصبح مشروعاً التساؤل عن احتمال تحوُّل الساحة السورية إلى ساحة صدام بين الطرفين، ولو بالوكالة بالنسبة إلى أحدهما.
الكباش الروسي – الأمريكي في سورية
مُذ اشتعلت جبهات أوكرانيا، شهدت سورية، في منطقة الجزيرة وعلى ضفاف فراتها، أكثر من 23 حادثًا خطيرًا، بين القوات الأمريكية والقوات الروسية، كادت تُفضي إلى مواجهة أوسع، وبخاصةٍ أن آليات فض النزاعات وتجنُّب التصادم في الأجواء السورية، المتفق عليها بين الطرفين، خرجت من الخدمة بقرار من الطرفين. وخلال الأسبوعين الماضيين، اقترب الطرفان أكثر من أي وقت مضى، من احتمال الذهاب نحو المواجهة، حتى إن شهر تموز/يوليو، عرف وحده أكثر من ثمانية حوادث جوية. ووُضِعت المقاتلات الروسية إحدى عشرة مرة في مهداف أنظمة تشغيل الدفاع التلقائي للمقاتلات الأمريكية، أي على شفير اندلاع صدام حقيقي.
شكا الأمريكيون في الثالث والعشرين والسادس والعشرين من الشهر الماضي (تموز/ يوليو)، إلقاء الطيارين الروس قنابل ضوئية على طائراتهم المسيرة وتعطيل بعضها. وحلقت سوخوي 35 روسية على مقربة من مروحية مقاتلة أمريكية، وهو ما عرَّض طاقمها للخطر، وأدى إلى فقدان السيطرة على المروحية. أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حيال كل ذلك «أن روسيا لا تريد صداماً عسكرياً مع الولايات المتحدة في سورية، ولكنها مستعدة لأي سيناريو». وعلى الضفة المقابلة، نقل البنتاغون قواتٍ إلى الشمال السوري، تقدَّر اليوم بأكثر من ألف جندي، وقام بنشر بطاريات هيمارس في محيط منشأة كونوكو النفطية بالقرب من دير الزور، وطائرات أف 22. رافق ذلك تصريح القائد الأمريكي للمنطقة الوسطى الجنرال مايكل كوريلّا “أن الروس يسعون لطرد الولايات المتحدة من سورية”.
وإذا ما تركنا جانباً الاحتكاكات بين الدوريات الروسية والدوريات الأمريكية على طرق الشمال الشرقي السوري، وحول مدن الحسكة والقامشلي، فإن مناعة أجواء قاعدة “التنف” التي تحتلها القوات الأمريكية في المثلث الحدودي السوري – العراقي – الأردني، لم تعد تعني الكثير للطيران الروسي، إذ جال في أجوائها أكثر من 25 مرة في الشهر الماضي، وهي القاعدة التي تعرضت أكثر من مرة لقصف صاروخي، من جانب محور المقاومة.
حافّة الصدام
أصبحت خلفية المشهد الأمريكي – الروسي في سورية تحفل باستفزازات متبادلة، فهل يرفع ذلك احتمالات الذهاب نحو صدام بين الطرفين فيها؟ وهل ستواجه القوات الأمريكية مقاومة جدية من الجيش السوري وحلفائه بعدما ابتعد خيار الانسحاب الأمريكي؟
إن حشد قوات أمريكية جديدة في سورية لا يزال دون مستوى أي استراتيجية لمواجهة الروس أو حلفائهم هناك، كما أن حلفاء الولايات المتحدة الأكراد، رفضوا أي عملية استباقية لعبور الفرات قرب دير الزور، وإبعاد الجيش السوري من النهر، وتسليم المنطقة لقوات جيش سوري حر جديد تقوم الاستخبارات الأمريكية بتدريب عناصر منه في قاعدة التنف، على الرغم من فشل الجيش الحر في كل العمليات التي كُلِّف بها منذ إنشائه قبل نحو عشرة أعوام. وتكثف القوات الأمريكية عملية “تعريب” متزايد للقوات الرديفة التي تعمل معها في المنطقة، عبر تسليح وتدريب المزيد من أبناء العشائر العربية، لإنشاء منطقة عازلة بينها وبين قوات من محور المقاومة في المنطقة، عراقية وسورية ولبنانية وإيرانية. كما تسهل عمليات دمج العشائر في مجلس دير الزور العسكري الذي يقوده أحمد الخبيل، أبو خولة، الذي يعمل تحت أمرة قسد، وهو على خلاف معها منذ أشهر.
هل يمكن دفع القوات الأمريكية إلى الانسحاب من سورية؟
إذا كان الأمريكيون لا يزالون في خانة التساؤل عن جدوى الصدام مع روسيا، أو مع قوى محور المقاومة، فلأن خلافاً يدب بين العسكريين والإدارة الأمريكية، حول المصلحة في مواصلة احتلال شمال شرق سورية وإدارتها مباشرة أو بواسطة الإدارة الذاتية الكردية ومئة ألف مقاتل من قوات “قسد” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني. ويبدو المشهد عكسياً لما كان عليه في ظل إدارة دونالد ترامب؛ فعندما أعلن هذا الأخير الانسحاب من سورية مرتين متتاليتين عامي 2018 و2019، بعد انتهاء معركة الباغوز واستسلام داعش في معقلها السوري الأخير، اصطدم ترامب آنذاك بمعارضة البنتاغون، وتصميم العسكريين على البقاء في سورية.
ولأن العسكريين يتعلمون من أخطائهم على نحوٍ أسرع من تعلُّم السياسيين عادة، يتحلى البنتاغون في ظل الإدارة الديمقراطية بواقعية أكبر، في مقاربة مسألة الانسحاب من سورية؛ فقد ضجر ضباطه من هجمات المسيرات الإيرانية على دورياتهم وقواعدهم، وبات معظم قادة البنتاغون يخشون الانزلاق إلى نزاع مفتوح مع الروس ومحور المقاومة، بدلًا من التركيز على جبهات أخرى في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي، باستثناء القوات الخاصة التي لا تزال تؤيد البقاء وفاءً للأكراد الذين قاتلوا الدولة الإسلامية في العراق والشام معهم.
لكن السبب الرئيس للتغيير في وجهة البنتاغون في سورية، أن الجناح الأكبر منه يرى في تصليب تجانس الناتو الآن في ظل الحرب في أوكرانيا، عبر استرداد تركيا كليًا إلى صفوفه. لذلك، ربما لا يمانع البنتاغون الانسحاب من الشمال السوري بناءً على الطلب التركي، لترميم الجناح الجنوبي للحلف في مواجهة روسيا. إلا أنه من المستبعد في ظل الإدارة الحالية أن يقبل الرئيس بايدن الانسحاب من الشمال السوري، منعًا لتكرار تجربة الانسحاب المهينة من أفغانستان، وبخاصة في ظل المواجهة الجارية مع روسيا في أوكرانيا، وهو ما يرى فيه هزيمة مجانية أمام الروس في الشرق الأوسط، بعد فشل هجوم الربيع الأوكراني المضاد، وقناعة الخبراء الأمريكيين أنه لن يحقق شيئًا في نافذة الشهرين الدافئين الباقيين، قبل أن يضع الشتاء حداً للعمليات العسكرية الكبرى على الجبهات الروسية الأوكرانية كافة، محولًا الحرب مجددًا إلى عمليات استنزاف بطيئة. ويبدو البقاء الأمريكي في سورية ضروريًا لامتصاص أي فشل في أوكرانيا، رغم اقترانه هذه المرة بخطر الاصطدام بالروس، ومحور المقاومة معاً.
إن ما يدفع إلى بقاء أمريكا في سورية أيضًا، والمخاطرة في الاصطدام بالروس ومحور المقاومة، هو أن تكلفة البقاء كانت صفراً قبل المواجهة مع روسيا في أوكرانيا، وهو ما عزز حتى الآن قناعة البيت الأبيض بالحفاظ على الأهداف الاستراتيجية التي ذهب الأمريكيون من أجلها إلى سورية منذ عام 2013، التي تتمثّل: (1) بضمان أمن إسرائيل واحتواء إيران ومحور المقاومة؛ و (2) مراقبة طريق بيروت – دمشق – بغداد – طهران الاستراتيجي، من قاعدة التنف. وهو الطريق الذي تمر عليه القوافل اللوجستية للمحور؛ و(3) محاصرة الدولة السورية من الداخل والحؤول دون إفادتها من موارد سورية “المفيدة”، حيث تتركز في شمالها الشرقي ثرواتها من نفط وغاز، وطاقة ومياه وسدود، وزراعات استراتيجية في سهول الحسكة، من حنطة وقطن، مانعة إعادة الإعمار انطلاقًا من تلك الموارد التي استولت عليها الإدارة الذاتية الكردية، وعادت عليها العام الماضي بما يقارب المليار دولار، بحسب منظمات غير حكومية تتابع المنطقة، وضعت في خدمة الإنفاق على أكثر من 250 ألف عسكري ومدني في الإدارة الذاتية الكردية، يمثّلون الاحتياطي الأمريكي في الشمال السوري.
أما مكافحة الإرهاب، فلم تعد مشاركة القوات الأمريكية في مواجهة داعش أو ضربها أولوية كبيرة، وبخاصةٍ أن داعش لا تستهدف القواعد الأمريكية الكثيرة في الشمال، ولم تعد تعمل على احتلال الأرض، وإنما على توجيه ضربات في البادية المحيطة بحمص والرقة ضد المدنيين، ودوريات الجيش السوري وقسد.
أما الروس، فمنذ انتهاء معركة حلب عام 2017، التي أبعدت تهديد الفصائل المسلحة شمالًا نحو الشريط الحدودي مع تركيا، في أرياف حلب وإدلب والرقة، فقد أصبحوا على تماس مباشر مع القواعد الأمريكية، في مناطق الحسكة، ومع دورياتهم شمال الرقة، وحول حقول الرميلان النفطية، ونقلوا قوات دائمة إلى مطار القامشلي، وبعض المقاتلات والمروحيات من قاعدة حميميم. وقد أتى على لسان الجنرال الأمريكي فرانك ماكنزي، قائد القيادة المركزية السابق، الفهم الأوضح للأهداف الروسية للتسخين الجاري، معللاً إيَّاه “بمحاولة إجبارنا على التراجع من سورية، بالتزامن مع تراجع وجودنا في الشرق الأوسط بوجه عام، وهم يريدون لبقائنا أن يغدو عملاً مكلفاً جداً “.
خاتمة
إذا كان الأمريكيون لا يزالون في خانة التساؤل عن جدوى البقاء عسكريًا في سورية رغم مخاطر الصدام مع روسيا، أو مع قوى محور المقاومة فيها، فلأن مصلحة الأمريكيين في إبقاء قواتهم فيها أكبر من مصلحتهم في سحب قواتهم منها، وبخاصة مع تصاعد المواجهة الروسية – الغربية في أوكرانيا. فالانسحاب الأمريكي من شمال شرق سورية يعني التسليم الأمريكي بتحوّل سورية إلى قاعدة للروس في المنطقة، فضلًا عن أنه يعني تشريع الأبواب والطرق أمام محور المقاومة من طهران إلى بيروت مرورًا ببغداد ودمشق، وبالتالي تصدُّع قانون قيصر والحصار المفروض على سورية.
أما روسيا، فمع الحرب الشاملة (العسكرية والاقتصادية والسياسية) التي تخوضها الولايات المتحدة وحلف الأطلسي ضدها، ليس أمامها إلا أن توسّع من استراتيجية الردع والمواجهة لديها عبر توسيع ساحات الرد والمواجهة لتشمل قواعد عسكرية ومصالح ومناطق نفوذ أمريكية وأطلسية في غير منطقة في العالم، وبخاصة في سورية التي تمثل قاعدة رئيسية للنفوذ الروسي في حوض المتوسط والشرق الأوسط بوجه عام.
في ضوء كل ذلك، أصبح بقاء القوات الأمريكية في سورية يواجه تحديًا جديًا أول مرة منذ عام 2013، وبخاصة بعد تقاطع مصالح محور المقاومة مع المصالح والاستعدادية الروسية في ضرورة إخراج القوات الأمريكية من سورية، كما من العراق، على الأقل. وأي مقاومة جدية للوجود الأمريكي في سورية من جانب محور المقاومة، بغطاء روسي، في إطار التوسع في طرد الولايات المتحدة من الشرق العربي، ممكن جدًا في الظروف الحالية، أمام حزمة المستجدات الدولية التي تصب كلها في مصلحة جعل الوجود الأمريكي في المنطقة مكلفاً. قد يكون الثمن الذي سيدفعه محور المقاومة غاليًا في هذه المهمة، ولكنه لن يكون أغلى مما دفعه هذا المحور من أثمان لمنع سقوط سورية. ومن دون ذلك لن يخرج الأمريكيون من الشمال السوري، الذي لا يشكل مسألة كرامة وطنية وعربية فحسب، بل أصبح حاجة استراتيجية لإعادة بناء سورية انطلاقاً من تحرير موارد سورية “المفيدة”، ومساعدة الشعب السوري برمته على الخروج من الحصار والعقوبات المفروضة عليه، ووقف الابتزاز الإقليمي للدولة السورية وفرض الشروط عليها، وإعادة مدها بالعون ماليًا أو دبلوماسياً ووضع سورية مجددًا على خارطة العالم.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.