تمهيد:

لا شك في أن “المثقف” هو المحرك الرئيس والحيوي داخل كل مجتمع بشري، فهو لسانه، ووجدانه. إنه ذلك الشخص الذي يعاني ما يعانيه الذين “استضعفوا في الأرض”[1]، ويربط مصيره بمصير الجماعة أو الأمة. إنه ليس فقط جامعيًا أو جمعويًا، إنه تلك الذات التي تجمع بين الكل وتجعل الذاتية جزءًا فقط، وهي لا تنفصل عن هذا الكل.

والأكثر من ذلك، هو أن المثقف لا يقف وقفة المتأمل، الناظر بإعجاب أو باشمئزاز إلى الواقع، واقعه وواقع أمته، – كما كان لدى بعض المفكرين الإنكليز[2] – بل هو الباحث وباستمرار عن سبل أكثر ضمانًا لاستقرار هذا الواقع في مختلف مناحي الحياة المجتمعية، والتهيؤ لمجابهة أي خطر كيف ما كان نوعه من الممكن أن يهدد الأمة أو يهدد “كينونتها واستقرارها”[3].

فمن هو” المثقف” وما دوره في المجتمع؟ وهل يعني “الركود” و”الجمود” في مجتمع ما، غياب “المثقف”؟

 

أولًا: المثقف: منتشل الأمم من “الانحطاط” و”الجمود”

إن المثقف هو من ينتج الأدب. والأدب، كما قال حسن حنفي، “ليس مجرد قصص وشعر ومسرح، بل أيضًا تحليل فلسفي لتجارب الحياة وبحث عن دلالاتها كشعر المعري وشكسبير وغوته ونزار قباني وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور… وعلى هذا النحو، تخرج الفلسفة من “النخبة” إلى الجماهير، ومن”الخاصة” إلى “العامة”، دون أن تفقد دقتها وعمقها، وقد امتازت فلسفات بالوضوح والبساطة، مثل فلاسفة التنوير وفلسفة برغسون”[4].

والحال أن “تغيير الجمهور يقتضي تغيير مستوى الخطاب”[5]، وتبسيطه كما هو الشأن بالنسبة إلى التحويل الديداكتيكي (Transposition Didactique)[6]. ولعل هذا ما وضحه أو حاول توضيحه حنفي، وهذا ما يقصد بإخراج الفلسفة من دائرة النخبوية، وذلك اعتمادًا – أو بوساطة – على الأدب، بما في ذلك الشعر والمسرح والرواية. والأدب أظهر ميله عبر التاريخ إلى وصف هذا “المثقف من خلال ما يسمى “الأدب الملتزم”[7]، إذ يقول دوني بنوا، الدكتور بجامعة بول فاليري، “الكل يعلم أن عبارة “أدب ملتزم” تعني ممارسة أدبية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياسة وما ينتج منها من المناظرات، والمشادات والمعارك – التي تفرضها – والكاتب الملتزم يمارس في آخر المطاف السياسة في كتبه”. ويضيف نفس الباحث: “كل عمل أدبي هو ملتزم في درجة من درجاته”[8].

فتتكاثر التعريفات – تعريفات المثقف – إلى حد التضارب والتعارض مع اكتساب وارتداء أثواب أيديولوجية شتى.

لا شك في أن الإنسان الملم بالمعارف والغزير بالتجارب والغيور على العدالة وحقوق الإنسان، والفاعل والعامل على تغيير “الواقع الفاسد” من أجل المضي به قدمًا إلى “واقع أفضل” في المستقبل، يكون دائمًا محط اهتمام السلطة. وكيف ما كان نوع هذه السلطة ومرجعياتها وقوانينها وأهدافها، فالمثقف مستقل عنها كما قال إدوارد سعيد – المثقف والسلطة – أو تابع لها لأن في وجوده إلى جانبها مصلحة لها ودفع لشرور الغير عنها بسبلٍ أكثر حضارةً وأقل خسارةً وأكثر شرفًا. ويشهد التاريخ على ذلك. لنذكر على سبيل المثال ما عاناه الرسل والأنبياء. ولنتذكر كم عانوا في سبيل هداية الناس، وإرشادهم إلى الطريق الصواب. ولنتذكر كم رفضت الرسائل وحرفت من بعد ذلك وكذب الرسل والأنبياء وطغى الإنسان في الأرض مبديًا سلطة مطلقة كما فعل “فرعون” مثلًا. ولنتذكر هذا الشطط في السلطة عند رجال الدين من المسيحيين، وهذا القتل الصريح للمثقف والعالم من قبيل “غاليليو غاليلي”. ولنتذكر كذلك ما تعرض له المناضلون في مجال حقوق الإنسان، فسجنوا وهم لا يدافعون إلا عن الحق. وصودرت كتب، وحرقت مذكرات، وطمست صور وهلمّ جرّا.

إن هذا هو وضع المثقف بصفة عامة، وعبر مراحل عدة من تاريخ البشرية. ونحن لا نريد الخوض في هذا الموضوع وإنما تدعونا ضرورة البحث إلى ذلك. فالعالم يتغير بفعل الفعل السياسي والخطاب السياسي، بل حتى الكتب الحائزة أغلى جوائز العالم من قبيل “نوبل”، قد لا تغير العالم. ولا تغيره. كما قال صاحب “غونكور”[9] 2010 أنه لم يشهد في تاريخ الأدب عملًا غيّر العالم.

وقد نجحت الخطابات السياسية في ذلك. ونذكر أن الثورة الفرنسية كانت ضد النظام السياسي. إذ إن فلسفة الأنوار ذهبت جلّها نحو “نقد السلطة السياسية والدينية”، وكان وراء ذلك مثقفون من قبيل روسّو ومونتيسكيو وديدرو وفولتير.

والحال، إننا ضد أدنى أنواع الثورة. وخصوصًا ذلك النوع من الثورات الجماهيرية، الدغمائية، التي إن يقول لها فلان إننا في ثورة، ثارت وهي لا تعرف لماذا؟ وكيف؟ وما الدافع أصلًا؟ إننا إن هممنا بالاستناد إلى هذه المجازر وُصفنا بالمتخلفين. ولنقل صراحة إن زمن العنف ولّى ولا بد من وضع النقاط على الحروف. فمسببات السرقة واضحة. ومسببات الانتحار واضحة. ومسببات الفقر واضحة. ومسببات العنف نفسه واضحة.

ثانيًا: المثقف والجمهور

ويرى جون كيري في كتابه الموسوم: المثقفون والجماهير: رواية الكبرياء والتحيز في عيون المفكرين من الأدباء من عام 1880 إلى 1939[10]، أن ثمة مفكرين بريطانيين من أمثال وولز وجيسينغ، والذين كانوا يمقتون نشأة المجتمعات الجماهيرية الحديثة، وينعون بعض مظاهرها مثل ما يسمى “الرجل العادي”، “ضواحي المدن”،” أذواق الطبقة الوسطى”، مقابل الإشادة والمطالبة بحلول “أرستقراطية طبيعية محلها” – أي محل المجتمعات الجماهيرية الحديثة. وترى الأرستقراطية، وهي سمتها الأساسية، أن “جميع الناس كاذبون”[11]. وبالتالي، فمفهوم الثقة والشفقة عندها غائبة تمامًا.

وهذا التصريح “المتطرف” و”المتحيز” – حتى نعيد عبارة جون كيري – القاضي بوضع حد أو فعل قطيعة مع الجمهور، بدعوى أن فكره وممارساته مبتذلة و”عادية” كما تحيل على ذلك عبارة “الرجل العادي”، والتخلي على المستضعفين والمحتاجين والبؤساء – على طريقة الفلسفة النيتشوية – [12]” ومفهومه لـ “الإنسان الأعلى” خصوصًا في خضم قوله بموت “الإله”، الذي هو مبدأ ينفي وجود قوة أسمى وأعظم من الإنسان القوي الذي لا يرضى بالذل والضعف، ومعاملة “الكلاب”، هذا الإنسان القاسي، العنيف، والذي لا يجب أن يكون “شفوقًا”، وهو نفس الشيء الذي تظهره بجلاء عبارة “ضواحي المدن”، أي الفئة المهمشة والمستضعفة والمنفية في غياهب النسيان، والتي هي- من وجهة نظر نيتشه – مجموعة بشرية ضعيفة ولا تملك إرادة القوة. وبالتالي يجب التخلي عنها وتركها وشأنها بل وكرهها وممارسة العنف ضدها، إن تطلب الأمر ذلك. هذا التصريح بضرورة تعويض الجماهير الحديثة بأرستقراطية متعصبة، ليس ولم يكن حلًّا عادلًا.

والدليل على ذلك – بحيث إن الآراء دائمًا ما تتضارب وتختلف حدة تضاربها كذلك – هو أن “بول جونسون” يقول” إننا إذا أخذنا عينة عشوائية لا تزيد عن عشرة من السابلة، فسوف نجد لديهم من الآراء المعقولة في المسائل الأخلاقية والسياسة ما يضاهي آراء أي قطاع يمثل طبقة المثقفين برمتها”[13].

والأكثر من ذلك، أن المفكر والناقد والروائي الولزي، الماركسي، رايموند وليامز في كتابه كلمات أساسية يقول “إن الكلمات الإنكليزية التي تعني المفكرين والصيغة الفكرية وطبقة المفكرين، كانت ذات دلالات تحطّ من قدرها، وقد ظلت هذه الدلالات سائدة حتى منتصف القرن العشرين، والواضح أن هذه الدلالات لا تزال قائمة”[14]. وهذا التعريف (تعريف المثقف) لا يتباين، نوعًا ما، مع ما صرح به إدوارد سعيد حين قال بأنه يتصور المثقف “في صورة المنفي والهامشي والهاوي، وفي صورة مؤلف لغة تحاول أن تنطق بالصدق في وجه السلطة”[15].

ويقول المناضل الماركسي، الصحافي والفيلسوف السياسي، أنطونيو غرامشي في مذكرات سجنه (حيث سجنه موسوليني من 1926 إلى غاية 1937): “إن جميع الناس مفكرون، ومن ثم نستطيع أن نقول: ولكن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس”[16]، في إشارة إلى نوع من الاختلاف غير المبدئي – بناء على قوله وتصوره للمفكر خصوصًا باعتبار جميع الناس – الذي من القائم أن يفرز لنا صنفين أو أكثر من المثقفين. وهو الشيء الذي أقره غرامشي، بحيث يميز بين نوعين من المثقفين أو المفكرين. وهما المثقف التقليدي، والذي يمثله بالمعلم والكاهن و”الإداري”، فهؤلاء يكررون تقريبًا وغالبًا العمل نفسه، وفي كل مجتمع، فيبدو دور المثقف “التقليدي” كلاسيكيًا، لا يتجاوز حدودًا مسطّرة وبدقة – فالمعلم غالبًا ما يعمل على تنزيل ما جاءت به المناهج والبرامج الدراسية، وهي عملية مركبة، بحيث من القائم ألّا يتوافر المعلم على وقت كافٍ لمحاولة إخراج المتعلمين من صرامة المقرر الدراسي، أو المحاضرة الجامعية، أو الدرس الرياضي، إلى أرضية أخرى، عالم آخر مثلًا، يجسد بالنسبة إلى الفاعلين – المعلم والمتعلم – ضربًا من ضروب “إعمال الفكر” – أو التفكير – بالمعنى الذي نجده مثلًا عند النوع أو الصنف الثاني من المثقفين الذي هو المثقف “المنسق”. فهذا الأخير، يتجاوز التعاطي الظاهر للفكر، ويتعاطاه بعمق أكثر، ونباهة أشد، وإضرارًا أعظم، وحيرة. ويقول إدوار سعيد في هذا السياق، واصفًا المثقف: إن “أبعد ما يتصور، وجود مثقف يسعى إلى جعل جمهوره يشعر بالرضا والارتياح، فالمقصد الحقيقي هو إثارة الحرج، والمعارضة، بل والاستياء”[17]. ويعتقد غرامشي بأن هذا الصنف الأخير من المثقفين، أكثر مشاركة في النشاط الاجتماعي، فهم دائمو المساهمة في “تغيير الأفكار والآراء”[18].

والحال، إننا نتفق مع القائلين بأن المفكر العربي غائب تمامًا عن الساحة، ولا يظهر سوى على الشاشات، يتحدث لغة أجنبية أو لغة فصيحة، لا يكاد يفهمها عدد كبير من الجماهير. ونحن نعلم أن التكنولوجيا، وبخاصة وسائل التواصل بجميع أصنافها، قد جعلت الإنسان العربي أكثر استهلاكًا للمنتوجات المعدلة، للكتب المسموعة والفيديوهات المثيرة وكل ما يجذب الجماهير. وبالتالي فهي ليست مستعدة للاستماع إلى ما يقوله هذا المفكر حول قضية أو أخرى، إن الجمهور يؤمن بشيء واحد: المال والسعادة.

وإن هذا ما يعزز ويزكي التباعد بين الطرفين، المثقف بوصفه جامعيًا أو غير ذلك، يبحث في موضوع معين أو مواضيع شتى، تهمّ في المقام الأول واقع مجتمعه، أو أمته، أو الإنسانية بصفة عامة، والمواطن العادي، البعيد أو المستبعد من التأثير عن الواقع. وبالتالي يقع هناك سوء تفاهم عريض، كان ومن اللازم على المثقف العربي إعادة النظر فيه قبل الركوض وراء أمهات الكتب وتنويع المراجع، أو اللجوء إلى مراجع أجنبية حتى يُظهر المفكر تضلعه في اللغات وإتقانه للترجمة، كان ومن اللازم عليه أن يعيد النظر في علاقته بالجمهور. بمعنى آخر، يجب عليه البحث في سبل تحويل ما توصل إليه من نتائج وما حققه من معرفة، بطريقة أو بأخرى إلى من يعدّون، في الواقع، موضوع دراسته. فغالبًا ما نجد دراسات تستهدف فئة معينة من المجتمع، لكن لسوء الحظ تبقى فقط أبحاثًا جامعية وكتيبات تباع على الرصيف بأبخس الأثمنة. والغالب أن لا أحد يسأل عن ثمنها أو يفكر في اقتنائها إلا الغيورون عن المجتمع وعن المعرفة.

فالمثقف الذي يغرق في الترجمة، حتى يتمكن من كتابة مجلد حول العنف، والفئات المعنية بموضوعه أمية أو متعصبة أو متشددة، يبطئ عملية التغيير. فالمجلد لا يملك مشاعر، وما هو إلا صورة مثالية لما يراه المؤلف صوابًا أو جزءًا من الصواب. وبالتالي فإمكان إقناع تلك الفئة بالكف عن التعاطي لممارسة فعل دون الأخرى، يبقى شيئًا غير مضمون.

ومن هنا وجب خلق مساحات تضمن لقاء المثقفين والمفكرين بالجمهور بصورة مستمرة ودورية، وألّا يقتصر بروز المثقف في الإعلام فقط، أو في بعض المناسبات الثقافية المحتشمة والتي لا تمثل فرصة حقيقية لطلب جواب أو طرح سؤال معين.

بناء على هذا القول، فإن أصل الجدل بين المثقف من جهة، والجمهور من جهة ثانية، هو هذا التباعد “المغناطيسي” الذي يعرقل فعليًا ما يطمح إلى تحقيقه “المثقفون” من نشر للوعي وبحث عن العدالة وتمثيل للفئات المستضعفة. وجوهر الخلاف هو غياب التواصل الفعلي بين الطرفين، في ظل اهتمام كل واحد منهما بمهامه الدنيوية من بحث عن طعام وتحقيق لفرائض الحياة الاجتماعية. فيغدو الحوار أحاديًا، يفتقر إلى ردود فعل، وأخذ ورد، حتى يتبين الحق من الباطل. وهذا ما يغيب في مجتمعاتنا العربية، لسوء الحظ، ولعل ما ندعو إليه في خاتمة هذا المقال المتواضع، هو جمع شمل المثقف العربي بجمهوره من أجل تحقيق التفاهم والتكامل والاتحاد، كي لا تذهب جهود المفكر سدى وكي يستيقظ الجمهور وينتفض.

 

اقرؤوا أيضاً الثقافة السياسية الحضرية في الوطن العربي: العلاقة بين الاتجاه نحو الديمقراطية والاحتجاج السياسي

قد يهمكم أيضاً الحصول على هذا الكتاب حول الثقافة  سوسيولوجيا الثقافة: المفاهيم والإشكاليات … من الحداثة إلى العولمة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المثقف_العربي #الجمهور_العربي #الخطاب #المجتمعات_العربية #الثقافة_العربية