تُعدّ العلاقة بين اللغة والهوية في زمن العولمة من بين المباحث الدراسية على المستوى الأكاديمي والعملي على حدّ السواء، وفي السياق العربي مثلّت علاقة جدلية مُتجذرة نظراً إلى الخصوصية التاريخية الثقافية والاجتماعية، وطرحت بدورها الكثير من الأسئلة التي تنصرف بالدّعوة إلى الحفاظ على اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية والحاضنة لوعاء الهوية في عصر المخاطرة.

لقد تصاعدت دعوات إلى القول بأنّ اللغة أضحت هي الوجود ذاته في عصر بات فيه سؤال الهوية يطرح بإلحاح «من أنا ومن نحن؟»، وباتت اللغة إحدى الركائز المهمة في البناء السياسي والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي. ويبدو أنّ مبدأ الفيلسوف الألماني هايدغر أسس بشكل واضح لهذه الحقيقة التي يجب أن يدركها أيّ مجتمع: «إنّ لغتي هي مسكني، وهي موطني ومُستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع».

وفي مقابل ذلك يطرح سؤال اللغة والهوية في الجزائر نظراً إلى التراكمية التاريخية والخصوصية الثقافية التي تميزت بها. فعوامل مثل الإرث الاستعماري وما خلفه من ترسُّبات تركت بصماتها جليّة وواضحة في الواقع اللغوي، هذا إضافة إلى الصراع الأيديولوجي الذّي طغى بظلاله أيضاً في أثناء مرحلة بناء الدولة، لتأتي إفرازات العولمة وتجد الأرضية مناسبة لاختراق أهم مكوِّن ثقافي وإحدى الركائز الجوهرية في بناء الهوية الوطنية، كما أنّ فقدان أي شعب استعمال لغته الأم وإحلال لغات أجنبية أخرى محلها سيؤدي لا محالة إلى طمس ذاتيته الثقافية والقضاء على هويته. ولعلّ هذه العلاقة الثلاثية المطروحة في هذه الورقة البحثية ستحاول الإجابة عن السؤال التالي: كيف تؤثر العولمة في الهوية من خلال مدخل اللغة في الجزائر؟

ولمعالجة هذا السؤال سننطلق من الفرضيات التالية:

  •  الأزمة اللغوية في الجزائر هي نتاج لمخلفات الظاهرة الاستعمارية وتشكل تلك العلاقة مظهراً من مظاهر أزمة الهوية.
  •  تشكل العولمة الثقافية/اللغوية مدخلاً محورياً في تعميق أزمة الهوية في الجزائر.
  •  تعدّ السياسة اللغوية القائمة على العقلانية آلية مهمّة في مواجهة العولمة الثقافية وتحقيق الأمن اللغوي في الجزائر.

أولاً: اللغة، الهوية، والعولمة: مقاربة معرفية

لكل من اللغة والهوية أدوار مركزية في حياة المجتمعات، ولا مراء بالقول بأنّ التطور التاريخي للمجتمعات الإنسانية يحمل دلالات واضحة على هذه الثنائية المفصلية في حياة البشر، ذلك أنّ اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية وجدت منذ أن وجد الإنسان. وهي وسيلة للتواصل بين الأمم والشعوب على مر العصور، وأداة لتمييز هوية عن أخرى، ذلك أنّ لغة تجمع بشري في وقت من الأوقات تشير إلى أمة وحضارة ما. باختصار إنّ الحقيقة التي تُوضح أنّ الهوية مسألة لغوية في جذورها تحتاج اليوم إلى مراجعة دقيقة. في سؤال بسيط: هل باتت اللغة العربية تعبر عن الهوية القومية العربية؟ وفي مقابل ذلك هل باتت الهوية القومية الأمريكية تعبر عنها اللغة الإنكليزية؟ اعتقاد يحتاج إلى حكم يجد تفسيره في كون أنّ متغيراً وسيطاً يمثل المواطنة أضحى دخيـلاً بين الهوية واللغة في الحالة الثانية، وفي الحالة الأولى أمكن الحديث عن تفكيك العلاقة وإعادة تركيبها لهويات وطنية (الدولة القطرية) ذابت فيها اللغة والهوية معاً.

لقد ارتبطت دراسات اللغة ضمن سياق علم اللغة لفترة كبيرة من الزمن وانصبّت حول المبنى من ذلك (الأصوات، الصرف، النحو، الإعراب) بعيداً كل البعد من السياق الاجتماعي، وقد ساد ذلك في المراحل التقليدية للمعرفة الاجتماعية عموماً، ومع تطور المعرفة العلمية وبخاصة الثورة السلوكية وما حملته من تأثر بالعلوم الطبيعية شهدنا تحولاً نوعياً في الدراسات سواء في ما تعلق بأساسها الإبستيمولوجي والأنطولوجي وحتى المنهجي. ففي السنوات الخمسين الأخيرة حصل تغيير جذري بمفهوم اللغــة ووظائفهــا مــع قــدوم علــم اللغة الاجتماعــي (Sociolinguistics) وبلورتــه، وإدراك اللغــة علــى أنها نظام مفتوح (Open System) تؤثــر وتتأثر في مــا حولها. ووفق هذا المفهوم أصبح السياق الاجتماعي جوهرياً في فهم اللغة ودراستها، وأثر لاحقاً في العلوم التطبيقية للغة (Applied Linguistics). تقوم اللغة بالكثير من الوظائف في حياتنا اليومية. إن الوظائف المتنوعة والمتعددة التي يتم تأديتها من خلال اســتعمال اللغة هي انعكاس، ونقل، وتشكيل للواقع الذي نحياه‏[1].

الأهم من ذلك، أنّ اللغة هي حدث اجتماعي، لهذا فإنّ الظروف السياســية، والتاريخية والاجتماعية ضرورية جداً لدراســة اللغة وفهــم مكانتهــا، والأداءات التي تقوم بهــا. بهــذا المعنى فإنّ اللغة ليســت ناقلــة الثقافة المادية والقيميــة فقط، بل هي جزء من ماهيــة هذه الثقافة، لأن اللغة ليســت القنــاة التي تمر من خلالها قيــم المجتمعات وثقافتها وحضارتها، بل هي أســاس كل ذلك، وغياب اللغة عن كل ذلك يفقدها مكانتها، وحتى حضورها الثقافي والتاريخي‏[2].

يأخذنا التفصيل الأخير إلى أنّ هناك علاقة جوهرية بين اللغة والهوية، وبخاصة في مضمون اللغة الاجتماعي ضمن السيرورة التاريخية والتراكمية الحضارية لمكوِّن الثقافة في تجليات صورها، فاللغة هي أحــد المؤشــرات المهمة للهوية التي تسـاهم في تشــكيلها وتعزيزهــا. والهوية الاجتماعية من الجهــة الأخرى هي البوصلة للمجموعــات وللمجتمعــات وهــي الوعــاء الحافــظ لحيويتها واســتمرارها في هذا الكون. والعلاقة بيــن اللغة والهوية وثيقة جداً ومتشابكة‏[3]. وفي ذلك يجادل آخرون بأنّ اللغة هي أحد المكونات الرئيسية التي تستعملها المجموعات كرمز للهوية والانتماء الثقافي، فضـلاً عن ذلك يُنظر إلى اللغة على أنها عامل موحد لثقافة معينة، ورمز قوي للهوية الجماعية‏[4].

لقد أُرسيت الصلة الوثيقة بين اللغة والهوية القومية في نهاية القرن التاســع عشــر مــع قــدوم القوميــة، وبخاصة في أوروبا (قومية ألمانية، قومية إيطالية)، وبالمثل القومية العربية والتركية وغيرها. ويُعتقــد أنّ اللغة هي أحد أهم مؤشــرات الهوية الفردية والجماعية، وأحد المكونات الرئيســة التي تعرِّف المجموعات وتشــكل هويتها. وهي فــي الوقت ذاته، تؤثر أيضاً في طبيعــة العلاقات بيــن المجموعــات العرقيــة المختلفة. وفي هذا الصدد تقول بوش: «إنّ اللغة هي غالباً أكثر رموز العرقية بروزاً، لأنها حملت الماضي وتعبر عن الاتجاهات والطموحات الحاضرة والمستقبلية»‏[5].

العلاقة بين اللغة والهوية ليست واضحة دائماً، ذلك أنّ الكثير من الأسئلة تطرح في شأن طبيعة هذه العلاقة، فاللغة تؤدي دوراً مهماً في تشكيل الهوية القومية وعامل اتصال داخل المجتمع، حيث يعتقد دويتش (Deutsch) أنه عندما تتحالف اللغة مع الكثير من العوامل الأخرى، فإنها تساعد سوية على خلق قنوات مكملة في الاتصال الاجتماعي‏[6].

يتجاذب موضوع العلاقة بين اللغة والهوية اتجاهان رئيسيان. يذهب الاتجاه الأول إلى إنكار الصلة المباشرة والضرورية بين اللغة والهوية، ويدعي بالقول بأنّ العلاقة بينهما عارضة أمثال أبيل ومايكسن‏[7]؛ في حين أن الاتجاه الثاني مثل فيشمان يعتقد بأنّ اللغة وسيلة للهوية، وهي المعيار الأساس إلى جانب التراث الثقافي والفرضيات والقيم والمعتقدات‏[8].

ضمن هذا الطرح، فإنّ القول بأنّ اللغة هي مكون في غاية الأهمية للهوية يطرح مجالاً للنقاش، ذلك أنّ هذه الأهمية تختلف من مجموعة إلى مجموعة أخرى، فقد تكون ذات أهمية كبرى لدى الأولى، وأقل أهمية لمجموعة ثانية، فضلاً على الظروف والسياقات الاجتماعية التي تحدد بشكل أو آخر هذه الأهمية لكل مجموعة، وضمن هذا الطرح يعتقد لايبكند (Leibkind) أنّ اللغة ليست المعيار المهم الوحيد، وليســت بالضرورة أهم معيار لجميــع المجموعات الاجتماعية‏[9].

وفي مقابل ذلك، إنّ ظاهرة الهوية في عمومها يمكن أن تفهم بوصفها ظاهرة لغوية، والأكثر من ذلك يشير جزء أساسي من البحث في مجالات متعددة لعلم اللغة الاجتماعي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الإنسان الاجتماعي واللغوي، إلى الأهمية المركزية للارتباط الحاصل بين اللغة والهوية. لقد أشار «بينيديكت أندرسون» في مؤلفه البارز الجماعات المتخيَّلة (Imagined Communities) إلى الدور التأسيسي للغات القومية في تشكيل الهويات القومية‏[10]. وفي ذلك يذهب «جون جوزيف» إلى القول: «إنّ العلامة اللغوية تجسد العلاقات الاجتماعية لمستعمليها». وضمن هذا المفهوم، فإنّ الهوية الاجتماعية حاضرة في اللغة ذاتها‏[11].

نعتقد في هذا السياق، أنه لا يمكن تبسيط مفهوم اللغة واختزاله، فهو بطبيعة الحال يوحي بمعان عميقة لا يمكن حصرها في الوظيفة التواصلية، أو في قالب الانتماء والثقافة، أو من حيث هي آلية للتفكير والإبداع وتجسيد الأشياء وإعطاؤها معانيها الرمزية، وفي المقابل لا يمكن أن نضع صورة نمطية عن مفهوم الهوية ونعطيها دلالة البطاقة الشخصية، بل إنّ اللغة هي عصب الهوية والمركب الأساسي فيها، الأمر الذّي أكدته وثيقة الحقوق اللغوية في ديباجتها المضافة إلى «ميثاق التنوع الثقافي» في منظمة اليونسكو بالقول: «إنّ اللغة ليست أداة للتواصل واكتساب المعرفة فحسب، بل هي مظهر أساسي للهوية الثقافية ووسيلة لتعزيزها، سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة»‏[12].

يكتسي موضوع الهوية واللغة أهمية بالغة في عصر العولمة، ولعلّ عوامل كثيرة تُؤكد هذا الطرح، ومن ذلك تغير المشهد الثقافي والإنساني؛ فمن صراع الأيديولوجيات بين المعسكرين الشرقي والغربي في إطار الحرب الباردة إلى صراع يركز على متغير الهوية، إضافة إلى ثورة المفاهيم والقيم التي أحدثتها الحركية التكنولوجية المتسارعة وقضت بذلك على مقومات الانتماء الحضاري من خلال محاولة تنميط العالم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، على الرغم من ميزاتها غير الخافية كحلقة وصل بين الشعوب. تزداد هذه الأهمية في ما يتعلق بعلاقة الهوية باللغة في محاولة العولمة القضاء على الخصوصية والتأسيس للكوسموبوليتية التي تهدف في الأخير إلى تحقيق الكونية بهدف الهيمنة وتكريس القيم الغربية والقيم الأمريكية لا غير. ولا شك في أنّ النظام الدولي يشهد تحولات عميقة، وهناك تركيز كبير في مجال العلاقات الدولية على اللغة والهوية لكسب رهان السيطرة والإخضاع لنمط وحيد وأوحد، وأضحت هذه المتغيرات مدخـلاً للصراع وتبريراً لكثير من التدخلات في كثير من المناطق في العالم. إنّ هذا المخاض أسس لسؤال الهوية من نحن؟ في مواجهة الآخر، وضمن هذا المضمار، تُطرح فكرة صراع الحضارات وحوار الحضارات في سياق تحكمه العولمة الشاملة، والرهان فيه الحفاظ على الذات في مواجهة خطر الاختراق الذي تتعدد صُوره، ولعلّ أبرزها المدخل الثقافي واللغوي. إنّ هذا الواقع يفرض بما لا يدع مجالاً للشك التأسيس لمناعة المواجهة في خضم صراع تتجاذبه الهويات من جهة، واللغة من جهة أخرى.

في هذا السياق، فإنّ المجال اللغوي سيكون المجال الأول الذّي تدخل منه العولمة لتدمير مقومات الأمة الذاتية، وبذلك تنهار المعنويات في كلّ مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية، ولا يعود للأمة عندئذ إلا الخضوع للغالب أو للأقوى لغة وعلماً، وتبرز صيغة: المغلوب مولع بالغالب في لغته وزيه وصناعته، وتلحقها بعد ذلك مخططات استبعاد اللغات الأم من مواطنيها، وتغييب الهويات الوطنية بدواعي العولمة‏[13].

وضمن ذلك، فإنّ المسألة في هذا المنوال ترتبط بشكل رئيس بقضية التنوع الثقافي، ذلك أنّ آليات فرض العولمة تستبعد بشكل أو آخر الهوية والتنوع والتعددية وتعمل على اختراقها ومن ذلك محور اللغة، الذّي يعد أحد المحاور الكبرى للاشتغال ضمن النسق العام للعولمة في بُعدها الثقافي بأن تفرض توجهاً لغوياً معينّاً، إذ يقول الأمين العام للأمم المتحدة السابق بان كي مون في هذا الصدد: «إنّ عملية العولمة التي يسهلها التطور السريع لتكنولوجيات الإعلام والاتصال الجديدة، وإن كانت تشكل خطراً على التنوع الثقافي، فهي تهيئ الظروف الملائمة لإقامة حوار مجدد فيما بين الثقافات والحضارات»‏[14].

إنّ العالم الآن بآلياته المعاصرة يعيش مخاض تعددية لغوية رغم الأحادية الطاغية للعولمة المتوحشة التي تفرض أنماط السلوك اللغوي والثقافي المحصور في اتجاه واحد، وذلك بظهور مناويل لغوية جديدة مصدرها الترجمة والألفاظ المهاجرة، ومن الآلات والوسائل الحديثة التي غزت الفضاء العام حاملة معها تسميات غريبة عن مجتمعنا ولغتنا الأم، وهي بذلك تفضي إلى نمط لغوي جديد تكون نتيجته التهجين اللغوي‏[15].

وعليه، تحاول العولمة فرض أنماط نحوية ودلالية جديدة تعمل على القضاء على الأصول في اللغات الوطنية، وهي بذلك، بشكل أو بآخر، تعمل على تدمير الثقافات الوطنية من الداخل بالقضاء على الخصوصية من خلال التشكيك في ثوابت الأمة. وقد أخذ الغزو الثقافي بما يحمله من دلالات قيمية ورمزية يهزّ ويزعزع كثيراً من معتقداتنا الثقافية وثوابت حياتنا الفكرية والاجتماعية واللغوية، ولعلّ أخطرها هو المنحى اللغوي. ومن مظاهر الاستلاب طغيان أو اجتياح لغة أجنبية على أمة من الأمم فتقضي – بعد فترة – على هوية تلك الأمة، لأنّ اللغة هي العنصر الأخير في خندق الدفاع عن الكينونة، فاللغة هي ما يبقى بعد أن تنهار الدول سياسياً وعسكرياً‏[16].

ثانياً: اللغة والهوية في الجزائر: إرث الماضي وتشوهات المستقبل

تشير الأحداث التاريخية الراسخة في الذاكرة الجماعية لدى الجزائريين أنّ السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر ركزت بقوة على البعد الثقافي من خلال العمل على محاربة اللغة العربية وتهميشها وتعميم اللغة الفرنسية في محاولة لطمس مقومات الهوية الجزائرية. وثمة مدخل آخر أكثر خطورة عند الحديث عن طمس المكون الديني الإسلامي من خلال اللغة، لأنّ اللغة العربية هي وعاء الإسلام، والمحافظة عليها تعني الحفاظ على الإسلام والعروبة. وفي ذلك يذهب أحد أبرز أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ البشير الإبراهيمي بالقول: «مشكلة العروبة في الجزائر أساسها وسببها الاستعمار الفرنسي، وهو عدو سافر للعرب وعروبتهم، ولغتهم ودينهم الإسلام… وبيان ذلك من الإيجاز أنّ الاستعمار الفرنسي صليبي النزعة، فهو منذ احتل الجزائر عمل على محو الإسلام… وعلى محو اللغة العربية؛ لأنها لسان الإسلام»‏[17].

إنّ الأمر الذّي يأخذنا لتأكيد هذه الحقيقة يكمن في تتبع السياسة اللغوية العدائية التي اتبعها المستعمر الفرنسي، وقد كان الهدف من الإجراءات المتعلقة بمنع تعليم اللغة العربية هو إضعاف الشخصية الوطنية والعمل على ذوبانها في الهوية والشخصية الفرنسية ضمن منظومة القيم الغربية في جانب الهيمنة اللغوية وتعميم نمط الثقافة الفرنسية، وقد نجحت هذه السياسة نسبياً، والدليل على ذلك أنّ هذه المسألة استمرت إلى غاية يومنا هذا، وتطرح سجالاً فكرياً كبيراً في الوسط الجزائري بين تيار التعريب والفرْنسة، ويبدو أنّ تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي قد تحقق، في مقابل استمرارية الهيمنة الثقافية الفرنسية في المجال الثقافي والاجتماعي واللغوي في الجزائر.

وتأكيداً لذلك، يقول أحد أكبر المدافعين عن اللغة العربية عثمان سعدي في كتابه اللغة والهوية: بين الثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية: «أي ثورة لا يمكن أن تعتبر نفسها ناجحة إلا إذا حققت هدفين: تحرير الأرض، وتحرير الذات. ثورة الفيتنام حققت الاثنين: حرّرت الأرض وحرّرت الذات بفرض سيادة اللغة الفيتنامية على الحياة الفيتنامية، وإلغاء اللغة الفرنسية التي سيطرت على الفيتنام ثلاثاً وثمانين سنة والقضاء على الرواسب التي خلفتها على النفس الفيتنامية، واعتماد اللغة الإنكليزية كلغة أجنبية»‏[18]. ويشير عثمان سعدي إلى فكرة التحرر من التبعية اللغوية للمستعمر بتحرير الذات، وهي في ذلك أكبر معركة يخوضها أي شعب في سبيل الانسلاخ من قالب أريد له أن يعيش فيه، وهي مهمة جوهرية في أي منطلق للبناء والتشييد، وفي ذلك يقول: «مصير اللغة مرتبط دائماً بمصير شعبها، ويستحيل على شعب أن يغير مصيره إلى الأفضل بواسطة لغة أجنبية عنه، وإذا بقيت لغة وطنية ما متخلفة بقي شعبها متخلفاً»‏[19]. هو مركب نقص حاول الاستعمار غرسه بكل الطرق في روح الهوية الجزائرية، إذ يذهب في ذلك مالك حداد بالقول: «لقد أراد الاستعمار ذلك، لقد أراد الاستعمار أن يكون عندي هذا النقص، لا أستطيع أن أعبر بلغتي»‏[20]. وفي ذلك إشارة إلى التأثير بشكل أو بآخر في الهوية الجزائرية والعبث في الذات الجزائرية، لأنّ أي تطور لأمة من الأمم لا بد من أن ينطلق من معرفة الذات ومصارحتها، لأعرف من أكون؟ وما أريد؟

وعلى الرغم من هذه المحاولات، بقي المجتمع الجزائري محافظاً على اللغة العربية بفضل الزوايا والمساجد التي أدّت أدواراً متميزة في تمكين الناشئة من لغتهم، ومن ثم أدّت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين دوراً مهماً في اللغة العربية بفعل جهود أعلامها، وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس، في الدفاع عنها، وهو التيار الاصلاحي الذي ظهر كرد فعل على ما أصاب الهوية الوطنية من تشويه، وعن الواقع اللغوي الذي عملت على نسخه السياسة اللغوية الفرنسية، الأمر الذي كانت انعكاساته ايجابية في الحفاظ على المكوِّن اللغوي والدفع بمساعي التعريب أثناء المرحلة الاستعمارية وبعدها، ورد الاعتبار إلى اللغة العربية.

لقد طرحت المسألة اللغوية والهوية في الجزائر بقوة، حيث تُعد مسألة اللغة والهوية أبرز مكوّنات أزمة بناء الدولة في أفريقيا والمنطقة العربية، ومن بينها الجزائر ولو بدرجات متفاوتة. وفي هذا الصدد يؤكد وزير التربية والتعليم الأسبق علي بن محمد في برنامج «بلا حدود» بالقول: «إنّ المعركة حول اللغة والهوية في الجزائر لم تندلع، لأنها لم تخفت قط وكانت دائماً حاضرة»‏[21].

وفي السياق ذاته، فإنّ الصراع اللغوي كان حاضراً بقوة في مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية في الجزائر، ومن ذلك صراع النخب المعربة والمفرنسة، في اتجاه يريد الحفاظ على لغة المستعمر، وفي جناح آخر تأثر بالقومية العربية وحاول جلب مؤطرين من المشرق العربي من مصر وسورية على سبيل المثال للانطلاق في عملية التعليم والتعريب والبناء. والحال أنّ هذا الصراع امتد إلى الصراع داخل المؤسسات الإدارية والاقتصادية، وحسبنا أن هذا الصراع أثر بشكل كبير في مسألة التنمية، لأننا انغمسنا كثيراً في التوجهات والأيديولوجيات، حيث أثر في الهدف الأسمى وهو البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

تُطرح مسألة أخرى بقوة في اعتقادنا تتعلق أساساً بتأثير السياسة اللغوية المنتهجة وتأثرها باللغة الفرنسية، وهي أثرت بما لا يدع مجالاً للشك في مسألة التوزيع؛ سواء ما تعلق بالجانب السياسي وحتى ما انصرف إلى المكانة الاجتماعية. ومثال ذلك أنّ المثقفين باللغة العربية ليس أمامهم الفرص الكبيرة لتقلُّد مناصب سياسية سامية في الدولة، وهذا راجع لكون أغلبية الوثائق الإدارية والتعاملات تكون باللغة الفرنسية، وهو أمر لا نراه عيباً في اللغة سواء كانت العربية أو الفرنسية، ولكن العيب في من يوظفون اللغة لدواعٍ أيديولوجية. والأخطر من ذلك عندما تُوظف اللغة كعامل إقصاء. إنّ هذا الصراع يرتبط بشكل أو آخر بصراع الأجيال في الجزائر؛ فالجيل الأول الذي يحكم، مثقف باللغة الفرنسية، وجيل ثانٍ مرتبط بالجيل الأول ومتأثر بنفس اللغة يحكم المؤسسات الإدارية والاقتصادية، في مقابل جيل ثالث نواته الأولى عنصر الشباب الذي شمله التعريب، وهو مستثنى من هذه العملية، ولو أنّ الجيل الأخير استفاد بشكل أو بآخر من الانفتاح على اللغات وبخاصة اللغة الإنكليزية‏[22].

ومن التأثيرات السلبية للإرث الاستعماري وللعولمة، قضية أخرى أكثر خطورة، هي أنّ واقعنا اللغوي يتسم بالثنائية اللغوية‏[23] (الدارجة – الفصحى، الفرنسية – الفصحى، الدارجة – الفرنسية)، حيث يصفها الباحث الجزائري ناصر جابي بأنها أزمة مستحكمة، ويذهب إلى القول بأنّ: «الأزمة أعيد إنتاجها بعد الاستقلال بواسطة مؤسسات الدولة الوطنية نفسها ونخبها، وإلا كيف نفسر أن يدرس الطالب كل حياته مثـلاً بالعربية عندما يكون طالباً في العلوم الدقيقة والرياضيات، وعندما يريد أن يتوجه إلى الجامعة يطلب منه أن يتعلم بلغة أخرى، وهي الفرنسية التي لم يدرسها إلا قليلاً جداً. الطلب نفسه يوجه للطالب الجامعي المتخرج الذي درس بالعربية، والذي نطلب منه التعامل في المؤسسة الصناعية والإدارة وغيرهما من مؤسسات الشغل باللغة الفرنسية عندما يتخرج، لغة لا يحسنها، ولم يتعلمها أصـلاً وسط الفئات الشعبية في الجنوب على سبيل المثال، وتخيل النتائج المترتبة على هذا الوضع اللغوي المريض، خذ مثـلاً الفضائح التي تظهر عند كتابة الوثائق الرسمية بما فيها الأسماء»‏[24].

بالرجوع إلى فكرة صراع الأجيال في الجزائر التي طُرحت من قبل في هذا المقال فقد خفّت نوعاً ما مع الفئات صغيرة السن (الجيل الثالث)، لكن الأجيال الكبيرة التي تسيطر على مؤسسات القرار السياسي والاقتصادي هي التي تعيد إنتاجها الموسع في الكثير من الأحيان. إنها ما زالت حاضرة، وتفسر الكثير من المواقف لدى الفرد والمؤسسة، تخترق السياسي والأيديولوجي والفكري، مثلها مثل الجهوية في الجزائر على حدّ تعبير ناصر جابي‏[25].

وعليه، فإنّ الثنائية اللغوية التي يعانيها المجتمع، وحتى المدارس التعليمية والجامعات في الجزائر، والمتمثلة باستخدام اللغة الفرنسية والعامية، هي السبب الأول في هدم اللغة العربية، وعليه فإنّ الأخيرة محاصرة من اللغة الفرنسية التي تعد لغة العلوم والحداثة، ولغة غالبة داخل الإدارات والدوائر الحكومية على الرغم من محاولات التعريب منذ الاستقلال، ومن العامية واللهجات المحلية في البيت والحياة العامة، وبعض ميادين التعليم، ولعلّ ذلك يجد تفسيره بأنّ المتحدث باللغة العربية الفصحى يعد غريباً في وسط يرى أنّ سمة الثقافة ورمزية التقدم والحداثة بأن تتحدث باللغة الفرنسية، وضرب من المحال أن تجد شخصاً يتحدث باللغة العربية في تصريف أموره اليومية في العمل أو السوق أو في احتكاكه بأفراد المجتمع.

ونجد في ذلك حضور العامية بقوة في هذا الشأن، بل إنّ الأمر يتعدى ذلك إلى فضاء الجامعة وبخاصة في التخصصات العلمية والتقنية بطغيان اللغة الفرنسية والعامية في تقديم الدروس وفي التفاعل مع الطلبة، وفي مقابل ذلك نجد التخصصات في العلوم الاجتماعية والإنسانية يكون التدريس فيها باللغة العربية أو العامية وحتى الفرنسية، وقد يجد الأستاذ صعوبة في التدريس باللغة العربية نظراً إلى ضعف الطلبة في استيعاب مصطلحات بسيطة أو حتى ضعف المؤطر فيها. إنّ هذه الثنائية حاضرة بقوة في المشهد اللغوي الجزائري والأخطر من ذلك في صفوف النخب الفكرية والعلمية، وهي الإشكالية التي تجد مصدرها في المراحل التعليمية الابتدائية. وينصرف هذا الخلل أيضاً على الصحف والقنوات التلفزيونية والإعلانات والعلامات التجارية‏[26].

ثالثاً: علاقة اللغة بالهوية في سياق منظومة العولمة في الجزائر: المناعة في مواجهة الاختراق

عند التعرض للعولمة في هذه الدراسة لن نخوض في التعاريف الكثيرة، وعليه لا يمكن أن نقدم للعولمة مفهوماً واحداً، بل إنّ ظاهرة العولمة تحتاج إلى صوغ نموذج متعدد الأبعاد حتى نتمكن من الاقتراب من جوهرها اقتراباً حقيقياً. هذه الأبعاد تمثل جل التعاريف السائدة لدى الباحثين المختصين في دراسات العولمة، كما يمكن أن نعرِّف العولمة من الزاوية التي ننظر إليها (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، إعلامية، تكنولوجية، وثقافية)، إذ هي أساساً من بين التعاريف غير المتفق بشأنها شأن جلّ المفاهيم في العلوم الاجتماعية نظراً إلى التداخل الأيديولوجي والعلمي في إطلاق المصطلح.

وعليه فإنّنا نشير في ذلك إلى البعد الذي يركز على دراسة تعريفات العولمة التي يشيع استخدامها لدى الباحثين الأكاديميين في أربع فئات:

1 – العولمة مرحلة تاريخية.

2 – العولمة تجليات لظواهر اقتصادية.

3 – العولمة انتصار للقيم الغربية والأمريكية (ثقافية).

4 – العولمة ثورة اجتماعية وتكنولوجية.

ستحاول هذه الدراسة التركيز على العولمة الثقافية القائمة على الغزو الثقافي وخرق الثقافات التي تتوافق والنمط الثقافي الغربي والأمريكي من خلال العمل على تنميط العالم وفق شكل سياسي واقتصادي وثقافي وقيمي واحد بنشر ثقافة كونية تلغي الآخر وتؤسس للمركزية الغربية. ويبرز، ضمن هذا الإطار، الخطر على اللغة العربية بوصفها أحد العناصر الأساسية للهوية الثقافية الجزائرية.

من بين السلبيات التي تطرح في سياق العولمة ظاهرة الاغتراب اللغوي، إذ أصبحت اللغة العربية غريبة في عقر دارها، ونحن في ذلك لا ندعو إلى التقوقع على الذات، ورفض كل مصطلح وافد جديد، ذلك أن الاقتراض اللغوي موجود في كلّ اللغات، والثابت علمياً وتاريخياً أنّ اللغة العربية أقرضت أكثر مما اقترضت، فضـلاً عن محاولة إبقائها بمعزل عن مجال العلوم والتكنولوجيا‏[27]، إذ بفعل العولمة الشاملة والتطور العلمي الكبير أصبحت جلّ البحوث العلمية تكتب باللغات الأجنبية في مقابل الكتابات العربية الضئيلة، وهو ما يفرض حركية في مجال الترجمة. والحال في الجزائر يدخل ضمن هذا السياق بأن نلاحظ الزخم الكبير في الكتابات الأجنبية في المجال الأكاديمي في مقابل ضعف الكتابات العربية، وبخاصة في المجال العلمي والتقني. هناك رؤية تجزيئية ترى اللغة العربية عاجزة على أن تكون لغة العلم، بينما التاريخ يثبت العكس، كون العربية ازدهرت كثيراً في العصر العباسي وكانت حركية الترجمة كبيرة من العربية إلى اللغات الأجنبية الأخرى في نقل المعارف والعلوم التي تمثل مصدر ازدهار وتطور الغرب اليوم. ضمن هذا السياق فإنّ الأمر لو يؤسس على فكرة المثاقفة يكون أرحم في ما يتعلق بالتبادل الثقافي والأخذ والعطاء بين الشعوب لتأسيس ثقافة الأنا والآخر، وهذا أمر طبيعي وقانون كوني سنّه الله عز وجلّ في قوله: ﴿‌يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: الآية 13) لكن الأخطر هو عندما تقوم هذه العلاقة على الاستلاب.

ومن مظاهر الاغتراب والاستلاب الثقافي/اللغوي في الجزائر هو الانبهار بلغة الآخرين في مقابل احتقار اللغة الأم، سواء كانت العربية أو الأمازيغية، في نوع من تقزيم الذات أمام الآخر، الأمر الذّي يشكل مركب نقص أمامه، وبخاصة في هذا الجيل الجديد الذي يعايش مظاهر العولمة في شتى صورها، حيث يقول صالح بلعيد في هذا الصدد: «أخاف على هذا الجيل ومن سيأتون بعده من الذوبان والزجّ بأنفسهم في أوهام «الحراقة اللغوية»، والترامي على اللغات الأجنبية لقطف البريق الذي لا ينير؛ لغة أجنبية تضلّ ولا تهدي، تفرّق ولا تجمع، تحتقر اللغات الوطنية وتزيحها من الاستعمال بدعوى العجز العلمي…»‏[28]، وهذا الأمر فيه من المغالطات الكثير، ذلك أنّ من حظّ العرب أنّ لهم لغة قومية لها جاهزية تؤهلها لاحتضان الثورة المعرفية العارمة. من هنا يتساءل عبد السلام المسدّي متى ندرك أن توطين العلم وما ينجم عنه من تقنيات أمر مستحيل استحالة قاطعة خارج اللغة التي بها نكون، ومعها نتماهى، والتي هي في الوعي الفردي كما في الوعي الجمعي الرمز الأعلى المعبّر عن الهويّة‏[29].

يسوق صالح بلعيد أمثلة متعددة في سعيه لتأثير العولمة في اللغة الأم، ويصف التحول القيمي في عالم اليوم بأننا في نظام عولمي ينتج تغيّراً للمفاهيم باستمرار، ويعمل على تبدّل المناهج ويضع الخصوصيات في أزمة خيارات بين الانعزال عن الحداثة أو الاستلاب بنظام مهيمن، نظام لغوي يسوق الشعوب إلى حافة التبعية لنظام لغوي وثقافي تطبيقي يفقد المجتمعات هويتها‏[30]. ولا سبيل في ذلك إلا نهج خيار تحقيق الأمن الثقافي/اللغوي، وهذا الأمن لا يوجد إلا في اللغة الرسمية الوطنية، لذا تسعى العولمة لإلغاء سيادة اللغات الوطنية بحجة أنها لغات متخلفة فلا بدّ من تخليصها من إرثها القديم، والنزوح بها إلى تنميط معاصر يستجيب للعولمة ويوجد في اللغات الحيّة، وهي تلك اللغات التي تتمشى مع المعطيات المعاصرة لا غير. والاستدلال بذلك يضعنا أمام خيار واحد هو لا سبيل للأمن الثقافي/اللغوي في الجزائر في لغة أجنبية غير اللغة الأم‏[31].

إنّ المجتمع الجزائري له عينان: عين العربية وعين الأمازيغية؛ فبدون العربية أعمى وبدون الأمازيغية أعور، وما يأتي خارج هاتين اللغتين فهو خطر، خصوصاً إذا اعتبرنا أنّ الوافد من اللغات الأجنبية هي لغات الخلاص الاجتماعي والتقدم الحضاري، علينا أن نحصرها فقط في منظور الحمولة العلمية لا غير‏[32]. ولنا في بعض الدول الأمثلة الصريحة؛ فاللغة العبرية من لغة ميتة أصبحت لغة حية في موطنها، بحيث يتم التعامل معها بشكل واضح في «إسرائيل» وتجدها في كلّ الميادين، والشيء نفسه مع اللغة الألمانية، كيف فرضت نفسها في مواجهة الإنكليزية على الأقل داخل ألمانيا بحيث إن الألمان متعصبون كثيراً للغتهم الأم، ولا سبيل للاندماج في المجتمع الألماني بدون إتقان اللغة الألمانية. فالمهاجرون لا يجدون صعوبات اجتماعية واقتصادية في الاندماج بل الصعوبة تكمن في ضرورة تعلم اللغة الألمانية لضمان الاستمرارية في المجتمع الألماني. وبالموازاة مع ذلك يتم غرس القيم الثقافية والهوياتية والاعتزاز باللغة الألمانية في وجدان الطفل الألماني ليشعر بها ويدافع عنها، وفي ذلك تجسيد لفكرة لا تقدم بلغة الآخر.

وفي الوطن العربي، وبخاصة في الجزائر، يقال بأنّ اللغة العربية هي من نصيب فئة اجتماعية معيّنة يسميها عبد الله العروي الطبقة المحرومة، في حين تكون الفرنسية أو الإنكليزية من نصيب الطبقات الغنية‏[33]، وهو أمر فيه جانب من الصواب، ذلك أنّ العولمة ومسألة تعلم اللغات التي تتطلب أموالاً تحرم شريحة كبيرة من تعلم اللغات الأجنبية الأخرى لدواعٍ اقتصادية مالية تتعلق بالمستوى المعيشي، الأمر الذي يطرح فكرة العدالة اللغوية من عدمها. ومن جهة أخرى تتعالى هذه الطبقة الغنية على اللغة العربية بحجة الحداثة مرة، وبحجة عدم الحاجة لها مرة أخرى. وفي ذلك يقول صالح بلعيد: «علينا مواجهة الخطر القادم من تبعات اللغة الأجنبية التي لم نحسن الاستفادة منها، لأننا أوليناها المكانة التي تحجب بها مواطنة اللغة العربية والأمازيغية»‏[34].

وبحكم التوسع في وسائل الإعلام (العولمة الإعلامية) وتعدد قنواته ومنابره ووسائطه، ونظراً إلى التأثير العميق والبالغ الذي يمارسه الإعلام في اللغة، وفي الحياة والمجتمع بصورة عامة، فإنّ العلاقة بين اللغة العربية والإعلام في الجزائر في مختلف أنواعه أضحت تشـكل ظـاهرة لغوية تستوجب الوقوف عندها، وهي تنصرف إلى مظهرين أحدهما إيجابي والآخر سلبي. أولهما، أن اللغة العربية انتشرت وتوسع نطاق امتدادها، وأصبحت متداولة لدى شريحة كبيرة من الجزائريين؛ ثانيهما، ويتمثَّل بشيوع الخطأ في اللغة، والتـداول الواسـع للأقيسـة والتراكيب والصيغ والأساليب التي لا تمتّ بصلة إلى الفصحى، والتي تفرض نفسها علـى الحيـاة الثقافيـة والأدبيـة والإعلامية، وبذلك تصبح اللغة الهجينة هي القاعدة، واللغة الفصيحة هي الاستثناء. وهذا مظهر سلبي للظاهرة في الجزائر، ويكفي الرجوع إلى اللغة المتداولة في مختلف القنوات الفضائية الجزائرية في جميع برامجها، بما في ذلك البرامج النخبوية‏[35].

ظاهرة أخرى أكثر خطورة تطرحها العولمة الإعلامية من خلال الغزو الاعلامي للقنوات الفضائية الأجنبية وتأثيرها في الأطفال، بحيث تسهم في تلقين الأطفال في مراحل عمرية مبكرة قيم الحداثة الغربية. وحتى وإن كنا نقرّ بمزايا ذلك على الانفتاح على الثقافات واللغات الأخرى بتمكين الطفل الجزائري من إدراك لغات أخرى، بيد أنّ الأمر يؤثر من ناحية التلوث اللغوي الذي يصيب الأطفال وبخاصة في البرامج الأجنبية وحتى البرامج العربية التي تقدم بالعامية. وهذا يؤثر، لا محالة، في إدراك اللغة العربية لدى هذه الشريحة المهمة من المجتمع. وفي ذلك فإنّ الأطفال الكنديين تأثروا كثيراً بالبرامج الأمريكية حتى صاروا يعتقدون أنهم أمريكيون حقاً. ومثال ذلك في المصطلحات الدخيلة التي يتلقفها الأطفال ويتم تداولها بأن يسود الاعتقاد في مراحل عمرية متقدمة بأنها هي الأصل.

وفي جانب آخر من العولمة في جانبها الإعلامي وتأثيرها في اللغة الأم في الجزائر ما بات يطرح في الإعلام الجديد من خلال الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، مثل الفايسبوك والتويتر وغيرهما، من برامج المحادثة، التي تتيح فرصاً للمحادثة والتواصل؛ حيث إن أغلبية هذه المحادثات بين الجزائريين أو بغيرهم من الأجانب تتم بلغات أجنبية أو كتابة العربية بالأرقام حيث يشار مثـلاً إلى حرف الحاء بالرقم 7 وحرف العين بالرقم 3 أو بالحرف الأجنبي أو اختصارها ومثال ذلك: (kif 7alak = كيف حالك)، (Bekheir = بخير)، (Hmd = الحمد لله)، (Ok = موافق). حتى إنّ أغلبية أسماء الحسابات في الفايسبوك أو التويتر بالحرف الأجنبي، مع عدم إنكار أنّ اللغة العربية ازدهرت من خلال هذه الوسائط التكنولوجية الاجتماعية على الرغم من اختلاطها بالحرف الأجنبي أو بالعامية، ونأمل في ذلك أن يؤسس هذا التفاعل الافتراضي نظاماً اجتماعياً تكنولوجياً يتم من خلاله ترقية اللغة العربية والاستثمار في ما تتيحه التكنولوجيا من مزايا في خدمة اللغة العربية في الجزائر.

إنّ للعولمة في جانبها الاقتصادي صلة كبيرة بالتأثير في واقع اللغة العربية في الجزائر وبخاصة في ما يتعلق بالشركات المتعددة الجنسيات؛ إذ يتطلب العمل أو التعامل معها إتقان اللغات الأجنبية، ولكونها تحمل صفة تعدد الجنسيات فلا نجد أثراً للغة العربية في تعامل هذه الشركات، ذلك أنه من بين 200 شركة تعد الأكبر بين هذه الشركات تنتمي 172 شركة إلى الدول الخمس الأكثر تقدماً‏[36]، والواقع أنّ في مجمل الشركات الاقتصادية الأجنبية الناشطة في الجزائر تتعامل وتفرض لغتها الأصلية، بل إنّ الأمر يتعدى ذلك إلى التعريف بشركاتها وتسمياتها في الواجهة بلغاتها الأصلية، ومثال ذلك الشركات الصينية والتركية وقبل ذلك الفرنسية والأمريكية وغيرها من الدول الناشطة في الجزائر.

في هذا السياق، نعود إلى فكرة الأيدي العاملة الصينية والتركية في الجزائر، إذ يفترض أن نستقبلهم بلغتنا الأم ونفرضها عليهم، ولكن استقبلناهم بلغاتهم أو باللغة الفرنسية والإنكليزية، بل وحتى هناك حركية في فتح مدارس تكوين اللغتين الصينية والتركية. لا نقول بأنّ الأمر سلبي، ولسنا ضدّه، بل ضروري وحتمي هو الانفتاح على لغات العالم؛ لكن كان الأجدر بنا فرض لغتنا مع الطرف الآخر. وانظر إلى الصينيين والأتراك كيف يفرضون لغتهم في الدول التي يتواجدون فيها، أو في دولهم الأصلية من خلال فرض لغتهم في التعليم العالي وفرص التكوين للطلبة الأجانب التي يتيحونها، ومثال ذلك أنه يفرض على الطلبة ومن بينهم الجزائريون الذي حازوا فرص التكوين في تركيا التكوين والتعلُّم باللغة التركية ومن ثمّ لغة أجنبية أخرى، ونفس الشيء في الصين التي فتحت فرص التعليم والتكوين خاصة أمام الطلبة الأفارقة بفرض اللغة الصينية ومن ثم اللغات الأجنبية الأخرى.

في الشق التجاري يتم استعمال اللغة العربية في الترويج للغات الأجنبية الأخرى وبخاصة على واجهات المحلات والمراكز التجارية، ومثال ذلك كتابة علامة تجارية أجنبية بالحرف العربي في صورة («سامسونغ»، فاست فود، سوندويتش)، ويفتح الطفل العربي عينيه على كتابات بالفرنسية والإنكليزية على ملابسه وملابس أفراد أسرته وأحذيتهم، وعلى اللعب والهدايا، وعلى كل شيء من حوله.

إنّ اعتماد اللغة العربية في التعامل التجاري مع الجزائر وغيرها من الدول يطرح إشكالية أخرى، حيث إن جلّ المبادلات التجارية والعلامات التجارية وإجراءات الاستيراد والتصدير تتم باللغة الأجنبية، وفي اعتقادنا أنّ الضعف الاقتصادي في الجزائر انعكس على الوضع اللغوي والترويج للغة الوطنية الأم، نظراً إلى ضعف موقع التفاوض.

وعلى صعيد القطاع السياحي، فإنّ الأمر سلبي بامتياز؛ فإضافة إلى ضعف هذا القطاع في الجزائر كان من الأجدر التعريف باللغة العربية للسياح الأجانب، لكن يتم مخاطبة هؤلاء السياح بلغاتهم الأصلية أو بلغة أجنبية أخرى، هذا الأخير مهم في جلب السياح لكن كان من المفترض على الأقل التعريف بهذه اللغة الأم كمكون ثقافي للتعريف بهوية الأمة في سياق السياحة العلمية والثقافية، ومثال ذلك أنّ أكبر بلد سياحي مثل تركيا يتم تداول اللغة التركية بكثرة في الفنادق والمطاعم والمطارات وفي إشارات التوجيه‏[37].

وعلى صعيد العلاقات الدولية في إطار ما بات يعرف بالدبلوماسية الثقافية من خلال الملحقات الثقافية والمراكز الثقافية في الجزائر، تقوم بلدان مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين بالتسويق للغاتها ومن ثم لقيمهما الثقافية. إننا لا ننكر حقهم في ذلك وإيجابياته في الانفتاح على ثقافة الآخرين ولغاتهم والاستفادة منها في البناء والتطوير، لكن الأخطر هو الذوبان في هذه الحلقة وخصوصاً إذا افتقدنا لمناعة ثقافية، والأجدر أن تقوم الجزائر بالأمر نفسه في هذه الدول من خلال العمل في الملحقات الثقافية في السفارات الجزائرية في الخارج، أو في إقامة مراكز ثقافية جزائرية في هذه الدول للتعريف بالثقافة الجزائرية واللغة العربية والأمازيغية على حدّ السواء‏[38].

وفي محور الاستقرار السياسي تعمل العولمة على إيقاظ الانتماءات الأولية والأطر الضيقة، ما يولِّد الحروب اللغوية والدعوة إلى ولاءات أضيق من الأمة والدولة، على قاعدة القبيلة والطائفية والمذهبية والجهوية، فلا غرابة أن تشتعل حرب لغوية بين العربية والأمازيغية على الرغم من أنّه على مرّ التاريخ تعايش العرب مع الأمازيغ. إنّ الأمر يعد أحد المداخل الرئيسية للعولمة في جانبها السياسي من خلال استغلال هذه المسألة في ضرب استقرار وتماسك الشعوب والدول لدواعٍ استراتيجية محضة، وهو ما تم تطبيقه من خلال مشاريع الشرق الأوسط الجديد لمرامٍ جهوية وطائفية وإثنية وعرقية في السودان والعراق ولبنان وسورية. وفي الحالة الجزائرية تعمل أطراف داخلية وأخرى خارجية على استغلال هذه النقطة في محاولةٍ لتصوير أنّ هناك صراعاً بين اللغة العربية والأمازيغية، وهو في الحقيقة صراع أريد له أن يكون في زمن يتداخل فيه الداخلي مع الخارجي، السياسي والتاريخي، الاقتصادي والاجتماعي، الثقافي والديني‏[39].

ومن الإفرازات الخطيرة لظاهرة العولمة في شق التأثير في المناهج التدريسية شيوع ظاهرة الكسل اللغوي، حيث لا يعبأ متقنو اللغة الإنكليزية بوصفها اللغة العالمية الحيّة، بتعلم اللغات الأخرى ومن بينها اللغة العربية في الجزائر، بحجة عدم الحاجة إليها، فضـلاً عن ظاهرة الاعتماد، أو التوافق المتبادل بين اللغة الأم واللغة الأجنبية، وهو ما يؤثر في اتقانهما معاً، فالطّفل الذّي يتلقى دروساً في اللغة الثانية قبل أن يتقن لغته الأم (العربية) لن يتقدم في هذه ولا في تلك‏[40]، ودليل ذلك بالنسبة إلى التعليم الابتدائي في الجزائر، حيث يبدأ تدريس اللغة الفرنسية في السنة الثالثة الابتدائية، واللغة الإنكليزية في السنة الأولى متوسط.

تمنح العولمة فرصاً كبيرة لأن تصبح اللغة العربية مادة ثقافية تسوَّق تجارياً في أنحاء العالم من خلال العمل على ترقيتها ونشر الأبحاث العلمية بها، والاستفادة من شبكة الإنترنت العالمية في نشرها وتداولها، وتشجيع حركة الترجمة. ويبدو أنّ الوافدين لتعلم اللغة العربية من الأجانب يقبلون عليها من منطلقات دينية باعتبارها لغة القرآن أو بدافع اجتماعي لتحسين المكانة الاجتماعية وفي نطاق الاستعمال الضيق، وهذا الأمر غير كاف لعولمة هذه اللغة.

رابعاً: نحو بناء سياسة لغوية في الجزائر في مواجهة العولمة الثقافية

إنّ الخوف على اللغة العربية في الجزائر بات أمراً جليّاً يُطرح في كثير من النقاشات بفعل منظومة العولمة الشاملة، وإن لم نسارع إلى معالجة هذه الاختلالات سيكون الخطر على الهوية الجزائرية في حدّ ذاتها، وهو أمر يطرح كثيراً من المخاطر التي تتربص بالاستقرار السياسي والاجتماعي. ويزداد هذا التوجس بفعل الثورة الرقمية الهائلة وما تتيحه من زوال للحدود واندثار لفكرة القومية، إننا نعيش في مجتمع المخاطر كما أشار إليه أولريش بيك (Ulrich Beck)‏[41].

وضمن ذلك، نشير إلى أنّه لا سبيل في الحفاظ على الهوية إلا ببناء سياسة لغوية تحافظ على اللغة الأم في ظل التعدد اللغوي الذّي نعيشه والذي يضرب التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية لا محالة، والمقصود بها كما يعرفها لويس جان كالفي (Louis Jean Calvet): «نحن نعتبر السياسة اللغوية هي مجمل الخيارات الواعية المتخذة في مجال العلاقات بين اللغة والحياة الاجتماعية وبالتحديد بين اللغة والحياة في الوطن»‏[42]. في حين أنّ السياسة اللغوية حسب ألجين (Algene) هي: «المواقف الرسمية التي تتخذها الحكومات تجاه استعمال اللغة ورعايتها سواء أكانت هذه المواقف مدعومة بالفعل، كإقرار القوانين أو تمويل البرامج، أو كانت مدعومة بالخطب والقرارات المنمقة على الورق»‏[43]. وحسب التعريفين فهي تنصرف إلى التعامل الرسمي مع اللغة الأم واللغات المستعملة داخل أيّة دولة. كما تعني: «سن القوانين التشريعية التي تخطط لتهيئة لغوية، ويكون ذلك واضحاً بنصوص قانونية تحدد للغة مواقع استخدامها»‏[44].

لقد رافق الإطار القانوني ترقية اللغة العربية في الجزائر، ومن ذلك إصدار المجلس الشعبي الوطني القرار رقم 05 – 91 المؤرخ في 30 جمادى الثانية عام 1411 الموافق لـ 16 كانون الثاني/يناير سنة 1991، الذي يتضمّن تعميم استعمال اللغة العربية، إضافة إلى المرسوم الرئاسي ذي الرقم (226 – 98) المؤرّخ في 17 ربيع الأول عام 1419 الموافق لـ 11 تموز/يوليو 1998، الذي يتضمن صلاحيات المجلس الأعلى للغة العربية، كما نصّ الدستور الجزائري في المادة 3 على أنّ اللغة العربيّة هي اللغة الوطنيّة والرّسميّة، وكذلك الأمر للغة الأمازيغية في المادة 4‏[45].

ورغم هذه الجهود في مجال التشريع أثبتت المقاربة القانونية عجزها في الفصل في المسألة اللغوية في الجزائر سواء ما تعلق باللغة العربية أو باللغة الأمازيغية كمكون لغوي. إنّ الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية تفصل بشكل نهائي في تحقيق الوحدة الوطنية بالوحدة اللغوية بالسهر على وجود اللغة العربية في الإدارات والمؤسسات والتخصصات العلمية في الجامعات وفي النشريات الرسمية وفي الشركات والقطاع الاقتصادي.

في المقابل هناك علاقة أيضاً بين السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي، وهذا الأخير يعرفه «فيشمان» بأنه: «تطبيق لسياسة لغوية ما»‏[46]، كما هو «نشاط رسمي تضطلع به الدولة وتنتج عنه خطة تنصب عن ترتيب المشهد اللغوي في البلاد»‏[47]. وعليه فإنّ هذه الخطة ترسمها الدولة، وإذا صادق عليها البرلمان تصبح السياسة اللغوية، تلتزم الحكومة بتنفيذها ومتابعة تجسيدها في الميدان. وعليه فإنّ الحاجة إلى السياسة اللغوية تقترن بمسألة التعدد اللغوي لتحقيق ما يسمى «الأمن اللغوي» ومن ثم الحفاظ على الوحدة الوطنية.

أمّا التهيئة اللغوية، ورغم التداخل الكبير بينها وبين التخطيط اللغوي، فإن هذا الأخير يكون صادراً عن سلطة عليا، في حين أنّ الأول فهو صادر عن مشاركة كل فئات المجتمع لتجسيد القرارات التي تتخذها السلطات‏[48]، حتى تجد هذه الفئات تعبيراً عنها فيه يجعلها تشعر بجزء من المسؤولية في إنجاح المشروع اللغوي. وعليه فإنّ السياسة اللغوية غير واضحة المعالم من جهة، فضـلاً عن غياب التخطيط اللغوي المدروس البعيد من الخطاب الأيديولوجي، على الرغم من الجهود المبذولة في سبيل ترقية اللغة العربية في الجزائر منذ الاستقلال، بيد أنّ ذلك لم يرفق بتطبيق فعلي على أرض الواقع وبقيت المسألة حبيسة الخطابات الشعبوية لا غير، وصولاً إلى الغياب شبه التام في إشراك القوى المجتمعية في سبيل الحفاظ على اللغة الأم، وحسبنا في ذلك أن يضطلع المجتمع المدني بأدوار متقدمة في هذا الأمر، ولعلّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تمثل أحد الفواعل الرئيسية في هذا الحراك.

ضمن هذه الثلاثية نشير إلى مجموعة من المحاور في سبيل ترقية سياسة لغوية تحافظ على اللغة الأم التّي تعدّ المكون المحوري للحفاظ على الهوية.

1 – التصالح مع التاريخ

لا ينكر أحد تأثير الإرث الاستعماري في اللغة العربية في الجزائر، ولو بدرجات متفاوتة، مقارنة بمصر أو المغرب أو تونس نتيجة طول الفترة الاستعمارية (130 سنة)، حيث أصبحت اللغة الفرنسية لغة التأليف لدى كثير من الكتّاب الجزائريين الذين فرضت عليهم ظروفهم هذا الاختيار، بالرغم من إدراك أكثرهم لمأساة انعزالهم عن لغتهم القومية، وسجنهم في لغة أجنبية كان عليهم أن يعانوا تجربة تطويعها للتعبير عن آلامهم الوطنية المحلية‏[49]. وبفعل الجغرافيا والتاريخ والأصل الأمازيغي للسكان الجزائريين واحتضانهم للوافدين العرب وللإسلام ومن ثمّ اللغة العربية، بات ضرورياً إعادة إنتاج خطاب تأسيسي للرجوع، على جميع المستويات، إلى المكوّن الحضاري المحصور في اللغتين العربية والأمازيغية.

2 – تطليق الأيديولوجيا

أثرت الصراعات الأيديولوجية بعد الاستقلال أكثر فأكثر في واقع اللغة العربية، على الرّغم من الجهود الرّامية إلى ترقية اللغة العربية، بيد أنّ الأخطر عندما تخفي المشاريع الإصلاحية صراعاً أيديولوجياً بين مختلف المكونات المجتمعية، حيث تسعى النخب المسيطرة إلى فرض توجهاتها وتصوراتها، بعيداً من أيّ احتكاك مجتمعي، وصراع الفرنسة والتعريب في الجزائر خير دليل، وهو صراع امتد ليشمل المناهج التعليمية. وعليه فإنّ نجاح مشاريع ترقية اللغة الأم يتوقف إلى حدّ كبير على ابتعادها عن الصراعات الأيديولوجية، التي كانت وما زالت تفقد الهوية الوطنية مناعتها. بطريقة أخرى، إنّ الإصلاح اللغوي لم يشهد تطوراً نوعياً، وإنما تطور في الخطاب الأيديولوجي‏[50].

3 – التعريب الفعّال

يعود خطاب التعريب إلى فترة السبعينيات في الجزائر، خطاب لم يحصل فيه بحسب صالح بلعيد التصوّر المتكامل، ولم يكن تعميم اللغة أفقياً وعمودياً، أي لم يشمل كلّ مرافق الحياة العملية، ومثّل انحرافاً عن خيار الميثاق الوطني لسنة 1976 الذّي يقول: «إنّ الخيار بين اللغة الوطنية ولغة أجنبية أمر غير وارد البتّة، ولا رجعة في ذلك ولا يمكن أن يجري النقاش حول التعريب بعد الآن، إلّا في ما يتعلق بالمحتوى والوسائل والمناهج والمراحل»‏[51].

إنّ مسألة التعريب الفعّال التي نقترح ليست مطلقاً الاستغناء عن تعليم اللغات الأجنبية والاستفادة منها، لكن ما هو غير مقبول هو الإحلال، وفي الجزائر يواجه التعريب عقبات جمّة لعلّ أبرزها المناهضون له، وربما سمحت لهم مراكز نفوذهم في الإدارات والقيادات الجامعية التي يحتلها كثير منهم أن ينزلوا اجتهاداتهم الشخصية منزلة الاختيارات الوطنية في مستوى التنفيذ‏[52]. وهو أمر حاصل أفضى إلى النتائج غير المرجوة في سياسة التعريب المنتهجة منذ الاستقلال. وهكذا فإنّ التعريب الحقيقي لا بدّ أن ينطلق من تعريب الفكر أولاً، والإيمان برسمية اللغة العربية والعمل على تعميمها في جميع الأماكن والمؤسسات كلغة علمية وطنية ودولية ذات قيمة عصرية‏[53].

4 – إعطاء اللغة العربية ميزة لغة المعرفة

لا شكّ في أنّ هناك علاقة بين اللغة والتّعليم والهوية، فالتعليم عنصر محوري في توليد الكفاءات وتحريك التنمية، وعليه وجب تفعيل مشاريع النهوض باللغة في المحافل العلمية في الجزائر والتوجه نحو مجتمع المعرفة بتحفيز النشر والتأليف باللغة العربية، وحسبنا في ذلك أن يكون أحد المداخل الأساسية في الحفاظ على الهوية. وفي ذلك يتساءل محمد مكي الحسني الجزائري: ماذا يتبقى من الهوية الثقافية إذا كانت النخبة المتعلمة لا تحترم اللغة الوطنية‏[54]؟

5 – تعزيز المواطنة اللغوية والتربية على اللغة

تعني المواطنة اللغوية استعمال اللسان الوطني في كلّ المؤسّسات والأمكنة العامة، وهي فضاء لغوي ممتد تأخذ فيه اللغة الرسمية النصيب كون تربية المواطنة‏[55] تحصل أولاً باللغة الرسمية، وتعزيز الثقافة الوطنية بنقل المفاهيم والقيم الوطنية للطفل وبث الوعي بتاريخ الوطن‏[56]، وعليه فإنّ مسألة المواطنة اللغوية تتعدّى أكثر فأكثر الجانب القانوني وتنصرف إلى التنشئة الاجتماعية، وهذه الأخيرة آلية مهمة تعالج الأصل في سبيل غرس روح الاعتزاز باللغة الوطنية ثمّ تأتي المنظومة القانونية التشريعية ومختلف الآليات في مرحلة لاحقة.

6 – تنمية الوعي اللغوي

إنّ الاستدامة اللغوية وتحصين الهوية الثقافية في الجزائر لن تتأتى من دون وجود الوعي اللغوي الذي يعدّ أبرز مقومات البناء الحضاري في شقه المعنوي، والوعي بأهمية اللغة الوطنية هو الذّي يضمن الأمن اللغوي في سياق الثورة القيمية الحاصلة في بعدها المعولم، ولا خلاص في ذلك إلا بالوعي بالذّات وبالآخر، وعلينا أن نبني هذا الوعي ونؤسس له ضمن الذاكرة الجماعية والوعي الجمعي لدى الجزائريين‏[57].

7 – غرس قيم اللغة والهوية لدى الشباب

إن وظيفة اللغة في العصر الحديث لم تعد جزءاً من المنظومة الاتصالية فقط بل هي أبعد من ذلك، إذ أصبحت رابطة لسانية وذاكرة المجتمع، وأحد أهم مقومات المجتمع الجزائري، ومن أساسيات تماسكه وانسجامه وجزءاً لا يتجزأ من هويته العربية والاجتماعية‏[58]، هذه الهوية التي أصبحت في عصر التطور والانفجار المعلوماتي مهددة بالانصهار والانسلاخ والاضمحلال، وبالأخص لدى فئة الشباب الجزائري كأحد تأثيرات مظاهر العولمة السلبية، ما فرض ضرورة البحث عن الميكانيزمات الفاعلة للحد من هذه التأثيرات وصقل مقومات اللغة والهوية لدى الشباب الجزائري، وفي هذا الصدد يركز العديد من العلماء والباحثين على تعزيز دور المؤسسات الاجتماعية والتربوية في غرس قيم اللغة والهوية والمواطنة، ومن بينها المدارس التربوية، لما لها من دور كبير في تنشئة أبناء المجتمع وتشكيل شخصياتهم ونقل تراث المجتمع الجزائري للحفاظ على كيانه ووحدته الوطنية وتوضيح معالم الهوية الوطنية والانتماء القومي‏[59]، لتسهم هذه الهوية في زيادة القدرة على اتخاذ القرار لدى الشباب، فكلما زاد صقل هذه الهوية لدى الشباب ارتفعت قدرتهم على اتخاذ مختلف القرارات وتحديد الأهداف واستكشاف البدائل بما يتوافق مع القيم المجتمعية والأخلاقية التي تمت تنميتها‏[60].

خاتمة

إنّ الأسئلة التي طرحتها هذه الورقة البحثية تحتاج بالفعل إلى إثارة النقاش العلمي حولها بعيداً من الخطاب الشوفيني والارتجالي، مع ضرورة أن تتمتع النخب السياسية الحاكمة بالحكامة السياسية في إدارة الواقع اللغوي والحفاظ على الهوية في الجزائر من خلال العمل على ترقية اللغة العربية كلغة وطنية/رسمية وتمكينها من تأدية الدور المحوري في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وعليه أمكن القول بأنّ استكشاف العلاقة بين اللغة والهوية والعولمة يبيّن بصورة واضحة وجليّة أهمية موضوع ترقية السياسات اللغوية في الجزائر للحفاظ على الهوية وتحقيق الأمن اللغوي في زمن العولمة.

وقد توصلت الدراسة إلى النتائج التالية:

- هناك علاقة ارتباطية وتاريخية بين اللغة والهوية، ويزداد البحث في مكامن هذه العلاقة أهمية في سياق العولمة لما تفرضه من تحديّات ومخاطر جمّة على الأمن الثقافي للمجتمعات.

- ساهم الاستعمار الفرنسي في الجزائر في خلق الثنائية اللغوية، أو خليط من اللغات، وأدّى إلى تعميق أزمة الهوية، وهي الأزمة التي تمظهرت تجلياتها في الصراع الأيديولوجي بعد الحصول على الاستقلال. الأمر الذّي انعكس على بناء الدولة الوطنية في حدّ ذاتها وقوّض المسألة التنموية إلى حدّ كبير.

- فرضت العولمة الثقافية/اللغوية تحديات غير خافية على اللغة العربية في الجزائر، ومن ذلك تراجعها الرهيب في الاستعمال اليومي والعلمي لمصلحة لغات أجنبية أخرى بفعل حركية العولمة الاتصالية، وما تتيحه من تدفق للقيم الدخيلة. وهذا الأمر يدعو إلى إعادة النظر في مكانة اللغة الأم والاستفادة من اللغات الأجنبية.

- تُعدّ السياسة اللغوية أحد المداخل الرئيسية في مواجهة العولمة الثقافية والحفاظ على الهوية بشرط أن لا تكتفي هذه السياسة بإطارها القانوني المؤسسي، بل يجب أن تنصرف إلى إشراك الفواعل الرسمية وغير الرسمية والقوى المجتمعية لضمان النجاح الأمثل.

 

قد يهمكم أيضاً  سوسيولوجيا الهوية: جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العولمة_الثقافية #الهوية #اللغة_العربية #اللغة_والهوية_في_الجزائر #الوعي_اللغوي #الهوية_الجزائرية #السياسة_اللغوية #العولمة_اللغوية