أخيرًا، فعلتها أمريكا. في الظاهر، جاء قصف الولايات المتحدة الأمريكية للمنشآت النووية الإيرانية بناء على إلحاح إسرائيلي على تدمير البرنامج النووي الإيراني لم يتوقف نتنياهو عن التعبير عنه لحظةً واحدةً منذ الثامن من أكتوبر 2023 على الأقل، يوم فتحت إسرائيل جحيم حربها على غزة ومحور المقاومة بهدف إبادة غزة والقضاء على هذا المحور وابتلاع كامل فلسطين وتغيير ملامح الشرق الأوسط على النحو الذي يجعلها الحاكم الفعلي له.

خلفيات الصراع

ما يحدث في إيران اليوم ليس شأنًا إيرانيًا لا علاقة للعرب به، بل هو حلقة في سلسلة الصراع الطويل في المنطقة مع المشروع الصهيوني الاستعماري الاقتلاعي، الذي احتل فلسطين وأسس دولة عنصرية على جزء منها، وهو يسعى اليوم لضمِّ ما تبقى من أراضٍ فلسطينية وغيرها من أراضٍ عربية محتلة إلى دولته هذه.

عُرف هذا الصراع منذ بدايته بالقضية الفلسطينية، ثم بالصراع العربي – الإسرائيلي، بعدما احتلت هذه القضية المكانة المحورية والمركزية في العالم العربي، شعوبًا وحكومات ونظامًا رسميًا، ولو بنسب ومستويات متفاوتة بين بلد عربي وآخر. لكن رغم البعد العربي لهذا الصراع لم ينجح العرب في خلق توازن للقوى فيه، كون البلدان العربية التي انخرطت فيه جديًّا وبكل ثقلها معدودة، وهي بلدان استطاع بعض النخب العسكرية فيها الانقلاب على الأنظمة التقليدية التي كانت سائدة في تلك البلدان كنتاج استعماري هجين. وكان على رأس هذه البلدان مصر عبد الناصر ثم سورية من دول الطوق، إلى جانب العراق وليبيا والجزائر من بلدان العمق العربي. أما بقية الدول العربية فكان يراوح دورها بين تقديم الدعم المالي والسياسي والمعنوي أو ذلك الدعم الذي يوضع في خانة «رفع العتب».

لم تكن موازين القوى بين العرب وإسرائيل في هذا الصراع متوازنة أو متقاربة؛ فعمليًا لم تكن المواجهة الفلسطينية والعربية محصورةً مع إسرائيل وحدها، إذ منذ بداية الإعداد لتأسيس كيان صهيوني يهودي عنصري في فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، على الأقل، وتحديدًا منذ الحرب العالمية الأولى، التي تخللها إعلان بريطانيا وعد بلفور بناء على طلب أمريكي مقابل انخراط الولايات المتحدة في تلك الحرب، التي انتهت بانهيار الدولة العثمانية وبتجزئة المشرق العربي وتقاسم النفوذ فيه بين بريطانيا وفرنسا وفق معاهدة سايكس – بيكو؛ منذ ذلك الحين، أي قبل حصول الهولوكوست الذي يتخذ الغرب منه ذريعة لدعمه المطلق غير الأخلاقي وغير القانوني لمشروع دولة إسرائيل كدولة عنصرية اقتلاعية تقوم على المجازر والإبادة الجماعية، لم يكن هذا المشروع ومساعيه لاحتلال فلسطين منفصلًا عن المشاريع والسياسات الاستعمارية في المنطقة؛ فاستمد هذا الكيان قوته، العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية والتقانية، من الدعم غير المحدود الذي كان وما زال يتلقاه من الغرب، وتحديدًا من الولايات المتحدة في نصف القرن الأخير.

ومع غياب توازن القوى بين الكيان الصهيوني المدعوم غربيًا من جهة والبلدان العربية من جهة أخرى، المرتمي عدد كبير من حكامها في أحضان الغرب وبخاصةٍ الولايات المتحدة، وعلى وقع عدد من الهزائم التي مُني العرب بها في صراعهم مع إسرائيل، ومع خروج مصر من دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي ودخولها في مسار كامب دايفيد، ومع تعمُّق تبعية بعض الأنظمة العربية للنظام الرأسمالي، وبالتالي خضوعها للنفوذ الأمريكي، وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية (1990 – 1991) وسعي الولايات المتحدة لتعميم النموذج النيوليبرالي ووصفة «توافق واشنطن» على العالم، ثم مع دخول منظمة التحرير الفلسطينية والنظام الرسمي العربي في مسار جنيف وأوسلو، أخذت القضية الفلسطينية تتلاشى عربيًّا ولم تعُد تمثِّل قضية محورية أو مركزية بالنسبة إلى العدد الأكبر من الأنظمة العربية، وبخاصة بعد غزو العراق عام 2003 ومع التحوُّلات التي عرفها العالم العربي عقب ما سمي «الربيع العربي».

أمام كل هذا الانكفاء العربي عن دعم القضية الفلسطينية، أخذ دور إيران يتمدَّد في المنطقة كمشروع إسلامي ثوري يقارع الاستعمار والكيان الصهيوني، ويدعم حركات وقوى المقاومة في فلسطين ولبنان وسورية والعراق وبعض البلدان العربية الأخرى، حتى غدت إيران أمام هذا التخلي العربي عن القضية الفلسطينية، الدولة المحورية في مواجهة المشاريع الإمبريالية والصهيونية في المنطقة وفي النضال من أجل تحرير فلسطين، وراحت تعمل على تأسيس حركة تحررية مقاومة تمثّل رديفًا للجيوش العربية التي أخرجت قضية تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة والدفاع عن الأمن القومي العربي من جدول أعمالها ومن عقيدتها القتالية. كما أخذت إيران تبني تجربتها التسليحية رغم الحصار المفروض عليها الذي حرمها تحديث سلاح الجو لديها، فراحت تراكم خبراتها في الصناعات الصاروخية لتعوِّض افتقارها إلى سلاح جو متطور.

من هنا، لا يمكن فصل الحرب الأمريكية – الإسرائيلية ضد إيران تحت عنوان الملف النووي الإيراني عن الدور القيادي الذي تقوم إيران به في مواجهة إسرائيل والمشاريع الإمبريالية في المنطقة.

إذًا، في الأبعاد والخلفيات، ليس تدمير البرنامج النووي الإيراني مطلبًا نتنياهيًّا أو إسرائيليًا فحسب، يعكس عدم قدرة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي شخصيًّا، أو دولة «إسرائيل» ككيان عنصري توسعي، على التعايش مع مجرد وجود برنامج نووي في إيران أو في أي دولة عربية أو إسلامية أخرى، حتى لو كان برنامجًا سلميًا، ولا هو مطلب مرتبط بالرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب الذي يتبنى هو وحكومته الرؤية النتنياهيَّة في إسرائيل حول هذا الموضوع.

كما لم تقم الحرب الإسرائيلية الأمريكية – الإسرائيلية ضد إيران بهدف تدمير برنامجها النووي فحسب، بل كانت تهدف منذ يومها الأول إلى إسقاط النظام الإيراني بعد القضاء على قادة الصف الأول فيه، بمن فيهم المرشد الأعلى للثورة السيد علي خامنئي، استكمالًا لضرب محور المقاومة في المنطقة عبر القضاء على القوة الراعية لهذا المحور. ولم تشن هذه الحرب لتتوقف في اثني عشر يومًا فقط، أو لتحقق ما حققته من أهداف جزئية يمكن ترميمها، بل كانت تهدف إلى إسقاط النظام إما بالضربة القاضية منذ اليوم الأول للحرب وإما باستسلام القيادة الإيرانية بلا شروط بعدما فشلت الضربة الأولى في القضاء على هذه القيادة. وهو الأسلوب نفسه الذي اعتمدته إسرائيل مع كل من حركة حماس في غزة وحزب الله في لبنان، من دون أن تنجح في إسقاط أي منهما على الرغم من الخسائر الفادحة التي وقعت بهما.

المسألة إذًا ليست، كما يحلو للبعض أن يصوِّرها، مسألةَ شخص مجرم وعنصري ومهووس بالدم والسحق ولديه هوس بالسلطة اسمه نتنياهو، فتاريخ إسرائيل ممتلئ بالدم والسحق والعنصرية، وهو كيان نشأ أساسًا على ارتكاب المجازر واقتلاع الناس من أرضها، استنادًا إلى فكر ديني ميثولوجي وعلماني استعماري في الوقت نفسه. كما أنها ليست مسألة رئيس أمريكي معتوه ومسيطَر عليه إسرائيليًا تخطى القواعد التي تقوم السياسة الخارجية الأمريكية عليها في الشرق الأوسط. إنها مسألة بنية اقتصادية – عسكرية – ثقافية للنظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي الذي يمثل التفوّق واستمرارية الهيمنة على العالم لنهبه، بالقوة الناعمة أو بالحروب، القضية المركزية لهذا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتمثِّل «إسرائيل» الذراع العسكرية الرئيسية له.

تعود الهجمة الأمريكية على البرنامج النووي الإيراني إلى عهد الرئيس جورج بوش الابن؛ فمنذ وقعة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، التي حدثت في ظل هيمنة المحافظين الجدد على الإدارة الأمريكية، أطلق جورج بوش حملته على «محور الشر» في العالم الإسلامي، بدءًا من أفغانستان مرورًا بالعراق وصولًا إلى سورية وإيران وليبيا. ولم يكن مخطط الغزو العسكري وإسقاط الأنظمة وتدمير الدول مقتصرًا على أفغانستان والعراق في جدول أعماله، بل كانت كل من سورية وإيران مدرجتين في تلك القائمة عقب غزو العراق عام 2003، غير أن تطوُّر الأحداث على الساحة العراقية بعد الغزو وغرق القوات الأمريكية هناك في مستنقع المقاومة العراقية، حالتا دون قدرة القوات الأمريكية على مزيد من الانفلاش العسكري الميداني في المنطقة. يومها بدأت التقارير الاستخبارية الأمريكية تلقي الضوء على البرنامج النووي الإيراني وعلى منشآته التحت الأرضية. ومنذ ذلك الحين بدأت الولايات المتحدة تخطط لإنتاج قنبلة غير نووية فائقة القوة قادرة على اختراق منشآت موغلة في الأرض؛ فبدأ العمل على تصنيع القنبلة GBU-57 عام 2004 لتكون قادرة على اختراق الأنفاق والتحصينات التحت الأرضية، ودخلت هذه القنبلة الخدمة عام 2011.

أين العرب؟

أمام هذه الحرب المصيرية التي تواجهها إيران اليوم نيابة عن العرب، والتي يمكن أن تغيِّر ملامح منطقة غرب آسيا بأكملها وتعزز الوصاية الأمريكية والإسرائيلية على المنطقة بأسرها، نجد النظام العربي عمليًّا في موقف المتفرّج على ما يحدث، بعدما تخلَّى هذا النظام عن قضاياه الكبرى، وبخاصة القضية الفلسطينية والتكامل العربي والأمن القومي العربي، والتحق في معظمه بالقطار الأمريكي، بعيدّا من الهموم والمصالح العربية المشتركة، أو حتى المصالح القطرية الوطنية البعيدة المدى نفسها. وباتت المنطقة العربية منطقة وصاية أمريكية بامتياز، تنتشر فيها القواعد العسكرية الأمريكية التي تمارس عدوانها ضد من تبقّى من قوى عربية وإسلامية تحررية في المنطقة، لاستكمال عملية إخضاع هذه المنطقة بأسرها، التي يتوسع الدور الإسرائيلي بدوره فيها أكثر فأكثر بمباركة بعض الحكومات العربية، في الوقت الذي يقف الشارع العربي خانعًا أمام ما يحدث، إما بسبب الشعور بالعجز أمام الأنظمة الحاكمة وإما بسبب التخلي عن قضاياه الوطنية الكبرى وغرقه في همومه الضيِّقة أو الهامشية أو حتى الافتراضية، وإما بسبب الشعور بالقيام بالواجب عبر الاكتفاء بتأدية دور افتراضي تعبيري في وسائل التواصل الاجتماعي.

إيران والحرب

بعد اثني عشر يومًا من بَدْء العدوان على إيران، اضطرت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى وقف إطلاق النار. بدأت الحرب بضربات موجعة ومباغتة، مترافقة مع عمليات استخبارية أمنية وعسكرية داخل إيران تحتاج إلى سنوات لإعدادها، ومع سقف من الأهداف والمطالب الأمريكية والإسرائيلية بلغت حد التهديد بقتل المرشد السيد علي خامنئي وإسقاط النظام واستسلام إيران بلا شروط. استطاعت إسرائيل والولايات المتحدة بالضربة الأولى تحييد سلاح الدفاع الجوي لدى إيران والسيطرة على الأجواء الإيرانية إلى حدٍّ بعيد، واغتيال عدد من قادة الصف الأول والعلماء، وبخاصة في الحرس الثوري، وتحريك مجموعات مسلحة في الداخل مزوَّدة بمئات المسيَّرات والأسلحة والمتفجرات لاستهداف قادة ومواقع عسكرية بهدف ضعضعة النظام. لكن إيران حكومة وشعبًا استطاعت استيعاب الصدمة الأولى، وما كان يراهَنْ عليه من خروج جماهيري ونخبوي على الحكم في إيران حصل عكسه، إذ التفّ الشعب حول قيادته الإسلامية، وتضامن معظم النخب حتى المعارضة للنظام مع بلدهم ضد العدوان، فقدَّم الشعب الإيراني مثالًا ناصعًا للوطنية. وما لبثت القوة الصاروخية الإيرانية أن أحدثت توازنًا مع سلاح الجو الإسرائيلي، من خلال توجيه ضربات تدميرية ودقيقة لمراكز عسكرية وأمنية وعلمية حساسة في إسرائيل، وقد أظهر الرد الصاروخي الإيراني، الذي أخذ يتصاعد نوعيًا يومًا بعد يوم خلال هذه الحرب، أجيالًا جديدة من المنظومات الصاروخية الإيرانية الصنع هي من حيث سرعتها ودقتها وقدراتها التدميرية لا تقل أهمية أبدًا عن سلاح الجو الإسرائيلي، بل إن كلًا منهما يمتلك ميزات يتفوق بها على الآخر. فقد استطاعت إسرائيل تزويد الطائرات الحربية لديها بمنظومات صواريخ صفرية الخطأ وذات قدرات تدميرية واختراقية كبيرة، وهي في معظمها أمريكية الصنع. في المقابل استطاعت إيران تصنيع صواريخ ذات قدرة تدميرية عالية وذات سرعة تتجاوز قدرة مختلف أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية والأمريكية على إسقاطها، وهذا ما أحدث إرباكًا واضحًا في الحسابات الإسرائيلية والأمريكية في الأيام الأخيرة من الحرب، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى التدخل المباشر العلني فيها لتحقيق إنجاز استراتيجي ما منها، بعدما تبيَّن أن سلاح الجو الإسرائيلي غير قادر وحده على إيقاع الهزيمة بإيران وجرها إلى طاولة المفاوضات لإلزامها بالتخلي عن برنامجها النووي السلمي والمنظومة الصاروخية لديه، كمقدمة لتعرية النظام وإسقاطه بوسائل أخرى. لكن رغم استخدام الولايات المتحدة القنبلة GBU-57 في هذه العملية بواسطة القاذفات B2 فلم يتبيَّن حتى الآن حجم الدمار الذي لحق بتلك المنشآت، في ظل تكاثر التقارير الاستخبارية التي تشير إلى محدودية الدمار الذي لحق بهذا البرنامج.

كانت الحرب التي شنتها إسرائيل ضد حزب الله في لبنان، ثم إسقاط النظام والدولة في سورية، وقيام إسرائيل بتدمير قدرات الجيش السوري، فضلاً عن توجيه ضربات جزئية للحشد الشعبي في العراق، تهدف من جملة ما تهدف إلى تمهيد الطريق لتوجيه ضربة عسكرية كبرى ضد إيران، فمحور المقاومة كان يمثل ببعض أبعاده خط دفاع أول عن إيران، إلى جانب دوره المركزي في مواجهة إسرائيل. وقد نجحت إسرائيل والولايات المتحدة حقًا في إضعاف هذا المحور، وبخاصة مع الضربات الموجعة التي تعرض لها حزب الله في لبنان ومن ثم التحوُّل الدراماتيكي التي حصل في سورية وأدى إلى قطع طريق الإمداد بين إيران والمقاومة في لبنان. وهذا ما أضعف من دون شك إيران إقليميًا.

لكن الحرب الأخيرة ضد إيران جاءت، حتى الآن، بنتائج يمكن أن تعزز من قوة إيران في المستقبل، إذا أخذت إيران في خيار إعادة ترميم عناصر القوة لديها من خلال إعادة ترميم محور المقاومة وإعادة رسم استراتيجيته وأهدافه ووسائل عمله، وبخاصة مع تطوير إسرائيل تقانات عسكرية سباقة في الذكاء الاصطناعي أحدثت خللًا واضحًا في المعلومات والاستهداف والملاحقة، ومع نجاح الولايات المتحدة في فرض نظام وصاية استعمارية جديدة على منطقة المشرق العربي وسعيها لتوسيع هذه الوصاية على منطقة غرب آسيا بوجه عام، وصولًا إلى بحر قزوين، لتعزيز محاصرة روسيا من جهة، ولحرمان الصين مواردَ النفط الإيراني ولقطع الطريق أمام طريق الحرير وتعزيز مكانة الهند الجيوقتصادية في وجه تصاعد دور الصين في العالم من جهة أخرى. لذا، لا بد لإيران من تعزيز تعاونها العسكري والاستراتيجي مع كل من الصين وروسيا، أولًا لتعزيز قدراتها العسكرية الدفاعية والأمنية ولإعادة بناء سلاح الجو لديها وسلاح الدفاع الجوي، لمواجهة أي عدوان أمريكي أو إسرائيلي يمكن أن يقع في أي وقت، ولحماية الأجواء الإيرانية، ولتعزيز الأمن السيبراني لديها.

وفي ما يتعلق بالبرنامج النووي، من الأفضل لإيران أن تدير هذا الملف بمزيد من السرية والغموض والصمت بعيدًا من أعين الوكالة الدولية للطاقة الذرية والأقمار الاصطناعية، وهذا يتطلب بذل مزيد من الجهد وتطوير تقانة الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي وتعزيز البنى التحت الأرضية، لمواجهة الاختراقات الأمنية الواسعة والعميقة التي نجحت إسرائيل في تحقيقها على الساحة الإيرانية. وهذا أمر يعزز التشديد على ضرورة تطوير إيران تعاونها الأمني والتقاني مع كل من روسيا والصين لمواجها التهديدات الاستراتيجية التي تواجهها.

وربما تكون هذه الحرب قد انتهت فعلًا، وهي ربما تكون من أقصر الحروب الإسرائيلية بعد عام 1967، لكنها في النهاية هي حرب بكل مقوماتها وعناصرها وأهدافها، لا مجرد مواجهة جوية وصاروخية. لكن حساب حقل الولايات المتحدة وإسرائيل، رغم كل التحضيرات الطويلة المسبقة لها، لم تتطابق مع حساب البيدر الإيراني، وهذا ما عجل في إيقاف الحرب في إثني عشر يومًا تحت تأثير القصف الصاروخي الإيراني للكيان الصهيوني قبل أن تحقق الأهداف التي كانت مرسومة لها أمريكيًّا وإسرائيليًّا، بغض النظر عن مقدار التدمير الذي لحق بالبرنامج النووي لإيران. وهكذا ربما تكون الحرب قد انتهت اليوم، لكن الصراع والتناقض في المنطقة بين مشروع استعماري عنصري إلغائي وبين قوى وشعوب تحررية تنزع إلى نيل حقوقها واستقلالها وحريتها، سيبقى قائمًا في المدى المنظور. وسيظل خطر شطب القضية الفلسطينية وابتلاع كل أرض فلسطين والجولان ومزارع شبعا اللبنانية، وتعميم التطبيع بين الكيان الصهيوني وكل البلدان العربية، هو الخطر الداهم اليوم. لذلك تبقى الأمور مفتوحة على احتمال حصول مزيد من التصعيد العسكري ضد إيران، ما دامت تمثل بالنسبة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل مصدر التهديد الرئيسي لمشاريعهما في المنطقة فضلًا عمّا تمثّله الجمهورية الإسلامية في إيران من نموذج حضاري مغاير للنموذج الحداثي الغربي النيوليبرالي الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تعميمه في العالم كنموذج حضاري ينتهي معه التاريخ.

كتب ذات صلة:

صنع القرار في إيران والعلاقات العربية – الإيرانية

العلاقات العربية – الإيرانية: الاتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل

زيارة جديدة لتاريخ عربي: عبد الناصر كما حكم؛ البعث كما حكم (ثلاثة أجزاء)

المصادر:

هذه هي افتتاحية العدد 557 من مجلة المستقبل العربي لشهر تموز/يوليو 2025.

فارس أبي صعب: باحث ومدير التحرير في مركز دراسات الوحدة العربية.


فارس أبي صعب

مدير قسم التحرير ومدير تحرير مجلة المستقبل العربي

فارس أبي صعب مدير التحرير في المركز ومدير تحرير مجلة المستقبل العربي منذ عام 2012. باحث في العلوم الاجتماعية، نشر عدداً من الدراسات في دوريات عربية، أو فصولاً في كتب، حول قضايا عربية أو عالمية معاصرة، كتجارب الأحزاب السياسية في العالم العربي، والثقافة السياسية للفساد، والانتخابات وأزمة الديمقراطية في لبنان، والعرب والحداثة، والقضية الفلسطينية، والثورات العربية في عالم متغير ومستقبل الشرق الأوسط… فضلاً عن مجموعة من الدراسات والمقالات حول موضوعات متنوعة نشرت في صحف لبنانية أو عربية، وعن غيرها من الأبحاث غير المنشورة.
منذ بداية التسعينيات حتى اليوم، أدار الباحث على التوالي أقسام التحرير والنشر أو الدراسات في عدد من مراكز الدراسات العربية، منها مركز دراسات الوحدة العربية (2012-2018)، والمركز اللبناني للدراسات (1993-2006)، ومركز الخليج للأبحاث (2009-2006)، والمعهد المالي – بيروت (2011-2009). وهو ساهم في تأسيس مجلة أبعاد الفصلية (بيروت) وأدار تحريرها (1997-1993)، كما ساهم في تأسيس مجلة السادسة الفصلية (بيروت) ورَأَس تحريرها (2011).
حائز دبلوم الدراسات العليا في علم اجتماع التنمية من الجامعة اللبنانية.

مقالات الكاتب
فارس أبي صعب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز