مقدمة تحليلة:
تتميز الثقافة عموماً بدرجة عالية من الاستمرار، فهي تتكون عبر فترة طويلة من الزمان؛ وهي تعد حصيلة لمجموعة مركبة من العوامل من قبيل العادات والتقاليد والخبرات التاريخية والموروثات الشعبية، ويتم تناقلها من طريق عملية التنشئة بأدواتها المختلفة كالأسرة ودُور العبادة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني. مع ذلك فإن الثقافة ليست كتلة صمّاء فهي تتغير استجابة للتطورات المستحدثة. وكمثال فإن الزحف العمراني على الأراضي الزراعية قد قلل من القدسية التي كانت تتمتع بها قيمة امتلاك تلك الأراضي والحفاظ عليها وتوارثها من الأجداد إلى الآباء إلى أبنائهم، وحوّل مخزن القيمة من الأرض الزراعية إلى المباني والعقارات. كما أن فعالية وسائل التواصل وقدرتها على إحداث تغيير مجتمعي ساعدت على مناقشة مسائل كانت تعد قبـلاً من المحرمات. وهكذا بدأنا نقرأ لكثير من الفتيات عن تجارب التحرش التي تعرضن لها في طفولتهن، ما جعل قضية التحرش تحظى باهتمام عام ورفع الوعي بخطورتها. كذلك أدت أزمة الأيديولوجيتين الشيوعية والليبرالية إلى تبني الحركات السياسية أيديولوجيات هجينة ما بين اليمين واليسار. كما قاد المد الديني على مستوى العالم إلى تطعيم الأطر المدنية ببعض الأفكار الدينية وتجسد ذلك بامتياز في الأحزاب الديمقراطية المسيحية.
وكما يلاحظ، فإن هذا التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في مضامين القيم التي تتشكل منها الثقافة قد يكون مبعثه الداخل نتيجة الحراك المجتمعي الطبيعي، أو يكون مبعثه الخارج نتيجة الاحتكاك بهذا الخارج من طريق السفر والدراسة وتكنولوجيا الاتصال. وهو قد يكون إيجابياً، كما قد يكون سلبياً، ولا أدَلَّ على ذلك من المقارنة بين الوعي بقيمة الحفاظ على نظافة البيئة كقيمة إيجابية وبين انتشار التطرف الديني والإرهاب كقيمتين شديدتي السلبية. كذلك فإن التطور قد يكون عابراً أو قد يستمر لبعض الوقت، فالأمر يتوقف على رد الفعل المجتمعي – أو ما يسمى «الحاضنة الشعبية» – ومدى تقبله هذا التطور. ويفسر لنا ذلك لماذا تنجح أفكار اليمين المتطرف في دولة معينة ولا تنجح في دولة أخرى، ولماذا يصوت الناخبون لأفكار كهذه في انتخابات ويرفضونها في سواها؟
لكن حتى هذه اللحظة لم تتعرض الدراسة للعلاقة بين الدساتير والثقافة، فالأصل في الدساتير أنها تتميز بدرجة عالية من الثبات والاستقرار، لأنها تمثل الإطار الحاكم لكل تفاعلات النظام ومؤسساته على المستوىين الداخلي والخارجي، وبالتالي فهي لو تعرضت للتغيير المستمر فإن هذا يؤدي إلى اضطراب تلك التفاعلات وعدم استقرارها. وبذلك نصير في هذه الدراسة إزاء متغيرين يتميز كل منهما بالاستمرارية أي الثقافة من جانب والدساتير من جانب آخر، فكيف نتعامل مع علاقةٍ طرفاها الاثنان على هذا النحو من الثبات؟ بمعنى كيف يمكن لمتغير ثابت أن يؤثر في متغير ثابت آخر؟ سبق القول في الفقرة السابقة إن الثبات المقصود نسبي وإن الثقافة معرضة للتغيير متى توافرت عوامل معينة، والأمر نفسه يصدق على الدساتير، فهي قابلة للتعديل لتعكس التطور في سياسات النظام الداخلية؛ كالانتقال مثـلاً من الأحادية الحزبية للتعدد الحزبي ومن الاقتصاد المركزي لاقتصاد السوق أو لتتسق مع اختلاف توجهات النظام الخارجية وتحالفاته الإقليمية والدولية. ففي مثل هذه الحالات، ما لم تتعدل بعض نصوص الدستور لتلاقي التطورات المذكورة فإنها تصبح مفارقة للواقع وتنظم أوضاعاً وعلاقات لا وجود لها في الحقيقة. والثقافة قد تكون أحد مفاتيح تغيير الدستور أو حتى الاستغناء عنه بالكلية كما لو شاع الفكر الذي يقول إنه لا يوجد دستور غير كتاب الله، أو إن تعدد الدساتير في منطقة معينة يُعوِّق وحدتها. لكن الدساتير أيضاً قد تكون من مفاتيح تغيير الثقافة كما لو تبنى الدستور الشكل الديني أو المذهبي للدولة حيث يمهد لتغير منظومة القيم ويروِّج ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة.
ستبحث هذه الدراسة في كيف يمكن للتغير في الثقافة أن يؤثر وينعكس على التغير في الدساتير. وتحقيقاً لذلك ستركز على تحليل أبرز المستجدات على الثقافة العربية منذ عام 2011 وحتى عام 2018، ثم تنتقل لتناول كيف انعكست هذه المستجدات على الدساتير الجديدة التي شهدتها الأقطار العربية التي كانت مسرحاً للاحتجاجات الشعبية. هذا مع العلم بأن الدراسة في تعاملها مع الحالتين اليمنية والليبية إنما تتعامل مع مشروعين دستوريين وليس مع دستورين ساريين نتيجة عدم اكتمال المسار الدستوري في هاتين الدولتين. وفي ما يأتي تتابع الدراسة تناول فكرتها الرئيسيّة من خلال قسمين اثنين هما:
أولاً: مستجدات الثقافة العربية في الألفية الثالثة
عرفت البلدان العربية ظاهرة الاحتجاجات الشعبية في مراحل مختلفة من تطورها المعاصر، ومن ذلك تظاهرات الخبز التي اجتاحت عدداً من العواصم العربية في الثمانينيّات والتسعينيّات مع التوجه نحو سياسات الإصلاح الهيكلي وخفض الإنفاق الحكومي كجزء من متطلبات مؤسسات التمويل الدولية. لكن هذه الاحتجاجات سرعان ما كان يتم احتواؤها، إما بتراجع الحكومات العربية عن رفع أسعار السلع الأساسية، وإما بإخماد تلك الاحتجاجات بالقوة بسبب محدودية المشاركين فيها ومحدودية انتشارها الجغرافي. أما ما شهدته البلدان العربية منذ عام 2010 وبصورة أوضح منذ عام 2011 فقد كان مختلفاً عما سبقه، سواء لجهة الأعداد الغفيرة من المواطنين التي شاركت في الاحتجاجات من سائر الشرائح العمرية والطبقات الاجتماعية والمناطق الجغرافية، أو لجهة الشمول الذي تميزت به الشعارات المرفوعة في تلك الاحتجاجات وجمعها بين ما هو اقتصادي «عيش» وما هو سياسي «حرية – كرامة إنسانية»، أو لجهة الاستمرارية، التي بلغت في حدها الأدنى ثمانية عشر يوماً كما كان الحال في مصر وبلغت في حدها الأقصى سبع سنين كما هو الحال في كل من سورية وليبيا واليمن مع حصول تطور خطير في هذه الحالات الثلاث من الاحتجاجات السلمية للصراعات المسلحة.
ومثل كرة الثلج راحت الحركة الاحتجاجية تتدحرج من بلد عربي إلى آخر وتصل بلداناً لا عهد لها بظاهرة خروج المواطنين إلى الشارع كما هو الحال في سلطنة عمان، وترفع سقف مطالباتها إلى مستوى غير مسبوق في دول أخرى مثل مملكة البحرين حيث ارتفع الشعار الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام»، وتحاول تطوير معارضتها السياسية استفادة من الزخم الموجود في المنطقة كما حدث في العراق وبدرجة أقل في المغرب والأردن. ومثل هذا الشمول للظاهرة الاحتجاجية داخل الدولة العربية الواحدة وفيما بين الدول العربية المختلفة جعل الحديث عن مستجدات ثقافية يتجاوز الحدود القُطرية ويمثل حالة عربية عامة.
وبوجه عام يمكن القول إن أبرز القيم التي أعلتها الاحتجاجات الشعبية العربية هي قيم: مدنية الدولة، والمشاركة السياسية عموماً وللمرأة والشباب خصوصاً، والعدالة الاجتماعية. وبطبيعة الحال فإن الملاحظة المبدئية على هذه القيم المختارة أنها ليست قيماً مستجدة وهي ليست كذلك بالفعل، فثمة تاريخ طويل للتعاطي عربياً مع قضية الهوية أو الديمقراطية أو الأقليات أو عدالة توزيع عوائد التنمية، وهي القضايا التي تتصل بها القيم المذكورة بشكل مباشر. لكن في ما يلي سيتطرق التحليل إلى بعض الأبعاد المستجدة في طرح هذه القيم/القضايا على مدار السنين السبع السابقة.
1 – مدنية الدولة
تشابهت الحركات الاحتجاجية العربية في بداياتها الأولى حيث قامت مجموعة من الشباب المتعلم الذين ينتمون غالباً إلى الطبقة الوسطى والناشطين في تيارات مدنية يسارية وليبرالية، بالتظاهر في الميادين العامة. وفيما بعد وحين تأكدت التيارات الإسلامية من قوة تلك الحركات وانتشارها لم تلبث أن التحقت بها. وانعكست هذه البداية المدنية – إذا جاز القول – للاحتجاجات الشعبية على آليات التعبير عن الاحتجاج، وكانت أكثر الآليات شيوعاً في التعبير هي الغرافيتي أو الرسم على الجدران والأشعار العامية والفصحى فضـلاً عن المعزوفات الموسيقية.
ومثل هذه البداية هيأت للقوى المدنية أنها صاحبة حق في الحديث عن مدنية الدولة، وبخاصة أن القوى الإسلامية أخذت تنافسها على الحضور في الشارع مستفيدة من قدرتها الكبيرة على الحشد والتعبئة. وهكذا شهدنا ما يمكن وصفه، بشيء من التبسيط، بعرض قوة متبادل بين التيارات السياسية المختلفة، ومن ذلك أنه بعد أيام قليلة من تنحّي الرئيس المصري حسني مبارك عن الحكم جاء الشيخ يوسف القرضاوي من مقر إقامته في قطر ليخطب في ميدان التحرير أو ميدان الثورة، وفي تلك المناسبة خلع الإسلاميون عليه «وصف إمام الثورة». واتصالاً بالموضوع نفسه أغرق الظهور الإعلامي للإسلاميين من الإخوان والسلفيين الفضائيات المصرية، وجرت أسلمة العملية السياسية بإطلاق تعبير «غزوة الصناديق» على أول استفتاء شهدته مصر على الإعلان الدستوري في آذار/مارس 2011 وصولاً إلى رفع الآذان أثناء انعقاد جلسة مجلس الشعب المنتخب في أول انتخابات تشريعية تشهدها البلاد بعد حل المجلس السابق.
في هذا السياق بدا مصطلح مدنية الدولة وكأنه تلخيص للصراع السياسي بين القوى المختلفة، وكما سبق القول فإن قضية الهوية لم تختف أبداً من السجال السياسي العربي العام، لكنها كانت تظهر أساساً عند تعديل الدستور، أو عند وضع دستور جديد، حيث تثور دائماً مسألة العلاقة بين الدين والتشريع؛ وهل الشريعة تعد مصدراً للتشريع أم مصدره الوحيد؟ ففي اليمن على سبيل المثال كان هذا موضوعاً كبيراً للنقاش عند وضع دستور الوحدة. لكن الجديد فى الألفية الثالثة تمثل بالتركيز على مسألة مدنية الدولة نفياً لدينيتها، وهو ما أثار جدلاً نظرياً واسعاً جوهره السؤال التالي: هل يوجد في أدبيات الفكر السياسي والنظرية السياسية ما يسمى «مدنية الدولة» أم أن وصف مدني يرتبط بالمجتمع وحده كما ورد لدى فلاسفة العقد الاجتماعي ومن جاء بعدهم؟ وتأثرت الإجابة عن هذا السؤال النظري بطبيعة الموقف السياسي، فمن يرفضون تضمين هذه المدنية في الدستور ينفون أساسها النظري، ومن يؤيدون النص عليها يرون أنها مرادفة للحداثة، وبالتالي حين نقول الدولة المدنية فإنما نعني بها الدولة العصرية أو الدولة الحديثة.
واتصالاً بمدنية الدولة برز اعتناء كبير بقيمة التعددية بوصفها من أخص خصائص الدولة المدنية التي هي بحكم التعريف دولة لكل مواطنيها بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية أو العرقية أو اللغوية. وسمحت أجواء الاحتجاجات الشعبية التي جمعت أعداداً غفيرة من المواطنين في مكان واحد ووحدت هتافاتهم المطالبة بإسقاط النظام؛ سمحت هذه الأجواء بتجاوز الانتماءات الأولية الضيقة للدين والطائفة واللغة. وهكذا رأينا في ميدان التحرير في وسط القاهرة المشهد الرائع المتمثل بأداء المسلمين الصلاة في حراسة المسيحيين، كما رأينا كيف فتحت كنيسة قصر الدوبارة أبوابها لعلاج المصابين برصاص قوات الأمن أو بالاختناق من جراء الغاز المسيل للدموع، وأُطلق على هذه الكنيسة اسم كنيسة الثورة. يلاحظ هنا أن الانخراط المسيحي في الحياة السياسية منذ كانون الثاني/يناير 2011 يمثل خروجاً عن السلبية السياسية التي ميزتهم قبل هذا التاريخ، وقد حافظوا على هذا النمط الجديد من سلوكهم السياسي في كل المراحل التالية على هذا التاريخ سواء من خلال تقديم الشهداء خلال المواجهات الأمنية كما هو الحال في واقعة ماسبيرو في تشرين الأول/أكتوبر 2011 حين استُشهد بعض الشبان الأقباط أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون في ماسبيرو أو من خلال المشاركة الكثيفة في الاستحقاقات الانتخابية من الإعلان الدستوري للانتخابات التشريعية والرئاسية وصولاً إلى تظاهرات 30 حزيران/يونيو.
وفي ميدان التحرير وسط صنعاء تظاهر الحوثيون جنباً إلى جنب مع الإخوان المسلمين، وتحول الحراك الجنوبي إلى حراك يمني عابر للإقليمية. وفي مجتمع بالغ التنوع بطبيعته كالمجتمع السوري كان من المفهوم أن تتعدد الروافد الإثنية للمشاركة الشعبية في الاحتجاجات مع تفاوتات في نسب المشاركة بحسب الموقف من النظام الحاكم. وشارك الأمازيغ إلى جانب العرب في الفعاليات الاحتجاجية الليبية. إلا أنهم مع بدء المرحلة الانتقالية قاطعوا انتخابات المؤتمر الوطني العام احتجاجاً على تدني نسبة تمثيلهم. وهذا يقودنا إلى التمييز بين مرحلة التظاهر والاحتجاج، وهي مرحلة جامعة تألقت فيها روح المواطنة في الساحات العربية كافة، وبين المرحلة الانتقالية التي مثلت ارتداداً عن بعض المكاسب التي سبق تحقيقها. وارتبط هذا الارتداد بأمرين هما: صعود جماعات العنف السياسي الإسلامي من جهة، وتعقيدات المرحلة الانتقالية من جهة أخرى؛ من هنا تكررت حوادث الاعتداء على المسيحيين في مصر وشهدت مصر لأول مرة قتل أربعة من المصريين الشيعة في حزيران/يونيو 2013 بينهم القيادي الشيعي حسن شحاتة، واندلعت أعمال الشغب فى معاقل الأمازيغ في ليبيا.
2 – المشاركة السياسية
عرضت النقطة السابقة لمشاركة سائر المكونات الوطنية في الاحتجاجات الشعبية وهذا ما جعلها تختلف عن سابقاتها في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته. وبوجه خاص، برزت مشاركة النساء والشباب فى الاحتجاج الجماهيري، وهذه ظاهرة ركزت عليها وسائل الإعلام المحلية والدولية. لكن بطبيعة الحال حين نقول إن النساء والشباب كانوا الأكثر مشاركة في الاحتجاجات فإن التعبير لا يكون دقيقاً تماماً لأنه يتجاهل التداخل بين الفئتين المذكورتين، فبعض النساء المشاركات كن شابات، ومن هنا فإن الفصل بين هاتين الفئتين هو لغرض تسهيل التحليل لا أكثر.
بداية بالنساء؛ فلقد كان لهن تاريخ معتبر في مجال المشاركة السياسية في الدول التي شهدت احتجاجات شعبية وصولاً إلى رئاسة الدولة نفسها واعتلاء عرش المُلْك كما في كل من مصر واليمن. كما تميَّزت الحركة النسائية التونسية بأنها الأقوى على مستوى الوطن العربي منذ أَولاها الحبيب بورقيبة اهتماماً كبيراً غداة الاستقلال. وبما أن النظامين السوري والليبي كانا نظامين تقدميين فلقد انعكس هذا إيجاباً على الوضع السياسي للمرأة بأشكال مختلفة. لكن ما ميّز المشاركة السياسية النسائية في الاحتجاجات العربية بُعدان أساسيان: البعد الأول هو نوع المشاركة السياسية نفسها، حيث شاركت النساء بقوة في كل الفعاليات الاحتجاجية من تظاهر واعتصام وإضراب، وسقطت منهن شهيدات في المواجهة مع قوات الشرطة والجيش، هذا إضافة إلى قيامهن بدور أساسي في عملية التشبيك بين المحتجين والخدمة في الصفوف الخلفية. البعد الثاني يرتبط بسابقه وجوهره انتقال النساء من المشاركة داخل النظام إلى المشاركة ضد النظام، أو الانتقال من مربع الموالاة إلى مربع المعارضة، وهكذا سنجد النساء حاضرات في كل الأطر السياسية التي واكبت المرحلة الانتقالية،واقترن هذا الحضور بتحديد حصص لمشاركتهن السياسية كما حدث في مصر وتونس واليمن على سبيل المثال.
وفي ما يتعلق بالشباب سبق القول إنهم من أشعلوا فتيل الثورة؛ ومع أن شباب الطبقة الوسطى قاموا بدور معتبر في نقل الفعاليات الاحتجاجية للخارج عبر استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا لا ينبغي أن يحجب حقيقة المشاركة الكثيفة لأبناء الطبقات الفقيرة الذين إما أنهم يعانون البطالة وإما أنهم يعملون بأجور متدنية وبما لا يناسب المؤهلات التي حصلوا عليها. اتصالاً بذلك لا ننسى أن من أشعل فتيل الاحتجاجات الشعبية في تونس كان بائع الخضر الشاب محمد البوعزيزي. وبعد مرور سبع سنين على اندلاع ما يُعرف بثورة الياسمين، وفي كانون الثاني/يناير 2018 تجددت الاحتجاجات الشعبية في تونس وكان وقودها الشباب مجدداً. لكن لم يقتصر دور الشباب على التظاهر والاحتجاج والاعتصام لكنهم أدّوا دوراً أساسياً في تأمين المؤسسات العامة والممتلكات الخاصة عندما فُتحت السجون وأُطلق المجرمون، وترافق ذلك مع اختفاء قوات الشرطة من الشوارع كما حدث في مصر.
من جهة أخرى نشطت بشدة ظاهرة تكوين الائتلافات الشبابية، وهي ظاهرة كان لها ما لها وعليها ما عليها؛ فمن جهة كانت مؤشراً واضحاً على انخراط الشباب في السياسة ووضع حدٍّ لحالة الاغتراب التي لازمتهم قبل ذلك نتيجة شعورهم بعدم أهمية دورهم السياسي، لكن من جهة أخرى فهي كانت مؤشراً أيضاً على التشرذم وعدم القدرة على تكوين كيانات قوية تعكس تباينات في المواقف السياسية وليس صراعاً بين المصالح الخاصة. ومن الظواهر الجديدة أيضاً التي ارتبطت بالمشاركة السياسية للشباب بروز الدور السياسي لروابط المشجعين الرياضيين أو «الألتراس»، وهي ظاهرة لم تعرفها مجتمعاتنا العربية وتعرضت لها مصر بشدة منذ عام 2011، فلقد نجحت التيارات السياسية المختلفة في اختراق هذه الروابط مستغلة الحماسة التي تميز بها أعضاؤها من أجل تعبئتهم في اتجاه أو في آخر.
3 – العدالة الاجتماعية
تميزت النظم كافة التي اندلعت فيها احتجاجات شعبية بأنها كانت تعاني مشكلة في توزيع الموارد سواء بين الطبقات المختلفة أو بين الأقاليم الجغرافية المختلفة. وفي هذا الإطار ظهرت الثنائيات التي عرفناها من قبيل ثنائية القلة التي تملك مقابل الأغلبية التي لا تملك، أو ثنائية الساحل الغني والداخل الفقير أو الشمال والجنوب. وفي الوقت الذي تُكتَب فيه هذه الدراسة، يشهد السودان – وهو ليس من بلدان الربيع العربي – تظاهرات ضد غلاء الأسعار، وقبل ذاك اندلع ما يُعرَف بالحراك في منطقة الريف المغربي، هذا بطبيعة الحال دون الحديث عن تونس مهد أول الاحتجاجات في كانون الأول/ديسمبر، التي أخذت التظاهرات فيها تتجدد سنوياً تقريباً بمناسبة الاحتفال بذكرى سقوط بن علي؛ وصولاً إلى تظاهرات كانون الثاني/يناير 2018. هنا يُلاحَظ، كما سبق التوضيح، أن لجوء العديد من النظم العربية لتنفيذ «روشتة» البنك الدولي التي تقلص دور الدولة في دعم الفئات الفقيرة والمهمشة، كان مسؤولاً إلى حد كبير عن مفاقمة عوامل الاحتقان الشعبي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن انتشار الفساد السياسي كان يمثل مصدراً مهماً من مصادر استنزاف موارد الدولة سواء كانت تلك الدولة من دول الربيع العربي أو لم تكن.
من هنا صار مطلب العدالة الاجتماعية أو العدالة التوزيعية شعاراً مرفوعاً منذ عام 2010 وبتنويعات مختلفة عليه، وارتبط ذلك بتصاعد الأصوات الداعية لمحاسبة أركان النظم السابقة محاكمة اقتصادية، وليس فقط محاكمة سياسية، ومنع اشتغالها بالعمل العام (العزل السياسي)، وتلك قضية كانت موضع جدل كبير ما بين التأييد والمعارضة سواء للاختلاف حول المبدأ ذاته ومدى ديمقراطيته، أو للاختلاف حول المستهدفين بتطبيقه ومن يكونون. كما ارتبط ذلك بالاهتمام بدور الأجهزة الرقابية في محاربة الفساد ودعم الدور الرقابي للبرلمانات العربية على الحكومات تحقيقاً لمعايير النزاهة والشفافية. هذا فضـلاً عن السعي لاسترداد الأموال المنهوبة والمهرّبة إلى الخارج وإعادة توزيعها بشكل عادل بين المواطنين.
جدير بالذكر أن الطموحات العالية التي رافقت الاحتجاجات الشعبية وشعور الجماهير بالاقتدار بعد إطاحة نظمها المستبدة، هذه الطموحات قد تسببت في ما يمكن أن نسميه «تفجير ثورة التوقعات»، بمعنى تكاثر الحركات المطلبية من الفئات الاجتماعية كافة تقريباً. ورغم أن بعض هذه الحركات كان محقاً في التعبير عن مشاعر الظلم الاجتماعي التي يعانيها أفرادها إلا أن البعض الآخر أراد الاستفادة من الفوضى الفاصلة ما بين إطاحة رئيس وقدوم آخر لرفع مطالب جديدة.
ثانياً: الدساتير العربية ما بين الاستمرار والتغيير
من النقطة السابقة توصلنا إلى أن الاحتجاجات الشعبية التي مرّت بها بعض النظم العربية في الألفية الثالثة قد دفعت إلى الواجهة بعدد من القيم التي لا يمكن الزعم أنها جديدة، لكنها كانت، إذا جاز التعبير، متوارية أو غير ذات شأن. وفي ظل وضع كهذا يبدو من المنطقي أن تنعكس هذه القيم دستورياً حتى لا تنشأ فجوة بين الواقع والدستور. هنا يمكن القول إن الترجمة الدستورية للقيم المشار إليها أعلاه قد تأثرت بمجموعة من العوامل الأساسية: العامل الأول هو درجة تمثيل كل القوى التي شاركت في الاحتجاجات الشعبية داخل اللجنة أو الجهة التي قامت بوضع الدستور، سواء كانت هذه الجهة منتخبة مباشرة كما كان الحال مع المجلس الوطني التأسيسي في تونس حيث صوَّت الناخبون مباشرة لانتخاب ممثليهم في المجلس، أو كانت منتخبة بصورة غير مباشرة كما حدث في لجنة الخمسين في مصر حيث قامت المؤسسات الرسمية وغير الرسمية باختيار ممثليها في هذه اللجنة، أو كانت معينة من جانب رئيس الجمهورية كما تحقق مع لجنة دستور عام 2012 في سورية. تكمن أهمية هذا المعيار في أن يأتي الدستور حصيلة لتفاعل مختلف القوى الاجتماعية والتيارات السياسية، ولا يخضع لمنطق المغالبة من خلال هيمنة طرف واحد على عملية وضع الدستور.
على سبيل المثال فإن الجمعية التأسيسية الأولى التي ألّفها البرلمان المصري (مجلس الشعب + مجلس الشورى) طغى عليها تمثيل التيار الديني صاحب الأغلبية في البرلمان بمجلسيه. ولما كان الإعلان الدستوري في آذار/مارس 2011 لا يعطي نواب البرلمان حق عضوية الجمعية التأسيسية فقد طُعن بتشكيل الجمعية وحكم القضاء الإداري ببطلانها. وفي تأليف الجمعية التأسيسية الثانية تم أيضاً التحايل لزيادة وزن التيار الديني، وهو ما أدى إلى انسحاب الكنائس المسيحية من عضوية الجمعية فضـلاً عن انسحاب العديد من القوى المدنية الليبرالية. وفي سورية لم تشارك أي من قوى المعارضة في عضوية اللجنة التي ألّفها الرئيس بشار الأسد بقرار جمهوري لوضع الدستور، الأمر الذي وضع سقفاً محدداً لدرجة التغيير الذي دخل على نصوص دستور عام 1973. والسؤال الذي يبرز في هذا الخصوص هو: ألا يقلل عرض الدستور على الاستفتاء الشعبي من أثر تغييب بعض القوى عن المشاركة في صنع مواد هذا الدستور ما دام بإمكان أي مواطن أن يُصوّت بـ لا؟ نظرياً يُعتبر الاستفتاء الشعبي ضمانة لديمقراطية الدستور لكن الخبرة العملية تثبت أن نتائج التصويت على مشروعات الدساتير عادة ما تفضي إلى تأييدها.
العامل الثاني المهم يرتبط بسابقه، أي بطريقة صنع الدستور، فكلما خضعت صيغة النصوص الدستورية للتوافق السياسي بين مختلف الأعضاء خرج الدستور معبراً عن القيم التي يتبناها عدد متنوع من القوى الاجتماعية والسياسية. على سبيل المثال، أبدى التيار الديني الذي جسّده حزب النهضة التونسي داخل المجلس الوطني التأسيسي درجة عالية من المرونة في التجاوب مع مخاوف التيار المدني فأدى إلى التوصل إلى نصوص توافقية في ما يخص علاقة الدين بالدولة. وهكذا لم ينص الدستور التونسي على أي دور للشريعة الإسلامية في العملية التشريعية، لكن في المقابل نص على دور الدولة كراعية للدين. ومصطلح الرعاية هو مصطلح مراوغ يمكن تأويله في عدة وجوه.
يقودنا ذلك إلى مناقشة العامل الثالث الذي تحكّم في تضمين أو استبعاد القيم المنبثقة من الحركات الاحتجاجية الشعبية، وذلك هو العامل المتعلق بمدى مرونة القيم المطلوب تضمينها. وكمثال فإن القيم المرتبطة بالدِين والأخلاق هي بطبيعتها قيم قليلة المرونة ولا تستجيب بسهولة لمطالب التغيير، وبالتالي فإنها تجد دائماً من يعارض أي مساس بها، حتى وإن كانت للمطالبين بالتغيير شرعيتهم المستمدة من صناعة بيئة التغيير: أَي حتى لو كان لهم دور معتبر في الاحتجاجات الشعبية. لكن هذا النوع من القيم ليس وحده الذي لا يتمتع بالمرونة؛ فهناك أيضاً القيم التي ترتبط بتاريخ مؤسسات الدولة ودورها في النظام السياسي، فإذا كانت المؤسسة العسكرية تحظى بوضع سياسي خاص منذ الاستقلال فمن المتعذر تجاهل هذا الوضع في مشروعات الدساتير. من هنا، ورغم الاختلاف الجذري لظروف وضع الدستور المصري في عام 2012 عنها في عام 2014، فإن كلا الدستورين احتفظا بوضع خاص للمؤسسة العسكرية. ثم نأتي للقيم التي يتطلب تضمينها توفير موارد معيَّنة، وهذه القيم بدورها لا تتميز بالمرونة لأنها قد تتجاوز حدود قدرة الدولة على تجهيز الموارد المطلوبة، وإذا ما تم تضمينها فعلياً في الدستور بسبب الضغوط الشعبية فإنها لا تُفعّل ما دامت هي تتجاوز حدود الاستطاعة.
ثمة عامل رابع يتعلق بخارطة الانتقال الديمقراطي التي التزمت بها دول الربيع العربي، فهذه الخريطة تميزت بعدة خصائص حالت دون ترجمة بعض القيم التي رفعتها الاحتجاجات الشعبية في الدساتير الجديدة أو في القليل حجّمت وجودها. من هذه الخصائص الارتباك والتخبط وإطالة أمد وضع الدستور. هنا تكفي الإشارة إلى حجم التعديلات التي دخلت على الإعلان الدستوري الليبي الذي تم وضعه في تشرين الأول/أكتوبر عام 2011، الذي مثّل الأساس لكل الخطوات التي تم اتخاذها لاحقاً بما في ذلك تأليف لجنة وضع الدستور وعملها. كما أن طول مدة عمل المجلس الوطني التأسيسي في تونس كاد يوقع البلاد في مأزق سياسي كبير ويضع عملية وضع الدستور في مهب الريح لولا تدخل أطراف الرباعية. ويلاحظ بوجه عام أنه كلما طالت مدة وضع الدستور زادت احتمالات الضغوط الداخلية والخارجية على واضعي الدستور في اتجاهات متعارضة.
أخيراً نأتي إلى العامل الخامس المتعلق ببيئة صنع الدستور ودرجة ما تتمتع به من استقرار سياسي. فالدستور الليبي، أو بتعبير أدق مشروع الدستور الليبي، وُضع في وقتٍ تصاعد فيه عنف الجماعات الإرهابية وصراع مسلح على الموارد النفطية ومحاولات للانفصال الجهوي، وتلك ظروف لا تمثل بيئة مناسبة لصنع دستور متوازن. كما أن مسلحين اختطفوا أحمد عوض بن مبارك مدير مكتب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وأمين عام مؤتمر الحوار الوطني لمنعه من تسليم مشروع الدستور للرئيس في كانون الثاني/يناير 2015 ما أدى إلى تأجيل الاستفتاء على الدستور لأجل غير مسمى.
هكذا، وأخذاً في الحسبان هذه العوامل الأساسية، تعرض الدراسة في ما يلي لكيفية معالجة دساتير دول الربيع العربي قضايا الهوية والديمقراطية والتنمية المتوازنة.
1 – هوية الدولة
كما سبق القول حظيت قضية هوية الدولة بنقاش واسع ومطوَّل في المداولات الخاصة بوضع الدساتير الجديدة في دول الربيع العربي. هنا تجدر الإشارة إلى أنه مع أن فكرة «المدنية» تتعارض مع الدور السياسي للمؤسسات الدينية كما تتعارض مع الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، إلا أن الجدل الذي ارتبط بمسألة «المدنية» من عدمها انصب على علاقة الدين بالسياسة بأكثر مما ارتبط بعلاقة الجيش بالسياسة. وفي هذا الخصوص تباينت مواقف الدساتير العربية؛ فلقد نص الدستور التونسي صراحة على أن تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة، كما تضمن مشروع الدستور اليمني نصاً يفيد بأن جمهورية اليمن دولة اتحادية مدنية ديمقراطية عربية إسلامية واستطرد. في المقابل فإن الدستور المصري لعام 2014، الذي وُضع بعد إطاحة حكم الإخوان، لم يتوافق واضعوه على مدنية الدولة وتضمنت الديباجة أن هذا الدستور يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة حكومتها مدنية، أي أن الحكومة وليست الدولة هي التي تحمل صفة المدنية. أما مشروع الدستور الليبي فقد اقترح نصاً جوهره أن ليبيا دولة إسلامية ما يعني نفي الطابع المدني عنها.
على هذا الأساس إذا تصورنا أن مواقف دساتير دول الربيع العربي من القضية موضع الذكر تتوزع على خط متواتر (Continuum)، فسنجد في أحد طرفَي الخط كـلاً من الدستور التونسي ومشروع الدستور اليمني اللذين نصّا على مدنية الدولة، وذلك رغم اختلاف التطور الاجتماعي في كلتا الدولتين؛ وفي منتصف الخط سنجد مصر التي جعلت المدنية صفة لحكومتها كحل وسط توصل إليه أعضاء لجنة الخمسين؛ وفي الطرف الآخر للخط سنجد مشروع الدستور الليبي الذي لم تشر نصوصه المقترحة لا إلى مدنية الدولة ولا إلى الحكومة. وعلى حين لم يحدد الدستور التونسي علاقة الشريعة الإسلامية بالعملية التشريعية فإنه جعل الإسلام شرطاً من شروط الترشح لرئاسة الجمهورية، علماً بأن عدد المسيحيين في تونس محدود جداً، وإن تكن فيها أقلية يهودية تتركز في جزيرة جربة، ويصطدم ربط منصب الرئاسة بدين معين بفكرة مدنية الدولة التي نص عليها الدستور. ويلفت الانتباه أن الدستور السوري أيضاً اشترط أن يكون رئيس الدولة مسلماً رغم أنه من المفترض عملياً أن الدولة السورية ذات توجه علماني؛ هذا أولاً، ومن جهة أخرى فإن المجتمع السوري من أكثر المجتمعات العربية تنوعاً سواء على المستوى الديني أو على المستوى المذهبي فضـلاً عن المستوى العرقي، ومن جهة ثالثة فإن الدستور السوري حجّم دور الدين في التشريع فتحدث عن الفقه وليس عن الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع.
وفي ما يخص مشروع الدستور اليمني فإنه اشترط أيضاً إسلام رئيس الدولة، وجعل الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع وليست مصدره الوحيد كما هو الحال مع الدستورين المصري والليبي، علماً بأن مشروع الدستور الليبي ذهب بعيداً في تأكيد دينية الدولة باقتراح النص على أن السيادة لله وحده يودعها بإرادته لدى الأمة. وبالدخول في تفاصيل من نوع تجريم الاعتداء على المقدسات الإسلامية وتحديد هذه المقدسات، وباعتبار الزكاة مقوماً أساسياً في المجتمع… إلخ، وهذا ما اقترحه أيضاً مشروع الدستور اليمني. ويعكس ضعف الاتساق بين النصوص الدستورية الخاصة بعلاقة الدين والدولة نوعاً من الحيرة في تحديد الموقف من هذه العلاقة، إذ لم تجد هذه النصوص أي غضاضة في التشديد المتكرِّر على المواطنة المتساوية للجميع، ورغم ذلك استبعاد فئة من المواطنين من المنافسة على منصب رئيس الجمهورية، ولا وَجَدَت تعارضاً بين التهرّب من الإشارة إلى مدنية الدولة وفي الوقت نفسه الاحتفاء بالمواطنة التي هي جوهر الدولة المدنية.
يقودنا ذلك إلى تناول النقطة الخاصة بالمواطنة في دساتير ومشروعات دساتير دول الربيع العربي حيث نجد تطوراً حقيقياً في ما يتعلق بحقوق المواطنين الذين لا ينتمون إلى دين الأغلبية أو لغتها. فلقد التفت الدستور المصري سواء في عام 2012 أو في عام 2014 إلى شرائع المسيحيين واليهود وجعلها مصدراً رئيسياً للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، لكن دستور 2014 قطع خطوة أبعد بإلزام مجلس النواب بوضع قانون ينظم بناء الكنائس، بحيث يسمح للمسيحيين بممارسة شعائرهم بحرية، وهذه قضية لها تاريخ طويل في مصر. كما نص الدستور ولأول مرة على تمثيل المسيحيين في أول مجلس نواب وعلى تمثيلهم بصورة مناسبة على المستوى المحلي، وتضمنت ديباجته احتفاء بالسيدة مريم العذراء ووليدها. وقد بُذِلَت محاولات لانفتاح الدستور على أتباع الديانات غير السماوية ومنهم البهائيون على سبيل المثال، إلا أنها ارتطمت بموقف التيارات الدينية عموماً والسلفية خصوصاً.
وفي ما يخص غير العرب نجد أن مشروع الدستور الليبي قد اقترح الاعتراف بلغات الأمازيغ على اختلافها باعتبارها جزءاً من التراث الجامع بين كل الليبيين، وبرز اتجاه لاعتبار تلك اللغات رسمية مثلها مثل اللغة العربية؛ لكن هذه النقطة لم تُحسم كون الدستور نفسه لم يصدر. جدير بالذكر أن الالتفات إلى المكوِّن الأمازيغي بصورة واضحة كان قد تم مع تعديل الدستور المغربي في عام 2011 الذي جعل من اللغة الأمازيغية لغة رسمية كحال اللغة العربية، ثم مع تعديل الدستور الجزائري في عام 2016 الذي جعل الأمازيغية لغة وطنية تعمل الدولة على ترقيتها وتطويرها.
كيف تعاملت الدساتير العربية مع دور الجيش في إطار النظام السياسي؟ لدينا أكثر من نموذج في هذا الخصوص؛ فهناك النموذج التونسي الذي حافظ على تقليد إبعاد الجيش عن السياسة، والنموذج المصري الذي حافظ على خصوصية معينة لوضع الجيش من خلال اشتراط موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تعيين وزير الدفاع لمدتين رئاسيتين كاملتين، هذا علماً بأن قضية محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري كانت قد حظيت بنقاش موسع داخل لجنة الخمسين بسبب ما اعتُبر توسعاً في تعريف الجرائم العسكرية في الدستور.
2 – الديمقراطية
سبقت الإشارة إلى اتساع نطاق المشاركة الشعبية في الحركات الاحتجاجية، مع التنويه إلى أن الجانب الأكبر من هذه المشاركة السياسية أتى من طرف الشباب والنساء. وبالتالي كان متوقعاً أن تأتي الدساتير في دول الربيع العربي لتُعظّم قيمة المشاركة لهاتين الفئتين اللتين عانتا التهميش السياسي، سواء بسبب ضعف دوران النخبة واستمرار الحكام في مقاعدهم لعقود طويلة والتخطيط لتوريثها لذويهم حتى في النظم الجمهورية، أو بسبب ذكوريّة الثقافة العربية واعتبارها العمل السياسي أساساً من نصيب الرجال. وبالفعل أتت دساتير ما بعد عام 2010 لتولي اهتماماً بكلٍّ من الشباب والنساء، فأوجب مشروع الدستور اليمني على الأحزاب السياسية أن تراعي تمثيل المرأة والشباب فى هيئاتها القيادية، ونص المشروع على أن تعمل الدولة على سن التشريعات التي تكفل وصول نسبة النساء في مختلف الهيئات والسلطات إلى ما لا يقل عن 30 بالمئة، كما نص على إنشاء مجلس أعلى للشباب مهمته تفعيل مشاركة الشباب في الحياة السياسية وهيئة وطنية للمرأة تشارك في اقتراح السياسات العامة، بل نص مشروع الدستور اليمني على العمل على توسيع مشاركة المرأة في مجالات القوات المسلحة والشرطة والاستخبارات العامة. ونص الدستور التونسي على أن الشباب قوة فاعلة في بناء الوطن وأن الدولة تحرص على تنمية قدراته وتحميله المسؤولية وتوسيع إسهامه في عملية التنمية بأبعادها المختلفة، وحظيت المرأة بوضع متقدم في الدستور التونسي، الذي نص على أن تسعي الدولة لتحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة. جدير بالذكر أن حقوق المرأة وما إذا كان يحكمها مبدأ التكامل أم مبدأ المساواة قد تمتعت بنقاش واسع في المجلس الوطني التأسيسي انتهي للإقرار بالمساواة.
ومع أن المرأة السورية تشارك فعلياً في مختلف أُطر الدولة وهياكلها إلا أن نصوص دستور عام 2012 اتسمت بالعمومية في تعاملها مع المشاركة السياسية للنساء بالإشارة إلى توفير الفرص كافة التي تمكنهن من المساهمة الفعّالة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وأكثر من ذلك عمومية هو النص الخاص بالشباب، حيث تتعهد الدولة بتنمية ملكاتهم. ويلاحظ أن هذه الصياغة العمومية ميزت أيضاً نصوص الدستور الليبي ذات الصِّلة. فإذا أتينا للدستور المصري عام 2014 وجدنا أنه فتح أمام المرأة باب العمل بالجهات القضائية (أساساً مجلس الدولة) المغلق في وجهها، وخصص لها لأول مرة ربع المقاعد المحلية، ومثل ذلك للشباب، كما نص على تمثيل ملائم للشباب في أول مجلس للنواب، أما الخطوة الأهم فتمثلت بالنص على تكوين مفوضية لمكافحة التمييز بكل أشكاله وأياً كان المستهدفون به: النساء، الشباب، المسيحيون، ذوو الإعاقة… إلخ.
ارتبط توسيع نطاق المشاركة عموماً وللشباب والنساء خصوصاً بإدخال عدد من التعديلات على مكونات النظام السياسي، فمن جهة أولى ظهر اتجاه لتقييد الصلاحيات التنفيذية والتشريعية لرئيس الجمهورية في دستوري تونس ومصر ومشروعي الدستور في اليمن وليبيا، ومن ذلك أن الدستور المصري قيَّد حق رئيس الجمهورية في حل الحكومة بموافقة الأغلبية البرلمانية وفي تعديل الحكومة بمشاورة رئيس الوزراء وموافقة الأغلبية المطلقة للنواب الحاضرين وبما لا يقل عن ثلث الأعضاء. كما أن الدستور المصري قيَّد حق رئيس الجمهورية في إعلان حالة الطوارئ لأول مرة بموافقة أغلبية النواب، وقيَّد تجديدها لمرة ثانية أو ثالثة بموافقة ثلثي الأعضاء، وحدد المدة في كل مرة بما لا يتجاوز ثلاثة أشهر. أما في ما يخص الدستور السوري، فقد ظل الرئيس يتمتع بسلطات واسعة نتيجة ملابسات وضع الدستور التي سبقت الإشارة إليها. ومن جهة ثانية وفي إطار الحرص على جدية أداء السلطة التشريعية، نص الدستور التونسي على أهمية المعارضة البرلمانية وأوجب منحها رئاسة اللجنة المالية ومهمة المقرر في لجنة العلاقات الخارجية وهما من اللجان البرلمانية الرئيسيّة.
من جهة ثالثة، أكدت نصوص متفرقة أهمية التعددية الحزبية كجزء من التعددية السياسية الأوسع، هذا أخذاً في الحسبان أن بلدان الربيع العربي كانت تتوزع ما بين التعددية المقيدة كما كان الحال في مصر وتونس واليمن وسورية واللاحزبية كما كان الحال في ليبيا. وقد اشترط الدستور التونسي عدم جمع رئيس الجمهورية بين مهماته الرئاسية وأي مسؤوليات حزبية ضماناً لحياد المنصب. واشترط مشروع الدستور الليبي عدم ارتباط الأحزاب السياسية بمنظمات المجتمع المدني وإن تكن هناك تجارب ناجحة لتنظيمات نقابية لها أذرع حزبية. واختفي من الدستور السوري النص على الدور القيادي لحزب البعث في إطار الجبهة الوطنية التقدمية. وحظرت الدساتير والمشروعات المذكورة كافة تأسيس أحزاب على أسس دينية أو طائفية أو جهوية، وهو ما يقودنا مجدداً إلى قضية مدنية الدولة.
ومن جهة رابعة شهد باب الحقوق والحريات تطوراً مهماً، وبالذات في ما يتعلق بضمانات المحاكمة العادلة وحرية الرأي والتعبير وحظر التمييز، واستحْدِثت لأول مرة نصوص خاصة بذوي الإعاقة. من جهة خامسة وأخيرة ورد النص على تأسيس هيئات الهدف منها تحقيق النزاهة والشفافية، كما في نص الدستور التونسي على تكوين هيئة للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد تكون مهمتها رصد حالات الفساد في القطاعين العام والخاص وإحالتها على الجهات المعنية، وهيئات تسعى لتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية كما في نص مشروع الدستور اليمني على تأليف هيئة بهذا الاسم ذاته تكشف الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان وتتولى جبر الضرر، وهيئات تتولى مراقبة تنفيذ الدستور ضماناً لتحويل النصوص الدستورية إلى سياسات عامة وهذا ما نص عليه أيضاً مشروع الدستور اليمني.
3 – التنمية المتوازنة
لا تتحقق العدالة التوزيعية أو العدالة الاجتماعية إلا في ظل سياسة اقتصادية تقوم على أساس التنمية المتوازنة بين مختلف أنحاء الدولة، وبالتالي كان النقاش حول تحقيق التنمية المستدامة حاضراً في مناقشات الهيئات التي قامت على وضع الدساتير ومشروعاتها في بلدان الربيع العربي. كان مشروع الدستور الليبي مفصـلاً في هذا الخصوص لتصحيح الخلل في توزيع الموارد ما بين الغرب أي طرابلس من جهة والشرق والجنوب أي برقة وفزان من جهة أخرى، وهكذا تضمن نظام الأقاليم مقترحاً بتوزيع عوائد الموارد الطبيعية بين الأقاليم والحكومة الوطنية مع اختصاص الأقاليم التي يتم فيها الإنتاج بنسبة إضافية، كما تم اقتراح توزيع المناصب والمؤسسات والمشروعات وليس الموارد المادية فقط، توزيعاً عادلاً بين الأقاليم، بل جرى اختصاص التكافؤ بين سكان الأقاليم في الوظائف القيادية والمناصب العليا والسلك الدبلوماسي بالذكر، ما يعني وضع اليد على المجالات الأكثر تمييزاً بين المواطنين على أسس جهوية.
ثم عاد مشروع الدستور في باب الثروات الطبيعية ليقترح إنشاء صناديق استثمارية لتوزيع إيرادات الثروات المختلفة وحدد أسس التوزيع ومعاييره كما اقترح اشتراك المستويات المركزية والمستويات اللامركزية في عملية التوزيع. وفي الباب نفسه جاء فصل عن التنمية المستدامة والمتوازنة فأوضح مزايا هذا النوع وأهمها الاتجاه بالتنمية من الأطراف نحو المركز (أي عكس الاتجاه السائد من المركز نحو الأطراف) وتوطين الخبرات، أي عدم تجريف البيئة الإقليمية، في حين تحدث فصل آخر عن حقوق الأجيال القادمة وضرورة الحفاظ عليها عبر تجنيب حصة من عوائد الثروات لمصلحة هذه الأجيال وإنشاء صندوق سيادي لاستثمار تلك الحصة. ولقد سبق الدستور التونسي في عام 2014 إلى الأخذ بهذا النص وجعل بين الهيئات الدستورية هيئة تُسَمى «هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة» تُستشار وجوباً في كل مشروعات القوانين ذات الصِّلة بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وفي مخططات التنمية. كما أوجب الدستور التونسي على السلطة المركزية العمل على تحقيق التكافؤ بين موارد الجماعات المحلية والأعباء التي يتم تحميلها بها.
جدير بالذكر أن ثمة محاولة انفصالية شهدها إقليم برقة الليبي الغني بموارده النفطية، كما أن صراعاً محتدماً دار بين الجيش الوطني بقيادة اللواء خليفة حفتر وبين الميليشيات الإسلامية المتشددة للسيطرة على ما يسمى «الهلال النفطي»، وجميعها محاولات تسعى لفرض واقع على الأرض يصادر على النصوص الدستورية المقترحة.
ولما كان الحراك الجنوبي في اليمن قد نشأ في الأساس على خلفية المظالم التي تعرض لها سكان الجنوب بعد فشل المحاولة الانفصالية في عام 1994، ولما كان هذا الحراك قد ساهم في تهيئة البيئة السياسية لإطلاق الاحتجاجات الشعبية وشارك في فعالياتها بقوة، لذلك بدا مفهوماً أن يقترح مشروع الدستور اليمني الأخذ بالنظام الفدرالي كحد أدنى لمطالب الجنوبيين، وفي هذا الخصوص تم تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم؛ أربعة منها في الشمال واثنان في الجنوب، وذلك على النحو التالي: آزال والجند وتهامة وحضرموت وسبأ وعدن. ويلاحَظ أن الحوثيين اعترضوا على هذا التقسيم على أساس أنه يعمِّق التفاوت الاجتماعي ولا يعالجه، وسندهم في ذلك أن إقليم آزال الذي يتركزون في مدنه لا يتمتع بمنفذ على البحر ويبعد عن مناطق النفط، وفي كل الأحوال فإن انقلاب الحوثيين في أيلول/سبتمبر 2014 على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي أجهض عملية الاستفتاء على الدستور.
لكن نظرة على النصوص المقترحة التي يمكن أن تشكل نواة لأي دستور يمني جديد نجد أنها دعت إلى إنشاء صندوق وطني للإيرادات تودع فيه كل الإيرادات الوطنية من أول عوائد بيع النفط وحتى الغرامات التي تحصّلها الحكومة الاتحادية. وهذه الإيرادات يجري تقسيمها وفق معايير محددة أحدها معيار تقليص التفاوت بين الأقاليم وبين وحدات كل إقليم.
وأوجب دستور مصر لعام 2014 التزام النظام الاقتصادي بضمان تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لعوائد التنمية وتقليل الفوارق بين الدخول وتحديد حد أدنى للأجور، وأخذ مثله مثل الدستور السوري في عام 2012 بالضرائب التصاعدية كآلية لتضييق الفجوة الطبقية، وعاد ليكرر تعهد الدولة بأن تكفل التوزيع العادل للمرافق وتقريب مستوىات التنمية عند تعرُّضه لنظام الإدارة المحلية. كما حدد الدستور السوري هدف السياسة الاقتصادية بالوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.
خاتمة
لقد مثلت الاحتجاجات الشعبية التي عرفتها بعض دولنا العربية بدءاً من عام 2010 نقطة تحوُّل رئيسية في مسارها التاريخي، ففي الحد الأدني ألقت هذه الاحتجاجات بأحجار ثقيلة في المياه السياسية الراكدة وجعلت من الجماهير فاعـلاً بل وفاعـلاً مقتدراً في التأثير في عملية صنع القرار بعد أن اختفت صورة هذه الجماهير لعقود طويلة من المشهد السياسي العام. ولما كانت الثقافة السياسية هي جزء من السياق المجتمعي الذي تتحرك في إطاره النظم السياسية العربية فلقد تأثرت هذه الثقافة بدورها بنتائج هذا الحراك الجماهيري، وهكذا برز في خضم الاحتجاجات عدد من القيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية وتصدَّرت الواجهة، حتى إذا ما بدأت كتابة دساتير جديدة في دول الربيع العربي كان هناك اهتمام بتضمين بعض تلك القيم الصاعدة في النصوص الدستورية المستحدثة.
هل مجرد دسترة القيم المنشودة تعني تطبيقها على نحوٍ ميكانيكي؟ الإجابة بالتأكيد بالنفي، فتطبيق النصوص الدستورية يحتاج إلى نظام يحترم سيادة القانون وهذا موضوع يخرج عن نطاق موضوع هذه الدراسة.
المصادر:
[1](*) في الأصل ورقة قدمت إلى: المؤتر السنوي لمركز البحوث والدراسات الاستراتيجية – التابع للجيش اللبناني (شباط/فبراير 2018). وقد نُشرت في مجلة المستقبل العربي العدد 477 في تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
(**) نيفين مسعد: أستاذة العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة. وهي عضو اللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.
البريد الإلكتروني: nevinemossaad@yahoo.com
نيفين مسعد
أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة، وعضوة اللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.