مدخل:
بعد انتظارٍ دام أكثر من أربعين عاماً منذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا المجال، دخلتْ اتفاقيةُ الأمم المتحدة بشأن قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية حيّز النفاذ، بعد أن اكتمل في 19 أيار/مايو 2014 العدد المطلوب من وثائق التصديق والقبول والموافقة على الاتفاقية، والبالغ خمسة وثلاثين صكاً. فقد بدأ تاريخ نفاذ الاتفاقية في 17 آب/أغسطس عام 2014، أي بعد تسعين يوماً من تاريخ الصك الخامس والثلاثين، كما تقضي بذلك الاتفاقية.
وهكذا أصبحتْ للمجاري المائية الدولية اتفاقيةٌ تحكم استخداماتها وحمايتها وإدارتها. وانتفتْ عنها أخيراً صفة المورد الطبيعي الرئيسي الوحيد الذي لا تحكمه اتفاقية دولية، ويعتمد على القانون الدولي العرفي.
سوف نناقش في هذا المقال تاريخ الاتفاقية الطويل، ومعالمها الرئيسية، ونعدّد الدول التي أصبحت أطرافاً في الاتفاقية. وسوف نلتفت بعد ذلك إلى مدلولات دخول الاتفاقية حيّز النفاذ على الأقطار العربية، ونوضح لماذا وقفت، ويجب أن تقف، الأقطار العربية إلى جانب الاتفاقية.
أولاً: تاريخ الاتفاقية وإعدادها
اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار الرقم (2669) (الدورة 25) في 8 كانون الأول/ديسمبر 1970، وطُلب فيه من لجنة القانون الدولي أن «تباشر دراسة القانون المتعلّق بوجوه استخدام المجاري المائية الدولية للأغراض غير الملاحية، بقصد تطويرِه التدريجي وتدوينه».
وبدأت لجنة القانون الدولي العمل في موضوع المجاري المائية الدولية في أوائل عام 1971. ومن الواضح أن المهمة كانت في غايةٍ من التعقيد والصعوبة، فقد تطلّب الأمر ثلاثةً وعشرين عاماً، وخمسة مقرّرين، وخمسة عشر تقريراً، قبل أن تتوصّل اللجنة إلى اتفاقٍ على المشروع النهائي لمواد الاتفاقية في عام 1994.
وقد تبيّن أن عدداً من المسائل هي في حقيقة الأمر مسائل خلافية، وتتّسم بالتعقيد، حتى بالنسبة إلى أعضاء لجنة القانون الدولي نفسها. وكان من ضمن تلك المسائل، تعريف مصطلح «المجاري المائية الدولية»، والمياه الجوفية العابرة للحدود، واتفاقات المجاري المائية القائمة وعلاقتها بالاتفاقية، والعلاقة بين مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول والالتزام بعدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن، وإجراءات تسوية المنازعات وآلياتها. وانتهى الأمر بحلِّ الخلافات حول تلك المسائل، واتفاق لجنة القانون الدولي على مشروع الاتفاقية، وتقديمه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1994، تحت مسمّى «اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية».
ثانياً: إجازة الاتفاقية بواسطة الأمم المتحدة
في 21 أيار/مايو 1997، وبعد مناقشةٍ مطوّلة للمشروع الذي قدّمته لجنة القانون الدولي، بصيغته المعدّلة من جانب الفريق العامل، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار الرقم (51/229) باعتماد الاتفاقية. وصوّت لمصلحة الاتفاقية مئةٌ وثلاث دول، وصوّتت ضدها ثلاثُ دولٍ (بوروندي، وتركيا، والصين) فقط، مع امتناع سبعٍ وعشرين دولة عن التصويت.
وقد وقفت غالبية الأقطار العربية إلى جانب الاتفاقية. وقد صوّت لمصلحة الاتفاقية خمسة عشر قطراً عربياً، هي: الجزائر، والبحرين، وجيبوتي، والأردن، والكويت، وليبيا، والمغرب، وعُمان، وقطر، والعربية السعودية، والسودان، وسورية، وتونس، والإمارات العربية المتحدة، واليمن. ولم تشارك خمسة أقطار في التصويت، هي: جزر القمر، والعراق، ولبنان، وموريتانيا، والصومال. وقد امتنعت مصر عن التصويت، وكانت القطر العربي الوحيد الذي اتخذ ذلك الموقف.
وقد كان مفهوماً أن تتغيّب جزر القمر عن الاجتماع، فهي جزيرة، ولا تعنيها مسألة المياه الدولية من قريبٍ أو بعيد. كما أن الصومال كانت في ذلك الوقت، ولا تزال، بلا سلطة مركزية تمثلها في المنظمات الدولية. وكما سنناقش لاحقاً، فقد انضمّ العراق ولبنان إلى الاتفاقية، رغم عدم مشاركتهما في التصويت. وهكذا صارت مصر التي امتنعت عن التصويت، وموريتانيا التي لم تشارك في التصويت، الدولتين الوحيدتين في الوطن العربي اللتين لم تتخذا موقفاً إيجابياً من الاتفاقية.
ثالثاً: المعالم الرئيسية للاتفاقية
تُعدُّ اتفاقية الأمم المتحدة، اتفاقيةً إطارية تهدف إلى كفالة استخدام المجاري المائية الدولية، وتنميتها والحفاظ عليها، وإدارتها، وحمايتها، وتعزيز استخدامها بصورة مثلى ومستدامة من قِبَل أجيال الحاضر والمستقبل. واعتبارها اتفاقيةً إطاريةً نابعٌ من أنها تتناول بعض الجوانب الإجرائية الأساسية، وثلّة قليلة من الجوانب الموضوعية، وتترك التفاصيل للدول المشاطئة لتكملها في اتفاقاتٍ في ما بينها، على أن تأخذ في الاعتبار الخصائص المحدّدة للمجرى المائي المعني.
وتنقسم الاتفاقية إلى سبعة أبواب، وتتألف من 37 مادة. إضافة إلى ذلك، تتضمّن الاتفاقية مرفقاً بشأن «التحكيم» يتألف من 14 مادة. وتشمل المجالات الرئيسية التي تتناولها الاتفاقية تعريف مصطلح «المجرى المائي»، واتفاقات المجرى المائي، والانتفاع المنصف والمعقول، والالتزام بعدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن، والإخطار المتعلّق بالتدابير المزمع اتخاذها، والحماية والصون والإدارة، وتسوية المنازعات.
رابعاً: مبدأ الانتفاع والمشاركة المنصف والمعقول
يتناول الباب الثاني أهم مبادئ الاتفاقية، وهو «مبدأ الانتفاع والمشاركة المنصف والمعقول». وتنصّ المادة الخامسة من الاتفاقية على حق كل دولةٍ من دول المجرى بأن تنتفع في إقليمها بالمجرى المائي الدولي بطريقةٍ منصفةٍ ومعقولة. وتُلزم الاتفاقية هذه الدول بأن تستخدم المجرى المائي الدولي، وتُنمّيه بغية الانتفاع به بصورةٍ مثلى ومستدامة، والحصول على فوائد منه، مع مراعاة مصالح دول المجرى المائي المعنيّة، على نحوٍ يتفق مع توفير الحماية الكافية للمجرى المائي. وهكذا تجمع هذه المادة بين حقوق دول المجرى وواجباتها.
وتُفصِّل المادة الرقم (6) عوامل وظروفاً محدّدة ينبغي أخذها في الاعتبار لتحديد مفهوم «الانتفاع المنصف والمعقول». وتنصّ هذه المادة على أن الانتفاع بمجرى مائي دولي بطريقة منصفة ومعقولة يتطلّب أخذ جميع العوامل والظروف ذات الصلة في الاعتبار، ومنها ما يلي:
1 – العوامل الجغرافية والهيدروغرافية والهيدرولوجية والمناخية والإيكولوجية وغيرها من العوامل ذات الصفة الطبيعية.
2 – الحاجات الاجتماعية والاقتصادية لدول المجرى المائي المعنية.
3 – السكان الذين يعتمدون على المجرى المائي في كل دولةٍ من دول المجرى المائي.
4 – آثار استخدام أو استخدامات المجرى المائي في إحدى دول المجرى المائي في غيرها من دول المجرى المائي.
5 – الاستخدامات القائمة والمحتملة للمجرى المائي.
6 – حفظ الموارد المائية للمجرى المائي، وحمايتها، وتنميتها، والاقتصاد في استخدامها، وتكاليف التدابير المتّخذة في هذا الصدد.
7 – مدى توافر بدائل، ذات قيمة مقارنة، لاستخدامٍ معينٍ مزمعٍ أو قائم.
وتنصّ المادة الرقم (6) أيضاً على أن الوزن الممنوح لكل عاملٍ من العوامل يُحدّد وفقاً لأهميته مقارنةً بأهمية العوامل الأخرى ذات الصلة.
وتتناول الاتفاقية، أيضاً، في المادة الرقم (7)، مسألة الالتزام بعدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن، وتستوجب أن تتخذ دول المجرى المائي، عند الانتفاع بالمجرى المائي المشترك، كل التدابير المناسبة للحيلولة دون التسبّب في ضررٍ ذي شأن لغيرها من دول المجرى المائي.
خامساً: العلاقة بين الانتفاع المنصف والمعقول وعدم التسبّب في ضرر
اتضح بدايةً صعوبة الاتفاق على أيٍّ من القاعدتين (الانتفاع المنصف والمعقول أم عدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن) لها الأولوية على الأخرى. وشغل ذلك الأمر لجنة القانون الدولي طيلة فترة عملها على الاتفاقية. وينبغي توضيح أن الدول المشاطئة السفلى تميل إلى تفضيل قاعدة عدم إلحاق الضرر بالدول الأخرى، ذلك لأن هذه القاعدة توفّر الحماية للاستخدامات القائمة من الآثار الناجمة عن الأنشطة التي تقوم بها الدول الواقعة في أعالى المجرى. والعكس صحيح، فإن الدول المشاطئة العليا تميل إلى تفضيل مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول، لأنه يتيح مجالاً أكبر للدول للانتفاع بحصّتها من المجرى المائي من خلال أنشطةٍ قد تؤثّر في الدول الواقعة في أسفل المجرى.
غير أن الاقتناع الذي يسود الآن بين خبراء قانون المياه الدولي هو أن الاتفاقية قد جعلت مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول ذا سيادة على الالتزام بعدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن. ويرتكز هذا الاستنتاج على القراءة المتمعّنة والمتأنّية للمواد ذوات الأرقام (5) و(6) و(7) من الاتفاقية. فالمادة (7) من الاتفاقية تلزم دول المجرى المائي، عند الانتفاع بمجرى مائي دولي داخل أراضيها، باتخاذ كل التدابير المناسبة للحيلولة دون التسبّب في ضررٍ ذي شأن لدول المجرى المائي الأخرى. ومع ذلك، فعند حدوث ضررٍ ذي شأن لدولة أخرى من دول المجرى المائي، فإن هذه المادة تُلزم الدولة التي تسبّبت في الضرر مراعاة مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول.
وقد أيّدت هذا الرأي محكمة العدل الدولية في قضية نهر الدانوب بين هنغاريا وسلوفاكيا. وبتّت المحكمة هذه القضية في شهر أيلول/سبتمبر 1997، أي بعد أربعة أشهرٍ فقط من تاريخ اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتفاقية المجاري المائية الدولية. ففي هذه القضية شدّدت المحكمة على مفهوم «الانتفاع المنصف والمعقول» حين قضت بأن «يتم تنفيذ البرنامج المتعدّد الأغراض، في شكل وحدة منفردة منسّقة، لاستخدام المجرى المائي وتنميته وحمايته، بشكلٍ منصفٍ ومعقول». ولم تشر المحكمة إلى الالتزام بعدم التسبّب في ضرر. كما شدّدت المحكمة على أنه لكل دولةٍ حقٌ أساسيٌ في المجرى المائي المشترك. وقد امتنعت مصر عن التصويت، لاعتقادها أن الاتفاقية لا تحمي بصورة واضحة حقوقها التاريخية في مياه النيل، بسبب تركيزها على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول.
سادساً: الإخطار المسبق ووسائل حلّ النزاعات
تناولت الاتفاقية، أيضاً، مبدأ الإخطار المسبق، وفصّلت في عدّة مواد واجبات الدولة التي تنوي إقامة المشروع في إخطار بقية الدول المشاطئة ومدّها بالمعلومات المتعلّقة بالمشروع، بما في ذلك تقرير التقييم البيئي. ويجب توضيح أن إلزامية الإخطار تنطبق على كل الدول، سواء كانت في أسافل المجرى أم في أعاليه. كما تناولت الاتفاقية مسألة حماية بيئة المجرى المائي الدولي ومنع التلوث وتخفيضه ومكافحته.
واختتمت الاتفاقية بمادةٍ مطوّلة عن طرق تسوية المنازعات. وتشمل هذه الطرق التفاوض بناءً على طلب أحد الأطراف، أو طلب المساعي الحميدة أو الوساطة أو التوفيق من طرف ثالث، أو أن تستخدم هذه الأطراف أية مؤسسات للمجرى المائي المشترك تكون الأطراف قــد أنشأتها، أو أن تتفق على عرض النزاع على التحكيم، أو على محكمة العدل الدولية. وتشمل الاتفاقية ملحقاً مفصلاً عن التحكيم.
وهذه كلها طرقٌ متروكٌ لأطراف النزاع الخيار بينها. غير أن الاتفاقية تلزم الأطراف، في حالة فشلها، الاتفاق على وسيلةٍ لحلّ النزاع، وعرض ذلك النزاع، بناءً على طلب أي طرف في النزاع، على لجنة محايدة لتقصّي الحقائق. وتفصّل الاتفاقية إجراءات عمل اللجنة المحايدة. كما تلزم الاتفاقية الأطراف المعنيّة النظر بحسن نية في نتائج وتوصيات تقرير اللجنة.
سابعاً: الدول الأعضاء في الاتفاقية
كما ذكرنا في مقدمة الدراسة، فقد صدّقت خمسٌ وثلاثون دولة من أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الاتفاقية، أو قبولها أو الموافقة عليها، الأمر الذي أدخلها حيّز النفاذ. ثم انضمّت فلسطين إلى الاتفاقية في الثاني من كانون الثاني/يناير من هذا العام ليرتفع عدد الدول إلى ستٍ وثلاثين دولة. وهذه الدول هي:
1 – من أوروبا: فنلندا، النرويج، المجر، السويد، هولندا، البرتغال، ألمانيا، إسبانيا، اليونان، فرنسا، الدنمارك، اللوكسمبورغ، إيطاليا، الجبل الأسود، المملكة المتحدة، أيرلندا.
2 – من أفريقيا: جنوب أفريقيا، ناميبيا، غينيا بيساو، بوركينا فاسو، نيجيريا، النيجر، بنين، التشاد، ساحل العاج.
3 – من الشرق الأوسط: سورية، لبنان، الأردن، العراق، ليبيا، تونس، قطر، المغرب، فلسطين.
4 – من آسيا: أوزبكستان، وفييتنام.
ومن المؤكّد أن دخول الاتفاقية حيّز النفاذ، سوف يدفع بالكثير من الدول إلى الانضمام إليها، مثلما حدث ويحدث مع الاتفاقيات الدولية الأخرى. فالنجاح له الكثير من الآباء، بينما الفشل دائماً يتيم الأبوين.
ثامناً: الوضع المائي في الأقطار العربية
يعاني الوطن العربي شحّاً حادّاً في المياه، جعل منه الإقليم الأقل مياهاً في العالم. لقد كان نصيب الفرد في هذا الإقليم من المياه المتوفرة 4000 متر مكعب للفرد في عام 1950، ثم هبط إلى 1000 متر مكعب للفرد عام 2012، ويُتوقّع أن يهبط إلى 550 متراً مكعباً بحلول عام 2050. وتتضح خطورة هذه الأرقام عند مقارنتها بمتوسط نصيب الفرد في اليوم في العالم، والبالغ 9000 متر مكعب، والذي سينخفض إلى 6,000 متر مكعب بحلول عام 2050.
لكن الخطورة الأكبر تكمن في أن حوالى 60 بالمئة من المياه في الوطن العربي مصدرها أنهارٌ تأتي من خارج الوطن العربي. كما أن أنهار الوطن العربي هي أكثر الأنهار في العالم سدوداً نسبة إلى المياه العذبة المتوفّرة. لهذه الأسباب، برزت قضايا المياه المشتركة، ومشاكل السدود المقامة عليها بحِدّة، وأصبحت التحدّي الأكبر الذي يواجه أقطار الوطن العربي. ومن أهم الأنهار التي تتشارك فيها أقطار من الوطن العربي مع دولٍ من خارجه، هي: النيل، ودجلة، والفرات، والأردن، والعاصي (والحاصباني [المحرّر])، والسنغال، وجوبا.
تاسعاً: الاتفاقية والأقطار العربية
لهذه الأسباب، فقد تركّزت أبصار خبراء المياه في الوطن العربي على اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية. وكما ذكرنا في المبحث الثاني، فقد صوّت خمسة عشر قطراً عربياً مع الاتفاقية في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيار/مايو 1997، وانضم إليها قطران من الأقطار العربية الخمسة التي امتنعت عن التصويت.
إن أحد الأسباب الرئيسية التي حدت بمعظم الأقطار العربية على قبول الاتفاقية والانضمام إليها، هو ارتكاز الاتفاقية على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول الذي ناقشناه سابقاً. وهذا المبدأ يعطي كل قطر من أقطار المجرى الحق بالانتفاع من المجرى المشترك، بناءً على عوامل تأخذ في الاعتبار كل أقطار المجرى. لهذا السبب، فقد أصبح تسعةٌ من الأقطار العربية أطرافاً في الاتفاقية، لاعتقادها أن هذا المبدأ سوف يحمي حقوقها المائية.
فالاتفاقية ستساعد الأردن، ولبنان، وسورية، وفلسطين، في محاولاتها وقف إجراءات إسرائيل لمواصلة السيطرة على أكبر قدرٍ ممكنٍ من مياه نهر الأردن، إذ إن هناك اتفاقاً بين الخبراء على أنه بناءً على العوامل التي فصّلتها الاتفاقية للتوصل إلى الاستخدام المنصف والمعقول لكلٍ من أقطار المجرى المشترك (التي ناقشناها سابقاً)، فإن إسرائيل قد تغوّلت على حقوق الأقطار العربية، وتستخدم أكثر من نصيبها المنصف والمعقول من مياه نهر الأردن. وينطبق الأمر نفسه على المياه الجوفية في الضفة الغربية التي تسيطر إسرائيل سيطرةً تامةً عليها، وتوقف باستمرار وحسمٍ عسكري كل محاولات حفر الآبار بواسطة المزارعين الفلسطينيين في الضفة. وتأخذ إسرائيل قدراً كبيراً من هذه المياه إلى مستوطناتها في الضفة، وإلى بعض المدن في إسرائيل نفسها. لهذه الأسباب، فقد كانت اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية من أوائل الاتفاقيات التي صادقت عليها الحكومة الفلسطينية. ولا بد من إضافة أن إسرائيل قد امتنعت عن التصويت على الاتفاقية، ولم تنضم إليها. وفي حقيقة الأمر، فإنه لا يتوقع أحدٌ أن تفعل إسرائيل ذلك. فالاتفاقية، مبنيةٌ على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول الذي يتعارض مع سياسات إسرائيل المائية القائمة على الاستيلاء على أكبر قدرٍ ممكنٍ من المياه في المنطقة. ويعضّد هذا المنحى استيلاء إسرائيل على نهر الليطاني عند احتلالها لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، ومحاولاتها مواصلة استغلال مياهه حتى بعد أن أُجبرت على مغادرة لبنان.
وللأسباب نفسها سوف تساعد الاتفاقية أيضاً في حماية العراق وسورية من محاولات سيطرة تركيا على نهري دجلة والفرات. فالسدود ومشاريع الريّ التركية تتزايد كل يوم، الأمر الذي يقلّل كميات المياه الواصلة إلى كلٍ من سورية والعراق من هذين النهرين. غير أن مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول يرغم تركيا على مشاركة سورية والعراق في مياه نهري دجلة والفرات.
وكما ذكرنا من قبل، فقد كانت تركيا من بين ثلاث دول صوّتت ضد الاتفاقية، بسبب رفضها لمبدأ الانتفاع المنصف والمعقول، وإصرارها على مسألة السيادة على المياه التي تجري في أراضيها حتى لو كانت أنهاراً مشتركة مع دولٍ أخرى. ومسألة السيادة هذه تتعارض تعارضاً مباشراً مع مبادئ القانون الدولي للمياه التي تنبني على التعاون، والمشاركة، والانتفاع المنصف والمعقول.
كما ترفض تركيا، مثل إسرائيل، مبدأ الإخطار المسبق لبقية دول الحوض عن المشاريع على الحوض المشترك. وقد تضمّنت اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية الكثير من تفاصيل هذا المبدأ، وأشارت أيضاً إلى ضرورة تبادل المعلومات الفنية عن الحوض. ومن الواضح أن هذا المبدأ الذي توسّعت فيه الاتفاقية سيعطي قدراً كبيراً من الحماية للأقطار العربية (بما فيها مصر، والسودان، والصومال، وموريتانيا)، بسبب اعتمادها على قدرٍ كبيرٍ من الموارد المائية الآتية من دولٍ أخرى.
كما أن الأقطار العربية يمكنها اللجوء إلى وسيلة حلّ النزاعات التي تنشب نتيجة الاستخدامات المختلفة والتنافسية بين دول الحوض، والتي ركّزت عليها الاتفاقية. فالاتفاقية تلزم الأطراف في حالة فشلها، بالاتفاق على وسيلةٍ لحلّ النزاع، بعرض ذلك النزاع، بناءً على طلب أي طرفٍ في النزاع، على لجنةٍ محايدة لتقصّي الحقائق. كما تلزم الاتفاقية الأطراف المعنيّة بالنظر بحسن نية في نتائج وتوصيات تقرير اللجنة.
خاتمة
بُنيت الاتفاقية على مبدأ التعاون الجادّ بين أقطار الحوض المشترك. فالقانون الدولي للمياه هو قانون التعاون، لأنه هو الوسيلة الوحيدة للاستفادة القصوى من المجرى المائي المشترك وإدارته وحمايته والانتفاع المنصف منه. وقد شدّدت الاتفاقية على ضرورة التعاون وأهميته، واشتملت على كلمة «تعاون» ومشتقاتها خمس عشرة مرة. وقد أكّدت الأقطار التي انضمّت إلى الاتفاقية قناعتها بضرورة التعاون والعمل الجماعي في مجال المجاري المائية الدولية.
ولا بُدّ من أن قطر، وليبيا، وتونس، والمغرب، التي انضمت أيضاً إلى الاتفاقية، قد قرّرت تأكيد مبدأ التعاون والعمل الجماعي في حماية وإدارة والانتفاع المنصف من المياه الجوفية التي تتشارك فيها كلٌ من هذه الأقطار مع قطر أو أقطار أخرى، أو في ما بينها.
وهذه اقتناعاتٌ يجب أن تتبنّاها بقية الأقطار العربية التي وقف معظمها مع الاتفاقية عام 1997. فالاتفاقية تساهم كثيراً في حماية وإدارة وتعزيز استخدام المجاري المائية الدولية بصورةٍ مثلى ومستدامة من قِبَلِ أجيال الحاضر والمستقبل، وبين الأقطار التي تتشارك المجرى المائي الدولي. كما تساهم الاتفاقية في حفظ حقوق الأقطار العربية في الأنهار المشتركة من خلال مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول، ومتطلبات الإخطار المسبق، وسبل حلِّ النزاعات حول الاستخدامات التنافسية في مياه الحوض المشترك. وهذه أسلحةٌ قانونيةٌ قوية سوف تساعد الأقطار العربية كثيراً في نزاعاتها حول المجاري المائية المشتركة مع الدول الأخرى، سواء على طاولة المفاوضات، أو في المحافل الدولية والأكاديمية، أو حتى القضائية، إذا لزم الأمر.
قد يهمكم أيضاً اتفاقيات حوض النيل في ضوء أحكام القانون الدولي
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأنهار #الثروة_المائية #المياه #المجاري_المائية #اتفاقيات_الأمم_المتحدة #قانون_استخدام_المجاري_المائية_الدولية
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة العربي العدد 433 في آذار/ مارس 2015.
(**) سلمان محمد أحمد سلمان: باحث أكاديمي وخبير في قوانين المياه وسياساتها، وزميل في الجمعية الدولية لمصادر المياه.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.