مقدمة:

تعتبر السياسة من المجالات الأكثر حيوية بالنسبة إلى الإنسان، إذ تبرز داخلها طبيعة العلاقات الإنسانية، ويظهر فيها مدى تحقق الصلات المتبادلة بين البشر. كما أنها من الميادين الأكثر إشكالية بالنظر إلى تشعّبها وتعقّد مسالكها، وتصارع القوى فيها، وتضارب المصالح داخلها بين الأفراد والجماعات.

يؤثر ذلك الصراع في كيفية تدبير شؤون المجتمع ورسم خطط سيره. فكل سياسي يستند إلى مجموعة من التقنيات والآليات من أجل التحكّم والسيطرة وتنفيذ خططه وتحقيق تصوّراته؛ علماً أن تلك التقنيات لم تأخذ، من الناحية التاريخية، شكلاً واحداً ونهائياً، وإنما تطوّرت في ارتباط بتطور الأنماط الاقتصادية والنظم الاجتماعية والتصورات العلمية والفلسفية، لأنها غير منفصلة عن تغيّرات الثقافة الإنسانية وتحولاتها، بل وجدت دوماً في عمقها وأساسها.

انطلاقاً من ذلك، يمكن الاستنتاج أن «العقلانية» التي تحققت في بنية تلك الثقافة، خلال العصر الحديث، لا بد من أن تنجم عنها عقلانية في مجال السياسة. لكن إلى أي حدّ يمكن القول إن التقنيات السياسية الحديثة تتميّز، فعلاً، بطابع عقلاني؟ بعبارة أخرى، هل تمكّنت السياسة الحديثة من دخول مرحلة العقلنة على غرار المجالات الثقافية الأخرى، أم أنها ما زالت عاجزة عن دخول باب الحداثة، بل تراجعت إلى مرحلة التفكير الأسطوري؟

لتحليل هذا الإشكال، سنعتمد على تصور الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر (Ernst Cassirer)، وسنتطرق في البحث إلى أربع قضايا:

أولاً: الأزمة وعودة الفكر الأسطوري

اعتبر كاسيرر أن المجال السياسي، في بداية القرن العشرين، تميّز بانبعاث الأسطورة من جديد، وسيادة الفكر الأسطوري رغم التطورات التي عرفها الغرب في المجالات الاقتصادية والعلمية، إذ عمل السياسيون على استثمار مجموعة من الأساطير لبسط سيطرتهم على المجتمعات وتحقيق أهدافهم السياسية[1]. وبالرغم من المحاولات العديدة التي قام بها مفكّرو الحداثة لتطوير الحقل السياسي، إلا أنه ظل عاجزاً عن بلوغ درجة العلمية التي عرفتها العلوم الطبيعية.

يشير كاسيرر، في هذا الإطار، إلى أنه إذا كانت عودة الأساطير إلى الظهور والتألق في مجال السياسة سمة العصر الراهن، فإن مرد ذلك هو عدم تمكّن ذلك المجال من التطور على منوال علوم الطبيعة وإحداث قطيعة مع التفكير الأسطوري. لشرح هذا الأمر، يعود كاسيرر إلى التطور الذي عرفه الفكر العلمي والصراع الذي خاضه من أجل إثبات ذاته وإيجاد موطئ قدم في العصر الحديث.

فإذا كان فرانسيس بيكون (Bacon)، على سبيل المثال، قد حدد في كتابه الأورغانون الجديد، أنواعاً مختلفة من «الأوهام» و«الأصنام» (Idols)، وحاول تبيين كيفية تجاوزها من أجل فتح الطريق الذي يقود إلى «علم إمبريقي حقيقي»، فإن السياسة لم تتمكّن، رغم ذلك، من تجاوز «أصنامها»، إذ «إننا لم نعثر بعد على مثل ذلك الطريق في السياسة. فمن بين كل الأصنام الإنسانية، تظل الأصنام السياسية، أي أصنام السوق (idolafori)، هي الأكثر خطورة ورسوخاً»[2].

وبالرغم من محاولة أوغست كونت (Comte)، في القرن التاسع عشر، تحليل العلوم لتأسيس «علم جديد» يستخدم طريقة الاستدلال نفسها التي تعتمدها الفيزياء والكيمياء[3]، فإن ذلك لم يمكّْن السياسة من بلوغ درجة التطور العلمية التي عرفتها علوم الطبيعة، لأن التصورات السياسية هي بمثابة أصنام أكثر صلابة ومقاومة لكل تطور علمي. يقول كاسيرر في هذا الصدد: «إن ظهور الأساطير السياسية المفاجئ، خلال القرن العشرين، بيَّن لنا أن آمال كونت وتلامذته وأنصاره قد كانت سابقة لأوانها. لقد كانت السياسة بعيدة عن التمكّن من أن تصبح علماً وضعياً، فبالأحرى علماً دقيقاً»[4].

وهكذا، فإن ما يميز العصر الحديث هو غياب أساس متين للسياسة يسمح بترسيخ نظام وعقلانية يتجاوزان طرق التفكير الأسطورية – السحرية، بل «لا زلنا مهدّدين دوماً بعودة مفاجئة إلى الفوضى القديمة. لقد شيّدنا صروحاً عالية وضخمة، ونسينا ضمان أسسها (…). لذا، لا ينبغي الاندهاش من كون السحر لا زال محتفظاً بأسسه في أفكارنا وممارساتنا السياسية»[5].

يشير كاسيرر، في السياق نفسه، إلى أن الأساطير السياسية السائدة في الحقل السياسي الراهن قديمة جديدة؛ قديمة في أصلها، لكنها جديدة في استعمالها، إذ إنها تحوّلت إلى تقنيات جديدة وأدوات عمل حديثة للفعل البشري السياسي. وما ساهم في ذلك التحول هو أن الظروف التاريخية المعاصرة، المتمثلة بالآثار الناجمة عن الحرب العالمية الأولى، جعلت جميع الأمم تقتنع بأن الحرب لا تقدم «حلولاً واقعية» فعالة للصراعات والنزاعات بين البشر، فنزعوا إلى حل المشاكل المطروحة بوسائل ديبلوماسية. لكن رغم ذلك، لم يتمكنوا من حلها نهائياً، خصوصاً أن الأزمة الاقتصادية كانت قد استفحلت إلى درجة كبيرة لا تحتمل، الأمر الذي أدى إلى ظهور الأساطير السياسية الراهنة، بل إن تلك الظروف كانت بمثابة «بذور» هذه الأساطير، ومنها تغذّت ونمت. يقول كاسيرر: «في هذه الفترة، واجهت كل الأمم المشاركة في الحرب، الصعوبات نفسها. كلها بدأت في التحقق من كون الحرب لا تحمل أي حل واقعي في أي مجال، حتى بالنسبة إلى الأمم المنتصرة. لقد انبثقت أسئلة جديدة من كل جانب، وصارت الصراعات، سواء أكانت دولية أم اجتماعية أم إنسانية، حادة أكثر فأكثر»[6].

يعود كاسيرر، بخصوص هذا الوضع المتأزم، إلى تحليل أساطير المجتمعات البدائية وطقوسها السحرية باعتبارها إجابات عن «الوضعيات المهدِّدة وغير المتوقَّعة» التي واجهت الإنسان، ولم يستطع إيجاد حلول لها، لأنها كانت تتجاوز قدراته وإمكاناته. والإنسان يلجأ، عموماً، إلى الأسطورة والسحر حينما يقف عاجزاً عن إيجاد مخرج من الأزمات والصعوبات التي تواجهه، لأنهما لا يتطلبان منه «جهداً» و«صبراً» و«شجاعة»، حيث «لا نجد سحراً أو أسطورة في كل المهام التي لا تشترط جهوداً خاصة أو استثنائية، شجاعة خاصة أو صبراً. غير أنه عندما يكون الهدف المنشود خطيراً، والمخرج منه غير مؤكد، يظهر دوماً سحر متطور جداً ومقترن بأسطورة معينة»[7].

انطلاقاً من ذلك، يظهر أن هناك قاسماً مشتركاً بين لجوء الإنسان البدائي، في حياته الاجتماعية، إلى السحر والأسطورة، ولجوء الإنسان المعاصر إليهما في حياته السياسية. ويتمثل ذلك القاسم بحالة اليأس وتغييب العقل وغياب العقلانية. يقول كاسيرر: «إن وصف دور السحر والأسطورة في المجتمع البدائي ينطبق كذلك على الدرجات المتطورة من الحياة السياسية. ففي وضعيات اليأس، لجأ الإنسان دوماً إلى وسائل ميؤوس منها. وأساطيرنا السياسية المعاصرة هي مثل تلك الوسائل اليائسة. فحينما نفتقر إلى العقل، تظل دوماً قوة ما هو خارق وغامض هي الملاذ الأخير»[8].

وبالرغم من التطور الذي عرفته المجتمعات البشرية، حيث تمكّنت من بلوغ مستوى خلق تنظيمات عقلانية، يبدو أنها تجاوزت، عن طريقها، التنظيمات البدائية الأسطورية، فإن ذلك لا يعني أنها تمكّنت من محق الأسطورة تماماً، وإبعادها جملة وتفصيلاً عن حياة البشر وطردها من مدينتهم. فغيابها وحضورها مرتبطان بدرجة وطبيعة الأزمات السياسية التي يعيشها كل مجتمع: في فترات السلم والاستقرار، يسود النظام العقلاني وتضمحل الأسطورة، لكن بمجرد اختلال التوازن وسيادة الاضطرابات، تتراجع قوة العقل، لتعود الأسطورة إلى الواجهة وتحتل المكانة الأولى في الحياة السياسية، وتصير «اللغة السحرية»[9] أداة في يد السياسيين. يقول كاسيرر: «لقد تمت المحافظة بسهولة على التنظيم العقلاني خلال كل الفترات الهادئة والسلمية التي ساد فيها الاستقرار والأمن (…). غير أنه في كل لحظات الأزمة في حياة الإنسان الاجتماعية، تكون القوى العقلانية، القادرة على مقاومة صعود التصوّرات الأسطورية القديمة، متذبذبة. وفي مثل تلك اللحظات، يعود، مرة أخرى، زمن الأسطورة، لأنه لم يتم القضاء عليها، ولا إخضاعها حقاً. إنها تظل دوماً حاضرة، كامنة في الظلام، في انتظار لحظتها وفرصتها المناسبة. وهذه اللحظة تأتي حينما تفقد القوى، الضامنة لحياة الإنسان الاجتماعية، بأسها لسبب أو آخر، وتصبح عاجزة عن مصارعة القوى الشيطانية الأسطورية»[10].

يشرح كاسيرر قوة الأسطورة وقدرتها على البقاء والحضور الدائم، وعدم قدرة الإنسان على إبعادها إلى العدم بعيداً عن الحياة الاجتماعية والسياسية ليعمّ فيها العقل والمؤسسات العقلانية، استناداً إلى دراسة قام بها إدموند دوتي (Doutté) حول «الطقوس السحرية لمجموعة من القبائل الموجودة في شمال أفريقيا»، ووجد أن «الآلهة والشياطين التي توجد في المجتمعات البدائية، ليست شيئاً آخر سوى تشخيصات لرغبات جماعية»[11].

استناداً إلى تلك الدراسة، يرى كاسيرر أن «الرغبة الجماعية» هي التي تحكم المجتمعات البدائية، وما زالت تحكم المجتمعات المعاصرة حينما تخضع للأنظمة الدكتاتورية، فتلك الرغبة هي مفتاح لفهم تلك المجتمعات كلها، بل صيغة يمكن أن تستخدم كتعبير موجز وواضح جداً عن الفكرة الحديثة الخاصة بالزعامة أو الدكتاتورية. بالفعل، نلاحظ ارتفاع الدعوة إلى الزعامة حينما تبلغ رغبةٌ جماعية قوةً ساحقة، وعندما تخبو كل الآمال لإشباعها بطرق مألوفة وعادية. وفي هذه اللحظات، لا يكون الشعور بالرغبة شديداً فقط، بل يتم تشخيصها أيضاً (…)؛ حيث تتجسد كثافة الرغبة الجماعية في زعيم ما، وتصبح كل الصلات الاجتماعية الموجودة – القانون والعدالة والدساتير – بلا قيمة. فتبقى القوة الغامضة وسلطة الزعيم وحدهما قائمتين، وتكون إرادته قانوناً سامياً»[12].

إن الإنسان المعاصر يعيش مفارقات كبرى تجعله يسعى إلى حلها بكل الطرق والوسائل. ففي لحظات الأزمة، حيث يقف العقل موقف العاجز عن إيجاد الحلول للمشكلات المطروحة، يصبح ذلك الإنسان عرضة لأهواء هوجاء ودوافع عنيفة[13]، وقابلاً للاستسلام لما هو غير عقلاني من دون مقاومة، والخضوع المطلق للـ «طقوس» من دون التفكير في مناقشتها أو تغييرها، مثلما كان الإنسان «البدائي» يذعن للطقوس المتحكّمة في حياته.

يؤكد كاسيرر، بهذا الخصوص، أن بنية الحياة الاجتماعية للمجتمعات البدائية تخضع لتنظيمات ذات سلطة قسرية، مرتبطة بطقوس محددة قائمة على معتقدات أسطورية تجعل الجميع يذعن لها من دون مقاومة أو مناقشة. فبالرغم من أن تلك التنظيمات لا تصل إلى مستوى المؤسسات المتطورة المحكومة بقوانين مدنية أو دساتير عصرية، فإن ذلك لا يعني أن المجتمعات البدائية تعيش في «حالة فوضى»، وإنما في وضعية منظمة «تنظيماً واضحاً ودقيقاً جداً»، حيث يقدم كل فرد «أعظم احترام للعادات والتقاليد القبلية»[14] وفق طقوس محددة ينبغي على الجميع احترامها وعدم خرقها. فكل الطقوس الموجودة في تلك المجتمعات مفروضة على الأفراد «ليس بالقوة، وإنما بتصوراتهم الأساسية والأسطورية التي تكون سلطتها الإلزامية غير قابلة للمقاومة والنقاش»[15].

هكذا، يمكن القول إن الإنسان، في العصر الراهن، لم يتمكّن من القضاء على الفكر الأسطوري رغم التقدم الذي أحرزه في مجال العلم خلال الحقبة الحديثة. فالمجال السياسي ما زال مليئاً بمجموعة من التقنيات التي توظف ذلك الفكر عن طريق صنع أساطير سياسية غير عقلانية من أجل التحكم في عقول البشر وطرق تفكيرهم وسلوكهم. فما هي طبيعة هذه الأساطير؟ وكيف يتم توظيفها في السياسة؟

ثانياً: الأساطير السياسية الحديثة

قام كاسيرر، في إطار تحليل الأساطير السياسية، بدراسة طبيعة «الاعتقاد» بقوة شخص معين، بل وضرورته وتكثيف كل القوى فيه باعتباره قادراً على تجسيد كل الرغبات الجماعية. وقارن، بهذا الخصوص، بين اعتقاد الإنسان البدائي واعتقاد الإنسان المتحضر. فاستنتج أنه بالنسبة إلى لأول، كان الاعتقاد عنده مرتبطاً بـ «السحر الطبيعي» ومن دون تعقيدات كبرى، لكن بالنسبة إلى الثاني، فاعتقاده يحتاج إلى تبريرات «معقولة» و«عقلانية» مؤسَّسة على نوع من «السحر الاجتماعي». فإذا كان الإنسان، في العصر الراهن، لم يعُد يؤمن بجدوى السحر الطبيعي وقوته، فإنه »لم يتخل عن الاعتقاد في نوع من «السحر الاجتماعي». فحينما تُحَسّ رغبة جماعية بقوة وحِدَّة، يقتنع البشر، بسهولة بأن ما ينقصهم هو الرجل المناسب لكي تتحقق»[16].

يفسر كاسيرر حاجة الإنسان المعاصر إلى تبريرات «عقلانية» لاعتقاداته «غير العقلانية»، اعتماداً على نظرية كارليل (Carlyle) حول «البطل»، باعتبارها نظرية قدمت «تبريراً عقلانياً لمجموعة من التصورات التي كانت غير عقلانية من حيث أصلها ونزوعها»[17]. ففي نظر كارليل، احتاج البشر دوماً إلى أبطال يثقون في كلامهم وقدراتهم على إنقاذهم من الأزمات ومعالجتهم من الأمراض، إذ إن «عبادة البطل كانت عنصراً ضرورياً في التاريخ الإنساني، ومن غير الممكن أن تندثر ما دام الإنسان موجوداً. «ففي كل حقب تاريخ العالم، نجد الرجل العظيم هو المنقذ الضروري لعصره»»[18].

إضافة إلى ذلك، يستند كاسيرر إلى تمييز المؤرخين بين المراحل التي تمر بها الحضارة الإنسانية، حيث يرى أن هناك مرحلتين رئيسيتين: تتمثل الأولى بـ «السحر»، والثانية بـ «التقنية». وبالنظر إلى ذلك، يجد كاسيرر أن الأساطير السياسية السائدة في العصر الراهن تتميز بكونها تجمع بين السحر والتقنية، وأن السياسيين يجمعون بينهما ويتصرفون باعتبارهم سحرة وصناعاً في الآن عينه، حيث يقومون بـ «وظيفتين مختلفتين ومتناقضتين»، هما: وظيفة «الإنسان الساحر» ووظيفة «الإنسان الصانع».

ذلك الجمع بين «السحر» و«التقنية» حوَّل السياسيين المعاصرين إلى رجال دين غير عقلانيين، من دون أن يعني ذلك غياب الدقة في الفعل والتنظيم، حيث يؤكد كاسيرر أن السياسي تحول إلى «رجل دين جديد غير عقلاني وغامض تماماً. لكنه حينما يدافع عن هذا الدين وينشره، يتصرف بطريقة ممنهجة، إذ لا شيء يترك للصدفة، وكل خطوة يتم تحضيرها بعناية وتأملها مسبقاً »[19].

يعمّق كاسيرر النقاش حول سياسيي العصر الراهن، المتميّزين بقدرتهم على الجمع بين ما هو أسطوري – سحري، وما هو تقني – صناعي، من خلال الكشف عن القدرة على الجمع بين ما هو خيالي من جهة، لأن الأسطورة هي «نتيجة فاعلية لاواعية وإنتاج حر للخيال»؛ وما هو مهاري في الصناعة الحديثة من جهة أخرى، بالنظر إلى وجود «صنّاع ماهرين جداً وحاذقين» قادرين على «صناعة أشياء اصطناعية»[20] تتناسب مع العصر الذي تستعمل فيه وتتحدد قيمتها بالهدف من اللجوء إليها واستخدامها.

ففي العصر الحالي كل شيء خضع للتطور، بما في ذلك الأسطورة نفسها، إذ صارت تُصنع مثلما تصنع الآلات الحديثة، بحسب المناهج السائدة في المجالات العصرية. وباعتبارها سلاحاً، فهي تخضع لعملية التصنيع نفسه التي تعرفها الأسلحة المتطورة. يقول كاسيرر: «يتميز القرن العشرون، هذا العصر التقني العظيم، بكونه طوَّر تقنية جديدة للأسطورة. فقد صارت الأساطير تُصنَع بالكيفية نفسها التي يُصنع بها أي سلاح حديث آخر، مثل الرشاشات أو الطائرات»[21].

فضلاً عن ذلك، فالتسليح الذي عرفته ألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين، ارتبط في أساسه بالأساطير السياسية، إذ إن التسليح العسكري كان نتيجة ضرورية لـ «التسليح الذهني» الذي قام به السياسيون عن طريق توظيف تلك الأساطير في شحذ الأذهان والتحكّم في طريقة تفكيرها. يقول كاسيرر: «بدأت إعادة التسليح الواقعية مع نشوء الأساطير السياسية وظهورها، ولم تكن إعادة التسليح العسكري اللاحقة سوى تداعٍ ثانوي لذلك الحدث (…). فإعادة التسليح العسكري لم تكن سوى نتيجة ضرورية لإعادة التسليح الذهني التي قامت بها الأساطير السياسية»[22].

يؤكد كاسيرر أن عملية «التسليح الذهني» ابتدأت بإدخال تعديلات في الوظائف الخاصة باللغة واستعمالاتها. فمن الناحية التاريخية، كانت اللغة تؤدي وظيفتين رئيسيتين: الأولى «دلالية»، والثانية «سحرية»، بمعنى أن استخدامها لم يقتصر على ما هو دلالي في وصف الأشياء وعلاقاتها فحسب، بل عرف استخداماً سحرياً يهدف إلى التحكّم في الأشياء والتأثير فيها و«تغيير مجرى الطبيعة». فعن طريق «الأسماء السحرية»، كان الساحر – في المجتمعات البدائية – يظهر بأنه يمتلك قوة وسلاحاً مطلقين، ولا شيء يمكنه مقاومتهما[23].

نشير، في هذا المقام، إلى أن الإنسان قد تمكّن من تجاوز الاستعمال السحري للغة في السيطرة على قوى الطبيعة وأشيائها، وانتقل إلى مرحلة استعمال الوظيفة الدلالية، حيث «خاب أمله في إخضاع الطبيعة بواسطة الكلمة السحرية. غير أنه نتج من ذلك بداية الإنسان في النظر إلى العلاقة بين اللغة والواقع بكيفية مختلفة، حيث اختفت الوظيفة السحرية للكلمة، وحلّت محلها وظيفتها الدلالية»[24]. لكن ذلك الانتقال لا يعني القطيعة التامة بين الوظيفتين السحرية والدلالية، واندثار الاستعمال السحري للكلمات تماماً.

ففي نظر كاسيرر، لا يخلو المجال السياسي المعاصر من مثل ذلك الاستعمال السحري للغة، إذ تم تحويل كيفية استعمال العديد من الأسماء وتبديل معانيها الوصفية أو المنطقية أو الدلالية، وصارت توظف بكيفية سحرية تجعل الكلمات تحمل معاني جديدة ذات ارتباط بالعواطف القوية والانفعالات العنيفة تستهدف التأثير في المجتمع والتحكم فيه. يقول كاسيرر: «حينما ندرس أساطيرنا السياسية الحديثة واستعمالها، لا نجد، مع مفاجأتنا الكبرى، تعديلاً تقويمياً لكل قيمنا الإتيقية فحسب، بل تحويلاً للغة الإنسانية أيضاً (…). لقد تم ترويج كلمات جديدة، واستعمال المصطلحات القديمة بمعان جديدة، خضعت لتغيير عميق في دلالتها. ومثل هذا التغيير يُفسَّر بكون الكلمات، التي كانت تُستعمل سابقاً بمعنى وصفي أو منطقي أو دلالي، أصبحت، الآن، تستخدم ككلمات سحرية، غايتها إنتاج آثار معينة، وإثارة مجموعة من العواطف»[25].

لشرح ما سبق، يشير كاسيرر إلى عمل معجمي تحت عنوان: Nazi-Deutsch: A Glossary of Contemporary German Usage، ينصبّ على تحديد المصطلحات الجديدة التي أنتجها النظام النازي. وهو يرى أن مؤلفي ذلك المعجم لم يتمكنوا من ترجمة تلك المصطلحات إلى الإنكليزية بكيفية ملائمة. والسبب يعود، في نظره، إلى «المناخ الوجداني» المحيط بها، باعتباره مناخاً «يُحَسُّ» ولا «يُترجَم».

ويقدم كاسيرر، في هذا السياق، مثالاً يبين من خلاله الفرق بين المصطلحين الألمانيين «Siegfriede» و«Siegerfriede»، فيستنتج أن «من روّجوا لمثل هذين المصطلحين هم سادة في فن الدعاية السياسية. فبفضل وسائل بسيطة، يحققون هدفهم المتمثل بإثارة انفعالات سياسية عنيفة. ولبلوغ ذلك الهدف، يكفي استخدام اسم أو مجرد تغيير مقطع في اسم ما. ويكفي سماع هذه الأسماء الجديدة لكي يتم الشعور بسلسلة كاملة من العواطف الإنسانية فيها: الكراهية والغضب والحنق والعجرفة والاحتقار والغطرسة والازدراء»[26].

إضافة إلى الأسماء، هناك الممارسة، حيث يصبح الاسم ذا تأثير في الأشياء، وذا فعالية في السلوكات، حين يرتبط بـ «طقوس» محدَّدة. ففي المجال السياسي المميز للدول الكليانية (Totalitarian States)، صارت «الطقوس» السياسية أمراً لازماً لكل سياسي (سواء في الحياة العامة أم الخاصة)، وكل مخالفة لها تُعتبر «جريمة» تستحق العقاب، إذ «لم يعد بإمكان أي شخص السير في الشارع أو إلقاء تحية على جاره أو صديقه من دون ممارسة طقس سياسي. وعلى غرار ما يوجد في المجتمعات البدائية، حيث يعني كل إهمال للطقوس المحددة شقاء وموتاً. وحتى بالنسبة إلى الأطفال الصغار لا يعتبر ذلك مجرد خطأ ناجم عن الإهمال، بل صار جريمة ضد فخامة الزعيم والدولة الكليانية»[27].

في ارتباط بتلك التحويلات السحرية التي عرفتها اللغة والممارسة السياسيتان، يناقش كاسيرر مسألة الزعامة والعلاج الطبي، إذ يؤكد أن أهمّ الأساطير السائدة، في الحياة السياسية، هي تلك التي تجعل الزعماء السياسيين، في الدول الكليانية، يقومون بالوظائف التي كان يقوم بها السحرة في المجتمعات البدائية، وأهمها: معالجة الأمراض والتنبؤ بالمستقبل. صحيح أن مظاهر العملية تختلف لديهم، لكن «جوهرها» ظل هو هو. فمثلما كان الساحر يزعم أنه مداوٍ يعالج كل الأمراض، يدّعي الزعيم السياسي، في الدول الكليانية، أنه «طبيب» يعالج كل مرض، ولديه دواء لكل داء (سواء أكان اقتصادياً أم اجتماعياً أم سياسياً… إلخ).

ومثلما كان الساحر يتصف بقدرته على التنبؤ والتحدث عن المستقبل، فإن الزعيم السياسي المعاصر يزعم القدرة على التنبؤ، طبعاً ليس بطريقة بدائية، وإنما اعتماداً على مناهج يدّعي أنها علمية وفلسفية، وعن طريق استخدام «الخيال» الذي يمكّنهم من التحكّم في الحشود وتقديم وعود غير قابلة للتحقق، لأنها مؤسَّسة على تكهنات وهمية وتنبؤات مستقبلية خيالية. يقول كاسيرر: «إن السياسيين المحدثين يعلمون جيداً أن تحريك الحشود الكبرى يكون بالخيال أسهل من القوة المادية، فقاموا باستخدام واسع لهذه المعرفة. لقد تحول السياسي إلى نوع من العراف العمومي، وصارت النبوءة عنصراً أساسياً في تقنية الحكم الجديدة. تُقدَّم وعوداً لا يمكن الوفاء بها، أو يستحيل تحقيقها»[28].

يشير كاسيرر إلى أن ذلك «الفن التنبؤي» ظهر في الفلسفة الألمانية بقوة، من خلال كتاب أوسفلد شبنغلر (Spengler) الموسوم بـ أفول الغرب. ويؤكد كاسيرر، في هذا المقام، أن «سبب نجاح» شبنغلر يكمن في كونه يُعبِّر عن «الاستياء العام»، الذي ساد لدى الجميع عند نهاية الحرب العالمية الأولى، بانكسار قيم الثقافة الغربية التي تبنوها ودافعوا عنها[29].

نشير، في هذا الصدد، إلى أن شبنغلر يؤكد على جدة منهج بحثه[30]، وقدرته على تمكين الباحث من التنبؤ والتوصل إلى نتائج دقيقة في مجال التاريخ والثقافة، مثلما يتوصل عالِم الفلك إلى تنبؤات دقيقة في مجال بحثه، حيث يقول كاسيرر: «لقد زعم شبنغلر أنه وجد منهجاً جديداً سيكون، بفضله، من الممكن التنبؤ بالأحداث التاريخية والثقافية بالدقة نفسها التي يتنبأ بها فلكيٌّ كسوف الشمس أو القمر»[31].

وبفضل ذلك «المنهج الجديد»، يعتبر شبنغلر أنه بالإمكان سرد تاريخ الحضارة الماضي والتنبؤ بمستقبلها. فالقوانين المتحكمة فيها ليست طبيعية، وإنما روحانية، إذ إنها مرتبطة بقوة «القدَر» و«ضرورته الثابتة»[32]، ومن ثمة لا يمكن فهم الظواهر التاريخية والثقافية استناداً إلى المفاهيم العلمية أو الفلسفية المجردة، لأنها ظواهر ناجمة عن أفعال القدر الروحانية التي تظل بعيدة عن قدرة الإنسان على الفهم والإدراك[33].

لذا، يعتبر كاسيرر أن شبنغلر يعتمد على أسلوب شعري – صوفي في تفسير التاريخ، إذ إنه «يتحدث مثل شاعر وصوفي ونبي، معتبراً أن أسلوبه الصوفي والنبوي هو الممر الوحيد الذي يمكنه أن يقودنا إلى معبد التاريخ»[34]. كما يصف أفكاره بكونها أسطورية، لأنها تتحدث عن القدر باعتباره محركاً للتاريخ وصانعاً للأحداث التاريخية، مثلما كان الفكر الأسطوري يفسر الظواهر والوقائع استناداً إلى قوى تتحكم بكيفية جبرية في كل شيء[35].

يتساءل كاسيرر، في الإطار نفسه، عن إمكان ربط عمل شبنغلر بالتكهنات السياسية اللاحقة والمقارنة بينها، ويصل إلى أنه بالرغم من أن شبنغلر تحدّث عن أفول الحضارة الغربية وانهيارها، فإن «الزعماء السياسيين الجدد» »تحدثوا عن غزو العالم بالعرق الألماني (…). لم يكن شبنغلر مناصراً، بكيفية شخصية، للحركة النازية. لقد كان محافظاً ومعجباً بالنماذج البروسية القديمة ومدافعاً عنها، لكن برنامج البشر الجدد لم يُغْرِهِ. ومع ذلك، فقد أصبح عمل شبنغلر أحد أبرز الأعمال الرائدة بالنسبة إلى الحركة النازية»[36].

إضافة إلى ذلك، يشير كاسيرر إلى أن دعوة شبنغلر إلى تعويض الشعر بالتقنية، ونصيحته المتمثلة باستبدال الفلسفة بالسياسة[37]، قد أقنعتا مجموعة من أولئك «البشر الجدد» بتحقيق نبوءته عن انهيار حضارة الغرب وتأويلها، بمعنى خاص يهدف إلى «الانطلاق من الصفر»، و«خلق عالم جديد» يكونون هم سادته. وبحسب كاسيرر، يوجد مثل هذا الاتجاه الفكري في عمل فيلسوف ألماني معاصر هو مارتن هيدغر (Heidegger)، حيث يبدو لأول وهلة العديد من النقط المشتركة بينه وبين شبنغلر[38].

بخلاف إدموند هوسرل (Husserl)، الذي قام بتحليل مبادئ التفكير المنطقي، وطمح إلى جعل الفلسفة «علماً صارماً»[39]؛ اعتبر هيدغر السعي إلى بناء «فلسفة منطقية» أمراً عبثياً، وأكد أنه لا يمكن تأسيس سوى «فلسفة وجودية»، لأنه «لا يمكن لأي مفكر تقديم أكثر من حقيقة وجوده الخاص، ولهذا الوجود سمة تاريخية. إنه مرتبط بالشروط الخاصة التي يعيش فيها فرد ما، ومن المستحيل تغيير هذه الشروط»[40].

يؤكد كاسيرر أن إشارته إلى تلك التصورات الفلسفية تهدف إلى الكشف عن تأثيرها في الأفكار السائدة في مجال السياسة المعاصرة في ألمانيا، إذ إنها ساهمت في إنعاش الأساطير السياسية وتقويتها بدل مقاومتها ودحضها، حيث يقول: «إنني لا أسعى إلى القول إن تلك المذاهب الفلسفية أثرت، بكيفية مباشرة، في تطور الأفكار السياسية في ألمانيا. فالكثير منها انبثق من مصادر مختلفة تماماً، وكان لها مضمون «واقعي»، وليس «تأملياً». ومع ذلك، فقد أضعفت هذه الفلسفة الجديدة القوى التي كان بإمكانها مقاومة الأساطير السياسية الحديثة، وقوّضتها ببطء»[41].

كما أن تلك الفلسفات أنتجت توقعات مظلمة بدل أن تساهم في تنوير العقول، ورسخت أفكاراً حول انهيار الحضارة الحتمي بدل أن تفتح الباب للأمل في التطور والتقدم، وقضت على فاعلية الإنسان في البناء بدل تشجيعها من أجل النهوض والإصلاح، الأمر الذي جعل تلك الفلسفات أدوات فعالة في أيدي السياسيين المعاصرين لخدمة مصالحهم المتمثلة بإحكام السيطرة على البشر وتدجينهم. بعبارة أدق، إنها فلسفات «تتخلى عن كل أمل للمساهمة الفاعلة في بناء حياة الإنسان الثقافية وإعادة بنائها (…). كما تتنازل عن مُثلها الأساسية النظرية والإتيقية. ولذلك، يمكن استخدامها كأداة طيّعة من قِبَل الزعماء السياسيين»[42].

في ضوء ما سبق ذكره، يظهر أن السياسيين المعاصرين، في ألمانيا، على وجه الخصوص، استخدموا مجموعة من التقنيات السياسية ذات الطابع الأسطوري من أجل السيطرة على البشر والتحكم فيهم. فما هي النتائج التي أدى إليها توظيف الأساطير السياسية؟ وما آثارها في ملكات الإنسان العقلية وحريته الفردية؟

ثالثاً: العبودية الجديدة

تجدر الإشارة، في البداية، إلى أنه إذا كان العمل، في المجال السياسي المعاصر، يرتبط بوجود «طقوس مقدسة» ينبغي أداؤها باحترام وتبجيل، فإن ممارستها، بكيفية متواصلة ومنتظمة، يكون لها تأثير سلبي في قوى الإنسان وقيمه، حيث تعمل على «تنويم» ملكة الحكم لديه، وإضعاف الجانب «النقدي» فيه، و«إقصاء كل شعور بالمسؤولية» عن الفرد، إذ تصبح الجماعة، على غرار المجتمعات البدائية، هي المسؤولة، وليس الأفراد. يقول كاسيرر: »إن أثر تلك الطقوس الجديدة واضح. فليس هناك شيء لتنويم قوانا الفاعلة كلها، وملكة حكمنا وتمييزنا النقدي، ولإقصاء كل شعور بالمسؤولية الشخصية والفردية، أكثر من الممارسة المنتظمة والنمطية والمتواصلة للطقوس نفسها. ففي كل المجتمعات البدائية التي توجّهها الطقوس وتحكمها، تكون المسؤولية الفردية مجهولة، إذ لا وجود سوى لمسؤولية جماعية. فالجماعة، وليس الأفراد، هي «الذات الأخلاقية» الحقة»[43].

يؤكد كاسيرر أن هناك تشابهاً بين ما تميّزت به المجتمعات البدائية، وما تعرفه المجتمعات المتحضرة حين تترسخ فيها تلك الطقوس. ويرى أن التصورات الحديثة تعتبر أن «الحياة المتحضرة» مختلفة تماماً عن «الحياة المتوحشة»، إذ إن الإنسان البدائي كان محاصراً بالعادات والتقاليد التي لا يمكنه خرقها أو تغييرها، في حين يتميز الإنسان المتحضر بـ «القلق» و«الرغبة في التغيير». لكن رغم ذلك «لم يتجاوز الإنسان الحديث، رغم قلقه، وربما بسببه، وضع الحياة المتوحشة فعلاً. فما إن يواجه القوى نفسها، ويتراجع بسهولة إلى حالة الإذعان التام، وبتوقف عن مساءلة محيطه، حتى ينتهي إلى تقبله كأمر عادي»[44].

يشرح كاسيرر ذلك النكوص الذي يعرفه الإنسان المعاصر وتراجعه أمام ما يواجهه، بل وخضوعه له، مثلما كان يفعل الإنسان البدائي، استناداً إلى تجربة عوليس (Odysseus) في جزيرة سيرس (Circe) التي تحول فيها أصحابه إلى حيوانات. فعلى غرار ذلك، تحوّل البشر المعاصرون الذين خضعوا لـ «التربية» ويتميزون بـ «الذكاء» و«الشرف» و«النزاهة»، من أشخاص «فاعلين» و«أحرار» إلى كائنات سلبية ومستلبة، وذلك بسبب «الطقوس» السائدة التي جعلت طرق تفكيرهم نمطية وأفعالهم «عنيفة» غير صادرة عن تفكير وترو، وإنما خاضعة لقوى خارجية متحكمة في ذواتهم. باختصار، لقد صاروا مجرد كائنات مستعبَدة فاقدة لكل استقلالية ذاتية، لأنهم حينما يمارسون تلك الطقوس «يبدأون في الشعور والتفكير والكلام بكيفية نمطية، وحركاتهم تكون حادة وعدوانية، لكن هذه مجرد حياة اصطناعية ومزيفة. فما يحركهم يصدر عن قوة خارجية، ويتصرفون كعرائس في مسرح الدمى، حيث يجهلون أن خيوط هذه المسرحية، وخيوط الحياة الفردية الاجتماعية كلها، يتحكم فيها الزعماء السياسيون»[45].

يؤكد كاسيرر، في هذا الصدد، أن هذه المسألة مهمة جداً، لأن عملية التحكم المعاصرة التي تهيمن على المجال السياسي، عن طريق استخدام الأساطير السياسية، تجاوزت الطرق التي استعمِلت من قِبل الأنظمة الاستبدادية. فأنظمة الحكم المعاصرة التي تستخدم تلك الأساطير، تعتمد على وسائل عنيفة، وتستخدم طرقاً هدامة أخطر مما استخدمه غيرها من الأنظمة. فهي لا تبدو قامعة للحريات الفردية، إذ تترك للأفراد نطاقاً للتفكير والممارسة من دون موانع، لكن لا يعني ذلك أنهم يصيرون ذواتا حرة وأسياد أفكارهم وأفعالهم، وإنما مجرد عبيد جدد ومن نوع خاص، لأن ترك ذلك النطاق ما هو إلا وسيلة تستخدمها تلك الأنظمة من أجل مراقبتهم أولاً، والعمل على تغييرهم وتوجيه أفعالهم في ما بعد.

وبذلك، فعن طريق استعمال الأساطير السياسية، يتم تدجين الأفراد وشل كل قدرة لديهم على الفعل والمقاومة، حيث «لا تبدأ بفرض مجموعة من الأفعال أو حظرها، وإنما تعمل على تغيير البشر لكي تتمكّن من توجيه أعمالهم ومراقبتها. إن الأساطير السياسية تشتغل مثل الثعبان الذي يسعى إلى شل ضحاياه قبل مهاجمتها. وهكذا، وقع البشر ضحية لها من دون أية مقاومة جدّية. لقد هزِموا وغُلِبوا قبل أن يدركوا، في الواقع، ما حدث لهم»[46].

إضافة إلى ذلك، تتميز الوسائل التي تستعملها الأنظمة السياسية المعاصرة بكونها لا تُظهِر غايتها الحقيقية، المتمثِّلة بإخضاع جميع الأفراد وتحطيم كل إمكانية للمعارضة أو المقاومة من قِبلهم، وتهديم كل القيم والمثل التي قد تشحذ أذهانهم، وتوقظ فيهم إمكانية النقد وتغيير الأوضاع القائمة من أجل الحصول على الحرية. يقول كاسيرر: «إن الأساطير السياسية الحديثة حطمت كل تلك الأفكار والمثل (…). وأسطورة العِرْق هي التي اشتغلت كمادة آكلة قوية، ونجحت في إذابة كل القيم الأخرى وتفكيكها»[47].

من أجل فهم السيرورة التي تعمل، من خلالها، تلك الأنظمة السياسية على استعباد البشر والسيطرة عليهم وتحطيم قيمهم، يقوم كاسيرر، استناداً إلى فلسفة كانط (Kant)، بتحليل مفهوم «الحرية». فمن الناحية الإتيقية، تتأسس فاعلية الإنسان على «الحرية» و«استقلالية الإرادة»[48] تجاه كل قوة خارجية، حيث تنتج الذات قانونها الخاص وتخضع له بحرية تامة. وهكذا، يكون الإنسان «فاعلاً حراً إذا ما ارتبطت دوافعه بحكمه واقتناعه الخاص تجاه ما ينبغي أن يكون عليه الواجب الأخلاقي. فالحرية، بحسب كانط، تعادل الاستقلالية. وذلك لا يعني «اللاحتمية»، بل نمطاً من التحديد. إنها تعني أن القانون الذي نخضع له في أفعالنا، غير مفروض من الخارج، وإنما الذات الأخلاقية هي التي تمنحه لنفسها»[49].

تُعتبر الحرية الإتيقية، من هذا المنظور، «مسلمة»[50]، وليست «واقعة»، كما أنها «مهمة»، وليست «هبة». فهي تقتضي مجهوداً من أجل تحصيلها والحفاظ عليها، بل هي اقتضاء مفروض يجب على الإنسان أن يقوم به كي يكون حراً فعلاً؛ علماً أن حدة ذلك الاقتضاء تزداد خلال الأزمات الاجتماعية والسياسية، حيث يقول كاسيرر: «في نظر كانط، ليست الحرية الإتيقية واقعة، وإنما مسلمة (…). وبدل أن تكون هبة (Gift) ممنوحة للطبيعة الإنسانية، هي بالأحرى مهمة (Task)، بل المهمة الأكثر عواصة التي يمكن للإنسان أن يقوم بها. إنها ليست معطاة، وإنما هي اقتضاء، وأمر إتيقي. والقيام بمثل هذا الاقتضاء يصير قاسياً، بوجه خاص، خلال أزمة اجتماعية حادة وخطيرة، حينما يبدو أن انهيار الحياة العمومية وشيك (…). فليست الحرية إرثاً طبيعياً بالنسبة إلى الإنسان، ومن أجل امتلاكها، ينبغي خلقها»[51].

يشير كاسيرر، في هذا السياق، إلى أن الغريزة تمنع الإنسان من التحرر والسعي إلى الحرية، بل تجعله مستسلماً وتابعاً غير قادر على التفكير والفعل المستقلين، لأن التبعية سهلة، ولا تحتاج إلى جهد، في حين أن الحرية «مهمة» تتطلب عملاً دؤوباً، و«جرأة» في استخدام الفهم والعقل[52]. ولذلك فهي تعتبر، في غالب الأحيان، «عبئاً» يدفع البشر، في الأزمات إلى التخلص منه والابتعاد عنه، لأنهم بذلك لا يتخلصون من عبء الحرية فقط، بل من كل مسؤولية يمكن أن تلقى على عاتقهم.

هذه السمة هي التي تميّز الحياة السياسية المعاصرة، إذ ترسخ الدولة الكليانية، بواسطة أساطيرها السياسية، تصورات تبث في الأفراد «وعوداً» توهمهم بإمكان الخروج من الأزمات عن طريق التخلي عن «الحرية» و«المسؤولية» في الآن عينه، فيرتاحون، وتصير كل القيم، بالنسبة إليهم، بلا معنى. يقول كاسيرر: «إذا اتبع الإنسان غرائزه الطبيعية، فإنه لن يبحث عن الحرية، بل سيختار التبعية. وبالتأكيد، تكون التبعية للآخرين أسهل من التفكير والحكم والتقرير بكيفية ذاتية. وهذا يفسر الأسباب التي تجعل الحرية تُعتبَر، في غالب الأحيان، عبئاً أكثر منها امتيازاً، سواء في الحياة الفردية أم في الحياة السياسية. لذا، فإن البشر حينما يكونون في أوضاع صعبة جداً، يسعون إلى التخلص من مثل ذلك العبء. وهنا تتدخل الدولة الكليانية والأسطورة، حيث تقدم الأحزاب السياسية الجديدة، في نهاية المطاف، وعوداً بإيجاد مخرج من المعضلة القائمة. إنها تطمس معنى الحرية وتهدمه، لكنها تحرر الإنسان، في الآن نفسه، من كل مسؤولية شخصية»[53].

بناءً عليه، يمكن القول إن الدول التي تعتمد على الأسطورة السياسية، من أجل تدبير شؤون المجتمع، تحطم كل القدرات العقلية لدى الفرد، وتعمل على سلب حريته وإرادته المستقلة. وبذلك تقضي على ما يعبّر عن إنسية الإنسان، وتحوله إلى مجرد كائن مُروَّض يقوم بتنفيذ ما يؤمر به من دون إمكانية للتفكير أو التحليل والنقد. فهل هناك مخرج من هذا الوضع المتأزم غير العقلاني؟ هل يمكن القضاء على الأساطير السياسية أم أن التفكير الأسطوري هو خاتمة تطور الثقافة الإنسانية، كما كان بدايتها؟

رابعاً: مواجهة الأسطورة

إن سيطرة تصورات أسطورية في مجال السياسة لا يعني دوام بقائهاـ وعدم إمكان تجاوزها، وإنما العكس صحيح، إذ إن هناك إمكانية لإزالتها وزوالها، لأن وجودها عرضي، وليس جوهرياً، وحضورها مشروط بقوانين عالَم البشر ومنطق ثقافتهم، مما يفرض ضرورة فهمها وتمييزها من قوانين عالَم الطبيعة، ويفتح باب الأمل للتغيير والإصلاح. يقول كاسيرر: «حينما تسعى مجموعات صغيرة إلى فرض رغباتها وأفكارها الخيالية على الأمم العظمى والهيئة السياسية كلها، يمكنها أن تنجح خلال زمن قصير، بل وتحقيق نصر عظيم، لكن ذلك يبقى مجرد واقعة سريعة الزوال»[54].

يثير كاسيرر، في هذا السياق، سؤالاً بخصوص الإسهام الذي يمكن أن تقدمه الفلسفة في عملية الصراع ضد التفكير الأسطوري السائد في المجال السياسي. ويبدأ في تناوله من الإقرار بأن مواقف الفلاسفة المحدثين تتميز بالسلبية، لأنها لم تدافع عن إمكانية تجاوز الوضع السياسي القائم عبر التأثير في الأحداث السياسية وتغييرها. ويقدم كاسيرر، هنا، فلسفة هيغل (Hegel) كمثال على ذلك. فبالرغم من إعلاء هيغل من شأن الفلسفة ومنحها قيمة سامية، فقوله إنها تأتي متأخرة[55]، وعدم قدرة أي فيلسوف على تجاوز عصره، أغلق الباب أمام أي أمل للتغيير والإصلاح.

وهكذا، يعلق كاسيرر على موقف هيغل، ويعتبره سلبياً تجاه الأوضاع القائمة، لأنه يحصر وظيفة الفلسفة في «التأمل غير المجدي»، وتقبل تلك الأوضاع والاستسلام لها من دون التفكير في تجاوزها، حيث يقول: «إذا كان كلام هيغل صحيحاً، سيتم الحكم على الفلسفة بالتصوف المطلق، وبموقف سلبي تماماً تجاه حياة الإنسان التاريخية. سيكون عليها، ببساطة، قبول الوضعية التاريخية المعطاة وتفسيرها والانحناء أمامها. ومن ثمة، لن تكون الفلسفة سوى نوع من التفاهة التأملية»[56].

بخلاف هذا التصور الهيغلي، يقدم كاسيرر تصوّراً آخر لوظيفة الفلسفة ودورها في التأثير في بنية الحياة الثقافية ومجرى الأحداث السياسية، لأن تاريخها يكشف عن خاصيتها الرئيسية المتمثلة بـ «الشجاعة العقلية والأخلاقية» التي كانت لدى الفلاسفة للتغيير والإصلاح، وتجاوز عصورهم، وعدم الاستسلام لشروط وضعهم، كما ادّعى هيغل. ومن دون تلك الشجاعة «لا يمكن للفلسفة أن تقوم بمهمتها في حياة الإنسان الثقافية والاجتماعية[57]».

يعترف كاسيرر، في هذا الإطار، بأن الفلسفة لا تستطيع تحطيم الأساطير السياسية بكيفية نهائية، لأن بنية الفكر الأسطوري وآلياته تختلف عن عقلانية الفكر الفلسفي، ولا يمكن دحضها بالطرق والمناهج الفلسفية، لكن هذا لا يعني تركها والتخلي عن الصراع ضدها، والتأثير بكيفية بنّاءة في حياة الإنسان الثقافية. إن العكس صحيح، فهي تأخذ على عاتقها مهمة رئيسية تتمثل بمعرفة الفكر الأسطوري وتقنياته، وتناول الأساطير السياسية بكيفية جدّية تسمح بمعرفة «أصلها» و«بنيتها» و«تقنيتها» من أجل العمل على دحضها بكيفية فعالة وصحيحة. يقول كاسيرر: «تستطيع الفلسفة تقديم خدمة مهمة. يمكنها أن تجعلنا نفهم الخصم. فمن أجل مصارعة خصم ما ينبغي معرفته (…). لذا، ينبغي أن نقوم بدراسة أصل الأساطير السياسية وبنيتها وطرائقها بعناية. ويجب أن نتعلم مواجهة الخصم من أجل معرفة كيفية محاربته»[58].

خاتمة

انطلاقاً مما سبق، نستنتج أنه في لحظات الأزمات، تتمكّن الأساطير من احتلال موقع رئيسي في صناعة أحداث التاريخ، والعودة بالإنسان إلى مراحل سابقة على استخدام العقل وتأسيس العلم والفلسفة الحديثين. فبالرغم من أن الأسطورة تعتبر «شكلاً رمزياً»[59]، ضمن منظومة الأشكال الرمزية، وتؤدي دوراً رئيسياً في تشييد الثقافة الإنسانية وبنائها، فإنها حينما تتحول إلى أداة في يد السياسيين تصبح سلاحاً لتقويض إنتاجات البشر العقلانية وهدمها. وهذا ما بيّنه كاسيرر في تحليله للأساطير السياسية التي استخدمها النازيون في ألمانيا، إذ أصيبت العقلانية الحديثة بأزمة اقتضت ضرورة مراجعة ذاتها، وإعادة النظر في الأحكام الصادرة عن مفكّري الحضارة الغربية، لأنها مليئة بتصورات «خاطئة» كذّبها الواقع. فالحكم بأن أسسها قائمة على عقلانية متينة وقوية وراسخة رسوخاً أبدياً هو حكم دحضته «الزلازل» التي أصابت المجتمعات البشرية في العصر الراهن.

وبسبب تلك «الزلازل»، تمكّنت «الطبقات العميقة» من العودة إلى السطح، كما استطاع الفكر الأسطوري، القابع في ثنايا هذه الطبقات، الهيمنة على كل مجالات الثقافة الإنسانية، حيث يؤكد كاسيرر أن «المدرسة القاسية لحياتنا السياسية الحديثة علمتنا أن الثقافة الإنسانية لم تنشأ بكيفية صارمة، كما افترضنا إلى حد الآن. فكبار المفكّرين والعلماء والشعراء والفنانين الذين وضعوا أسس الحضارة الغربية، كانوا، في الغالب، مقتنعين بأنهم شيّدوها إلى الأبد (…). لكن ليس علمنا وشعرنا وفننا وديننا سوى الطبقات العليا لطبقة أكثر قدماً وذات عمق شديد. لذا، ينبغي دوماً الاستعداد لحدوث اهتزازات عنيفة تزعزع أسس عالَمنا الثقافي ونظامنا الاجتماعي»[60].

وهكذا، يمكن القول إنه بالرغم من أن ظهور التقنيات السياسية الأسطورية ارتبط تاريخياً بـ «أزمة الديمقراطية في ألمانيا»[61]، في ثلاثينيات القرن العشرين، فإن ذلك لا يعني انعدام إمكانية عودتها والسيطرة من جديد على مجالات الثقافة الإنسانية كلها، وليس على السياسة فقط. فتلك الثقافة لم تنبثق إلا بعد صراعها مع «ظلام الأسطورة» و«وحوشها»، لكن هذا الانبثاق لم يقض عليها بكيفية نهائية، بل ظلت «حية» تحت «الطبقات العقلية العليا» التي أنتجتها الثقافة، وتتحيّن الفرص للظهور من جديد، وهي فرص يتيحها «ضعف العقل» وتراجعه عن أداء وظائفه، فما إن يتقوى العقل حتى تتراجع الأسطورة، وما إن يضمحل العقل حتى تتقوى الأسطورة وتجتاح كل شيء. لذا، يقول كاسيرر: «لقد تمت السيطرة على قدرات الأسطورة وكبحها بواسطة قوى عليا. وإذا ما ظلت هذه القوى العقلية والإتيقية والفنية قوية، فإن الأسطورة تكون مقهورة ومكبوحة. لكن ما إن تبدأ في الضعف، فإن الفوضى تعود مرة أخرى. ومن ثمة، يبدأ الفكر الأسطوري في الظهور من جديد، واجتياح حياة الإنسان الثقافية والاجتماعية كلها»[62].

 

قد يهمكم أيضاً  الديمقراطية في فكر محمد عابد الجابري في ضوء نظرية القيم السياسية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #سياسة #الأسطورة_السياسية #العقلانية #فلسفة #كاسيرر #التلاعب_بالعقول #دراسات