أخيراً انتفض لبنان، انتفاضة لم يذُق طعمها من قبل، انتفاضة بعيدة من الأحزاب السياسية المترهلة والمأزومة، بقدر ما هي بعيدة من الطوائف والمذاهب. أناس وحّدهم ألمُ الفقر والبطالة والمهانة، واستهتار السلطة بكراماتهم، واستباحة حقوقهم وأموالهم، نزلوا إلى الشارع في لحظة بلوغهم حدود الانفجار، ارتفعت قبضاتهم، بُحّت حناجرهم، ارتجفت الأرض من تحت خبطات أقدامهم، أضاءت لمعات عيونهم ليالي الساحات، والسماء. تشابكت أياديهم رقصاً، فرحاً بانبثاق ضوء في آخر النفق مبشِّر بانفتاح الأمل على تحقيق حلم التغيير، وبناء مستقبل مشرق يزيل عن كواهلهم عبء القلق و«الخوف من بكرا»، حيث ينتظرهم مستقبل مجهول وأمل مفقود منذ عقود، وعجز عن دفع فاتورة كهرباء أو إيجار بيت، أو قسط مدرسة، أو فاتورة دواء أو حتى ثمن ربطة خبز، أو ثمن وردة يشتريها شاب لحبيبته.

هذا هو لبنان الأكذوبة الذي طالما يتم تسويقه في رواية النظام وأيديولوجيته، وفي الإعلام وعلى الشاشات، بصورة معاكسة، صورة «سويسرا الشرق»، تختصره ببعض أحياء عاصمته ومدنه الكبرى وواجهاتها البحرية، صورة تُظهر على وجهه المُمَكْيَج والممتلئ بالسيليكون، ملامح لبنان البحبوحة، والرفاهية، وحب الحياة… وهل كل من يحب الحياة من أبنائه متاحٌ له أن يحبها؟

أما وجه لبنان الآخر، الأقرب إلى الواقع، واقع «ولاد البلد»، المنتشرين في الأحياء الداخلية للعاصمة والمدن الأخرى، أو في ضواحيها المكتظة، أو في الأرياف المنسية، فهو فقر، وجوع وحرمان وبطالة، وموت على أبواب المستشفيات، وزبونية، وقطعانية، وتضليل طائفي، في مواجهة سياسات اقتصادية نيوليبرالية وإثراء غير مشروع وفساد ونهب للمال العام والأملاك العامة، ويأس من إمكان التغيير، وفي النهاية بحثٌ عن تأشيرة هجرة.

*  *

هذا هو واقع لبنان عشية السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019 حين انطلقت الشرارة الأولى لانتفاضة إسقاط النظام، على وقع قرار حكومي يقضي بوضع ضريبة على الواتسأب، بحجة أن الناس يلجؤون إليه لإجراء تخابر مجاني أفقد شركات الاتصالات جزءاً من أرباحها. عشية ذلك اليوم تجمهر عدد من الشبان وسط العاصمة بيروت وأطلقوا صرختهم الأولى، ليس احتجاجاً على ذلك القرار المتعلق بالواتسأب، الذي لم يكن إلا وخزة دبوس في جدار مخزون ضخم من الحرمان والألم والغضب، أخذ يتراكم على مدى العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، حين استقر لبنان على صيغة تسوية لترميم النظام السياسي المأزوم فيه، الذي أدخل البلاد في سلسلة أزمات وصراعات كان أطولها حربٌ أهلية، بأبعاد إقليمية ودولية، دامت نحو خمسة عشر عاماً، انتهت بتوقيع اتفاق الطائف الذي أقرَّ جملة إصلاحات سياسية تعيد التوازن إلى المعادلة الطائفية، لكن من دون المساس بالنظام الاقتصادي الليبرالي المشوَّه. هكذا أسس اتفاق الطائف لمرحلة مأزومة جديدة في بنية النظام اللبناني، إذ بدلاً من أن يُسقط الطبقة الحاكمة المتمثلة أساساً برأس المال التجاري – المصرفي لمصلحة قطاعات اقتصادية إنتاجية وفئات مهنية وقوى سياسية تمثل مصالح الطبقتين الفقيرة والوسطى وتحقق مزيداً من العدالة والمساواة، أدى هذا الاتفاق إلى عقد  قران بين الطبقة الحاكمة في لبنان أصلاً وبين الزعماء المنتصرين في الحرب الأهلية الذين دخلوا إلى السلطة كشركاء للطبقة الحاكمة.

*  *

وماذا حصل بعد اتفاق الطائف؟

تعاقبت على حكم لبنان بعد الطائف حكومات متعددة، لكن معظمها كان يمثل الطبقة الحاكمة نفسها والرؤية الاقتصادية نفسها، وهي الرؤية التي حكَمت مرحلة ما بعد الطائف كلها تقريباً، فاعتمدت سياسات اقتصادية - اجتماعية راكمت نتائج كارثية على مدى ثلاثة عقود؛ راهنت على دور لبنان التاريخي كوسيط تجاري وكمركز مصرفي وبائع خدمات للمحيط، كما على الاستثمار في البنية التحتية بطرائق استنسابية لا تعكس رؤية تنموية، وعلى النشاط العقاري، مستمرة في تهميش القطاعات الإنتاجية، واعتمدت كل الأساليب لإسكات الأصوات المعترضة على سياساتها، بما فيها الرشوة، معمِّمة ثقافة الفساد. وبدأ إخضاع وتدجين وإفساد الكثير من النخب والزعامات والمؤسسات الحزبية والمدنية، فضلاً عن النقابات التي تم تحريفها وتدميرها، وحتى الصحف ووسائل الإعلام.

وألغيت دفاتر الشروط من الصفقات والتلزيمات العمومية، وهُمِّشت مؤسسات الرقابة (التفتيش المركزي، ديوان المحاسبة، مجلس الخدمة المدنية)؛ واستبيحت الأموال والأملاك العامة، بل استبيحت الأملاك الخاصة أحياناً، وهذا ما حدث في الوسط التجاري للعاصمة بيروت، حيث صودرت أملاك الناس في وسط بيروت التجاري لحساب شركة عقارية خاصة، عوّضت الملاكين بأسهم في الشركة حدّدت هي أسعارها بعدما حدّدت هي نفسها قيمة العقارات التي صادرتها. وقد مثّلت هذه العملية في نظر بعض الأكاديميين والخبراء المعنيين واحدةً من أكبر عمليات النصب في التاريخ.

وتم تأسيس بعض الصناديق «الإنمائية» كقنوات للهدر لحساب بعض الزعماء (صندوق المهجَّرين، وصندوق الجنوب، ومجلس الإنماء والإعمار) وتعززت مكانة الاحتكارات التابعة لبعض الزعماء السياسيين في الاقتصاد (الغاز، النفط، وغيرهما).

واعتمدت هذه الحكومات سياسة ضريبية ومالية أدت إلى إعادة توزيع الثروة لمصلحة أصحاب الثروات الكبرى، أفراداً ومؤسسات، وبخاصة المصارف، فاعتمدت سياسة استدانة كانت تتم تغطيتها من أموال الضرائب التي يتحمل الفقراء وأصحاب الدخل المحدود العبء الأكبر منها.

كما تعززت الزبونية من خلال النظام الطائفي، الذي يجعل الطائفة وسيطاً بين المواطن والدولة؛ فكل علاقة بين المواطن والدولة في لبنان لا بد من أن تمر عبر قناة الطائفة، المختصَرة بشخص زعيمها، وهذا ما يضمن للزعيم إعادة إنتاج زعامته وإعادة تجديد ولاء الناس له بحكم تحكُّمه في لقمة عيشهم وفي كل ما له صلة بعلاقتهم بالدولة، وبخاصة في قضايا التوظيف والتعلّم والطبابة والترقية وحتى تخفيف العقوبة… إلخ. وهكذا تنتزع كل طائفة، مختصَرة بزعيمها، جزءاً من سيادة الدولة، فتتوزع سيادة الدولة على الطوائف، المختزلة بزعمائها.

وتعممت في لبنان ظاهرة التوريث السياسي، لكن ليس على مستوى الرؤساء، كما هو الأمر في البلدان العربية الأخرى، بل على مستوى النواب والوزراء ورؤساء الأحزاب السياسية، بما فيها الأحزاب «الحداثية» أو «التغييرية»، فتحولت العضوية في الوزارة أو في مجلس النواب إلى وسيلة لبناء الزعامة من جهة وللاسترزاق وجمع الثروة من جهة أخرى.

ثلاثون عاماً من عهود ما بعد الطائف كانت كفيلة بمراكمة أكثر من مئة مليار دولار ديناً على الدولة ذهب قسم مهم منها إلى جيوب وحسابات كبار الرأسماليين، أفراداً ومؤسسات، وأرباب السلطة، بينما كان الفقراء وأصحاب الدخل المحدود يُحمَّلون كل يوم ضريبة جديدة لتغطية جزء من فوائد هذا الدين، أما الجزء الآخر من هذه الفوائد فراح يتراكم ويكبر ككرة الثلج ليضاف إلى عبء الدين نفسه.

هذا غيض من فيض…

في مقابل المشهد الاقتصادي، لم يكن المشهد السياسي أفضل، فالنظام الطائفي الذي كان يُفترض إلغاؤه وفق اتفاق الطائف، قد تكرّس وتجذَّر أكثر، سواء على مستوى السلطة السياسية أم على مستوى الإدارة والمؤسسات، أم على مستوى المجتمع. وفي المقابل، ترهّلت الأحزاب السياسية غير الطائفية، وانكفأ دورها السياسي والجماهيري، وذبل وهجها الفكري والتنظيري والبرنامجي؛ وتورَّط معظمها في لعبة السلطة، وفي ملفات الفساد أيضاً. أما الحركة النقابية فشُرذمت وتم استيعاب جزء كبير منها من جانب قوى السلطة إلى حد بعيد. حتى إن منظمات المجتمع المدني لم تبقَ بمنأى عن هذه الأزمات والتشوّهات.

*   *

ما بعد الحراك

مع كتابة هذه الافتتاحية لم يكن الحراك قد أنهى أسبوعه الأول بعد. لكن أفق الحراك بات واضحاً بعناوينه العريضة، وبخاصة لناحية المطالبة بإسقاط النظام وباستعادة الأموال المنهوبة. ومن دون شك أن كرة الثلج آخذة في التدحرج، والحراك يتجذَّر ويكبر يوماً بعد يوم، والإصرار واضح على وجوه المنتفضين وعلى ألسنتهم، أن لا عودة عن مطلب إسقاط النظام. لكن حتى الآن لا يمكن القول إن مسيرة الانتفاضة ومآلاتها باتت واضحة، فهذا الحراك بكل ما يملك من ديناميات، أضف إليه تعقيدات الساحة اللبنانية بتنوعها الطائفي والسياسي وبتداخلها مع الملفات الإقليمية، فضلاً عن بعض الالتباسات التي شهدها الحراك لناحية تحميله شعاراً ملتبساً، وهو شعار «كلّن يعني كلّن»، كونه يخفي الفاعل الحقيقي، أو سعي بعض القوى الحزبية التي تمثل جزءاً من النظام، لتحميل الحراك أجندتها الخاصة بصراعها مع قوى سياسية أخرى في السلطة يزيد المشهد تعقيداً، فهناك جهات حزبية طائفية تاريخها فائض بملفات الفساد، وأياديها ملوّثة بدماء اللبنانيين أو بدماء الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا وتل الزعتر، تحاول استغلال الحراك الشعبي وتوجيهه نحو أهداف تخدم أجندتها السياسية البعيدة من أوجاع الناس المنتفضين وآمالهم.

فضلاً عن ذلك، وبغضّ النظر عن النتائج التي ستؤول إليها الانتفاضة، إسقاطية كانت أم تسووية، فإن معركة القضاء على الفساد في لبنان لن تكون سهلة، وبخاصة بعدما تشعبت ظاهرة الفساد وتجذّرت في لبنان بحيث باتت تنخر مختلف القطاعات، سواء العامة منها أو الخاصة، بما فيها القطاع التربوي والقطاع الصحي بمستوييهما العام والخاص، حتى إن الثقافة الشعبية والثقافة السياسية ونظام القيم في لبنان باتت محملةً بمفاهيم ونزعات وأقوال وأمثلة شعبية، منها ما هو جديد ومنها ما هو قديم يحمّل معاني جديدة أحياناً، تبرِّر الفساد، أو بعض مظاهره على الأقل.

هذا مع العلم أن الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية في لبنان، التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم، لا يمكن تفسيرها بالفساد وحده ولا بنظام المحاصصة الطائفية وحده، ولا بالأشخاص الموجودين في السلطة وحسب، بل لا بد من العودة إلى العناصر البنيوية في النظام اللبناني، وفي الهوية الاقتصادية والسياسية والثقافية للكيان التي صيغت في سياق تحديد وظيفة دولة لبنان الكبير في المنطقة عقب الهيمنة الفرنسية – البريطانية على المنطقة بعد انهيار الدولة العثمانية. هذه الوظيفة التي أداها الاقتصاد اللبناني كوسيط تجاري بين الأسواق الرأسمالية والداخل العربي المشرقي، أو كمركز مصرفي لخدمة بعض المصارف والأسواق العالمية، في ظل سرية مصرفية لا يزال يتمسك بها النظام اللبناني حتى اليوم، أو كبائع خدمات للمنطقة، مقابل تهميش القطاعات الإنتاجية، هي وظيفة تجاوزها الزمن، ولم تعد صالحة أو قادرة على توفير شروط الاستمرارية للكيان اللبناني. لذا، لا بد لأي مشروع تغييري في لبنان لكي يكون مجدياً فعلاً، من أن ينطلق من إعادة تعريف هوية لبنان الاقتصادية على أسس تضمن توفير شروط الاستمرارية لهذا الكيان من جهة وتوفر حياة كريمة لأبنائه تقوم على العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص من جهة أخرى. مع العلم أن هذه الهوية الاقتصادية المطلوبة لا يمكن أن تكون مفصولة عن هوية لبنان السياسية، المستقلة، الديمقراطية، العروبية، التحررية، المواجهة للمشروع الصهيوني والمشاريع الإمبريالية في المنطقة.

ربما يكون طريق التغيير في لبنان طويلاً، لكن خرق الجدار قد حصل…

 

قد يهمكم أيضاً  موجة السياسات الاحتجاجية في مصر: من المشهد الطوباوي لميدان التحرير إلى إعادة إنتاج خطاب الإجماع الوطني

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #لبنان_ينتفض #ثورة_لبنان #الأحوال_السياسية_في_لبنان #الفساد #وجهة_نظر