المؤلف: جون جي. ميرشمير

ترجمة: غانم النجار

مراجعة: محمد الإدريسي (**)

الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت (عالم المعرفة؛ 443)

سنة النشر: 2016

عدد الصفحات: 183

 

– 1 –

يمكن اعتبار كتاب لماذا يكذب القادة: حقيقة الكذب في السياسة الدولية[1] للبروفيسور الأمريكي جون جي. ميرشمير، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الأمريكية والمتخصص في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، مدخـلاً سوسيو – سياسياً أساسياً للوقوف على دور الكذب في بناء وتعزيز الروابط السياسية والاقتصادية بين القوى الاستراتيجية العالمية، ومرجعاً انعكاسياً ونقدياً يقدم نظرة من الداخل حول دور الكذب في بناء وإنتاج العلاقات السياسية الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية من جانب أحد أهم المتخصصين في السياسات الأمريكية المعاصرة.

سبق لكتاب اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية‏[2]، والذي نشر سنة 2006، باشتراك مع وستيفن والت، وتُرجم إلى أزيد من 19 لغة – ونُقل إلى العربية في السنة نفسها‏[3] – أن أثار جدلاً واسعاً داخل أمريكا وخارجها، بين القوى السياسية كما القوى الاقتصادية الفاعلة في المشهد الأمريكي المعاصر، نظراً إلى مقاربته العلمية والتاريخية لقضية «العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية»، والتأثير الكبير الذي يمارسه اللوبي الإسرائيلي على الرأي العام الأمريكي من خلال السيطرة الصامتة على «المشهد الإعلامي»، وبالتالي ربطه للقرارات السياسية الأمريكية المعاصرة بالثقل الجيواستراتيجي للفاعلين الاقتصاديين الليبراليين اليهود.

كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لقي جون جي. ميرشمير في الوطن العربي شهرة كبيرة من خلال ترجمة كتابه أمريكا المختطفة: اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية ككاتب ملتزم بالوظيفة الإزعاجية والمشاغبة للعلم السياسي، فضـلاً عن تبنيه للدقة الإيبيستيمولوجية والمنهجية في أعماله الأكاديمية والتي يحاول من خلالها الوقوف عند الطابع المركّب والمعقّد للسياسات الخارجية الأمريكية، وتأثيراته الماضية والحاضرة على الرأي العام والسياسة الداخلية للبلد، كما على معظم دول العالم المنخرطة بصورة أو بأخرى في اللعبة السياسية الأمريكية، أو بالأحرى في لعبة «اللوبي السياسي الأمريكي – الإسرائيلي».

في حقيقة الأمر، ما يميز الكتاب – كما يشير إلى ذلك المؤلف نفسه – هو كونه من بين الكتابات الأكاديمية والعلمية القليلة المكرَّسة لقضية «الكذب في السياسة الدولية». فعلى الرغم من الاهتمام [الصحافي] الكبير بالموضوع، إلّا أن الكتابات العلمية والتحليلية أو المقارنة نادرة جداً‏[4]. فضـلاً عن مسعاه العلمي لتقديم أطر تحليلية تسعفنا لفهم الطابع المركّب والمعقّد للكذب في السياسات الدولية، ورغبته في تقديم «مدخل علمي» وأكاديمي لعموم المهتمّين بالموضوع، أو على الأقل الدفع بهم نحو الاهتمام أكثر بالموضوع، أخذاً بعين الاعتبار المقولات الفلسفية للتمييز بين الكذب في الحياة الاجتماعية والكذب في الحقل السياسي، أي بين الأخلاقي والمصلحي في بنية السياسات الدولية المعاصرة.

– 2 –

يتكون الكتاب من ثمانية فصول موزعة على 183 صفحة من الحجم المتوسط، يحاول من خلالها الكاتب العودة إلى الأصول التاريخية والفلسفية لمقولة الكذب ضمن المسار العام لتطور التصور السياسي لفكرة الدولة، وفق مسعى علمي يروم تقديم خريطة طريق نظرية لبناء تصور علمي عن الكذب في سياق السياسات الدولية. إن تاريخ الممارسة السياسية الإنسانية هو تاريخ صراع بين المصلحة والأخلاق، وبالتالي تجاذب وتنافر بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، بين الخارجي والداخلي، وبين الصدق والكذب.

ينطلق تحليل الكاتب السياسي والتاريخي للكذب الدولي من أربعة أسئلة محورية، يجيب عنها بخمس فرضيات تعبِّر عن الواقع السياسي العالمي المعاصر: 1 – لماذا يكذب القادة السياسيون (حضور أسباب استراتيجية ومنطقية لذلك)؛ 2 – ما أنواع الأكاذيب الدولية (التنوع والغنى في الكذب بين الدول كما داخل نفس الدولة)؛ 3 – ما هي المبررات المنطقية والاستراتيجية لمختلف أنواع الكذب (هناك شروط استراتيجية تحكم الكذب بين الدول المختلفة كما داخل نفس الدول بما في ذلك الديمقراطيات المعاصرة)؛ 4 – ما المنافع والنتائج المتحصل عليها من الكذب (يؤثر الكذب السياسي سلباً في الحياة الاجتماعية للأفراد والجماعات، ويمكن أن تكون له تأثيرات أكثر سلبية في مستقبل الديمقراطيات المعاصرة).

– 3 –

في الفصل الأول، يعنى الباحث بتقديم تعريف علمي للكذب (بوصفه الفعل المخطط له لخداع جمهور العموم) في سياقه السوسيو – تاريخي كما الفلسفي والسياسي، من خلال مقارنته بالخداع (منع الآخرين من معرفة الحقيقة)، والتلفيق (ربط الأحداث والوقائع بما يصب في مصلحة فرد أو جماعة معينة، والتقليل من أهمية أمور أخرى)، والكتمان أو الإخفاء أو التستر (حبس الحقائق وإخفائها حتى لا تؤثر في موقف فرد أو جماعة أو جهة معينة)، ليصل إلى كون كل هذه الأنواع من الخديعة هدفها حجب الحقيقة ومناقضة الصدق.

يبدو أن انفتاح الكاتب على التاريخ السياسي والاجتماعي الغربي قد أسعفته على تقديم تمييز إيتيمولوجي دقيق بين مختلف أنواع الخديعة، والتي يعَدّ الكذب جزءاً منها، مؤكداً بذلك أهمية انفتاح عالم السياسة على التاريخ والعلوم الاجتماعية بوصفهما «آليات إيبيستيمولوجية» للتأصيل الجينالوجي للمقولات النظريات في سياقاتها المختلفة، فضـلاً عن دورهما الفعال في تقديم «مادة خصبة» حول الموضوعات والقضايا المهمشة في الفكر السياسي المعاصر.

ضمن الفصل الثاني، يقدم الكاتب جرداً تاريخياً بأهم الأكاذيب السياسية المعاصرة، جاعـلاً من رصد الأكاذيب الاستراتيجية – المقترنة بالمصلحة الوطنية – سنداً أساسياً لمقارباته لقضية الكذب في السياسات الدولية. بدءاً من «الأكاذيب بين الدول» و«إثارة الذعر»، و«التغطيات الاستراتيجية»، و«صناعة الأساطير القومية»، و«الأكاذيب الليبرالية»، ومروراً بـ «الإمبريالية الاجتماعية»، وصولاً إلى «التغطيات الشنيعة»، يظهر الكاتب أن النسق العام المتحكم في إنتاج الأكاذيب الدولية لا يرتبط مباشرة بالمصلحة الخاصة للفاعلين السياسيين، بقدر ما يقترن بالمصلحة الوطنية العامة، من خلال تركيزه على «الطابع الاستراتيجي» للكذب في السياسات الدولية.

في حقيقة الأمر، تثير قضية البعد الاستراتيجي للكذب السياسي، وبخاصة ضمن الأنموذج الديمقراطي الأمريكي المعاصر، الكثير من الأسئلة الإيبيستيمولوجية والتاريخية. فإذا استحضرنا تعامل الإدارة الأمريكية مع مسألة الملف النووي العراقي، نجد أن ادعاء وكالة الاستخبارات الأمريكية أن صدام حسين قد «كذب» حول امتلاكها لترسانة نووية لم يبرر – بالنسبة إلى الأمريكيين – فكرة خداع الرأي العام الأمريكي في ما يتعلق باتجاهاته نحو غزو العراق سنة 2003. وأما في ما يتعلق بقضية الشخصي والاستراتيجي في الكذب في السياسات الخارجية العربية، وفي غياب دراسات علمية مهتمة بالموضوع، فلا يمكن بأي حال من الأحوال إصدار تحليلات أو تفسيرات نمطية، لكنها في غالب الأحيان لن تختلف في جوهرها عن واقع الكذب الاستراتيجي في «الديمقراطيات المعاصرة».

– 4 –

بالنسبة إلى الفصل الثالث، يفرده الكاتب لمسألة حساسة وحيوية ضمن العلاقات السياسية المعاصرة: يتعلق الأمر بـ «الكذب بين الدول». في الواقع، يحاول الكاتب الإجابة عن سؤال محوري في الأدبيات السياسية المعاصرة: هل يكذب القادة السياسيون، وبشكل أكثر حدة، على شعوبهم أم على باقي الدول؟ والإجابة المقدمة قد تكون صادمة للقارئ: إن القادة السياسيين لا يكذبون كثيراً بعضهم على بعض مقارنة بكذبهم على شعوبهم. يستند الكاتب في ذلك إلى تاريخ العلاقات الدولية والدبلوماسية، ليبيِّن صعوبة الجرد العلمي والوضعياتي لحالات كذب بعض قادة سياسيين على بعض، والتي لا تعدو حالات معزولة. لا يخلو تاريخ العلاقات بين الدول من حالات كذب بين القادة السياسيين، والتي تظل محدودة في الزمان والمكان وذلك لسببين اثنين: أولاً، صعوبة خداع بعض القادة السياسيين لبعض؛ ثانياً، ضعف المكاسب السياسية والاستراتيجية، الداخلية كما الخارجية، من وراء الكذب بين القادة. يصرح الباحث بأن هناك مجموعة من الشروط الموضوعية المتحكمة في تحديد النسق المتحكم في الكذب بين الدول، إذ إن الهاجس الأمني وسياق الأزمات يفرض – استراتيجياً – على الدول انتهاج «الكذب» في سياساتها الخارجية حفاظاً على السلم وتجنُّب الحرب، إضافة إلى كون صورة الحرب والعدو يظل عامـلاً محفزاً على إنتاج الأكاذيب وضمان التصديق العمومي والشعبي لها.

– 5 –

يتناول الفصل الرابع مسألة إثارة الذعر بوصفها تاكتيكاً استراتيجياً يحكم السياسات الخارجية للدول [على مر التاريخ]. يعلمنا التاريخ أن هناك اختلافاً كبيراً في تعامل السياسيين والعموم مع الأخطار الخارجية، حيث إن «صناعة الرأي العام» تظل مقترنة في جوهرها بطبيعة تعامل الفاعلين السياسيين مع الأحداث الجارية ودرجة التضخيم أو التقزيم الذي يُعرفون بموجبها «الشؤون الخارجية». ولعل التعامل الأمريكي مع الاتحاد السوفياتي خير مثال على الطريقة التي بموجبها صورت الإدارات الأمريكية، ومنذ أربعينيات القرن الماضي، المعسكر الشرقي [بما في ذلك النازية] بوصفه خطراً على الشعب الأمريكي قبل أن يكون تهديداً للعالم. بما أن المثقف [الملتزم] يظل جسر وصلٍ رئيسياً بين هموم الفاعل الاجتماعي ورهانات الفاعل السياسي، فإن استراتيجيات «إثارة الذعر» تهدف إلى تهميش هذا الفاعل الموضوعي من أجل الاستفراد بالعموم، والذين يمثلون الجمهور الأوسع من جهة، والشريحة الأكثر قابلية للخداع والتصديق بالخداع وتبريره من جهة أخرى.

إن إثارة الذعر هو سلاح قوي وفن إبداعي في يد الدولة، لذلك فإن البناء المؤسساتي للدولة المعاصرة يسمح للفاعلين السياسيين بالتحكم في منافع وتدفقات الحقائق وتوجيهها وتعديلها بما يخدم المصلحة العامة للشعب ولو ضده.

– 6 –

يعالج الفصل الخامس الكيفية التي بموجبها يعمل القادة على التغطية الاستراتيجية لأكاذيب سياساتهم الخارجية، سواء تعلق الأمر بتغطية فشل سياساتهم واستراتيجياتهم الإقليمية والعالمية أمام العموم والمجتمع الدولي أو التستر على بعض الاستراتيجيات والسياسات التي أثبتت نجاحها السياسي والاقتصادي لكنها قد تكون محطّ سخط اجتماعي وشعبي فيما بعد، كل ذلك وفق تقديرهم الخاص للوقائع والمواقف المختلفة. ترتبط استراتيجية الكذب في المجال السياسي بالرغبة في درء الأخطار الخارجية غير المباشرة وإخفاء العجز ونقاط الضعف أمام العدو الخارجي، كما الداخلي؛ إذ إن قوة الاستراتيجيات السياسية الخارجية لكل دولة مقترنة بدرجة قدرتها على حشد مختلف الآراء الوطنية وتوجيهها نحو خدمة مصالحها الخارجية، دون إغفال مبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة؛ حتى وإن استدعى الأمر إخفاء استراتيجيات سياسية مشبوهة لكنها مضمونة النتائج على المستوى القريب أو المتوسط.

لكن مع ذلك يُطرح سؤال أساسي في هذا الصدد: إذا كانت القواعد الديمقراطية في الدول المتقدمة تفرض على الأجهزة السياسية مناقشة القضايا الحساسة والحيوية، وهو ما قد يضطرهم إلى الكذب للدفاع عن المصالح الاستراتيجية للبلد، فكيف تمارس الأجهزة السياسية في البلدان غير الديمقراطية أو تلك التي في طور الانتقال الديمقراطي مبدأ «الكذب الاستراتيجي» في غياب نقاشات عامة للسياسات الوطنية كما الخارجية؟

– 7 –

يركز الفصل السادس على فكرة البناء السياسي للأساطير المؤسسة للقوميات ودور الأكاذيب الاستراتيجية في الترويج لها. بالعودة إلى القرنين الماضيين، نجد أن الترويج لفكرة القوميات المحلية، سواء من جانب القادة السياسيين – مدعومين بالنخب الفكرية – أو من جانب القوى الدينية، قد هدف إلى ربط مجموعات اجتماعية وعرقية معينة بمشروع حضاري أو نهضوي محلي [أو منفتح على العالمية] أو تكتل استراتيجي، الأمر الذي خلق نمطاً ثقافياً من الشعور بالانتماء الهوياتي إلى «مقولة الوطن». أسهم تضخيم فكرة القومية في خلق أساطير مؤسسة للهوية المحلية تجعل من وعي الانتماء إلى الجماعة الوطنية «قيمة إنسانية» وسياسية تحسب للفرد، الأمر الذي جعل البنى اللاشعورية الجمعية مستدمجة استبطانياً لمقولات المقاومة والدفاع عن الهوية، ومتقبلة للأكاذيب والاستراتيجيات التضليلية بوصفها تعبيراً عن المصلحة الوطنية، كل ذلك في إطار تواطؤ «سوسيوثقافي» بين البنى الفوقية والبنى التحتية.

لا بد من الإشارة إلى كون فكرة الوحدة والأسطورة القومية موجودة في معظم الدول المعاصرة بما في ذلك تلك التي ولدت ولادة عسيرة أو «غير شرعية» (الاتحاد السوفياتي، وأمريكا، وإسرائيل…)، حيث إنه كلما ارتفعت حدة «النظرة السلبية الخارجية» لتاريخ البلد، كلما عملت النخب السياسية ومختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين على التشبث بالمبادئ القومية حتى وإن كانت قائمة على أسس وشرعيات مزيفة، وهو الأمر الذي يبين قوة وخطورة هذا النمط من الخديعة في الآن نفسه.

– 8 –

ينفتح الفصل السابع على البعد القانوني – الليبرالي للأكاذيب في السياسات الدولية. فحريٌّ بالذكر أنه وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية انخرط المجتمع الدولي في موجة ليبرالية جديدة تنظم العلاقات السياسية والعسكرية بين/داخل الدول، الأمر الذي جعل الفاعلين السياسيين ينفتحون على الكذب بوصفه – من جديد – آلية أساسية للتحايل على المواثيق والقوانين الدولية. إذا كانت السياسة هي مجال النقاش والتداول في ما هو قابل للنقاش والتداول (بلغة المفكر المغربي عبد الله العروي)، فإن خرق الأعراف والمواثيق الدولية وارد باستمرار، بل إن ارتكاب المجازر الدموية في حق المدنيين قد يبرر الرغبة في إنهاء الحرب (كما حدث للولايات المتحدة في اليابان)، وأيضا يمكن الانخراط في تكتلات وكسب حلفاء ديكتاتوريين أو مرتكبي جرائم حرب ضد الإنسانية تحت ذريعة محاربة «القوى الاستبدادية» (تحالف أمريكا وإنكلترا مع ستالين ضد ألمانيا). يمكن أن نعتبر أن فكرة «الكذب الليبرالي» فعل/سلوك/تصور مقبول من جانب مختلف الفاعلين في المشهد السياسي الدولي (ساسة، فاعلين اقتصاديين، ومواطنين)، ما دام يوفر الاستقرار السياسي والاجتماعي ويبعث على الارتياح الشعبي، إضافة إلى كون التبرير الليبرالي والقانوني للأكاذيب السياسية يعمل على تعزيز الشرعية السياسية والاجتماعية للقادة السياسيين وفق أسس ليبرالية في حد ذاتها.

– 9 –

في الفصل الأخير، يقف الكاتب على الأبعاد والانعكاسات السلبية للأكاذيب السياسية، من خلال تركيزه على قياس تأثير الأكاذيب على المستويين المحلي والخارجي للسياسات الاستراتيجية للدول، استناداً إلى «احتمالية الانتكاسة الانعكاسية» للأكاذيب الخارجية على الصعيد الوطني والداخلي، و«الارتدادات السلبية» على المستوى الخارجي والدولي. في حقيقة الأمر، يقدم الكاتب مختلف المخاطر الكامنة وراء الأنواع الأربعة الأساسية من الكذب في السياسات الدولية [والتي ركز عليها في الفصول السابقة]: الكذب بين الدول، واستراتيجية إثارة الذعر، والتغطيات الاستراتيجية وصناعة الأسطورة القومية. يمكن أيضاً أن نرصد الآثار السلبية لهذه الأنواع من الأكاذيب على مستويين: أولاً، على المستوى المحلي، من خلال فقدان الثقة في الفاعل السياسي من جانب الشعب، والإدراك المباشر لتلاعب الفاعل السياسي بالشعب تحت ذريعة المصلحة العامة، وإمكان تولُّد ردود أفعال عنيفة من جانب الجمهور أمام فشل السياسات الاستراتيجية والتلاعب والاستخفاف بالمواطن وإيهام الشعب بحقيقة قوة أو ضعف النظام السياسي. ثانياً، على المستوى الخارجي، إمكان فشل الأكاذيب الخارجية في أداء وظائفها، وبالتالي تعزيز اللاثقة بين الأطراف، وإمكان تأثير فقدان السند الجماهيري للقادة على الوضعية السياسية والاستراتيجية للدولة على المستوى الخارجي، وعدم إمكان المتابعة القضائية – في أغلب الأحيان – للقادة الكاذبين نظراً إلى التواطؤ الجماهيري مع هذا الفعل… كل هذه الأخطار تجعل الكاتب يطرح الكثير من علامات التعجب حول مستقبل الممارسة السياسية الدولية، ضمن الديمقراطيات المعاصرة، في سياق هذا الوضع.

سمح انفتاح الباحث على التاريخ المعاصر للسياسات الخارجية الأمريكية في بناء «محاجَّة» قوية للنص، من خلال استعراض أهم الأمثلة المعبّرة عن الكذب في السياسات الخارجية الأمريكية خلال القرنين الماضيين، الأمر الذي عزز أكثر فأكثر الطرح الذي عبّر عنه في بداية الكتاب والمتمثل بكون «المؤلف» لا يدعي الشمولية النظرية والميدانية، ولكن يظل مجرد مدخل لإنارة الطريق «العلمية» لمبحث أساسي ضمن حقل العلوم السياسية المعاصرة والمرتبط بـ «استراتيجيات الكذب في السياسات الدولية المعاصرة».

– 10 –

يمكن أن نعتبر مؤلَّف «لماذا يكذب القادة: حقيقة الكذب في السياسة الدولية» كتاباً تحليلياً موجهاً للعموم كما للمختصين في الآن نفسه، من منطلق أنه يعرّف القارئ على «فكرة الكذب في السياسات الدولية» من منظور علمي بعيداً من مختلف التوصيفات الصحافية الجاهزة، ويدشن مجالاً جديداً للبحث في حقل العلوم السياسية، وسند ذلك قدرة الباحث التحليلية والتبسيطية الفريدة وبصيرته الثاقبة وقوة وتماسك مدخلاته ومخرجاته الإيبيستيمولوجية والمنهجية.

في الختام، لا يسعنا سوى أن نقدم تحية شكر وعرفان لغانم النجار على هذه الترجمة المتميزة، وعلى اختياره الموفق لهذا الكتاب في ظرفية سياسية محلية ودولية حساسة جداً، كما نحث، من هذا المنبر، مختلف المراكز البحثية المهتمة بالدراسات السياسية والاستراتيجية العربية على ضرورة الاهتمام بترجمة هذا النمط من الكتب النقدية والتأسيسية المعاصرة، أو على الأقل الانفتاح عليها بوصفها مدخـلاً إيبيستيمولوجياً ومنهجياً، وسوسيو – سياسياً أيضاً، لفهم العالم المعاصر في تحولاته المختلفة.