مقدمة:

المرآة ملاذ نارسيس. فيها أَنظرُني فأجدني ناظراً إليَّ. مرآة نارسيس صفحة ماءٍ. وهو منشغف بجماله، انشغفت البحيرة ببهائها: افتتنا بنفسيهما، حدّ الثمالة. لمّا حلّ الموت بصخبه، بكت الغابة جماله؛ طلبت الإيريادات (ربّات الغابة) سبباً وجيهاً لشدة حزن البحيرة المكسورة؛ وهي التي أغدق عليها نارسيس بوسامته كلّ يوم. أحقّا كان وسيماً: تساءلت البحيرة مستعجبة؟ وقبل أن يرتدّ إلى ربّات الغابة طرفها، أدركت أن بؤبؤ عينيه كان مرآة لصفحة الماء؛ كلّما نظر إليها افتتنت بجمالها.

هكذا اختار باولو كويلو أن يستفتح رائعته الذائعة الصيت «الخيميائي»، بإدخال ذلك التحوير البديع لأوسكار وايلد على «الأسطورة الخام». ولنا مع «نارسيس وايلد» وقفة استعبار.

مجاز المرآة ونارسيس، أنسب من غيره، لبحث الثنائية المُشكلة المؤسِّسة للفكر العربي الحديث والمعاصر: ثنائية الذات والآخر. وهي الثنائية التي انشغل عبد الإله بلقزيز بالتأمل فيها ردحاً من الزمن. نحن لسنا ما نحن إياه، نحن أيضاً ما نتوهمّه؛ ونحن كذلك ما نحن في عيون الآخر. كفّت الذات أن تكون مرآة ذاتها دوماً وأبداً. الغير ومنذ الملحمة الهيغيلة، أمسى شرطاً لازماً للوعي بالذات؛ وهو ليس دوماً خارجها. إنه أيضاً ساكن بين ضلوعها، حينما تحدث تلك «الفجوة العميقة» بين الذات وذاتها.

نارسيس، (عيناه) مرآة البحيرة؛ كما البحيرة مرآة نارسيس. لمسة خفيفة كافية بإحداث شرْخ في صمتها، فيسقط نارسيس صريعاً؛ كما أن دمعة منسابة، تحسب معها البحيرة أنها باتت قبيحة. حكاية بتزوير خفيف (لوايلد)، يمكّن القارئ من اكتشاف مختلف أشكال سوء الفهم الحاصلة بحكم طبيعة الإنسان كإنسان، وبالأخص لمّا تدخّل الرب في «آية» أخرى فبلبل الألسنة، واتسعت المسافة بيني وبين غيري. ومثلما أن الترجمة، «سفينة نوح» لرفع الالتباس، فإن «الحوار النقدي» حثٌ لمعاودة النظر في المرآة، علّني أستبين حقيقتي سواء عندي أو عند غيري.

ما الشرق؟ وما الغرب؟ أَبالإمكان رسم حدٍّ رياضي لهما؟ منذ تصدع ثنائية الذات والآخر في الفكر المعاصر، ما عاد بالإمكان المصادرة على تقابلهما كلّية. الشرق والغرب، تنازعتهما حكايا اللاهوت والتاريخ والجغرافيا، وفي الكتاب قيد المدارسة – نقد الثقافة الغربية – إشارات وتنبيهات عديدة إلى حدود كلّ نظرة توحيدية لهما، تختزلهما في أرسومات مقولِبة؛ تردّ الخصوصيات الخاصة إلى عموميات عامة، لا تعكس حقيقة الفوارق والاختلافات البيّنة بين أجزاء الكل. الشرق والغرب هما بالتعريف ما أضحى عصيّاً على كلّ تعريف؛ لأن «أزعومة الهوية»، تتهددها – مع «تعولم العولمة» – هوّات سحيقة ومهاوٍ عميقة. من أنا؟ كما من نحن؟ ليس سؤالاً هيناً؛ بالنظر إلى انفتاح «الهوية» على جماليات الممكن، واستحالة حصرها في دائرة الما-كان. بقدر ما هويتنا نتاج، ما خلفناه وراءنا، فهي في الآن ذاته حصيلة ما نحن مقدمون عليه، أو على الأقل ما نحن عازمون على الإقدام عليه.

ما الشرق؟ وما الغرب؟ والوليد أضحى أباً[1]. ابتلع الجميع في غمرة أهوال أوروبا. لقد توقّف بلقزيز بدقة، عند لحظة التحول من «أعجوبة أوروبا» إلى أعجوبات «الغرب»؛ مستحضراً «نباهة» جورج قُرم في هذا الباب. العناية بنقد أوروبا لدى قرم، ليس من باب «أي تحيّر أخاذ»، وإنما لأن – كما يؤكد بلقزيز على لسانه – مسؤوليتها ثابتة في تشكيل لوحة العالم على ما هي عليه الآن. إذا أردت أن تقرأ «كتاب العالم»، فافتح ألواح أوروبا، تخبرك بكيف أمكن للخلق، أن يصبح غير الخلق. من الصعب «اختزال» الثنائية المانوية شرق – غرب في نظرة حدّية مطلقة، وجغرافيا العالم دائمة الاهتزاز؛ وبالأخص لمّا يعاد تشكيل خرائطها على رأس كل قرن تقريباً، وقد ضرب لنا قرم مثلاً دالاً باستحضاره لأوروبة اليابان وأستراليا؛ ولنضف إليه، ما أعقب المسمّى (إعلامياً) قيد حياته بـ«الربيع العربي»، من ملامح خرائط جديدة، وبخاصة في الشرق الأوسط.

الذات والآخر إشكالية فلسفية صاحبت التفكير الفلسفي من أقصاه إلى أقصاه، وإنِ اختصت الفلسفةُ الحديثةُ بالارتقاء الصريح بها إلى مدارج البحث النظري المتماسك؛ حتى إنها بطرحها قد تميزت عن غيرها. النقاشُ الفلسفيُّ الذي استفتحه بشأنها ديكارت وواصله هيغل، ووجد تتويجه في الفلسفة المعاصرة عرضاً واعتراضاً، علامةٌ على القيمة الفلسفية لهذه الثنائية؛ ودليل على جدارتها بالتأمل المعرفي.

إن الآخر ضرورة وجودية لوعي الذات بذاتها، حتى لو تجلت العلاقة بينهما في شكل «سيادة» و«عبودية». وحظُّ الفضاء العربي الإسلامي، أن يكون آخروه شرطاً من شروط عودته إلى ذاته، وبحث أسباب نهوضه. ولربما «اليقظة الفلسفية» ما شذت عن القاعدة في هذا، إذ تكفي الإحالة إلى ما رافق أيديولوجيا النهوض من أحداث تاريخية صادمة لوجدان الذات، فدعاها ذلك إلى طرح سؤال التقدم. وقد أوضح محمد عابد الجابري في قراءاته للخطاب العربي المعاصر، أن الآخر، الذي فكرنا من خلاله كان آخرَ مزدوجاً: آخرُنا الذي كنّاه، وذاك الذي نعاصره. بقيت الذات حبيسة التفكير في زمنين: ماضٍ دفين، وحاضرٍ مبهر. يقرر الجابري أنّى ولّيتم وجوهكم في مناحي الخطاب العربي المعاصر، إلا وألفيتم أنفسكم أمام الآخر المزدوج.

فتنة الشرق، ضاربة الجذور في متخيّل الغرب. آدابه، كما دراساته مرآة – وإن كانت غير أمينة دوماً – لمختلف صوره. بيد أنه، ومنذ القرن التاسع عشر تحديداً، سيعاد تشكيل «الشرق» في وعي الغرب باعتباره موضوعاً للدراسة العلمية الدقيقة. في سياق مقاربته لـ «استشراق» إدوارد سعيد، يشير عبد الإله بلقزيز، إلى مجاز «المرآة». فكما أن الشرق، تعرّف إلى نفسه، ووعى حدوده لمّا اندهش لاهوتياً من الغربي الظافر، فإن الغرب، ينظر إلى نفسه باعتبارها المختلف عن غيره (الشرق)، «إن شرق الغرب ليس جزءاً من الغرب، إلا بما هو مختلف عنه، مغايرٌ له، بحيث يقرأ الغرب نفسه في مرآة ذينك الاختلاف والمغايرة»[2]. ملاحظة وجيهة، وجب لفت الانتباه إليها: ونارسيس يتملّى جماله، كان مرآة لوعي صفحة الماء ببهائها. ليس السيّد سيّداً، إلا بمقدار اعتراف العبد بسيادته؛ وحاجته إلى الاعتراف تجعله يعيش تجربة عبودية معكوسة. الموضوع يصير ذاتاً، والذات تصير موضوعاً. لعبة استبدال المواقع، لحظة حاسمة في تاريخ الفكر العربي المعاصر، حينما بات «الشرق المستشرق» موضوعاً للدراسة النقدية، هي لحظة اختبار رئيسة لمدى استيعاب العرب وتشرُّبهم لأبرز سمات الحداثة: الحس النقدي، والحس التاريخي، والحس النسبي. ومعروف بنفسه ما يكتسيه هذا الثالوث من أهمية بالغة في الإعلان عن بلوغ «الرشد الفكري» كما حدده كانط في نصه الأشهر من أن يذكّر به. إن النقد الفكري العربي للثقافة الغربية في نظر بلقزيز دليل نضجه وعلامة على تحرره من داء التغربن وداء الأصولية، ومنه فهم المنزلة القيمة التي يخص بها «النقدة الحداثيين»؛ مقابل بَرَمِه من مذهبَيْ رافضة الاستشراق، ومريديه المتغرّبين.

في نقد الثقافة الغربية، حرص شديد على تتبع المسار الفكري والتاريخي لاصطدام العرب بمتخيّل الغرب حولهم. يبدأ بلحظة الانبهار الانفعالي، فلحظة الحوار النقدي؛ يتزامنان حيناً، ويتمايزان أحياناً. في الكتاب نفسه، رسْمات لشعور الآخر بوجوب فهم نفسه على ضوء اختلافه مع غيره، علاوة على استشعار الذات لحاجتها إلى وعي الآخر، لما يمتلكه من عتاد معرفي ومنهجي، غير أن تملَّك المفكرين العرب لآليات اشتغال الغرب مضمونياً ومنهجياً؛ دفعهم إلى مبادلته القراءة بالقراءة، والنقد بالنقد. تخلّص التلميذ (العربي) من سلطة معلمه (الغربي)، وبات ينازعه الرأي في ما يتعرض له من مزاعم بشأن ذاته. لقد بات المفكرون العرب أكثر قدرة على منازلة المستشرقين، ومقارعتهم في ميدان تخصصهم. يؤكد بلقزيز أن التثنية الشهيرة «الدارس والمدروس»، انقلبت على أعقابها، فلم يعد العربي مجرد مادة للاشتغال، مجرد «فأر تجارب» لاختبار فرضيات ما؛ كما لم يعد الغربي هو مالك «المختبر» حصراً. المتخيل الغربي حول الشرقي يُدرس من لدن هذا الأخير، تلك كانت من جملة علامات الاقتدار الفكري العربي المعاصر.

يتناول بلقزيز إشكاليات متعددة، أرْخت بظلالها على الفكر العربي، من قبيل إشكالية الأنا والآخر، وشدة اتصالها بتاريخية الاستشراق وآصرات قرابة هذا الأخير بالمؤسسة والمتخيل والتداخل الأيديولوجي المعرفي؛ إضافة إلى مناهج الدراسات الاستشراقية، وشكل نظر النقاد العرب إليها؛ مع إلحاحه على التدقيق في العديد من المفاهيم التي تعرّض لها بالتحليل والمناقشة من قبيل الثقافة الغربية، والمركزية الأوروبية، وبالتبعة بين أوروبا والغرب، وغيرها من الإشكالات التي طرقها في سياق عنايته بالتأصيل النظري لرؤيته إلى الحداثة؛ وهو – في ظني – شغله الشاغل سواء في كتاباته التنظيرية، أو الأدبية[3]. ويبدو أنه بالإمكان قراءة الكتاب على ضوء انشغاله الدائم هذا.

قبل الإقدام على تناول ذلك، سنعمد إلى فتح «قوس»؛ بدت لنا إفادته راسخة، في تبيّن معالم كتابات بلقزيز بالجملة. ونعني به، محاولة التفكير في خصائص الأسلوب المتفرد لمفكرنا: كتابة وتنظيراً؛ من خلال التوقف مع آخر إصدارات محمد نور الدين أفاية، لِما أورده من خلاصات بديعة بخصوص بعض أعمال عبد الإله بلقزيز.

أولاً: فكر بلقزيز موضوعاً للتفكير…

بالموازاة مع صدور الكتاب محط النظر (المقصود نقد الثقافة الغربية)، أصدر محمد نور الدين أفاية كتاباً وسمه بـ الوعي بالاعتراف، عمل فيه على مواصلة تأملاته النظرية في قضايا الهوية، والمرأة، والاختلاف، والنهضة؛ مركِّزاً على تأطيرها بمقولتَي «الوعي والاعتراف»، لأهميتهما القصوى في إخراج الوعي العربي من سياسات الاستبداد والاستحواذ إلى سياسات الحداثة والتنوير.

خصص أفاية الفصل الأخير من كتابه لتناول بعضٍ من فصول مشروع عبد الإله بلقزيز، ناظراً فيه من باب انشغالاته الفكرية السياسية. استفتحه بتمهيد مركز، ذكَر فيه أظهر سمات كتاباته، من جهة المنهج والمضمون. فعلاوة على ما تتسم به من عمق وسعة نظر، فإن لصاحبها فضل عرضها بذكاء تواصلي لافت للانتباه. الكتابة عنده في «الظرفي والعابر»، كما الكتابة في «الاستراتيجي الأفّاق» كلاهما سيان في محبرة الصرامة النظرية، والحرص المنهجي لصاحب مشروع العرب والحداثة؛ مثلما هو بادٍ في آخر فصول هذا المشروع: «نقد الثقافة الغربية».

من يتابع تآليف بلقزيز – التي فاقت الأربعين كتاباً – سيشارك أفاية خلاصاته الدقيقة، فالرجل خبيرُ فكر ولغة؛ ولأنه كذلك، فإنه يغتم لأمر «استسهال الكتابة» و«انفعالات الكُتّاب».

لا ندري الباعث الذي حمَل «الوعي بالاعتراف» على اختيار التفكير في بلقزيز، انطلاقاً من مسألتَي «الدولة والشرعية». لا ندري الحامل على إقرانه الاعتراف بالإسهام الكبير له في الفكر العربي المعاصر، بوعيه بالحاجة إلى وضع «مسألة الدولة» على «رأس جدول» أعمال الفكر النهضوي. أهو شعور مستبطن بفرادة نظره في الموضوع؟

لنلفت النظر، إلى رمزية إدراج الفصل الخاص ببلقزيز، مع الفصل الخاص بالجابري في سياق حديث محمد نور الدين أفاية عن إشكالية النهضة والشرعية. وهي الإشكالية التي شغلتهما، مثلما شغلهما أمر النقد، وبحث مسألة التقدم. حتى إنه ليمكن المجازفة بالقول، أن ما توقف عنده الجابري، واصله بلقزيز؛ من جهة نقد العقل العربي، بتركيز الأخير في تناوله لإشكالية الحداثة على التوسع في القراءة التحليلية والنقدية للحظات الإصلاح، والنهضة، والحداثة – بمن فيها لحظة الجابري عينها – بعد أن ركز الأول في مشروع نقد العقل العربي على استنطاق أبرز اللحظات المؤسّسة.

«همٌّ نهضوي واضح ونزوع تحديثي لا غبار عليه»[4]، آخر ما خطّه أفاية في معرض حديثه عن بلقزيز. فكرة تكثف دواعي انهمام عبد الإله بلقزيز بمساءلة إشكالية الحداثة؛ وما يتفرع عنها من أسئلة تتصل بالسياسة، والمعرفة؛ من قبيل مفاهيم الدولة، والسلطة، والدين، والتراث …إلخ. ويكاد ما قاله أفاية، عن وجاهة تحليلات بلقزيز للمسألة السياسية، ينسحب على معظم أعماله، بما فيها تلك التي توسم بأن متنها دُبّج تحت وطأة التفكير في «الحدثي». إن القول بإحداث تفكيره لقطيعة مع «الثرثرة الإيديولوجية»، بالارتقاء النظري بالسياسة إلى تخليصها من «هلوسات» الناظرين فيها وإليها، وإحاطته الواسعة بالمواضيع التي ينتقيها – بالأحرى تلك التي تتصيده – للكتابة عنها؛ لا يقتصر على «مقالته» الرفيعة في السياسة والشرعية، بقدر ما يشمل مجمل كتاباته. وقد سبق أن أشار محمد نور الدين أفاية إلى هذا الأمر، لمّا استحضر «جبهات» القتال، التي يخوض بلقزيز معمعتها، إذ يقول: «وفي كل هذه الجبهات يخوض بلقزيز «معاركه» الفكرية والسياسية والبيداغوجية بجدية قلَّ نظيرها، وبجاهزية معرفية لافتة، وبحس عال بالالتزام المنهجي والفكري والسياسي»[5].

من الإشكالات التي تكثر «الأزعومات» بشأنها في الفكر العربي المعاصر، التباسُ العلاقة بين المعرفي والأيديولوجي. وقد شكلت بادئة نظرية لقول أفاية في أمر السياسة والشرعية عند بلقزيز. نتجاوز الكثير من التفاصيل، لنتوقف عند استخلاص الوعي بالاعتراف أهمية التمييز الذي أقرّه بلقزيز بين «المعرفة والإيديولوجيا»؛ من ناحية رفض اعتبارها مجرد «وعي مغلوط»، لتضمُّنها قدراً غير يسير من المعرفة، يعبر عن «وعي عصر ما». إنه، وعلى الرغم من قيامها على أساس المصلحة لا الحقيقة، فإنه لا يمكن نكران ما تنطوي عليه من تصورات نظرية؛ تروم الإجابة عن أسئلة بعينها.

بيد أن سابق القول، لا يلغي ضرورة الوعي بما يتهدد «الحقيقة»، كلّما انقلبت الإيديولوجيا إلى وحشٍ ضارٍ، يوجه طريقه بمبدأ «الغاية تبرر الوسيلة». ومن جملة ما يتهدد «النظرية الإيديولوجية» أيضاً، الانحدار المعرفي لزبانيتها، كما زبائنها، وهو ذات الانحدار، الذي لطالما دعا بلقزيز إلى التحوُّط من استفحاله في أوصال الأمة؛ حتى سطا «قضاة» الكسل على الأذهان، بعد أن عمّر الفضاء «دعاة» عديدون من ذات اليمين وذات اليسار.

إن قول بلقزيز في إشكالات الدولة والشرعية والسياسة، ليس مجرد تنبيه إلى حدود «لغط الغوغاء» فيها، وليس مجرد وصف لهزال الإنتاج العربي والإسلامي (المعاصر) في أرضها؛ إنه، وبالإضافة إليه، محاولة لتأسيس تصور نظري متماسك في مفهوم الدولة.

من جملة مقتضيات هذا المنزع التأسيسي، مساءلة الكثير من البداهات التي اقتاتت عليها العرب في مجال الاجتماع الإنساني. وقد عمل بلقزيز على فحصها بحرصٍ وتأنٍ جليّين في مختلف أعماله، التي استحضرها أفاية في كتابه السالف الذكر[6]. وفي كل مرة، يذكِّر أفاية، ببرَم بلقزيز من «استسهال» الكتابة في شأن يستعصي على كل مستعجل كتابة؛ كتذكيره بالتزاماته المنهجية والمعرفية التي يجندها في كل وقت وحين، لتبيان سذاجة القول – أو قل بعض القول – العربي في الدولة.

فحص البداهات، وتخطي لحظة النقد إلى التأسيس، تطلب من بلقزيز فحصَ عديد المفاهيم التي تتسيد الساحة وكأنها معروفة بنفسها؛ والتي على رأسها، مفهوم الدولة نفسه، علاوة على مفاهيم الشرعية، والسلطة، والمجتمع، والقانون؛ وغيرها من المفاهيم التي تستحق جهداً نظرياً استثنائياً، وقلّما يُنتبه إلى ما تطرحه من إشكالات ومفارقات عميقة.

«نحن بإزاء عمل نظري تأسيسي لبلورة وعي بالدولة العربية، بما هي دولة لم تصل بعد، في نظر بلقزيز، إلى مستوى من التطور يسمح للباحث بإخضاعها للمقتضيات المفاهيمية للفكر السياسي الحديث، وإن حصل وبادر إلى ذلك، كما هو حال بلقزيز، فإنه لا يتردد في الجهر بضرورة التزام الحيطة والحذر»[7]. المتتبع لإنتاج بلقزيز، لن يستغرب خلاصة وجيهة كهذه التي أوردها أفاية، في معرض اعتراضه على زعم بلقزيز، أن عمله لا يروم إنجاز «دراسة نظرية في الدولة». فما الذي يحملنا على الاعتقاد معه في العمق النظري ذا الطبيعة التأسيسية لدى بلقزيز؟

أول الاعتبارات، الدراية الواسعة بالمساحة النظرية التي يشتغل فيها، سواء في السياق العربي الإسلامي، أو في السياق الأوروبي والغربي؛ وهو ما مكنه من حيازة رصيد مفهومي ومنهجي واستشكالي مهم، أفاده في بيان فرادة واستعصاء المبحوث من مواضيعها. وثانيها، مقدرته الهائلة على استيضاح تمفصلات التداخل الفلسفي والاجتماعي والديني والقانوني، والإفادة من ذلك في صوغ تصور نظري واضح؛ يقف على مواضع «الجرح الفكري» الغائر لمفكرينا في الدولة وإشكالاتها؛ وما يعترض طريق تأسيس الدولة في الفضاء العربي والإسلامي من مآزق. وثالث الاعتبارات، يتعلق بشدة حرص بلقزيز على تدقيق المفاهيم التي يتناولها باسطاً ما يعتور نظر الناظرين فيها/إليها من غشاوات.

بادئة الغشاوات: المماهاة بين مفهومَي الدولة والسلطة، والحال أنهما مفهومان متمايزان، فـ «هو (أي بلقزيز)، تجده ينبه إلى أن الدولة ليست هي السلطة، وبأنه لا بد من رفع الالتباس البنيوي الذي يسكن نظرة من يكتب عن الموضوع، أو يجادل حوله»[8]. إن الدولة جملة من الأجهزة والمؤسسات، وهي في الآن ذاته عبارة عن كيان لحفظ توازن المجتمع، وتدبير شأنه العام، أما السلطة فهي إحالة على مصلحة طبقة أو فئة بعينها. الدولة متعالية، والسلطة محايثة. مصدر تعاليها راجع بالأساس إلى أهميتها في نقل الإنسان من حالة «اللا- دولة»، كحالة ليس بالمستطاع تقديرُ النتائج المترتبة عنها. ومن هنا الحاجة إلى المقاربة الأنتربولوجية لها، أما السلطة فهي محايثة لبنى المجتمع تخترقه من ألفه إلى يائه، إنها «الأثر الملموس» لواقع الممارسة السياسية.

أما تاليتها (الغشاوات)، فلها آصرة قرابة بارتباك الاختيارات المجتمعية والسياسية في الدول العربية. مقابل ركضها ناحية حيازة بعض المقومات التحديثية، تجدها غارقة حدّ الرأس في أنماط سياسية سلطوية قروسطية. وبالمثل، فإن علاقة الأفراد بسلطة الدولة، ليست مبنية على أساس قانوني متين، بقدر ما تحركها نزعات الخوف والعقاب، ومنه إشكالية الشرعية التي أفاض أفاية في توضيح مبهماتها لدى بلقزيز.

والعرب لم تستنبت فكرة الدولة كفاية، ولم تستوعب ما جنته الأمم من فوائد منها؛ تجدها – بمختلف توجهات ومنطلقات أهلها – تواجه المنشأ الحديث العهد لها، بإعلان الطعن في أسس قيامها. وفي هذا الصدد، يتوقف محمد نور الدين أفاية، عند وقفة بلقزيز مع المواقف، التي تمثلها، وهي لديه على الشكل التالي: القومية العربية، والإسلامية، والماركسية، مختصراً مرتكزات الأولى في ظنها أن الدولة وليدة الاستعمار، واعتقاد الثانية أن لا دولة في الأرض بعد الخلافة، ونقد الثالثة للدولة بسبب طابعها الطبقي. مقابل لاشرعية الدولة عند الثلاثة، يورد أفاية استثناء بلقزيز «لليبراليي العرب» الذين دافعوا عن الدولة الوطنية.

هذا من حيث «شرعية الدولة» في الذهنية العربية، بعد الاصطدام الكبير للعرب بالآخر؛ وما نجم عنه من مخلفات. أما من جهة «أسس الشرعية»، التي تبنى الدول على أساسها، فإن أفاية يلفت النظر إلى «الجهد الاستثنائي» لبلقزيز في استبانة مفارقاتها.

لا تخرج الشرعية عنده عن «الحاجة التاريخية»، و«الدينامية التكوينية»، و«التحقيق المادي»، و«المقبولية». ويخص أفاية المبدأ الأخير بالتفصيل دون سواه، مثيراً عدة مفارقات انتبه لها بلقزيز، من قبيل مفارقة مقبولية نظام حكم ما، دون أن يكون قائماً على الشرعية الديمقراطية. ليرصد فعال الأيديولوجيا في ترسيخ المقبولية الاجتماعية والشعبية لحكم غير شرعي ديمقراطياً، كما هو الحال بالنسبة إلى «الشرعية الثورية»، و«الشرعية التقليدية» المختلفين عن «الشرعية الدستورية»؛ ملاحظاً تداخل هذه الشرعيات في بعض الأنظمة العربية، التي قد تستند إلى مرجعيتين شرعيتين أو ثلاث في الآن ذاته. وطالما ذلك كذلك، فإنه من الصعب جداً، القول بالانتقال العربي إلى فضاء الديمقراطية والعدل؛ لأن شرطهما الاجتماعي والثقافي غائب تماماً، وهذا وجه من الأوجه العديدة لما أسماه أفاية هشاشة المجتمع والدولة في السياق العربي والإسلامي.

علاوة على ما أشرنا إليه، فإننا نلفي أنفسنا ونحن نقرأ بلقزيز بعيون أفاية، أمام نص نظري مفيد، يوقفنا على اللحظات الأساسية في طريق بلقزيز إلى إرساء دعائم «نظرية الدولة»؛ متنقلاً بين مختلف كتبه التي خصصها لمقاربة إشكالية الدولة، والشرعية، والمجتمع، والفتنة، والسلطة، والدين؛ مراجعاً مقدماتها كما نتائجها، وفاحصاً بعض مفارقاتها ذات الصلة باستعصاء العلاقة بين الفرد والمجتمع، والقانون والعنف، والتشويش الذي يتناول مفهوم الدولة جراء ذلك.

«رهان بلقزيز متعدد الأبعاد، معرفي وسياسي وبيداغوجي»[9]. وتكاد كل أعماله تقريباً، تفصح عن الأمر، فهي تعكس من ناحية «وضوحاً منهجياً»، ليس بمكنة أيٍّ كان اكتساب مهاراته، وتتضمن رهانات معرفية وسياسية، لا مهرب من الاعتراف بها؛ وبخاصة من حيث القول بحداثة مختلفة عن الحداثة المعتادة. حداثة، بِقَدْرِ تقديرها لمختلف الإنتاجات الإنسانية، فإنها شرسة النقد في ما يخص أي نزوع إلى الاستعلاء الثقافي، مثلما هي مخالبها حادة بشأن أي منزع نكوصي مغلق أيضاً. ولعلّ سابق إشاراتنا، بصدد «نقد الثقافة الغربية» كما تاليتها، لهي خير دليل على ذلك.

 

ثانياً: نقد الثقافة الغربيّة علامة – من علامات – حداثةِ العرب

ينخرط نقد الثقافة الغربية في سياق أطروحة تزعم أن «الحداثة حداثات»، وليست مجرد «بضاعة جاهزة» للطلب بحسب منطق الاستيراد والاستهلاك، وإنما هي «مشروع تاريخي كوني تبنيه الثقافات والمجتمعات من مادة/ مواد محلية، مستفيدة من خبرات الثقافات والمجتمعات كافة»[10]، كما قال بلقزيز في مقدمة مؤلفه. وكعادة استفتاحاته، فقد خصص مقدمة الكتاب لإيراد ملاحظات جوهرية، تجعل من التوقف عندها فريضة فلسفية؛ لا كفارة تقوم مقامها.

شكلت خاتمة مشروع العرب والحداثة، مناسبة لمواصلة التأمل في شكل حضور الذات لدى الغير، بالتحليل النقدي الاستشكالي لنقدها صورته حولها. إنه كتاب في نقد الثقافة الغربية؛ أو بالأحرى في تحليل ونقد تصورات الغرب (الآخر) حول الشرق (الذات) من خلال بسط رؤى وطروح الكثير من المشتغلين على ذلك في لحظات الإصلاح، والنهضة، والحداثة. إن الأعلام التي سيعمل بلقزيز على استنطاق أعمالها تحليلاً واستشكالاً ونقداً، لا تحركها أي نوازع انفعالية تجاه الغرب، ولا تهتجس في نقدها له بالمنافحة عن هووية ما، لا هي «بالمدّاحة» ولا هي بـ «الهجّاءة». وإنما انهمامها به يتصل بطلبها بيان قيمته كما حدوده، وبحث أوجه تميزه العلمي كما الوقوف على منزلقاته الأيديولوجية. الكتبَة في باب نقد الاستشراق والثقافة الغربية قرأةٌ متميزون لهذه الثقافة بمضامينها ومناهج عملها، ومنه ضرورة الاهتمام الفكري بمنجزهم النظري يؤكد عبد الإله بلقزيز. نقدةُ الثقافة الغربية، وبالإضافة إلى إعمالهم ملكة التفكير النقدي في استيهاماتها حول آخريها؛ فإن آثار الاستشراق عليهم بادية. إنهم لا يخفون إعجابهم بالمقدرة العلمية الهائلة للمستشرقين على التبحُّر في أرض العرب وثقافة أهلها، لكنهم، ورغم كل هذا، ما وقعوا في إسار التغربن الببّغاوي. لقد عكفوا على القراءة الفاحصة للمنجز الفكري والحضاري الكوني عامة، بيد أنهم ما اكتفوا بترديد أصوات، وطمْر أخرى كما فعل غيرهم؛ قدر ما انصرفوا إلى «النقد المسؤول»، ولو بتفاوت بيّنٍ – في درجاته ومستوياته – بينهم.

إننا، ونحن نقرأ لـ «جعيط بلقزيز» كما «أركونه وعرويّه» أساساً، نتبيّن معنى «القراءة العلمية» للاستشراق. ولعلّ العبارة التي ختم بها دراسته عن هشام جعيط؛ لأَبْيَن تعبير عن وجه تميز القراءات النقدية (العربية) للثقافة الغربية، إذ قال، إنها صادرة: «عن وجدان عربي (ومسلم)، وعقل أوروبي». إن هؤلاء يفكرون مع أوروبا ضد أوروبا: مع أوروبا الأنوار، والعقلانية، والتسامح، وضد أوروبا العنصرية، والأبوية المحافظة، في هذا يشترك كل من: أنور عبد الملك، وألبرت حوراني، ومحمد أركون، وسمير أمين، وعبد الله العروي، ومطاع صفدي، وإدوارد سعيد، وجورج قرم[11].

يتوقف مفكرنا، في الاستفتاح نفسه، على فكرة مؤدّها: اختلاط المعرفة بالأيديولوجيا في مشاريع الاستشراق والمركزية الغربية؛ مرجحاً كفة الأول على الثانية من جهة أنه: «معرفة تخالطها الإيديولوجيا»، عكس الثانية التي ليست إلا «إيديولوجيا تخالطها المعرفة»؛ وذاك وجه التمييز بين «الاستشراق» كميدان علمي له تقاليده ومقتضياته وخصائصه، والمركزية الأوروبية باعتبارها «نزعة ثقافية» تمييزية – بل قل عنصرية – لها تاريخها الخاص ومستوجباتها النظرية.

وعلى الرغم من ذهاب البعض إلى جعل الاستشراق «فرعاً من كل»، فإن بلقزيز يحرص على بيان الفروق بين الاثنين؛ مثنياً على الاستشراق، مشككاً في النزعات المغالية في تقدير «العبقرية الأوروبية» وحسبانها أمهر الخلق. ولهذا السبب، فإنه يرثي حال ما وصلت إليه الكتابات الغربية حول الإسلام منذ سبعينيات القرن الفائت، حاسباً إياه على «التاريخ التراجعي للاستشراق». بل إن تفاهته وانحطاطه، يدعوان إلى استثنائه من تاريخ الاستشراق كلية. «بهذا المعنى يكون ما بعد الاستشراق، ليس نهاية للاستشراق فحسب، بل نهاية دراماتيكية لكل معرفة علمية بعالم الإسلام في الثقافة الغربية المعاصرة» على حدّ تعبير نقد الثقافة الغربية[12].

وهو يستعيد كتابات سمير أمين وجورج قرم، كشف عن جملة من الأوهام العالقة بأزعومة «المعجزة الأوروبية». غير أنه، وهو ينجز فتحه هذا، ما كان منهمًّا – كما حال غيره من النقديين العرب – بخوض حرب ما حفاظاً على موقع هوياتي مزعوم، ولا طلباً لـ«جواز سفر» إلى قبلة تراثية مكينة. لقد كان العدل الفكري مطلبه الأساسي. غريب أمر أوروبا، تلك التي بنت حضارتها وعالميتها على أسس وجيهة اتصلت اتصالاً شديداً بالمعرفة، والاقتصاد، والسياسة، فإذا بها تقع في مطبات تسويغ منجزها بالاصطفاء الديني. أوروبا الأنوار التي بصمت على طلاق مشهود مع «السدة البابوية»، تعود للبحث في الجذور الدينية اليهودية والمسيحية، لتبرير زعم تفوقها الحضاري على غيرها من الأمم، غريب أمرُ من استفتحت «قيامتها»، بالاحتفاء بالإنسان وطمر «الأخرويات»، تبحث عن خلاصها في أسطورة «أرض المعاد» وما جاورها من «السماويات». يقول بلقزيز في هذا الصدد: «إن النزعة الثقافوية – آخر طبعات المركزية الأوروبية – لم تقدم إلى العالم عن أوروبا وغيرها أكثر من لغو أسطوري متخيّل جمّل نفسه، أحياناً، بنظريات العلم ومفرداته»[13]. ثقافوية مقيتة، نقدُها لدى بلقزيز ورفاق دربه، لا صلة تربطه بـ «النرجسيات المرضية»، التي جاد بها زمن أعجوبات الفضاء العربي والإسلامي المعاصرين. نقد الثقافوية، في مقام نقد الثقافة الغربية، شديد الانتساب إلى سلالة فكرية، ما تفتأ تعلن عن قلقها من إنزال «العامل الثقافي» منزلة عوامل التاريخ، والاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، يشترك في هذا بلقزيز مع العروي وسمير أمين وجورج قرم وغيرهم. ومن هنا، عدم استغراب تلك القراءات المغايرة، التي قدّمها هؤلاء لبعض اللحظات الفارقة في تاريخ أوروبا، كلحظة الإصلاح الديني، والنهضة الأوروبية، والحداثة، والأنوار. وهو ما سنروم تبيانه، بالتوقف عند بعضِ ما توقف عنده عبد الإله بلقزيز.

ثالثاً: الاستشراق في محكمة التاريخ

يحظى عبد الله العروي، بأهمية خاصة في مشروع بلقزيز بكامله، ومرد هذه الحظوة العلمية، صرامته في انحيازه المعرفي التاريخاني. الارتكان إلى الفكر التاريخي، مفيدٌ في نقد مزاعم الثقافويين، حسب بلقزيز دائماً. وهو ما ظهر جلياً، لمّا فحص مسوغات رفض العروي لتصور غرونباوم للتاريخ للسبب عينه، إذ عاب عليه منزعه الثقافوي، زيادة على نقد ما ينطوي عليه اختزاله التاريخ في «نظرية للتاريخ»، من اختزال للواقع في الثقافة، تُقال معه «حركية التاريخ وديناميته» لصالح تنصيب رؤية ثقافوية تستعيض عن التغير بالثبات، وعن منطق العلاقة، بمنطق الماهية. المستشرقون – غرونباوم تحديداً – لا تاريخيون حتى في تاريخيتهم، ما أراد أركون انتقادهم فيه، جرَّدهم العروي منه جملة وتفصيلاً. فبدلاً من التوجه إلى نقد «تأخرهم» عن ركب الفتوحات المنهجية المعاصرة في حقل الإنسانيات، وتشبثهم بالفيلولوجيا والتاريخ، ها هو العروي يبين حدود مفخرتهم التاريخية.

يثني بلقزيز على العروي كثيراً، فلعله وحده من تحرر بشكل لافت من التركيز على «الوجه الإيديولوجي» للاستشراق – وهو حقيقة لا غبار عليها طبعاً، كما يؤكد بلقزيز نفسه – لكن العروي انصرف عنه مسدداً له ضرباتٍ معرفيةً ومنهجيةً دونما أي انهمام بغيرهما، وإنها «لنزعته التحليلية التركيبية» التي برع فيها أيَّما براعة، من كانت عاملاً حاسماً في تميز مقاربته لنموذج فون غرونباوم، كما هو واضح من عرض بلقزيز لأظهر سماتها.

«وهكذا ينتهي التاريخ الوضعي مع المستشرقين إلى الصدام مع مقدماته المعرفية عند دراسة الإسلام، فيأخذ حريته في التحلل من الضوابط العلمية جانحاً للحدس والاستنتاج المجرد»[14]. غياب «وثائق محايدة» يمكن أن تمد المستشرق بمعطيات يبني عليها فرضياته واستنتاجاته، يقوده حتماً إلى هجران أرض التاريخ. الناتج من الأمر، إخفاق الاستشراق – أنى كانت موجهاته – في إنجاز قراءة تاريخية حقيقية للتاريخ العربي، وهو ما لا يقبله من جعل الفكر التاريخي خارطة طريق له: العروي كما بلقزيز، هما في هذه الجزئية سيّان.

إن العروي في قراءته لفون غرونباوم، ظل وفياً لرؤيته التاريخية، ولعلّ الإطلالة على الملاحظات الختامية التي ذكرها بلقزيز في نهاية الفصل المتعلق بالعروي، تبيّن الإمكانات الهائلة التي يتيحها لكل قراءة تتغيّا «مقاربة الإسلام كتاريخ أولاً، وثقافة ثانياً، وسلوك اجتماعي ثالثاً، وإيمان رابعاً»، دون التضحية بالتاريخ وقوانينه، ودون تضخيم أي عامل على حساب الآخر أيضاً.

يمثّل العروي أرقى لحظات المجابهة المعرفية مع الاستشراق، وقد أفاض بلقزيز في توضيح الأهمية التي تكتسيها المقاربات التاريخية، لفضح الثقافوية، لدى العروي أولاً، وسمير أمين ثانياً. ولأنه من الصعب تتبع التفاصيل الدقيقة كافة، التي يواجهنا بها بلقزيز في تناوله لهما، كما في تناوله لأطروحات غيرهما، فإننا نعد، بالتوجه رأساً، إلى ملاحظاته ومآخذه التي لا يمكن المرور عليها عبوراً دون التوقف عند منطوقها، كما فعلنا مع العروي نفسه. إذ يخيّل إلينا، أنه، وهو يستعرض نتاجهم النظري، يحبّر مقالة خاصة به بشأن نقد الثقافة الغربية، يتمم بها ما بدأه بخصوص نقد التراث، وييمّم بها وجهة أطروحته في الحداثة. فما الاستشراق عند بلقزيز؟ وفيمَ تتجلى أهمية الأبحاث التي عملت على نقده؟

في معرض مقاربته لأطروحة إدوارد سعيد، يتوقف عبد الإله بلقزيز عند معنى الاستشراق؛ مؤاخذاً سعيد على الخلط بينه (وبين) ما قبله، فما كلّ معرفة أوروبية باستشراقٍ. تعرفُ الأوروبيين على الشرق – العربي الإسلامي على وجه الخصوص – أكبر عمراً من «الاستشراق». للتمثيل يستحضر بلقزيز «يوحنا الدمشقي»، و«سلفستر دوساستي»؛ باعتبارهما علامة على الفروق بينهما، منتهياً إلى أن القرن التاسع عشر يمثل البداية الفعلية للاستشراق المؤسسي. والذي على الرغم من ارتباطه بالمؤسسة، كما بيّن بلقزيز في سياق مقاربته لأطروحتَي أنور عبد الملك، وإدوارد سعيد – وبدرجة أقل محمد أركون – فإنه لا يمكن التغاضي عن قيمته العلمية، وبخاصة في مجال «الإسلاميات» كما أوضح أركون نفسه. لقد عرف الاستشراق أزهى لحظاته المعرفية، في ظل اكتساح الكولونيالية للشرق، لكنه دخل أزمة أكيدة، بعد أن خفتَت علميته، ولمع جنونه الأيديولوجي. إن الاستشراق في أزمة، ومردّها عدم انتباهه لما يجري حوله من ثورة معرفية معاصرة في حقل المناهج وعدة القراءة، ذات الصلة بمستجدات البحث في مختلف الميادين، والمجالات، لقد أضحى غريباً عن عصره يخلص «أركون بلقزيز». ومما يزيد من محنه محكوميته بعوائق ثلاثة، أجملها في: نزعته المركزية، وتعميماته غير العلمية، وسطوة الأغراض الأيديولوجية على بعض أهله. ينبه بلقزيز إلى أهمية ما سجله أركون من ملاحظات حول «نهاية الاستشراق»، إنه عنده حفار قبره بيده، ليس فقط لصلته بالمؤسسة و«الطلب السياسي»، كما لحظ قرّاء آخرون، ولكن للخلل، الذي يكتنف منجز صِحابه. خلل اختصره «أركون» في خاصيتين أساسيتين لمناهج علمهم، وتتمثلان بتقليدية المناهج المعتمدة (الفيلولوجيا) أولاً، وقصورها لعدم انتباهها إلى أهمية مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة ثانياً، بحسب ما يورده نقد الثقافة الغربية.

اعتراف أركون بالريادة التأسيسة للاستشراق في حقل الإسلاميات أساساً، لم يمنعه من التناول النقدي له. إذ يورد بلقزيز بواعث برمه من تمسكهم بالتقليد التاريخي والفيلولوجي، والتي يسمها بسمات «السكونية»، و«الوصفية»، و«الخطية»، فيحول دون استشكال «المادة المعلوماتية» وتفكيكها، وزيادة على هذا، فإنه قد انتبه إلى ما يسكن هذا التقليد من هوس أيديولوجي، تترجمه «الأصولية التاريخانية» التي ترد الكل إلى أصل واحد: عنه تتفرع الفروع، كالاهتجاس الاستشراقي باعتبار النصوص الإسلامية، مجرد توابع للحضارة الإغريقية، أو«التوراة اليهودية»، أو «الهلينية المسيحية» فينتج منه ما أورده بلقزيز تحت مسمى «إعدام أصالة» هذه النصوص و«قتل تاريخيتها باسم التاريخ ذاته». يظل بلقزيز، وفياً لثالوثه الحداثي: التاريخية، والنقدية، والنسبية، وهو الثالوث عينه، الذي سيدفعه إلى الإشادة بعمل هشام جعيط حول «أوروبا والإسلام»، من جهة اتسامه بـ«التاريخية»، و«النقدية» تجاه الذات وهلوساتها النرجسية، كما تجاه الآخر وجنونه العدواني.

بمثل تلك التفاوتات على مستوى تاريخ الاستشراق، يذهب بلقزيز إلى أن تعرف الشرق على صورته في مرآة الغرب، يمكن رده إلى لحظات أساسية: انبهار، فحوار، تلمذة فنقد؛ مع التنبيه إلى أن المسألة لا صلة لها بأي تعاقب زمني، تنتهي فيه لحظة فتبدأ أخرى. فالانبهار والحوار، كما التلمذة والنقد، قد يتجاوران ويتساكنان في لحظة تاريخية بعينها؛ كما أنهما قد يتجسدان في اسم بعينه، يقطع أشواطاً يتحرك فيها بين الانبهار والحوار، وبين التلمذة والنقد[15]. غير أنه، ومع أنور عبد الملك، أساساً، ستعلن النزعة النقدية عن نهاية «الذهنية الانبهارية»، وترسيخ العقلية النقدية؛ التي ستدخل في حوار خلّاق مع نصوص المستشرقين ومناهجهم، فاحصين مجمل أطاريحهم، متوقفين عند المعرفي والإيديولوجي فيها.

هذه اللحظة النقدية المتفردة، اختار بلقزيز أميز الأسماء لاستجلاء حقيقتها في حقل الدراسات النقدية في الفكر المعاصر. وقد ميّز فيها بين نقد الاستشراق، ونقد المركزية الغربية. مثل للطائفة الأولى بأنور عبد الملك، وإدوارد سعيد، وهشام جعيط، ومحمد أركون، وعبد الله العروي، أما الطائفة الثانية؛ فقد ساق لنا عليها المفكريْن سمير أمين، وجورج قرم. وقد عمل بلقزيز على التمهيد لتناول أعمال هؤلاء بقسم – بلغت صفحاته 72 صفحة – قدّم فيه رؤية استشكالية تحليلية للعلاقة بين العرب والاستشراق، على امتداد تاريخ الإصلاحيين والنهضويين؛ فكان مناسبة لاستعراض بعض سمات القراءة العربية المتقدمة للمستشرقين كما هي ماثلة في أعمال فرح أنطون، وجرجي زيدان، وطه حسين، وأحمد أمين، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومصطفى عبد الرازق، وعبد الرحمن بدوي؛ والتي توزعت بين الشعور بالتفوق المعرفي للآخر، وتمكنه من امتلاك أسباب المعرفة بخبايا الذات، وبين استشعار الحاجة إلى مناظرته حينا، ومحاكاته أحياناً.

ينقلنا بلقزيز من لحظة فكرية إلى أخرى بسلاسة منهجية لافتة للانتباه. ينتقي عناوين لفصوله تسعف القارئ على التموقع في تاريخ الفكرة التي يعمل على مقاربتها، يضطرك إلى مرافقته من بداية الكتاب إلى نهايته، للإفادة المعرفية أولاً، وللذة اللغوية ثانياً. تتذوق أفكاره منتشياً بجمالية تعبيرية، تذكّرك بالزواج الأونطولوجي بين المبنى والمعنى كما تمثله نتشه وتلامذته من بعده، في سياق محاولة إصلاح ذات البين بين الفلسفة ومكبوتها الأبدي الأدبي. وإذا ما بحثنا عن خيط ناظم للكتاب من مفتتحه إلى منتهاه، فإننا سنلفي أنفسنا أمام ما أسماه أفاية توترات الأيديولوجي والمعرفي في كتابات المفكر عبد الإله بلقزيز، فما أظهر علامات ذلك؟ وكيف تأتى له أن يمايز بينهما دون الوقوع في إسار مسبقات الأحكام بشأنهما؟

رابعاً: الاستشراق وجدل المعرفي والأيديولوجي

بادٍ أن بلقزيز وهو يراجع حسابات القراء العرب في نقدهم للثقافة الغربية، كان حريصاً على تفلية نصوصهم لمعرفة التداخل المعرفي الأيديولوجي الذي حكم طروحهم؛ حتى أننا نزعم أن هذه الإشكالية، تكاد تسطو على مجمل دراسات الكتاب إن تصريحاً أو تلميحاً. وإذا ما مرّ معنا التطرق إلى تمييزه بين «المركزية الأوروبية» و«الاستشراق» من خلال جدل «المعرفة والإيديولوجيا»؛ فيلزم عنه وجوباً، إشارة عبد الإله بلقزيز إلى أن نقد إيديولوجيا المركزية الأوروبية، هو نقد يرتكن إلى منطلقات إيديولوجية نقيضة، كما يظهر من خلال عرضه لأطروحة سمير أمين أساساً، أما نقد الاستشراق فيمكن أن يكون كذلك، كما هو حال أنور عبد الملك، وإدوارد سعيد، لكنه ليس كذلك إجمالاً؛ لأنه قد يعتمد آليات معرفية وعلمية تنأى به عما اختصت به المركزية الأوروبية، وآي ذلك الدراسات المعرفية التي أنجزها جعيط، وأركون، والعروي لصورة الشرق في متخيّل الغرب.

ليس بمستغرب، والحال هذه، أن يذيّل بلقزيز دراسته عن أنور عبد الملك بملاحظات نقدية؛ ترتبط في معظمها بمحكومية النتائج المتوصل إليها بالمنطلقات الأيديولوجية لصاحبها، سواء تعلق الأمر في اهتجاسه بالعلاقة بين المعرفة والسلطة وعدم اعتباره لذاتية الباحثين المستشرقين، ومن ثمة معْيرته لهم أيديولوجيا، أو في ترجيحه كفة الاستشراق الاشتراكي على الاستشراق الكلاسيكي، إذ يعقب بلقزيز أن جدلية المعرفة والسلطة، لا تنطبق على الدراسات الكلاسكية حصراً، إنها تمتد لتشمل دراسات الاشتراكيين للشرق أيضاً.

حقيق بالتذكير أن حديث بلقزيز عن النقد الأيديولوجي، لا ينصاع إلى أي «مساومات نظرية» تطيح الأيديولوجيا، بمبررات الحياد والموضوعية. أي نعم، إنه بالإمكان، التمييز كلّ التمييز بين لغة طافحة بحسابات الأيديولوجيا، وبين لغة تلتزم أبجديات البحث، مقتصدة في الأحكام الدعائية، لكن، أَبالإمكان نفي إمكان تسلل «الإيديولوجي» في لغة غير لغته المألوفة، كما هو حال الوضعانية؟ هي من جملة تنبيهات بلقزيز، استقيناها من مناسبة بينها وبين موضوعنا أكثر من صلة قرابة[16]، ولعلّ أوضحها: إعادة التفكير في الروابط بين الأيديولوجي والمعرفي في نقد الثقافة الغربية، وعدم التحجج بأحدهما، في استبعاد نقيضه. فالمعرفي قد يسكن الأيديولوجي، مثما أن الأيديولوجي، قد لا تسلم منه المعرفة الخالصة، كما هو الأمر بالنسبة إلى العلم حسب آخر صيحات الفكر المعاصر.

بعد هذه البادئة، يطيب لنا أن نسم العلاقة بين المعرفة والإيديولوجيا في الفكر العربي المعاصر بـ «المُشْكَلة»، لاستعصائها عن كل تناول اختزالي إمي[17]، ولربما ذاك ما يمكن تحصيله بمطالعة فكر بلقزيز، فهو إذ يقر بـ «طابعهما التركيبي»، فإنه يشدد على وجوب قراءة العلاقة بينهما «قراءة تركيبية تتوسل مناهج وأدوات متعددة لفك الترابط في علاقاتها وإدراكها»[18]. خلاصة هذا الطرح: ليست الأيديولوجيا دوماً وعياً مقلوباً، ولا هي معرفة ناضجة برمَّتها. يكاد بلقزيز يقر أن في الأيديولوجيا من النّفس المعرفي، قدر ما فيها من التضليل والتمويه، وهذا راجع بالأساس إلى التداخل الذي تعبر عنه في جدلية المصلحة والحقيقة.

غير أنه، وهو يعي حقيقة التداخل بين الأيديولوجي والمعرفي في محراب نقد الثقافة الغربية، يوضح حدود القراءة العربية في رحاب الاستشراق بالأساس. يقول معلّقاً على الحاضر بغيابه حسن حنفي: «الأعم الأغلب مما كتب عن الاستشراق، ينتمي إلى السجال الإيديولوجي، وينبش تحت تراث النيّات والغايات باحثاً عن قرينة اتهام»[19]، يحسن بنا القول، أنه مقابل «صورة الشرق» في متخيّل الغربي، تشكّلت صورة منمّطة لـ«المستشرق» في الوعي العربي، إنه، سليل السيّاسي، الذي يريد السوء بـ«نا»، يستقوي عليها بسلاح المعرفة، لاختراقه فالسطوة عليه. عوض فحص نصوصه معرفياً، تنصرف زمرة من الباحثين إلى رجمه بالغيب، متربّصين بخلاصاته، للرمي بها في زنزانة العدو. غير أن بلقزيز، لا يسحب فكرته هاته على جميع من انشغل بنقد الغرب وثقافته، ولا يضع الجميع في سلّة واحدة، إذ لا مجال عند لإنزال النقديات الأصولية ذات المنطلقات الإسلامية، منزلة النقديات التحررية ذات الأفق الحداثي، لضيق رهانات الأولى، ورحابة الثانية.

يسجل بلقزيز أن المبالغة في ربط الاستشراق بالمؤسسة، كما أوضحها علم كبير مثل أنور عبد الملك، كان له أبلغ الأثر على اللاحقين عليه، مقراً أن إدوارد سعيد أميزهم في هذا الباب. إذ يعتبر سعيد هذه العلاقة إشكاليته الأثيرة. فعلْم الشرق لديه هو انخراط أوروبي واسع في سياسة استملاكه، وفهم الفرادة والتميز – أو قل الاختلاف والمغايرة – بالتبع إليه. إنه «خطاب سيطرة» كما يورد بلقزيز على لسان إدوارد سعيد، موضحاً بجلاء الخدمات المتبادلة بين الاستعمار والاستشراق، ومتوسعاً في حجج إدوارد سعيد لإثبات زعمه القائل بتاريخية الاستشراق وآصرات القرب بينه وبين السياسة الأوروبية، وصولاً إلى زمن الانحدار والسفه، بعد التحول الذي طال دراسة الشرق من المراكز البحثية المتخصصة، إلى أن أمسى بضاعة للخبراء غارقة في السطحية والابتذال كما هو حال برنار لويس في هزئه بآخرَيْه: المسلم والعربي.

المأخذ على إدوارد سعيد مأخذ أيديولوجي كما هو معرفي أيضاً. فعلاوة على عدم التمييز بين زمن تعرف الغرب على الشرق وزمن الاستشراق – كما أسلفنا الذكر – وعلى الاستغلال المشوَّه لأطروحة سعيد من لدن التيارات الأصولية والإسلاموية، فالظاهر أن بلقزيز لم يستسغ المقاربة التفاضلية التي انتهجها سعيد، وبخاصة إحجامه عن تناول الاستشراق الألماني، على الرغم من مسوغاته التي عبّر عنها بلقزيز بأمانة، إلا أن خشيته من أن «تتكون صورة نمطية – مقابلة – عن الاستشراق في الوعي العربي انطلاقاً من رواية إدوارد سعيد عنه، نظير الصورة النمطية عن الإسلام في الوعي الغربي»[20]، قادته إلى مؤاخذة سعيد على حصر رؤيته للاستشراق في المشروع الكولونيالي دون غيره.

يصر عبد الإله بلقزيز على التنبيه إلى التفاوت الثابت بين مختلف المقاربات النقدية للثقافة الغربية، وهو ما يترتب عنه وجوباً وجود اختلاف على مستوى الرؤية الغربية للشرق تاريخياً وجغرافياً وأيديولوجياً. فمن الناحية التاريخية، وإن تعلق «الاستشراق» بالمشروع الكولونيالي، فإن النيات الاستعمارية الواضحة في دراسته للشرق، لا تطمس جملة أهمية مبتكراته العلمية. ومن الناحية الجغرافية، فإن القيمة العلمية تتفاوت بتفاوت جغرافيات الشرق، فمقابل براعة الاستشراق الألماني في الاستنطاق المعرفي لصمت الشرق كما بوحه، فإن ارتباط المستشرقين الفرنسيين والإنكليز بالطموحات الاستعمارية لبلدانهم[21]، ضاعفت من الشكوك التي تتناول مشروعهم العلمي، فجعل النقدة العرب، يسائلون الأسس الأيديولوجية التي انبنت عليها أبحاثهم. أمّا في ما يتّصل بالتعالق الموجود بين «الشرق المستشرق» – بتعبير ادوارد سعيد – والأيديولوجيات العالمية، فإن بلقزيز، وبخاصة لمّا توقف عند «أزمة الاستشراق» لدى أنور عبد الملك، لفت الانتباه إلى الانتقال من «الاستشراق الكلاسيكي» الليبرالي المنشأ، وما أسماه أنور عبد الملك بـ»الاستشراق الجديد» الاشتراكي الملجأ، متوقفاً عند حدود نقد أنور عبد الملك للثاني، مقابل اشتداد حملته على الأول.

إن النقد الأيديولوجي نقد مشروع، لاتصاله الإيجابي بالوعي الاجتماعي والصراع القيمي؛ إذ إن مواجهة المركزية الأوروبية، تقوم أساساً على أيديولوجيا مخالفة، ترفض هيمنتها وسطوتها بالاهتداء بمرجعيات مختلفة ترتكز على العالمثالثية، والتحررية، وغيرهما. النقد الأيديولوجي نقد مشروع، لكنه غير كافٍ، ومنه ضرورة شد عضده بالقراءة المعرفية الرصينة، التي تتطلب عتاداً نظرياً محترماً، لا يخفي بلقزيز توافر «الحداثيين العرب» على شرطه؛ ومنه فهم تقديره الشديد لمختلف الأعلام التي توقف عندها بمختلف أجيالها، على الرغم من التفاوت – من الناحية النقدية – الذي يلحظه القارئ في قراءة عبد الإله بلقزيز لكل واحد منهم على حدة.

إن أنور عبد الملك على سبيل المثال لصاحب «دراسة تأسيسية» في حضرة بلقزيز، رغم ما أشرنا إليه سابقاً من منزع أيديولوجي لديه. ومسوغات ذلك عنده، تتصل بتدشينه لحظة التحرر مما دعاه «الوصاية العلمية» الاستشراقية، بتحريرها من الذهنية الانبهارية، والزجّ بها في معمعة العقلية الحوارية. متجاوزاً مماهاة الليبرالية العربية بين «الغرب السياسي» و«الغرب الثقافي»، منتقداً «الإرادة الأوروبية» ونزوعاتها الاستعمارية، فاضحاً أشكال سطوهم على تواريخ المستضعفين من الأمم والثقافات، باستباحة ذاكرتهم وماضيهم وحاضرهم. وبيّنٌ أن سابق القول مرتبط أيمَّا ارتباط بمرجعية فكرية وأيديولوجية اشتراكية تحررية، ومنه تقرير أنور عبد الملك أهمية الاستشراق الاشتراكي (الجديد) في تخطي عثرات الاستشراق الكلاسيكي: كولونيالياً كان، أم أكاديمياً، من ناحية نقد المركزية الأوروبية، وخدمته للغايات التحررية في نضالاتها ضد الإمبريالية، بالإضافة إلى العناية بمقصيات الاستشراق الكلاسيكي.

وإذا ما بدا أن دراسة إدوارد سعيد، لا تخرج في عموميتها عن البدء الأنوري، من ناحية إغراقها في الربط بين المعرفة والسلطة – تأثراً بأطروحة ميشيل فوكو في هذا الباب – بين الاستشراق والمشروع الكولونيالي، فإن بلقزيز يلحظ أن ما قد تقود إليه نقديات سعيد، هو ما قد تسعفنا دراسات العروي، وجعيط، وأركون في تفاديه. الثلاثة استملكوا التراث استملاكهم للمعارف الغربية ومناهج عملها. واعتنوا بالحوار المعرفي مع المستشرقين، أكثر من اعتنائهم بالمجادلة المحكومة بمراجعة «تنميط صورة الإسلام»، يشتركون في النقد المعرفي للاستشراق، ويختلفون في المساحة التي شغلها في مشاريعهم النظرية بدءاً، وفي مناهج مقاربتهم له تالياً، زيادة على اختلافهم في الرهانات الفكرية الناتجة عن نقدهم لأعلامه ثالثاً.

يثني بلقزيز على أعمال الثلاثة، من ناحية تخطيهم لعثرات سابقيهم، وبالأخص في مسألة تغليب المدارسة العلمية على غيرها. يقف الثلاثة على الأرض نفسها، التي ينطلق منها المستشرقون، يصورن ولائمه، كما مآتمه، دون أدنى شعور بأن لهم غاية هووية ما، فهم الذين يشهد لهم بنقد التراث بشراسة لا تقل عن شراستهم في نقد الآخر، ولعله هو السبب الذي جعلهم محط نقد شديد حدّ التهجم من طرف الفريقين: التراثويون، كما الغربويون[22].

يبدو أن استنكاف بلقزيز من «التضخم الإيديولوجي» في قراءات بعض العرب للثقافة الغربية، لا يعادله غير امتعاضه المعلن من مآلات الاستشراق حاليا، كما تعبّر عنها موضة «الإسلاموفوبيا». والرجوع إلى «متخيّل الغرب» كما طرقه «هشام جعيط»، و«سمير أمين»، و«جورج قرم»، كفيل بتبين حدة الانحدار المعرفي للاسشراق. حلّت «الضحالة» محل «التبحر الاستشراقي» للقرن التاسع عشر. وهكذا انتهي بلقزيز إلى القول أن أركون نعى الاستشراق معرفياً، بعد أن نعاه أنور عبد الملك، وإدوارد سعيد أيديولوجياً[23]. فإلى أي حدّ يمكن الحديث عن هكذا «نهاية مأتمية»، والاستشراق القرآني ما يزال نبعاً لم ينضب كرمُه المعرفيّ بعد؟ وبخاصة من حيث حيازة «رصيد ثرٍّ» من المخطوطات والآثار؟

على سبيل الختم

بدأناها بنارسيس، وبه نبدأ الختم. أحبّته «إيكو» حبّاً جمّاً، ماتت من شدة ولهها به، ومات من شدّة ولهه بنفسه. وكما هو حال شهرزاد، فقد كانت «إيكو» حكّاءة بارعة، لا يشق لمجلسها هجران. لسان «شهرزاد» قربان موت ظلّه ما فارق بنات حوْمتها، أما لسان «إيكو»، ولأنه أظل «هيرا» عن طريق تحقيقها في ملاحقة «زوس» للحوريّات، فإن سلبها إياه عقابها. أضحت جسداً بلا صوت، فما عادت تتذكّر إلا رجع صدى الكلمات الأخيرة التي ينطق بها الآخرون في الجبال والمهاوي السحيقة، وهو أصل الصدى الذي يرتدّ إلى صحْبه في عديد الأماكن.

إنْ كان نارسيس من حكم متخيّل الغرب حول العرب، أليست «إيكو» هي من يحكم قراءة العرب لمتخيّل الغرب حولهم؟ أما زال في مُكنتنا بعد هذه «المقالة البلقزيزية»، الظن أن نقد الثقافة الغربية هو في آخر المطاف رجع صدى للعربيّ المثخن بجراح الهوية، وحراب الآخر؟ ألم يحن الوقت بعد، للنظر في المعرفة ومناهجها بعيداً من هذا التقابل الميتافيزيقي: شرق – غرب/أنا – آخر؟ أو ليست المناداة
بـ «الاستغراب» صيحة صامتة لـ «إيكو» المقطوع لسانها: رجع صدى عميق، بسبب محكوميتها في نهاية المطاف، بتقابلات موهومة بين عنصرين، أثبتت الوقائع أنهما ليسا بذاك الاحتدام الضدّي المتخيّل؟.

 

قد يهمكم أيضاً  الرهانات النظرية للدولة، السلطة والشرعية في كتابات عبد الإله بلقزيز

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الثقافة_الغربية #الحداثة #الحداثيين #الفلسفة_العربية_المعاصرة #الفلسفة_العربية #العدل_الفكري #الاستشراق #المعرفة #عبد_الإله_بلقزيز