بعد قرابة ثمانية عقود على تأسيس جامعة الدول العربية، والإقرار شبه الشامل من جانب العرب، نخبًا وقياداتٍ سياسيةً وجمهورًا، بعجز هذه المؤسسة عن الإيفاء بما نص عليه ميثاقها ومعاهداتها وبروتوكولاتها، تجاه تحقيق التكامل وحماية الأمن القومي العربي، بات من المحتم إعادة النظر بنظمها وهياكلها بما يحقق الأهداف الرئيسية التي نص عليها ميثاقها.

لقد تأسست – منذ الإعلان عن قيام جامعة الدول العربية – عشرات المنظمات الدولية والإقليمية، تمكَّنت من تحقيق جزء كبير من أهداف تأسيسها، بينما تعثرت جامعة الدول العربية، وبدلًا من التقدم أصبح الخط البياني لسير العمل العربي المشترك يتجه باستمرار إلى الأسفل.

وليس من شك في أن التدخلات الخارجية في الأوضاع العربية، وأجندات التفتيت، ما كان يمكنها أن تحقق أهدافها لولا البيئة الرخوة في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية. إن الأزمات الحادة التي عانتها معظم الأقطار العربية، والعجز عن مقابلة استحقاقات الناس، كانت باستمرار قنابل محلية موقوتة، أدت إلى المآلات التي انتهت إليها أوضاع الأمة، وبخاصة منذ بداية العشرية الثانية لهذا القرن.

ولا يكفي في هذا السياق تحميل الأنظمة العربية مسؤولية العجز عن الارتقاء لمستوى المسؤولية، بل ينبغي أن يتجه إلى ما هو أعمق من ذلك كثيرًا.

لقد توقع كثيرون أن يؤدي انطلاق الحركة الاحتجاجية قبل عشر سنوات، في عدد من الأقطار العربية، إلى عبور برزخ الاستكانة والمهانة والخوف والقبول بالأمر الواقع، وأن تسهم في صناعة فجر عربي جديد يحقق النهضة العربية، ويؤدي إلى تصليب الثوابت القومية. وقد غيبت هذه النظرة أن الثورات السياسية الكبرى، كما أثبتتها التجارب التاريخية، ليست مجرد انتقال في مراكز المصالح، بل هي نتاج تراكم سياسي وتغيير في البنى والتقاليد والهياكل بحيث تتجانس جميعها مع مطالب التغيير.

واقع الحال، أن معظم المثقفين والكتّاب العرب، الذين وقفوا إلى جانب الحركة الاحتجاجية، نظروا إلى تلك الأحداث بما كانوا يأملونه ويحلمون به، وفي ضوء بعض ما يطفو على السطح وليس من خلال القراءة الدقيقة للواقع العربي.

لقد تم النظر إلى هذا الواقع العربي بمجمله ككتلة هلامية تحركها عواصف التغيير ضمن أنساق وتراتبية محددة، وفي أحسن الحالات، تم النظر إلى الوطن العربي بوصفه نسقًا متجانسًا يتحول بذات الكيفية والإيقاع، وذلك أمر لا يتسق مع الحقائق العلمية أو التجربة التاريخية.

فمثل هذه الرؤية تغيِّب حقيقة أن التاريخ لا يعيد نفسه، كما تغيِّب أهم قوانين الجدل التي تربط بين الوحدة والتضادّ وتأثير الفعل التراكمي والنضالي في صناعة التاريخ. وقد أثبتت الأحداث اللاحقة أن «ربيع العرب» بات خريفًا معتمًا أسهم في تشطير وتدمير عدد من الأقطار العربية وإشعال حروب أهلية بها.

وقد تعقَّدت الأمور أكثر فأكثر بعد التدخلات الدولية الفاقعة والمباشرة في الشؤون العربية، فأسهمت في تصاعد مخاطر تشظي وتفكك كيانية الأقطار العربية. إن ذلك يتطلب ارتقاء الجميع فوق النزعات الفئوية والمصالح الضيقة، وأن يجري العمل على تغليب الوحدة الوطنية. في أماكن أخرى من الوطن العربي يُخشى أن تؤدي حالة الاحتراب إلى التسعير الطائفي وتفتيت اللُحمة المجتمعية بين أبناء الوطن الواحد.

أمام العمل العربي المشترك مهمتان رئيستان لا تنفصلان. الأولى هي تصحيح المسار السياسي الداخلي لمعظم البلدان العربية، انطلاقًا من التسليم بالقول المأثور «العقل السليم في الجسم السليم». وعلى هذا الأساس، فإن شرط نجاح العمل العربي المشترك هو قدرته على تحقيق التكامل بين الأقطار العربية في مختلف الصعد، وبوجه خاص في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية. والثانية، هي البناء بصيغة التراكم أحيانًا، والوثبات النوعية في أحيان أخرى، نحو تحقيق المشروع الوحدوي العربي المنشود.

إن أي صوغ عملي في اتجاه تعضيد العمل العربي المشترك ينبغي أن ينطلق من الاعتراف بالواقع القائم، لا بتجاوزه، والعمل من خلاله على تحسين صورة المستقبل. وهذا الواقع يشير إلى أن الكيانات القطرية العربية باتت أمرًا متحققًا لا يمكن إلغاؤه والتنكُّر له، فلقد ترسخت بعض هذه الكيانات لأكثر من سبعين عامًا وأصبحت لها ركائزها الثقافية والفكرية والنفسية.

ولهذا فإن العمل العربي المشترك في بنيتيه الرسمية والشعبية، إذا ما أريد له أن يتجه إلى الأعلى، فإن عليه في الوقت الذي يلتزم فيه برؤى وثوابت قومية أن يأخذ في الحسبان ما تجذر على الأرض من اعتبارات وطنية محلية، معممًا ثقافة جديدة وعميقة خلاصتها أن العمل القومي ليس تعارضًا مع الولاء والإخلاص للتراب والانتماء الوطني، إنما إنقاذ وترسيخ لهما، حين يوضع الجزء في مكانه الصحيح من الكل، وحيث يستطيع القطر العربي الواحد، أيًا كان موقعه على الخريطة السياسية والجغرافية، أن يكون فاعلًا ومؤثرًا ضمن مجموعة أقطار عربية فاعلة ومؤثرة. ومن دون ذلك تبقى جميع الأجزاء العربية مريضة ومشلولة، وتستمر حالة التخلف الراهنة من دون معالجة، وتغدو كل محاولات الخروج من مأزق التخلف الراهن عبثًا لا طائل من ورائه.

إن خيار التضامن العربي والتكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي بين الأقطار العربية، على قاعدة الالتزام بالثوابت القومية، هو وحده الطريق لكي نكون جزءًا فاعلًا في عالم فوّار يتحرك من حولنا بسرعة، وفي ظل وضع دولي يتجه بثبات وقوة نحو صناعة تكتلات سياسية واقتصادية كبرى، وهو وحده سبيلنا لمواجهة الأخطار المحدقة بالأمن والوجود العربيين من كل مكان. فلا يعقل أبدًا أن تتجه الأقطار العربية إلى عضوية منظمات دولية، أيًا كان شأنها، وأن تغلِّب هذه العضوية على مصالحها وعلاقاتها العربية وأمنها المشترك. وإذا كان من الضروري الالتحاق بالمنظمات الكونية، فإن من البديهي، قبل الإيفاء بالشروط والمتطلبات التي يفترض تأديتها ثمنًا لنيل العضوية فيها، أن يجري التنسيق والتخطيط وضمان المصالح المشتركة بين العرب أنفسهم أولًا، وقبل أن يلتحقوا بمنظومات الكوكبة، من دون إلغاء لأحد. المطلوب هو التسامي فوق المصالح الفردية والأنانية، والعمل على ما يعزز ويقوّي جميع الأجزاء من خلال وضع الجزء في مكانه الصحيح من الكل، والتمسك بالثوابت القومية وفي مقدمها قضية فلسطين بوصفها القضية العربية المركزية.

وينبغي أيضًا، التنبه إلى أن أحد أسباب الخلل في العلاقات العربية هو أن المطالب الرئيسية للشعوب قد جرى إما تجاهلها عن عمد من جانب الحكام وإما الالتفاف عليها، أو أن بعضها قد جرى تبنّيه في صورة مبتورة، فجاءت النتائج غريبة ومشوهة وزائفة.

إن صوغ مشروعات المستقبل العربية، وبضمنها العلاقات بين العرب أنفسهم، ينبغي أن تركز على مختلف الأهداف التي تمكن من تجاوز أخطاء التعاقب والانفصال، وأن تؤكد أهمية التلازم والتلاحم بينها. إن تبنّي سياسات داخلية مختلفة ومتباينة بين الأنظمة العربية، وتحديد أولويات استراتيجية تبدو متعارضة بين مصالح أقطارها قد عكس نفسه في تعميق شقة الخلافات وإثارة النعرات والتطاحن.

نقطة البداية في إصلاح النظام العربي هي أن يتجه إلى ما ينفع الناس، فذلك وحده الذي «يمكث في الأرض»، بحيث يصبح الإيمان بالوحدة ليس مجرد توق معنوي إلى تاريخ وثقافة وتواصل، بل ضرورة حضارية للعرب إذا رغبوا في أن يأخذوا مكانهم بجدارة في مسيرة التطور الإنساني الصاعدة. إن جملة من التغييرات الجوهرية مطلوب إحداثها على نحوٍ مُلحّ في العلاقات العربية – العربية، يأتي في المقدمة منها إنجاز الإصلاح السياسي داخل الأقطار العربية، وبما يضمن تحقيق العدالة بشقَّيها السياسي والاجتماعي، وسيادة دولة القانون تجنبًا للأعاصير والبراكين، وإيجاد علاقات مستديمة بين العرب قادرة على الصمود، وغير خاضعة للتقلبات السياسية المحلية ولا لهوى الحكام، تأخذ في الحسبان التكافؤ والتبادلية والمصالح المشتركة، وبما يحقق التقدم والازدهار لشعوب الأمة جمعاء.

 

قد يهمكم أيضاً  إشكالية التاريخ العبء والتاريخ الحافز عربياً

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #جامعة_الدول_العربية #الأنظمة_العربية #الشعوب_العربية #العمل_العربي_المشترك #آثار_الربيع_العربي #الخريف_العربي #الأقطار_العربية