سأحاول، في هذه المقالة، الاقتراب مما كتبه عبد الإله بلقزيز حول الدولة والسلطة والشرعية، منطلقاً في ذلك من مجموعة كتب عمل فيها، بصيغ وسياقات متفاوتة ومختلفة، على البناء التدريجي لتصوره لهذه المفاهيم. وسأقوم بذلك، اعتماداً على متنه الغزير، من خلال استحضار بعض مظاهر التوتر الفكري الظاهر بين ما هو أيديولوجي وما هو معرفي في كتابات بلقزيز حول هذه الموضوعات.

ومنذ مؤلفه الأول حول الأمن القومي العربي إلى الدولة والسلطة والشرعية، والدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي مسار فكري نحت فيه عبد الإله بلقزيز أسلوباً في الكتابة السياسية العربية، وصاغ أسئلة لمست أغلب موضوعات الفكر العربي، وغامر باقتراح مصطلحات ومفاهيم أراد من خلالها – الأسلوب والصياغة والاقتراح – تجذير النظر النقدي في سياق يعرف أن المؤمنين «بحاجة الوعي العربي إلى النقد والمراجعة قلة في مجتمع عربي مسكون بفكرة الحقيقة ومصاب بالكسل المعرفي»‏[1].

أولاً: ما بين الأيديولوجي والمعرفي من تداخل

في مقدمة كتاب تكوين المجال السياسي الإسلامي، النبوة والسياسة، يعلن بلقزيز أن فكرة تأليف هذا الكتاب خامرته منذ عقدين من الزمن وفي وعيه اهتمامه الشديد «في سنوات الثمانينيات – بمسألة الدولة – وبما كتب في الموضوع في الفكر الإنساني عامة»‏[2] كما أكد في مقدمة كتاب الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر على انشغاله بعلاقة «الديني والسياسي في وعي النخب الفكرية الإسلامية الحديثة والمعاصرة، وهي المسألة التي كثفتها نظرياً استحالة الدولة في ذلك الوعي، والتي ستصبح… نقطة انعقاد كافة القضايا والمعضلات المتصلة بمسائل الاجتماع السياسي والاجتماع الديني في مجتمعات العالمين العربي والإسلامي»‏[3]؛ غير أنه لا يتردد في الكشف عن مرارة عميقة بسبب ما يكتب حول هذا الموضوع، من حيث ضحالة المقاربات وخفة المعالجات، واستسهال الأحكام، وغلبة مختلف تعبيرات التحزب. غزارة لامتوقفة من الكتابات حول السياسة، «لكنها تعاني من فقر معرفي مريع، ونوعية في منتهى السطحية، بل وليس تفصيـلاً أن ينصرف سائر أصناف المثقفين إلى الانشغال بالمسألة السياسية في ما فكروا فيه وحرروه: المفكرون المنتجون لمعارف نظرية (فلسفية) – الفقهاء ورجال الدين، الدعاة، المؤرخون، رجال السياسة، والدولة، مدونو الرحلات… إلخ. وفي سياق ذلك «التضخم السياسوي» في الفكر، خرجت المسألة السياسية عن سياقها النظري الطبيعي: علم السياسة، وباتت «شأناً عامّاً» يستطيعه كل كاتب»‏[4].

يستثني عبد الإله بلقزيز من هذا الحكم العام ما أنتجه الإصلاحيون من نصوص ومصنفات في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لأنها «احتازت ماهية فكرية ذات اعتبار، فإن البواقي مما ضخَّته آلة النشر منذ سبعين عاماً، ليس له من نصاب الفكر السياسي كبير مقام إلا درراً يتيمة لم يعدمها تاريخنا الفكري على كل حال»‏[5]. تولد عن هذا «التضخم السياسوي» ما هو أخطر، حسب بلقزيز، يتجلى في «إنتاج لغو أيديولوجي»‏[6]، بل إنه يرى أن الفكر الإسلامي الحديث سواء تناول أمور السياسة وقضايا الدولة، أو غيرها، فإنه في جوهره «فكر تراجعي نكوصي»‏[7].

أملى الانشغال بسؤال الدولة، في سياق «الفكر السياسي»، على بلقزيز توسيع دائرة البحث في المفاهيم والقضايا السياسية، من قبيل «المجال السياسي العربي» في كتابه السلطة والمعارضة، المجال السياسي العربي المعاصر، الذي أراده دعوة إلى «التأمل النقدي في حركة تكون المجال السياسي العربي وتطوره»‏[8]، أو موضوع «الإصلاح السياسي والديمقراطية»،‏[9] أو «الديمقراطية والمجتمع المدني»‏[10] أو «الدولة والمجتمع»‏[11]، أو «العنف»‏[12]، إلى مصنفه الأخير حول «الدولة، السلطة والشرعية»‏[13]. وقد حرص، في هذه الكتب، على استلهام المستندات النظرية لـ«علم السياسة»، و«علم الاجتماع السياسي»، و«التاريخ»، و«تاريخ الفكر»، وذلك كما يقول لـ«صون الحد الأدنى من تقاليد اللغة النظرية من دون أن تفرط في حقها المشروع في بعض النقد الأيديولوجي الذي تحمل عليه الضرورة أحياناً»‏[14]. وما يشدد عليه في كتاب الدولة والمجتمع من دعوة يبدو أنه ينسحب على كل الكتابات الأخرى، من حيث إلحاحه على «تفكير حقيقي في مسألة الدولة على الأصول النظرية، والارتفاع من مستوى كلام العموميات السائب، والكف عن الثرثرة الأيديولوجية في مسائل الاجتماع السياسي»‏[15].

وبين النزوع المعلن إلى استبعاد كل أشكال «اللغو الأيديولوجي» أو «الثرثرة الأيديولوجية» وبين «الحق المشروع في بعض النقد الأيديولوجي» هناك فارق فكري ونظري يحاول بلقزيز تحديد إطاره من خلال اقتراح صياغة خاصة لمفهوم الأيديولوجيا. ففي سياق تعريفه لبعض المصطلحات مثل الفكر والخطاب الأيديولوجي لتعيين دلالاتها والفروق بينها، يحدد الفكر باعتباره منظومة «من المعارف مبناها على التماسك النظري والتأسيس المنهجي والخطاب، منظومة من الرسائل الأيديولوجية الموجهة لأداء أغراض اجتماعية»‏[16]، وأما الأيديولوجيا فهي «منظومة من التصورات والرؤى والتمثلات للواقع القائم ولما ينبغي أن يصير عليه، تحكمها مصالح وتوجهها نحو أهداف بعينها… وليست الحقيقة مما يؤسس الأيديولوجيا أو مما يقع في نطاق أهدافها وإنما المصلحة المرتجى تحقيقها»‏[17].

اعتباراً لهذا التحديد يرى بلقزيز أن الأيديولوجيا لا يمكن اعتبارها «وعياً مغلوطاً»، كما هو شائع، وإنما هي، ولا سيّما في منطلقاتها السياسية وأهدافها، «شكل من الوعي الإنساني والتاريخي مشروع»‏[18]. وتنهض مشروعيتها بموجب كونها «تعبر عن مصلحة موضوعية لجماعة اجتماعية (أمة، شعب، طبقة، فئة، نخبة…) في مرحلة من تاريخها»‏[19]. لذلك لا مجال لمقاربة القضايا السياسية والاجتماعية بادعاء التزام أي نوع من «الحياد العلمي» أو «التحرر التام من الخلفيات والمقاصد التي تحرك صاحب المقاربة»‏[20].

ولعل الحديث عن الأيديولوجيا يفترض، ضرورة، استدعاء مختلف أشكال التداخل، والتباين، والتوتر بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي في حقول المعرفة الإنسانية، التي تخضع لمقاييس النسبية مهما كانت ادعاءاتها بالتزام الموضوعية، كما تستدعي التأكيد، في نظر بلقزيز، أن «الأيديولوجي ليس قرين نمط من المعرفة فحسب ينظر إليه عادة بوصفه غير موضوعي، بل هو، أيضاً، قرين ما هو اجتماعي. لذلك فهو حامل لمبدأ لا يقل مشروعية عن مبدأ الموضوعية هو مبدأ المصلحة»‏[21].

كون التفكير في الموضوعات لا يحركه دافع الوصول إلى الحقيقة أو النزوع إلى إدراك وفهم الموجودات والكشف عن الغامض والمتستر فيها فحسب، وإنما تحرك الذات المفكرة في هذه الموضوعات والأشياء اعتبارات تعود إلى «الحاجة والمصلحة أيضاً»، لذلك يؤكد بلقزيز أنه «في كل أيديولوجيا ومهما غالت في انغماسها المجتمعي، قدراً من المعرفة والبناء المعرفي ليس يمكن الإغضاء عنه»‏[22]. غير أنها إذا كانت تعبيراً عن «شكل من أشكال الوعي بالعالم والأشياء» فهي تنتج تمثلات للظواهر تحكمها «قواعد غير قواعد الحقيقة والزيف، الصواب والخطأ، الصدق والكذب، في الأيديولوجيا لا نبحث عن مقدار الحقيقة فيها، وإنما عن مقدار ما تحمله من إمكان اجتماعي»‏[23]. غير أن بلقزيز يرى مع ذلك، أن للأيديولوجيا مساوئها كلما تحولت إلى «عقيدة جامدة وإلى حقائق يقينية مطلقة»‏[24].

هكذا إذاً تتقدم الأيديولوجيا باعتبارها منظومة تصورات وتمثلات، و«شكـلاً من أشكال الوعي بالعالم»، ولا يمكن نعتها بأنها وعي مغلوط، لأنها تختزن بقدر ما تنتج قدراً من المعرفة، تتغيا تحقيق مصالح والاستجابة لأهداف ذات أبعاد اجتماعية؛ ولذلك لا تقاس صدقيتها بما يتلاءم مع شروط البحث عن الحقيقة وإنما تقاس بما يعتمل داخلها من «إمكان اجتماعي».

ويبدو أن التحديدات التي حرص بلقزيز على صياغتها لتعيين الحمولات الدلالية للفكر والخطاب والأيديولوجيا تحضر، بأشكال مختلفة ومتفاوتة التعبيرات، في ثنايا الكتب «النظرية» التي كتبها في موضوعات الدولة، و«المجال السياسي» والسلطة، والنظام السياسي والشرعية والمجتمع المدني، والديمقراطية والعنف.

1 – الوعي بالفارق النظري بين الدولة والسلطة

ينطلق عبد الإله بلقزيز، في خوضه غمار التنظير لمسألة الدولة، من ملاحظة مفادها أنه على الرغم من ارتهان الفكر العربي المعاصر للسياسة والتضخم الخطابي الكبير حول القضايا السياسية، فإن ما هو نوعي فيه ضئيل جداً، وما يستحق الاعتبار النظري في موضوع الدولة نادر جدّاً، يدخل ضمن ما أنتجه عبد الله العروي، ورضوان السيد، وبرهان غليون، وغسان سلامة، وخلدون النقيب. هكذا وجد نفسه مطالباً بإنجاز ما أسماه «تفكير حقيقي في مسألة الدولة على الأصول النظرية»، ومن تشخيص لا يخلو من تبرُّم مما أنتج حول علاقات الدولة بالدين، والمجتمع المدني، وحقوق المواطنة، والاقتصاد بحكم أن «معظم المكتوب والمتداول ليس يرقى إلى مستوى الإنتاج الفكري بسبب فقر محتواه المعرفي، وضعف خلفيته النظرية وفقر قاموسه المفاهيمي، وافتقاده إلى الاتساق المنطقي والمنظومية، وانتقائية موضوعاته ومشكلاته، ثم الطابع السياسوي الغالب عليه معطوفاً على لغة وصفية ذات نفَس صحافي تطغى عليه»‏[25].

ولعل ما ينطبق على ما ينتج حول الدولة من أعمال وكتابات ينسحب، أيضاً، على قضايا سياسية من قبيل المجتمع المدني، والحرية، وحقوق الإنسان، «مرد ذلك إلى غياب معرفة نظرية بمسألة الدولة»‏[26]؛ وما هو متوفر من كتابات حول الدولة يتميز بطغيان السجالات الأيديولوجية أكثر مما ينتج معرفة ببنيات مؤسسات وأنماط اشتغال الدولة، ذلك ما ولَّد «خلطاً مفاهيمياً» و«تخبطاً إشكالياً» في التصورات والمعالجات.

لا شك في أنه لا مجال لاختزال النظر إلى الدولة من زاوية واحدة، أو ادعاء فهمها في كليتها، اعتماداً على تخصص واحد؛ فالنظر إليها يختلف باختلاف العدة المنهجية التي نعبئ، وتعامل المؤرخ يتميز عن رؤية الفيلسوف، أو عالم الاجتماع، أو رجل القانون، أو الخبير في الاستراتيجيا، أو رجل الدولة؛ وهذا التنوع مفهوم ومطلوب في مختلف آليات اشتغال الدولة وفي «مواردها الاجتماعية والسياسية والثقافية، ونظم اشتغالها الأيديولوجية والأمنية، ودور الدين في بنائها أو في تأزمها، ناهيك بمسائل شديدة الاتصال مثل أدوار النخب والطبقات الاجتماعية (الطبقة الوسطى خاصة) ودور العوامل الاقتصادية والعوامل الخارجية..»‏[27].

وعلى الرغم من تبرّم بلقزيز من فقر المنتوج النظري العربي حول الدولة – باستثناء أعمال بعض المفكرين القلائل – وهيمنة «الثرثرة الأيديولوجية» في قضايا السياسة، فإنه لا يدّعي «تقديم رؤية نظرية إلى مسألة الدولة»‏[28]. لا شك في أن انشغاله بهذا الموضوع يتجاوز أكثر من عقدين، ونجد تعبيرات هذا الانشغال في فصول وثنايا أكثر من كتاب، لكن يبدو أن تحليله لمختلف مكونات «المجال السياسي العربي»، ابتداءً من السلطة والمعارضة أو الدولة والسلطة والشرعية مروراً بلحظة نظرية بارزة تتمثل في الدولة والمجتمع، تبلور – هذا التحليل – بشكل متدرج وتكاملي بين هذه الكتب كافة. لقد أقرَّ في الدولة والمجتمع بأنه سعى إلى «تقديم بعض المداخل الفكرية والمفاهيمية إلى بناء تلك الرؤية»‏[29]، لكنه قام بتعزيزها ببعض الرافعات النظرية في «الدولة والسلطة الشرعية»، وهو من أجل صياغة عناصر هذه الرؤية المتوخاة ينتقل، بسلاسة لافتة، من العام إلى الخاص، ومن الكلي إلى الجزئي؛ يصوغ المبدأ العام ويقيسه بالتجارب الخاصة، من خلال استعراض أشكال الخصاص السياسي في بنيان الدولة، عربياً، لكنه في نفس الآن، يُشخص وضعيتها حسب كل مختبر سياسي عربي على حدة. وهو في كل مرة تجده ينبه إلى أن الدولة ليست هي السلطة، وبأنه لا بد من رفع الالتباس البنيوي الذي يسكن نظرة من يكتب عن الموضوع، أو يجادل حوله؛ إذ غالباً ما نعثر على مماهاة مفهومية للمصطلحين، ويعتبر أن ثمة التباساً شديداً في استعمال مفهومَي الدولة والسلطة في الخطاب السياسي العربي تنسحب مفاعيله على مجمل المجال التداولي. «يرقى الالتباس أحياناً إلى مستوى الخلط والمرادفة»‏[30]. والحال أن النظرية السياسية، سواء اندرجت ضمن «الفكر السياسي» أو «علم السياسة» أو «علم الاجتماع السياسي» أو التنظيم المؤسسي، لا تقبل بهذا الخلط الرائج في الكتابات العربية، فالدولة تحيل على «البنى والمؤسسات، وتتحرك السلطة في حقل الممارسات». و«الدولة تعبير عن تناقضات البنية الاجتماعية وتمثيل مكثف لتوازناتها، أما السلطة فتعبير عن مصالح يعتبر أو نخبة حاكمة أو فريق سياسي – أو تحالف بين تكتلات سياسية – في المجتمع. الدولة نصاب متعالٍ لا تلامس ترنسنداليته تفاصيل الاجتماعي وتناقضاته العينية، والسلطة نصاب سياسي متعين يتصل بمصالح طبقية أو فئوية أو سياسية ملموسة متعلقة بقوى في المجتمع معيّنة»‏[31].

ثانياً: الدولة اختراع إنساني تاريخي

ينطلق بلقزيز، في تصوره للدولة، من قناعة ثابتة تقضي بأن الدولة «ربما» كانت «أعظم اختراع إنساني في التاريخ»‏[32]. تتداخل في هذه الجملة ما يعود إلى ما ينعته بلقزيز بـ «تقرير حقيقة موضوعية وتاريخية» بما يشبه القناعة المشفوعة بحكم قيمة، حتى ولو أدخل قسطاً من النسبية على هذه القناعة، وتتمثل خلفية هذا التقرير الكثيف الدلالة في اعتبار الدولة عماد المجتمعات من حيث كونها تعمل على تنظيمها وترتيب ظروف الحياة فيها، وتضمن أمن وسلامة من هم تحت مسؤوليتها، فقد «نهضت الدولة بدور تهذيب سلوك الجماعات وترشيده وضبط انفلاتاته التي ينجم عنها عدوان على الآخرين»‏[33]. ويتجلى الهدف الأسمى للدولة في توفير شروط استقرار الحياة السياسية، وحماية المجتمع من أسباب الفتنة والانقسام. لذلك «كانت الدولة ثورة في تاريخ المجتمع بمقدار ما كانت تأسيساً جديداً لمعنى المجتمع ولوجوده التاريخي ككيانية اجتماعية جديدة مسيطرة على ذاتها ومقررة لمصيرها»‏[34].

ونظراً إلى هذه الأهمية الاستثنائية للدولة في التاريخ وفي نشأة وتنظيم وتطور المجتمعات، فإن التفكير فيها وفهم بنياتها وآليات اشتغالها يستلزم استدعاء المقتضيات النظرية والمفاهيم المناسبة لتحقيق شروط فهمها، لذلك قام عبد الإله بلقزيز، في إطار المداخل التي حددها في كتاب الدولة والمجتمع، بالعودة إلى المفاهيم التأسيسية التي بدونها يصعب ادعاء الحديث عن قضايا الدولة والسلطة، ولا سيّما ما يحيل على الدولة بمعناها الحديث .

وفي سبيل إنجاز عملية فهم إشكالية الدولة، عمل عبد الإله بلقزيز على تصميم هندسة نظرية أسس لها باستعراض أهم مرتكزات الدولة الحديثة ومفاهيمها، من قبيل الفرد، والحرية، والطبقة، مستحضراً الفلسفات التي انشغلت بمسألة الدولة، ولا سيَّما الليبرالية والماركسية وحدود ما أنتجته هذه الفلسفات حول الموضوع، متسائلاً عن حقيقة إنتاج كل من الليبرالية والماركسية لنظرية في الدولة، ومعتبراً أنهما اهتمتا بالمجتمع أساساً (بالفرد في حالة الليبرالية)، و(بالطبقات في حالة الماركسية)، أما الدولة، فما نظر إليها إلا في علاقتها بالفرد أو الطبقة‏[35]؛ بل إن بلقزيز يعتبر أن التصورين، الليبرالي والماركسي، تسكنهما مفارقة تكوينية تتمثل في أن الدولة بالمعنى الليبرالي بدأت «دولة قومية وانتهت إلى عولمة تُعْمِل تفكيكاً في الدول القومية. وبحسب هذا المآل، تكون الفكرة الليبرالية المناهضة للدولة قد حققت نفسها في الواقع التاريخي، وبدأت الماركسية معادية للدولة ثم لم تلبث أن تصالحت معها وقدستها»‏[36]. ومن ثم، مهما بشرت هاتان الفلسفتان بنهاية الدولة فإنهما لم تتمكنا من «إقامة دليل مادي على بطلانها»، وأن «المجتمعات لا تقبل الوجود والبقاء من دون كيان الدولة فيها»‏[37].

فالفرد، مهما كان تصوره للدولة ولموقعه منها، تتحدد هويته، و«يحقق ذاته بفضل وفي إطار الدولة، كما يعتبر هيغل، كما أنه لا مجال لتصور ممارسة الحرية خارج الدولة، أو ادعاء التمتع بها بالتمرد أو «الخروج عن النظام الاجتماعي القانوني». وهو رأي يجعل منه بلقزيز مبدأ مؤسساً لنظرته للدولة، كما هو الشأن مع الرجوع المستمر إلى كتاب مفهوم الدولة لعبد الله العروي. ويبدو أنهما يتقاسمان نفس الالتزام بالتصور الهيغلي للدولة.

ولعل الحديث عن الأبعاد المتعالية للدولة، يدفع بالباحث في ماهيتها إلى استحضار نظام اشتغالها، ولا سيَّما إلى تحديد الدور المناسب للعنف والقانون في تحقيق شروط توازن واستمرار وظائف الدولة في علاقتها بالمجتمع. ويرى بلقزيز أن الدولة الديمقراطية الحديثة وضعت، مع التطور، الإطار المرجعي المعياري لممارسة العنف باعتباره «حقّاً عامّاً يمارسه المجتمع لحفظ أمنه من خلال الدولة ومؤسساتها التي تمثله، وهو حق لا يمارس إلا عند الاقتضاء أو عند الضرورة وليس مُلازماً للسياسة والسلطة في مجراها ومرساها»‏[38]؛ أي أن العنف في هذه الحالة، يستند إلى إطار قانوني هو، بدوره، يعبر عن «إرادة جماعية» خاضعة، هي بدورها، لضوابط القانون، ثم إنه «عنف يتوجه، بالدرجة الأولى، إلى حماية تلك الإرادة من العدوان عليها لأغراض أو لمصالح خاصة (غير عمومية)»‏[39]؛ ومن ثم تجد الدولة نفسها ملزمة باستعمال العنف كلما اقتضت ضرورة تطبيق القانون. ويغدو استعماله «حاجة موضوعية يفرضها منطق وجود الدولة ونهوضها بوظائفها العامة، ويفرضه الحرص على وحدة المجتمع واستقراره وأمنه»‏[40].

يبدو بلقزيز في تقديمه لجدلية الدولة والعنف والقانون «فيبيري» النزعة، ولا سيَّما حين يؤكد أن «الدولة لا تملك أن تعيش وأن تستمر من خلال شرعية القوة فحسب، وإنما تحتاج – أيضاً – إلى قدر من القبول الاجتماعي، أو من الرضى الاجتماعي بها حتى يكون في وسعها أن توجد وتستمر»‏[41]، وبقدر ما يستلهم فيبر في علاقة العنف بالشرعية، يحضر كل من غرامشي، ولا سيما لوي ألتوسير، في سياق تأطيره لنظام اشتغال الدولة وضرورة اعتماد مرجعيات أيديولوجية لتعزيز هذه المقبولية: إذ «ليس في وسع أية دولة أن تفرض شرعيتها من دون امتلاكها أيديولوجيا تبرر لها سلطانها في وعي الجمهور وتقود الوعي الجمعي إلى التسليم بالحاجة الموضوعية إليها وإلى وظائفها وبالتالي، إلى ترجمة ذلك الوعي إلى ولاء»‏[42].

وإذا كانت الدولة هي «الكيان السياسي» لشعب ولأمة يتجسد في «بنى ومؤسسات» وله وجود مجرد يتعالى عن الحسابات السياسية الظرفية، أو المنافسة الانتخابية، وأنها عنوان «سيادة الأمة» على ذاتها، فإن السلطة «تعبير عن توازن القوى: الاجتماعية والسياسية، وتجسيد مؤسسي لذلك التوازن في جهاز حكم. وهي بهذا المعنى تنتمي إلى حقل الممارسات، إلى السياسة (la politique) بوصفها فاعلية مادية في الاجتماع الوطني تمارسها قوى مختلفة ومتمايزة المصالح»‏[43]. كان من الضروري إقامة هذا التمييز والى استعراض «مقدمات نظرية» التي تناولها بلقزيز في مدخل كتاب الدولة والمجتمع. وقد ألح على إنجاز هذا المدخل، كما يقول، «للرد على ذلك الاستسهال الفظيع للكتابة في مسألة الدولة»‏[44]. والحال أن مقاربة موضوع إشكالي وكثيف نظرياً، يفترض استدعاء «أمهات نصوص الفكر الفلسفي والسياسي والاجتماعي الإنساني»‏[45]، و«عُدَّة فكرية ومفاهيمية»، لكن استحضار هذه الشروط وتوافرها لا تسعف الباحث في اعتبار المدخل الذي أنجزه «دراسة نظرية في الدولة»‏[46].

إعلان عبد الإله بلقزيز عن هذا التواضع الفكري في مدخل كتاب الدولة والمجتمع حول «المقدمات النظرية» في مسألة الدولة، والتزامه البيداغوجي والمعرفي بالكشف عن تهافت الخطابات العربية السائدة حول الدولة وسذاجتها، لم يعد له – أي هذا التواضع – أي مسوغ أو مبرر حين استنفر عُدَّته المعرفية، ومكتسباته المنهجية لتشخيص وتحليل مختلف أبعاد «إشكالية الدولة في البلدان العربية». ولم أعثر في الكتابات العربية، بما فيها تلك التي أنتجها غسان سلامة، وبرهان غليون، وخلدون النقيب، وعبد الباقي الهرماسي، وحتى عبد الله العروي في كتابه مفهوم الدولة، على اجتهاد يتميز بغزارة الاطلاع، والإحاطة بالنصوص، والإلمام بالوقائع والتواريخ، والقدرة الوصفية والمهارة التحليلية والكفاءة التركيبية مثل تلك التي قام بها بلقزيز في كتاب الدولة والمجتمع بالدرجة الأولى، ثم في كتاب الدولة والسلطة والشرعية.

نحن بإزاء عمل نظري تأسيسي لبلورة وعي بالدولة العربية، بما هي دولة لم تصل بعد، في نظر بلقزيز، إلى مستوى من التطور يسمح للباحث بإخضاعها للمقتضيات المفاهيمية للفكر السياسي الحديث، وإن حصل وبادر إلى ذلك، كما هو حال بلقزيز، فإنه لا يتردد في الجهر بضرورة التزام الحيطة والحذر.

وتفترض مقاربة إشكالية الدولة العربية «نظرة جدلية» واختياراً منهجياً يقضي بقراءة «واقع الدولة في مجتمعاتنا العربية ضمن مساحتين: مساحة ما هو مشترك بينها وبين سواها من دول العالم، ومساحة ما هو مختلف بينها وبين نظيراتها»‏[47]؛ ثم يصوغ بلقزيز أطروحته كما يلي: «إن انتقال الدولة في بلادنا العربية إلى حالة الحداثة ليست مسألة تاريخية أو مرتبطة بمقاييس الزمن والتراكم الكمي للتطور، وإنما هو ممّا لا يمتكن أمره إلا بإعادة بناء الاجتماع السياسي العربي نفسه على أسس حديثة تقطع مع الموروث التقليدي (السلطاني) الذي لا يقود تطوره وتراكمه سوى إلى المزيد من ترسيخ التقليد والمضمون السلطاني للدولة من خلال إعادة إنتاجه بأدوات حديثة هذه المرة»‏[48]، وأن «التكوين العصبوي» لهذه الدولة يمثل «كابحاً أمام تطورها الطبيعي نحو الصيرورة دولة، أي كياناً سياسياً متعالياً على انقسامات المجتمع على النحو الذي تكون عليه أي دولة»‏[49]. ويعزو بلقزيز أسباب الاختلال التكويني للدولة العربية في أربع معضلات؛ أولها «عُسر قيام مجال سياسي حديث»؛ وثانيها «فقدان الدولة العربية الشرعية الديمقراطية الشعبية» نظراً لطبيعتها الاستبدادية واعتمادها الدائم على العنف والقوة؛ ثالثاً، «إرادة الحد من وظائف الدولة»؛ ورابعاً تداعيات العولمة على «كيان الدولة في البلدان العربية» وانعكاساتها على «تماسكها الذاتي وعلى سيادتها»‏[50]. وأنتجت هذه المعضلات الأربع هشاشة مزدوجة للدولة وللمجتمع، ومرد ذلك إلى البنيات والعلاقات الاجتماعية القائمة على التقاليد العصبوية، سواء قبلية، عشائرية، أو مذهبية وطائفية.

وتعاني الدولة، في مختلف البلدان العربية، هشاشة بنيوية أو تكوينية لأسباب تفسيرية ثلاثة؛ أولها «حداثة ميلاد الدولة‏[51] التي نشأت بعد الاستقلال، وعلى الرغم من الوجود الكولونيالي، فإن التجذر السلطاني التقليدي للتدبير السياسي لم يتم تقويضه أو إضعافه حتى؛ ثانيها، «ضعف التمثيلية الاجتماعية لدى الدولة»‏[52]، إذ لم تتمكن من استيعاب وإدماج كل شرائح المجتمع بسبب تجذرها العصبوي في الغالب الأعم، وثالثها «هشاشة المجتمع نفسه»، إذ كما يقول بلقزيز، «كما يكون المجتمع تكون الدولة وعلى صورته تقوم»‏[53].

إزاء هذه الهشاشة التكوينية كيف، إذاً، يمكن التعويل على إقامة دولة حديثة من داخل «مجتمع تقليدي عصبوي»؟ وفي المقابل إلى أي حد يمكن تصور إنشاء مجتمع حديث يحوز بعض مقومات التماسك ويختزن قدرة على المبادرة من طرف نمط سياسي سلطاني أو يستمد بعض شرعيته من مرجعيات تيولوجية؟

لعل هذين السؤالين يكثفان، في العمق، صعوبات التفكير في الدولة في سياقاتها العربية المختلفة، اعتماداً على مقاربة قانونية أو عقلانية صورية صرفة، ويحتاجان إلى تحليل من النوع «التاريخي الثقافي الذي يحفر في طبقات التاريخ الاجتماعي منفتحاً على دروس الأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم السياسة أيضاً»‏[54]، ولا سيَّما أن صورة الدولة في المتخيل الجماعي مشوشة، إن لم تكن تعاني من ضعف بنيوي، لأن الفكرة السائدة عنها تتجلى في كونها «جسماً مفروضاً على الفضاء الاجتماعي لا تثير في المجتمع سوى نزعات التهيب أو الرفض والاستنكار»‏[55].

من هنا أهمية استدعاء بعض المقولات الخلدونية التي قد تساعد على إنتاج فهم مناسب للتركيبة الاجتماعية والثقافية للدولة؛ إذ إن «مفاهيم البداوة والعصبية والولاء والمدافعة والممانعة والغلبة (هي) في مقام إشارات المرور لاكتشاف ذلك الكون الاجتماعي الذي كانه فضاء المجتمع العربي الإسلامي الوسيط والتي من دونها يمتنع مُرور إلى العمق فيه»‏[56]. لذلك فما «يزال التقليد البدوي الأعرابي مُتمكناً من علاقة الناس بالدولة والنظام والقانون، فترى المجتمع يأبى الانصياع لأية سلطة إلا تحت تهديد سيف العقاب. وهو وإن انصاع أخيراً، فمُكرَهٌ على ذلك لا عن اقتناع أو اختيار بسبب عدم استبطانه فكرة الدولة وما تعنيه من حق عام»‏[57]؛ بمعنى آخر، إن البيئة الاجتماعية والثقافية لا تمتلك ما يلزم من شروط احتضان واستنبات فكرة الدولة، بل هي «نابذة» مهما تعددت المبررات والمرجعيات، تارةً باسم «المقدس مُمتشقاً عُدة التكفير»، وأخرى «باسم حقوق الجماعات الأهلية (العصبيات) في السلطة أو في حصة ما من حصصها»، وتارة ثالثة «باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، فطالب بتحجيم الدولة والإنقاص من مساحة سلطانها، وفي كل هذه الألوان كان الهدف واحداً: إضعاف سلطان الدولة»‏[58].

يزداد هذا الوضع تفاقماً حين نعلم أن أغلب البلدان العربية حكمها الجيش الذي «أمَّم الدولة والسلطة معاً، وتحوّل من جيشٍ للدولة إلى جيشٍ للسلطة حيث استنفر كل وسائل قمع المجتمع وقوى المعارضة»‏[59]، وأنتج شروط المحافظة على سيطرته المطلقة على مقدرات البلاد والعباد. وأكدت الوقائع الأخيرة بعد 2011 أن الحكم العسكري التسلطي كلما تعرض لضربات وانتفاضات يكون كلفة ذلك تفكك الاجتماع الوطني – على هشاشته – وتفجر «هويات» كانت مكبوتة ومقموعة، ومُستبعدة، بل ومنها من تُعبر عن وجودها بعنف ولَّد، بدوره، مظاهر مختلفة من العنف المضاد باسم المقدس، أو الانتماء المحلي، أو اللغوي، أو المذهبي؛ تحصل هذه التحولات في سياق سلسلة من التراجعات الكبرى لقوى كان من الممكن أن تشكل رافعات للدولة الحديثة، من قبيل تراجع «الحراك الاجتماعي والنقابي والسياسي»، و«تراجع الطبقة الوسطى»، و«الطابع المديني للحياة وللسياسة من خلال ترييف المدن وبَدْوَنة السلطة»، و«صعود حركات الاحتجاج العمياء غير المنظمة مدنياً وسياسياً»‏[60].

دفعت هذه الاعتبارات كافة بعبد الإله بلقزيز إلى الاستنتاج بأن «البلدان العربية المعاصرة لم تشهد ميلاد الدولة الحديثة، بتعريف الفكر السياسي والقانوني الحديث، وما يبدو على الدولة عندنا من حداثة طلاء وقشور»‏[61]؛ بل لقد سبق أن أكد نفس الفكرة في الدولة والمجتمع حيث لاحظ أن الدولة ظلت «تمس القشور كطلاء خارجي لبناء متهالك… ظل المجتمع عصبوياً وهو يرفل في نمط الاستهلاك الحديث، وظلت السياسة محكومة بثقافة الراعي والرعية»‏[62].

ولعل الدولة، في التجارب العربية المختلفة، كما تتقدم إلى الوعي النظري بأعطابها التكوينية وبيئاتها النابذة لمقتضيات السياسة العصرية، تطرح سؤالاً يبدو، عند عبد الإله بلقزيز، مركزياً يتمثل بمسألة الشرعية.

ثالثاً: في مظاهر الشرعية الغائبة

ثمة تلازم بين الدولة ونوعية «الشرعية» التي تحوزها أو تستند إليها. وكون الدولة في البلدان العربية، باختلاف تكوينها وأسسها، تبقى، كما تبين لنا، دولة هشة وهجينة وتسلطية، ونظراً إلى ضعف فكرة الدولة في المتخيل الجماعي وإلى المواقف السلبية منها في أوساط النخب، مهما كانت مرجعياتهم ومنطلقاتهم الأيديولوجية، فإن مسألة الشرعية تفرض ذاتها بقوة، في معالجة مسألة الدولة والسلطة. ويمكن للمرء أن يلاحظ أن بلقزيز في كل الفصول التي تناول فيها إشكالية الدولة، في الكتب التي خصصها للفكر السياسي، يستحضر باستمرار سؤال الشرعية، ولا سيما في كتابه الدولة والمجتمع، وبدرجة أوضح في الدولة والسلطة والشرعية.

ففي الدولة والمجتمع يلاحظ بلقزيز أن الباحث يجد نفسه، في موضوع الدولة، أمام ثلاثة مواقف تطعن في شرعية الدولة، ومن منطلقات ومبررات مختلفة؛ أولها «الموقف القومي العربي» الذي تذهب مقالته إلى إسقاط شرعية تلك الدولة لأنها ناتجة من إرادة التقسيم والتجزئة الاستعمارية، والموقف الإسلامي الذي يعتبر أن الدولة لا شرعية لها بسبب كونها «أتت على أنقاض الخلافة أو لأنها لا تحكم بما أنزل الله»، ثم «الموقف الماركسي» واليساري الذي يذهب أصحابه إلى اتهام تلك الدولة بأنها «دولة طبقة هي البرجوازية، وأنها دولة تابعة للمتروبول الرأسمالي الغربي ومعادية لمصالح الشعب وطبقاته الكادحة»‏[63].

مواقف ثلاثة تُسقط الشرعية عن الدولة إما لأنها «دولة تجزئة» أو «دولة اللائكية» أو «دولة الطبقة». ويعتبر بلقزيز أن الليبراليين العرب وحدهم انفردوا بالاعتراف للدولة الوطنية بشرعيتها السياسية، وبالدفاع عن تلك الشرعية في وجه خصومها… ثم إنهم رأوا فيها «كياناً ضامناً للحق في التملك والحرية الاقتصادية والتنافس قصد الربح من دون التدخل في الإنتاج والدورة الاقتصادية»‏[64].

مثلما اجتهد بلقزيز في عرض أهم الدلالات المعرفية لمفهوم الدولة، في المقدمات النظرية التي اعتبرها مدخلاً لمقاربة معنى الدولة في الفكر السياسي الحديث، وعمَّق هذه المقدمات من خلال تشخيص مقدرات الدولة العربية وتشريح أعطابها وهشاشتها حاول، بجهد لافت، إنجاز تأطير نظري لمفهوم الشرعية في تمفصلها مع النظام السياسي والعنف والقوة والقانون. ونجد، مرة أخرى، محاولاته التنظيرية موزعة على أكثر من كتاب؛ ففي الفصل الثالث بعنوان «الشرعية وأزمتها» من نقد الخطاب القومي نعثر على انفتاح تعريفي يؤطر لمسألة الشرعية حيث يعتبر أن كل فكرة من الأفكار الكبرى في التاريخ لا تكتسب شرعيتها «إلا في حالات ثلاث: حين تجيب عن حاجة تاريخية وموضوعية، فلا تكون مجرد فرضية نظرية في الذهن النخبوي أو موضوعة تجريبية يؤمل في تحقيقها على مقتضى الرغبة لا على ميزان الإمكان… وحين تتحول إلى دينامية تكوينية وتعبوية تنشر في الجمهور ثقافتها… ثم حين تجد السبيل إلى التحقيق المادي، أي الانتقال من حيز الفكرة المجردة، ثم الأيديولوجيا التعبوية، إلى حيز الواقع الاجتماعي والسياسي المؤسسي»‏[65].

يضيف بلقزيز لشروط الحاجة التاريخية، والدينامية التكوينية، والتحقيق المادي، مفهوماً أقوى يتمثل في ما ينعته بـ«المقبولية»، ذلك أن «النخب لا تملك تثبيت أركان النظام السياسي وتأمين استقراره واستمراره من دون توفير القدر الضروري من الشرعية السياسية التي تصنع له مقبولية لدى الناس، أي تجعلهم في أعينهم نظاماً شرعياً»‏[66]؛ غير أنه ينتبه إلى أن المقبولية تفترض استفهامات من قبيل «ما حدود تلك المقبولية؟ ما معيارها؟ كيف تُقاس؟ هل وراء المقبولية نموذجية تتحدد بها ماهيتها فلا تكون إلا على مآلها المرجعي؟»؛ إذ قد يسلم المرء باعتبار أن الانتخاب، بوصفه تعبيراً عن إرادة جماعية، قد «يتمتع بمقبولية ابتدائية صنعها رضا قسم من الشعب الناخب وتحول – بالتبعة – إلى رضا جماعي»‏[67]، ولا سيَّما في التجارب التي تحترم قيم المجتمع الديمقراطي، كما أن هذه المقبولية تتعزز وتزداد رسوخاً في الوقت الذي تنجح النخب في الالتزام بوعودها وبرامجها.

غير أن السؤال الذي قد يتقدم في شكل مُفارقة هو: «كيف نحكم على أنظمة غير الخارجة من أحشاء الشرعية الديمقراطية، تمتعت فعـلاً بقدر ما من المقبولية الاجتماعية والشعبية. ألا يُوفر لها ذلك قدراً من الشرعية»‏[68].

للجواب عن هذا السؤال يستدعي بلقزيز رافعة الأيديولوجيا التي بفضلها تتمكن الأنظمة التي استولت على السلطة بالانقلاب العسكري أو بواسطة ثورة شعبية، من إنتاج ما يلزم من الخطابات والمؤسسات لإضفاء الشرعية على سياسة وجودها وسياساتها، ذلك أن «وظيفة الفاعلية الأيديولوجية في تصنيع الشرعية السياسية أبلغ أثراً من وظيفة أجهزة العنف»‏[69].

إن الأيديولوجيا «مورد حيوي» تستثمره كل الأنظمة السياسية، حتى تلك التي تستمد شرعيتها عن طريق الانتخاب؛ أما الأنظمة التسلطية، مهما كانت مسوغات ومبررات وجودها، فإنها غالباً ما تجعل من العنف أداتها الحاسمة. والحال أن العنف المفرط يتحول إلى «فعل من أفعال العدوان على الشرعية وهو – لذلك – ينال من المشروعية السياسية للقوة التي تمارسه، وقد يفتح باباً أمام الانقضاض على الدولة والشرعية»‏[70]. ويميز عبد الإله بلقزيز هنا بدقة على غرار ماكس فيبر بين الحق الشرعي للدولة في احتكار العنف، وما بين ما تمارسه الأنظمة التسلطية من قهر.

ولمقاربة مصادر الشرعية التي تتكئ عليها الأنظمة العربية المعاصرة استلهم بلقزيز تقسيم ماكس فيبر لأنماط الشرعية (التقليدية، والكاريزمية، والعقلانية)، معتبراً أن هذا التنميط لا ينطبق كامل الانطباق على خريطة توزيع الشرعية في البلدان العربية، اليوم، فضـلاً عن «التداخل بين بعض تلك الشرعيات سمة غالبة في الدول العربية المعاصرة وتزيد من منسوب الهلامية والالتباس فيها»‏[71].

واعتباراً لهذا التمييز يقترح بلقزيز تصنيفاً آخر لأنماط الشرعية المميزة للأنظمة السياسية العربية، وهي ثلاثة: الشرعية التقليدية، والشرعية الثورية، والشرعية الدستورية‏[72]؛ تستند الشرعية التقليدية على «مصادر دينية وعصبوية غالبة (قبلية، عشائرية، عائلية…) أو إلى مبدأ الغلبة والاستيلاء، ومنها الشرعية القائمة على دعوى الحكم بمقتضى المرجعية الدينية كأساس للسلطة، كما في نظام إمارة المؤمنين في المغرب، ونظام العمل بمقتضيات الشريعة وأحكامها في المملكة العربية السعودية والسودان… ومنها الشرعية القائمة على النسب الشريف للأسرة المالكة كما في المغرب والأردن، أو القائم على المذهب كما في سلطنة عُمان المستندة إلى مذهب الإباضية… كما منها عصبية الطائفة وما ينجم عن النظام السياسي القائم عليها من أشكال من توزيع السلطة على مقتضى المحاصصة الطائفية كما في لبنان والعراق»‏[73].

أما الشرعية الثورية فهي التي تميز نظماً «سياسية وصلت إلى السلطة باسم الثورة على أوضاع سابقة متعفنة أو تستند إلى رصيد من الدعوى الأيديولوجية الكثيفة الناجحة في إلهاب مشاعر الجمهور… والقاسم المشترك في الأسلوب بين هذه السلط كلها ( مصر، سوريا، العراق، ليبيا، السودان،…) أنها قامت من طريق الاستيلاء العسكري على السلطة»‏[74]. غير أن نعت هذه الأنظمة بحيازتها شرعية ثورية يستلزم التساؤل عن «شرعية وصف شرعيتها بالشرعية الثورية»‏[75].

في حين أن الشرعية الدستورية، فهي تلك التي تعتمد نظرياً على فكرة قيام السلطة على مقتضى القانون الأساسي للدولة وتداولها بالانتخابات، بما فيها منصب رئيس الدولة. إن المبدأ الذي يؤسس هذا النمط الثالث «الحديث» للشرعية هو أن «الشعب مصدر السلطة»‏[76].

وعلى الرغم من المظاهر العصرية لهذا النمط من الأنظمة السياسية إلا أنه يبقى نمطاً «هجيناً» بسبب تكوينه، وأشكال التداخل فيه بين التجذر التقليدي لبنياته وما يظهر أنه ينتمي للقيم السياسية العصرية، من قبيل الأخذ بالدستور، وتنظيم الانتخابات، والتعددية السياسية، واستقلال القضاء، وحرية التعبير… إلخ، وبسبب الطبيعة الهجينة لهذا النمط و«ضعف التراكم السياسي فيه بل فقره وتراجعه باستمرار… يبرر إبداء التحفظ الشديد على وصف شرعيته بالحديثة أو الدستورية»‏[77].

لا مجال لتبني هذا التمييز بين الأنماط الثلاثة وكأنها قائمة على أسس مستقلة لا تشابك بينها ولا تداخل، إذ نجد نظاماً يستند إلى الشرعية التقليدية، باسم الدين، كما هو حال المغرب، وفي نفس الوقت الذي تمثل «الشرعية الدستورية» العصرية أحد مرتكزات شرعيته التي أصبحت مع دستور 2011 من الثوابت المعيارية للنظام السياسي.

يعتبر بلقزيز هذا التداخل بين الأنماط تجلياً لـ «أزمة التكوين السياسي» للدولة، وهو ما يفسر حالات «الانسداد السياسي» الذي أنتج مختلف مظاهر التفكك وعناصر الانقسام، وكذلك أنماط جديدة من «احتكار السلطة» و«توريث الحكم» وفقدان السيادة الوطنية.

تتقدم الشرعية التقليدية إلى المشهد السياسي والفكري والرمزي العربي، لكونها أكثر الشرعيات رسوخاً وتأثيراً وقوة، سواء اعتمدت على الدين، أو المذهب أو القبيلة أو الطائفة أو مزجت بين أكثر من عامل لتعزيز أركان سلطتها؛ بل وتُبين التجربة أن الأنظمة التي تتكئ على هذا النمط من الشرعية تمتلك ما يلزم من الوسائل لتعبئة المكبوت الجمعي، أو المتخيّل العام القابل للتجييش من أجل استنفار عناصر المحافظة وتكريس سلطة الدولة التقليدية؛ أما الدولة التي رفعت شعارات الثورة باسم مقاومة الإقطاع، أو محاربة العدو أو إنجاز التنمية الاقتصادية، فإن حصيلتها أبعد ما تكون من روح الثورات، وبناء الإنسان الجديد الذي بشرت به، بل إنها أقامت أنظمة تسلطية كرست من خلالها أسطورة القائد – الضرورة، وصدقت ذلك بتحضير شروط توريث الأبناء والأهل، في حين أن الأنظمة التي تستند إلى ما نعته بلقزيز بـ «الشرعية الدستورية» فإنها لم تتمكن من الانتقال إلى استنبات قيم المجتمع الديمقراطي، وتوطين مبادئ الحكم العصري، وإن أخذت بنصوصه وبعض إجراءاته الأداتية، لأنها على صعيد الممارسة المؤسسية والمرجعيات الرمزية تتكئ على الشرعية الدينية أو العائلية لإضفاء ما يلزم من شرعية على أنظمتها. لهذه الأسباب، لربما، يعتبر بلقزيز أنه «لا يكفي التفكير في أزمة الشرعية بمفردات علم السياسة فقط… أما الحاجة إلى استدخال عوامل التاريخ والاجتماع والأنثروبولوجية الثقافية، فحيوية لفهم خلفيات تلك الأزمة ومقدماتها العميقة»‏[78].

المتأمل في ما يتقدم إلى مشهد الوعي بالمؤسسات والبنيات السياسية العربية، وأنماط الأنظمة، وأنواع الشرعيات المعلنة يلحظ، كما يقول بلقزيز، أن «المجال السياسي فيها لا يعدو أمره أن يكون على أوجه ثلاثة‏[79]: إما مجال منعدم انعداماً تامّاً، أو مجال تقليدي، أو مجال «حديث» صورياً».

يراهن عبد الإله بلقزيز في كتاباته حول الفكر السياسي، والدولة، على مواجهة جملة التباسات في الممارسة الخطابية العربية التي تدعي دراسة قضايا الدولة، والنظام السياسي، والسلطة والديمقراطية، والمجتمع المدني، والمواطنة، وحقوق الإنسان، والأمن والسيادة… إلخ، وفي هذه الموضوعات نجد إنتاجاً كمياً غزيراً تنقصه الدقة المنهجية، والوضوح المفهومي، والعمق النظري. يعتبر بلقزيز، بإزاء ذلك، أن بذل المجهود، لرفع مختلف الالتباسات وأشكال انعدام الفهم، يتطلّب تعبئة ما يلزم من العُدّة المعرفية لتشخيص الوقائع، ووصف التجارب، وتحليل بنياتها، ومؤسساتها، وتفكيك خطابها ومرجعياتها، اعتماداً على مكتسبات الفكر النظري الذي أنتجته الفلسفة السياسية، والاجتماع السياسي، والأنثروبولوجيا الثقافية، والتاريخ.

رهان بلقزيز متعدد الأبعاد، معرفي وسياسي وبيداغوجي، كان عليه في سياق هذا الرهان إعادة ترتيب العلاقة النظرية بين الدولة والسلطة ونقد أشكال التماهي المغلوطة بينهما في الخطابات السياسية العربية. كما وجد نفسه يقترب من موضوع الدولة في بيئة عربية يحمل جمهورها فكرة مُشوهة أو مغلوطة عن صورة ووظائف وأنماط اشتغال الدولة، ولا يقتصر هذا الضعف على العموم، بل ينطبق على التيارات الأيديولوجية الكبرى التي أسست للفكر السياسي العربي؛ الموقف القومي الذي لا يقر بشرعية الدولة الوطنية بحكم أنها نتاج التقسيم الاستعماري، ووجودها مضاد لحاضر ومستقبل الأمة؛ والموقف الإسلامي الذي يرى فيها دول علمانية مضادة للشريعة؛ والموقف الماركسي الذي يعتبر الدولة حامية للرأسمال وسياستها تخدم مصالح طبقية؛ ثم الموقف الليبرالي الذي يرى فيها دولة منقوصة الشرعية «لأنها تسلطية واستبدادية»‏[80].

فضـلاً عن الأشكال المتنوعة من الخصاص في فهم الدولة، أو التباس فهم أدوارها التاريخية، يجد الباحث عن شرعية مفقودة أو ممكنة لدولة في الوطن العربي، كما هو شأن بلقزيز، نفسه يتحرك داخل أرضية تتميز بهشاشة مزدوجة: هشاشة المجتمع، وهشاشة الدولة، وطبيعتها الهجينة؛ بل إن ما تشهده بعض الساحات العربية من اهتزازات وأشكال تمرد على الأنظمة التسلطية زادت من تفاقم أزمة الشرعية السياسية للدولة، وهو طور يقول عنه بلقزيز بأنه «قد يكون أكثر أطوار ذلك التأزم حدة، فهو يدخل في نسيج تلك الشرعية بُعداً ظل فرعياً فيها، منذ قيام الدولة الحديثة»، وهو «الشرعية الدينية» أو قل – للدقة – التسويغ الديني للشرعية السياسية، والمشكلة إنما تبدأ حين ندرك أن «الشرعية الدينية ليست واحدة عند جميع القائلين بها كما هي الشرعية السياسية واحدة أو تقارب!»‏[81]

إن مسألة الدولة والسلطة والشرعية، إذاً، مركبة ولا يمكن اختزالها في اعتبارات سياسية أو فكرية محضة حتى؛ بل إن لها مضامين وأبعاداً ثقافية لأن الاستبداد متجذر في كل مناحي الحياة وفي المؤسسات، ولأن الثقافة العربية السائدة مصابة بـ «المُطلقية، لا نسبية فيها ولا حساً واقعياً. ومجتمعنا مصاب بالانغلاق على تقاليده، لا تسامح فيه ولا اعتراف بآخر مختلف»‏[82]. لذلك لم يصل الوعي العربي بالديمقراطية إلى القدر المطلوب لبناء حقل سياسي ديمقراطي حقّاً، وما يُدبَّج من خطابات حول الديمقراطية كثير منها بعيد من مقتضياتها النظرية العصرية.

في سياق استحضار ما ينعته بـ «أزمة الشرعية الديمقراطية» يقرر بلقزيز، بكثير من الاقتناع والحدة، أن «المجتمعات التي تعاني من نقص حاد في الاندماج الاجتماعي، ومن ثقل مواريث الاستبداد … والتي لم تعرف حركة إصلاح ديني… لا سبيل لديها إلى شرعية ديمقراطية»‏[83]. فالديمقراطية اختيار كلي، سياسي، ومؤسسي، واجتماعي، وثقافي، وديني، ولا يمكن بناؤها باستجلاب «حداثة شكلية مُستعارة»، وإنما باعتماد قواعد وشروط الممارسة السياسية في المجتمعات الحديثة المتمثلة في «العقلانية والواقعية الإيجابية والتاريخية»‏[84].