تتمتع القضية الفلسطينية بحيوية متجددة مرتبطة بتصميم واستمرار عزيمة الأجيال المتعاقبة من الفلسطينيين في الحفاظ على قضيتهم وثوابتها، بالرغم من كل عوامل الهدم والتدمير التي يحاول الآخرون إلحاقها بالقضية الفلسطينية. هذه القضية التي تجاوزت العقود السبعة من عمرها وترعرعت أصلاً في أحضان العزَّة القومية، بالرغم مما تبعها لاحقاً من هزائم عربية متتالية انتهاءً بحقبة السقوط العربي الحالية، ما زالت تقاوم كل محاولات الشلل والانحلال التي يسعى الآخرون لفرضها على الفلسطينيين، وبالتالي فرض استسلامهم للواقع العربي المهزوم والمصالح الصهيونية ومخططاتها الاستعمارية الإحلالية.

يسعى البعض لقراءة الواقع الفلسطيني الحالي بأعين مهزومة ترى أن الاستسلام للواقع المُرّ الذي تعيشه القضية الفلسطينية الآن واقعٌ لا مَفَرّ منه، وليس موقفاً سياسياً يعكس نفسية مهزومة ترى في تبرير مسارها المتدثر بالواقعية الحل الأسهل والأقل تكلفة.

بالرغم من التطورات الأخيرة على مسار القضية الفلسطينية، وهي في أغلبيتها سلبية، إلا أن هنالك مؤشرات جديدة مهمة على مسار هذه القضية. ولعل أهم هذه المؤشرات تشير إلى أن أي حلول مرحلية لبعض جوانب القضية الفلسطينية، وضمن الإطار الوطني للقضية الفلسطينية، لن تأتي في المدى المنظور إلا من جانب الشعب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة. يستند هذا المؤشر إلى الواقع العربي المنهار والمشتت، الذي لا يسمح بتحرك عربي مؤثر حتى ولو كان ذلك التحرك سياسياً. إن هذا الكلام لا يعني خلوّ الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال من عوامل الضعف والتشتت، بقدر ما يعني توافر العوامل الذاتية المطلوبة لإعادة النهوض في الداخل الفلسطيني.

السلطة الفلسطينية، وهي وليدة اتفاقات أوسلو ومحدداتها، قد تكون أخطر المعوقات على مسار النهوض الفلسطيني في داخل فلسطين المحتلة. فالسلطة الفلسطينية قد جعلت من نفسها الوحش الذي جاء ليأكل المقاومة الفلسطينية للاحتلال، وليس الاحتلال نفسه. والسلطة الفلسطينية قد حوّلت نفسها بذلك إلى امتداد فلسطيني لواقع الاحتلال الإسرائيلي، كونها استمدت شرعيتها واستمرار وجودها من ذلك الاحتلال. وقد أدى ذلك إلى تحول تلك السلطة، مع مرور الوقت وضمن نهج التعاون مع سلطات الاحتلال، إلى أخطبوط أمني وبيروقراطي هيمن على أوجه الحياة المختلفة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد جعل هذا الواقع من الصعب، بالنسبة إلى البعض، المطالبة بحل السلطة الفلسطينية كون ذلك سيؤدي إلى شل الحياة ومصدر الدخل بالنسبة إلى كثير من الفلسطينيين الذين ترتبط حياتهم ومعيشتهم بالعمل في مؤسسات تلك السلطة.

قد يكمن الحل في التفريق بين السلطة الفلسطينية كنظام سياسي وأمني، وبين المؤسسات والدوائر الفلسطينية العامة والخدماتية. ولكن الخطوات التي يتوجب على الفلسطينيين تحت الاحتلال اتخاذها تتوقف على طبيعة برنامج العمل الوطني والنضالي الذي يسعون إليه في تعاملهم مع الاحتلال. من هنا، فإن وضوح الرؤية والهدف والمسار، بوجه عام، يرسم قاعدة الأساس للفلسطينيين في كيفية تعاملهم مع السلطة الفلسطينية، وإرغام سلطات الاحتلال على ممارسة دورها البشع كقوة احتلال، مباشرة وأمام العالم، وعدم الاختباء خلف السلطة الفلسطينية ومؤسساتها.

الخطورة الكامنة في السلطة الفلسطينية هي في كونها قد أصبحت ترى نفسها جزءاً من الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال، تسعى إلى التعامل معه، والاستفادة منه، لا تغيير واقعه والتخلص منه من خلال برنامج عمل وطني فلسطيني مقاوم للاحتلال. وهكذا فإن السلطة الفلسطينية لا تشعر أن مقاومة الاحتلال هي من واجباتها ومسؤولياتها، بقدر ما تشعر أن واجبها ينحصر في الإبحار بالفلسطينيين في بحر الاحتلال، وتجنّب العواصف والمخاطر التي قد تترتب على مقاومته.

هنا يبرز التساؤل الكبير إذا كانت السلطة الفلسطينية حالةً طارئةً مفروضة على الفلسطينيين، ومُقدراً لها أن تكون دائمة، بالرغم من أنها قاصرة في قدرتها على تغيير المسار والمجرى الطبيعي للتاريخ الذي لا يتوقع من أي شعب القبول بالاحتلال، أم أنها أصبحت تجسيداً لنمط من الحكم الفلسطيني المقبول إسرائيلياً، بوصفه طرازاً يوحي بوجود الدولة من خلال السماح بقشور الاستقلال ومظاهره، لكنه في واقعه حكماً ذاتياً خانعاً في قبضة إسرائيل الأمنية؟

يبدو أن الاقتراب من مظاهر الدولة وقشور السيادة ومظاهرها هو أقصى ما يسمح به الاحتلال للفلسطينيين. وقد عكست ممارسات السلطة ذلك على مدى ما يزيد على ثلاثة عقود، وهو ما يطرح التساؤل الأهم: هل وَضَع الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين في مسار لن يوصلهم إلا إلى هذا النمط من الحكم؟ إذا كان هذا هو الموقف الاستراتيجي الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، فما هو الموقف الاستراتيجي للفلسطينيين تجاه الإسرائيليين؟ هل هو موقف السلطة نفسه أم أن هنالك موقفاً استراتيجياً فلسطينياً آخر مغايراً لموقف السلطة؟

إن الوضع القانوني والحياتي للفلسطينيين تحت الاحتلال منذ عام 1948 قد ساهم في تعزيز قدرتهم على قراءة العقلية الإسرائيلية وفهمها واستيعابها، ومعرفة مكامن القوة ومكامن الضعف في المشهد السياسي الإسرائيلي، وهو ما مكنهم مع مرور الوقت من تمرير تلك الخبرات إلى إخوانهم القابعين تحت هيمنة الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، الأمر الذي قدّم بالتالي إضافة نوعية إلى رؤيتهم ومواقفهم في سبل مقاومة الاحتلال والتعامل معه بندية. إن التحام المشهد الشعبي الفلسطيني المبعثر تحت واقع الاحتلال الإسرائيلي ووحدته، قد يجعل من الممكن تبلور استراتيجية فلسطينية جديدة تسعى لتجاوز قيود ومعوقات الاحتلال والكوابح التي توفرها السلطة الفلسطينية لمسيرة النضال الفلسطيني، كما أنها قد تسهم في تطوير وسائل المقاومة للاحتلال من خلال استحضار تجارب الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال، وبما يسهم في تطوير رؤية فلسطينية جديدة قادرة على التعامل مع الاحتلال بندّية وضمن أساليب نضالية جديدة تتجاوز النضال التقليدي المحدود بالكفاح المسلح فقط إلى أشكال أخرى إضافية من النضال، علماً أن الاحتلال الإسرائيلي هو حليف السلطة الفلسطينية، وهو الحامي لها من أي محاولة جادة ضمن الأوساط الفلسطينية لكبح جماحها أو التخلص منها .

إن مسار الأحداث على الأرض الفلسطينية منذ اتفاقات أوسلو حتى الآن، وطبيعة العلاقة بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال من جهة، والسلطة الفلسطينية والفلسطينيين من جهة أخرى، يشير بوضوح إلى أن السلطة الفلسطينية قد أصبحت تجسيداً لنمط الحكم الفلسطيني المقبول إسرائيلياً. على هذا الأساس فقد تم وضع الفلسطينيين في مسار لن يوصلهم إلا إلى هذا النمط من الحكم. ولكن هل هذا ما يريده الفلسطينيون أو يقبلون به؟

من الواضح أن تنفيذ مثل هذا التصور لا يمكن أن ينجح من دون استمرار التعاون الوثيق بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال، عن وعي وتصميم خفيّ، على تنفيذ مثل تلك الرؤية وجعلها جزءاً من الواقع الفلسطيني والتفكير السياسي للفلسطينيين، بغض النظر إذا ما قبل الفلسطينيون بتلك الرؤية أم لا. إن نجاح الاسرائيليين في فرض تلك الرؤية على الفلسطينيين، من خلال السلطة الفلسطينية، سيؤدي حتماً إلى إعادة تفسير مفهوم السيادة الوطنية للفلسطينيين لتصبح جزءاً من واقع الاحتلال لا نقيضاً له. وهذا يعني تحوُّل الاحتلال إلى واقع حال دائم تصبح السيادة الوطنية الفلسطينية فيه وهمية ومزعومة ومتممة لواقع الاحتلال بل وامتداداً له. وهذا يعني ديمومة الاحتلال، ما لم يقرر الفلسطينيون أن هذا المسار والسلطة الفلسطينية التي تمثله هو أمر لا يمكن القبول به أو باستمراره مهما كان الثمن، لأن ذلك يعني القبول بالاحتلال واستمراريته إلى الأبد.

 

قد يهمكم أيضاً  الحرب الباردة الثانية واستراتيجية الدفاع الفلسطينية: دونكيشوتية؟

أيضاً اطلعوا على  المخيال السياسي الفلسطيني: من تحرير الوطن إلى تحرير الأسواق

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القضية_الفلسطينية #السلطة_الفلسطينية #المقاومة #الإحتلال_الإسرائيلي #الأراضي_المحتلة