النكبة الفلسطينية وتأسيس «إسرائيل» في مسردات التاريخ العالمي (دراسة نقدية في التاريخ الموسوعي المقارن)(*)

أولاً: المدخلات

1 – أهمية الموضوع

هذا موضوع مهم جداً وله تعقيداته وتشابكاته، وهذه محاولة بحثية متواضعة في النقد التاريخي الموسوعي المقارن لحدث مفصلي خطير أنتج ظاهرة معاصرة أخطر تمثلها «النكبة» التي ألمّت بالعرب في فلسطين عام 1948، في إثر تأسيس اليهود الصهاينة وحلفائهم دولة «إسرائيل»، وتعَدّ مسرداتها من أهم التواريخ العالمية. وأكاد أجزم أن ما نشر بالإنكليزية فقط عن هذا «الموضوع» بالذات يفوق التصور سواء في كتب تخصصية، أم في موسوعات معرفية، أم في دراسات وبحوث كثيرة مقارنةً بما نشر في العربية، والفرق كبير في المضامين والحجج. وعلى الرغم من قلة التواريخ العربية، فإن العرب قد خاطبوا أنفسهم بأنفسهم عندما كتبوا في لغتهم من دون أن يكتبوا للعالم باللغات الحية؛ فاليهود كانوا أذكى كثيراً عندما اشتغلوا على تواريخ تأسيس «إسرائيل» ونشروها مع مذكراتهم بالإنكليزية خصوصاً، بحيث حاولوا إقناع العالم بما نشروه في حين عجز العرب عندما نشروا كتاباتهم بالعربية، فخفيت مواقفهم وحقوقهم المشروعة عن العالم كله.

2 – المراجع المعتمدة

لقد ركزنا على عدة موسوعات عالمية، وفحْص ما تضمنته عن الموضوع، وراوحت المادة عنه بين عدة صفحات؛ إلى صفحة واحدة؛ إلى عدة سطور. ولا يمكنني الادعاء أنني قد اطلعت وقرأت كلّ موسوعات الدنيا وبلغات متعددة، ولكنني اقتصرت على أشهرها كـ بريتانيكا، وأمريكانا، ولاروس الفرنسية، والموسوعة الكاثوليكية، وموسوعة الثقافة البشرية الحديثة، وإنكارتا، والموسوعة السوفياتية الكبرى، والموسوعة اليهودية، وجوديكا، وموسوعة الكتاب المقدس الدولية وعشرات غيرها، كما ساعدتني عشرات الكتب الصادرة على امتداد سبعين سنة، ووجدت التفاوت في الآراء، والاختلافات في الأحكام مع طبيعة المعالجات. لقد كان الفرنسيون أكثر ميـلاً في تفسير الأوضاع اجتماعياً، وانشغل السوفيات بتفسير الأحداث ماركسياً، ووضع أغلب المؤرخين اليساريين علامات استفهام على الممارسات الصهيونية، في حين لازمت بعض البريطانيين عقدة الشعور بالذنب تجاه ما حصل. وتوقفتُ عند موقف المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي الذي سجله ضد تأسيس «إسرائيل» في كتبه ودراساته، واختتمه بحواره الشهير مع السفير الإسرائيلي يعقوب هرتزوك (Yaacov Herzog) بجامعة ماغيل الكندية 1961. أما اليوم، فإن أكثر المنشورات الأمريكية مناصرةٌ للصهيونية و«إسرائيل»، في حين برز جيل جديد من الكتاب والمؤلفين في العالم يختلف في رؤيته وتفكيره عن «إسرائيل» التي هدرت حقوق الفلسطينيين. وبدا واضحاً أن الموسوعة البريطانية هي أخصب موسوعة عالمية خصت موضوعنا بكل تفرعاته بالتفاصيل، وبدت محايدة مقارنة بموسوعات أخرى تجاهلت فلسطين، وركزت على «إسرائيل»، وأخرى لم تكن حيادية على الإطلاق بحيث تعرض المعلومات عن «إسرائيل» وتتجاهل العرب جملة وتفصيـلاً.

3 – الاشكالية العربية

إن العالم يعرف عن تأسيس دولة «إسرائيل» من خلال وجهة نظر الآخر فقط، صديقاً كان أم خصماً أم عدواً، دون معرفة رؤيتنا العربية لمشروعية قضيتنا المركزية، وكلما مضينا في قراءة المزيد من أدبيات الموضوع، نزداد قناعة بأن العالم يقف بالضدّ أو بالحياد، كونه قد اقتنع بما بين يديه من معلومات أغلبها بالإنكليزية، وكانت ولم تزل تصدر بالمئات، في حين تغيب الرؤية العربية عن مسردات التاريخ العالمي إلى حد كبير، وبالتأكيد سيغيب الموقف من جانب العالم إزاء قضيتنا. لقد ضخ اليهود منذ سبعين سنة، مواد تاريخية كثيرة حول تأسيس كيانهم الصهيوني بينما لم ينشر العرب إلا بالعربية مع ندرة المشاركة عالمياً، ولم يدرك العرب حجم هذا الفارق بينهم وبين اليهود الذين سوّقوا بضاعتهم بأسطورية تراجيدية عالمياً، باستثناء جهود نخبة أكاديمية عربية قليلة العدد وأغلبهم من المختصين الفلسطينيين الذين كانت لهم معاناتهم وتجاربهم المريرة ضد الصهيونية، وهم من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن أبرز المؤرخين والنقاد والمفكرين المشاركين العرب موسوعياً وفكرياً ونقدياً في توضيح قضيتنا للعالم: نبيه أمين فارس، ووليد الخالدي، ورشيد الخالدي (اشترك الثلاثة مع غيرهم في كتابة مادة فلسطين في الموسوعة البريطانية)، واسماعيل الفاروقي، وإبراهيم أبو لغد، وحنا بطاطو، وإدوارد سعيد، وهشام شرابي، وأنيس صايغ، وعزمي بشارة، وبشارة خضر، ونديم روحانا، ومحمد طربوش، ونادية أبو الحاج، ونضال سليم، وشفيق الغبرا، وإميل شحادة وغيرهم. ويبقى العرب بحاجة ملحّة ليكتبوا رؤيتهم التاريخية والفكرية في موسوعاتهم إلى العالم كله.

4 – أخطر ظاهرة تاريخية معاصرة

إن دولة «إسرائيل» واحدة من أكثر الدول إثارة للجدل في العالم. ومع ذلك، فإن وجودها غير المشروع عام 1948 لم يفسَّر بشكل كافٍ لا من جانب أصدقائها (تيار الصهاينة) ولا من جانب خصومها العرب والمتعاطفين معهم ومع حقوقهم التاريخية. ويهمني هنا أساساً: استخدام مجموعات متنوعة من المؤرخين والكتّاب لمسردات بذاتها عن تأسيس كيان غير شرعي شغل العالم كثيراً. وقد أفادتني دراسة جوناثان أدلمان في أجوبته عن سؤال: كيف اكتسبت «إسرائيل» معيار القوة للتغلب على العقبات الكبيرة والتحديات التاريخية التي أمكنها اكتساحها على حساب حقوق شعب كامل وانتزاعه من أرضه، والسيطرة على ممتلكاته التاريخية بلا وجه حق، كي تصبح قوة إقليمية خطيرة فى الشرق الأوسط بعد مرور نحو سبعة عقود على ذلك التأسيس الذي اعتبره العرب نكبة تاريخية لهم‏[1]. واكتمل بناء هذا الكيان كـ «دولة» لها عناصرها واستثماراتها على مدى عشرين سنة، أي حتى 1967.

5 – العالم بحاجة إلى الرؤية العربية

هكذا، أقول، إن على العرب في الحاضر والآتي أن يقدمّوا منظوراً جديداً ورؤية موحدة من تاريخ بشع مارسته دولة تعدّ الأكثر إثارة للجدل في العالم، وتوضيح حقوقهم التاريخية على أرضهم منذ مئات السنين، والقيام بنقد الحجج والمبررات الصهيونية ودحضها بحيثيات ومعلومات دامغة، بعيداً من الأوصاف الأيديولوجية المشحونة بالإنشائيات والشتائم، وأن تجري حوارات تصيب أهدافها باستنادها إلى وثائق وصور مقارنة لما يعرضه الخصم على العالم. إن فهم العالم لكيفية نشأة «إسرائيل»، وهي دولة مركزية في المنطقة، يساعد على شرح الكثير من المبهم عن الشرق الأوسط ومشاكله اليوم.

إن ثقافتنا العربية المعاصرة مطالبة بالبحث بصورة رائعة؛ بمجادلة ونقد ما كتبه العالم من مسردات تخص نشأة «إسرائيل» ونموِّها الصهيوني المضاد لحركة التاريخ؛ ودحض ليس المؤسسة الأكاديمية لـ «إسرائيل»، بل تصويب كل المعلومات المزيفة التي نشرتها، والأساطير التي اندثرت كغيرها؛ وأن تقوم الرؤية العربية بنقد ما تروِّجه «إسرائيل» عالمياً من تزييفات وأكاذيب وتدليسات. إن الإسرائيليين حرصاء جداً على هذا الجانب الذي خدعوا العالم به، سواء في مؤسسات وموسوعات ومراكز بحوث وجامعات في العالم بحيث هيمنت الرؤية المضادة للعرب منذ عام 1948 وحتى اليوم على تاريخ تأسيس «إسرائيل» في الشرق الأوسط الحديث.

نحن مطالبون بعد مرور 70 سنة على النكبة بتطوير وجهة نظر جديدة (حول كيفية) ولادة «إسرائيل» وجنايتها التاريخية في القرن العشرين. إن فهم العالم للرؤية العربية عن صعود «إسرائيل» من خلال قراءة أساسية لتأسيسها، سيكون بمثابة الرد الحاسم لأولئك الذين يريدون أن يفهموا كيف تغلبت الدولة الصهيونية على العرب في سياساتها البشعة. يعدّ تأسيس «إسرائيل» حالة شاذة مقارنة بتأسيس دول معاصرة أخرى في العالم، فمن يقرأ 70 سنة من حياة «إسرائيل»، سيجدها كياناً غير شرعي وغير تاريخي وغير أخلاقي، بممارستها كل الوسائل اللاأخلاقية في بناء نفسها بعد أن استلبت الأرض من أصحابها الشرعيين أولاً، وقامت بتهجير الفلسطينيين عن وطنهم ثانياً، وعانى عرب الداخل من «إسرائيل» طويـلاً ثالثاً؛ أولئك الذين اقترن اسمهم بتاريخ النكبة، فأسموهم عرب 1948‏[2].

على العالم كله أن يفهم كيف وُلدت «إسرائيل» وعاشت، فهي لها قصة معقدة جداً وينبغي أن يعرفها ويدركها من خلال الحجج المضادة للصهيونية واغتصاب فلسطين، وعلى من يمتلك تلك الحجج توفيرها للقراء المبتدئين في معرفة حقوق الفلسطينيين المستلبة وإجهاض حقوقهم وسط الصراع في الشرق الأوسط. علينا أن نتدارس الصورة السيئة جداً التي رُسمت في العالم من جانبهم عن علاقة المسلمين والمسيحيين العرب باليهود، ولنأخذ مثـلاً ما حُكي عن علاقة المسلمين الأوائل باليهود في الجزيرة العربية، وما كُتب من سيئات نسبت إلى النبي محمد (ﷺ) تجاههم من دون ذكر ما الذي فعله الكهّان اليهود به وبأصحابه، ومن ثّم مروراً بالأمويين والعباسيين والفاطميين. علماً بأن تعايشاً اجتماعياً ممتازاً قد حظي به اليهود لدى الأمويين وخصوصاً في الأندلس وعند العباسيين وصولاً إلى العثمانيين‏[3]. إن مجرد مقارنة تاريخية لحياة اليهود المكفهرة في أوروبا عن حياتهم التعايشية في الشرق الأوسط على امتداد قرون طوال، ستوضّح حقائق جديدة.

ثانياً: معنى النكبة

شاع مصطلح «النكبة» عربياً عام 1948 في إثر تمكُّن اليهود الصهاينة من تأسيس كيانهم، وتنفيذ أبشع مأساة إنسانية؛ بتشريد شعب كامل وتهجيره عن أرضه واستئصال وطنه لصالح تأسيس كيان عنصري، إذ نجحت الحركة الصهيونية بعد خمسين سنة من مؤتمرها الأول 1897. وعليه، فإن النكبة التي شاع أمرها وتداولها العرب سياسياً بعد 15/5/1948 هي المتواصلة عن النكبة التاريخية التي حاقت بالفلسطينيين مذ بدأت العصابات الصهيونية تمارس الإرهاب والبطش والمذابح ضد أهل القرى والبلدات الفلسطينية وتجريد الأرض من سكانها وممارسة التهجير للإنسان في أبشع عملية فصل عنصري مورس على امتداد القرن العشرين‏[4].

لقد اشتملت أحداث النكبة تاريخياً على احتلال معظم الأراضي الفلسطينية، وإخراج ما يربو على 750 ألف فلسطيني من ديارهم وتشريدهم كلاجئين في دول أخرى. وتضمنت الأحداث أيضاً سلسلة من عشرات المجازر البشرية وارتكاب الجرائم الفظيعة وممارسة النهب والسلب ضد أهل البلاد وترويعهم، وتمّ هدم أكثر من 500 قرية فلسطينية مع تدمير كاسح للمدن الأساسية، وتهويدها باستيعاب العدد الهائل من اليهود المستقدَمين من الشتات ليستوطنوا فلسطين. كما مارست العصابات الصهيونية المنظمة عمليات طرد لأغلب القبائل البدوية التي كانت تعيش متنقلة في صحراء النقب، محدثة أعمالاً وحشية ضدهم. إن النكبة بمعناها الأوسع: عمليات مبرمجة ومخطط لها لاستلاب وطن، وتدمير هوية فلسطينية، والقيام بمحو العناوين والرموز العربية، وتغيير الأسماء الجغرافية وتغييبها باستخدام أسماء عبرية، فضـلاً عن تشويه المعالم المتوارثة وتدمير طبيعة المجتمع الفلسطيني كمجتمع عريق توارث منذ قرون عاداته وتقاليده وخصوصية ثقافته في محيطه العربي شرق المتوسط. ولما كتب قسطنطين زريق كتابه معنى النكبة، رأى الرجل أن المشروع الصهيوني ينطوي على مخاطر تتجاوز فلسطين، لإعاقة مشروع العرب في التوحد والتقدم. لقد نشر زريق كتابه معنى النكبة عام 1948‏[5]، وعاد لينشر كتابه الثاني معنى النكبة مجدداً بعد هزيمة العرب أمام «إسرائيل» عام 1967‏[6].

يقول كلوفيس مقصود في مقاله معنى النكبة‏[7] إن من صاغ هذا العنوان هو أستاذنا المرحوم قسطنطين زريق، معتبراً اغتصاب فلسطين من قبل المشروع الصهيوني ينطوي على أخطار تتجاوز فلسطين، وتؤكد النكبة وحدة الشعب الفلسطيني وهويته العربية، ومصيره المشترك مع شعوب أمته… إنها في الجوهر تحريض على استرجاع المقاومة ووحدة مرجعيتها واستعادة الارتباط مع مسيرة الوحدة العربية، معناها اليوم استقواء بين وحدة المقاومة الفلسطينية ومشروع الوحدة العربية. فلنباشر بالمراجعة فوراً إن أمكن! إن هناك قوى ثورية وأحراراً في العالم تعاطفوا مع مأساة العرب في نكبتهم التاريخية، التي كتب عنها تشارلز سميث في كتابه فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي‏[8].. يقول جوني منصور: إن النكبة الفلسطينية عملياً، بدأت مع إطلاق وعد بلفور، وليس في عام 1948، لأنه مع إعلان الوعد بدأت بريطانيا، ومعها اليهود، بالعمل لتنفيذ وتطبيق هذا الوعد البريطاني، فانطلقت الصهيونية في بناء مؤسساتها، ويقول في كتابه‏[9]: مع اعتراف بريطانيا بالوكالة اليهودية كممثل لليهود في فلسطين… والاعتراف باليهود فيها وبالأعياد اليهودية وبالعبرية المكتوبة… قاد ذلك إلى بدء عمل اليهود لتشكيل الدولة الإسرائيلية… وبدء بناء المؤسسات اليهودية الصهيونية‏[10].

ثالثاً: الظاهرة التاريخية

•  تحقيب الظاهرة الصهيونية

مضى على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول أكثر من 120 سنة، إذ انعقد برئاسة تيودور هرتزل عام 1897، ومضى على تأسيس «إسرائيل» 70 سنة، منذ عام 1948، بمعنى نجاح الصهيونية بتحقيق هدفها بولادة «إسرائيل» بعد 50 سنة من مؤتمرها الأول. ومضى على هزيمة حزيران/يونيو 1967 أكثر من 50 سنة، في حين أفلحت «إسرائيل» في هزم العرب بعد 20 سنة من تأسيسها وبعد 70 سنة على مؤتمرها الأول.

عالجت أغلب المقالات التي تناولت «إسرائيل» وتاريخها المعاصر هذا الموضوع موسوعياً، بصورة نظام تاريخي بدءاً من انطلاق الصهيونية كنظرية سياسية اختلف في تقييمها بكونها حركة سياسية قومية إلى كونها حركة شوفينية عنصرية – كما أقر ذلك دولياً من خلال الأمم المتحدة‏[11] – ويتم تقسيم قرن كامل من حياتها إلى عدة أجزاء، كل جزء يمتد لنحو عشر سنين (أي عقد من الزمان) تختتم بحدث تاريخي معين على حساب الشرعية العربية. ولنتأمل ما حدث: مؤتمر بال 1897؛ مشروع كامبل بنرمان 1907؛ وعد بلفور 1917؛ إعلان وعد بلفور 1926؛ الثورة الفلسطينية الكبرى 1936؛ إعلان دولة «إسرائيل» 1948؛ العدوان الثلاثي 1956؛ هزيمة العرب 1967؛ اتفاقية كامب دايفيد 1978؛ إعلان قيام الدولة الفلسطينية 1988… إلخ.

لقد تأسست «إسرائيل» عام 1948، ولكنها رسّخت نفسها عام 1967، وأكدت دولتها في هذا التاريخ كحقيقة ماثلة لا مغامرة، ما ساهم في تدفق يهود الشتات إليها، وانفتحت عليها الاستثمارات من بقية العالم. وبالرغم من التحالف البريطاني – الصهيوني المساند لـ «إسرائيل»، وما صبغ بأساطير صهيونية أيضاً، كونها حرب الكثرة المعتدية «العرب» ضد القِلة المعتدى عليها ««إسرائيل»»، فعددياً كان جنود الهجانة الصهيونية أكبر من أعداد الجنود العرب المشاركين بأجمعهم في الحرب، بينما بن غوريون كان يقول إن حرب 1948 لم تحسم مسألة وجود دولة إسرائيلية، ولا بد من حرب أخرى لكسر صلف النخب العربية وإقناعها بفكرة دولة «إسرائيل». وعليه، فإن ما حدث عام 1948 هو إجراء عملي يترجم ما حصل في خمسين سنة منذ عام 1917 وحتى عام 1967، واليوم نكمل خمسين سنة ثانية بعد أن غدت «إسرائيل» واقعاً تاريخياً في إثر هزيمة 1967.

رابعاً: نقد وتفكيك مواقف في التاريخ الموسوعي الغربي المقارن

1 – ليس كما يدعي اليهود أن كيانهم الصهيوني المتمثل بـ «إسرائيل»، هو بلد صغير، ولكنه كيان مغتصب لحقوق الآخرين. صحيح أنه بلد أصغر قليـلاً من ولاية نيوجرسي في الولايات المتحدة، ولكنه بُني على باطل ولا مشروعية واقعية له ابداً. وقد ذكرت موسوعة أمم العالم وثقافاتهم أن فلسطين تحادد البحر المتوسط بطول 273 كم (168 ميـلاً)‏[12]. وفي موسوعة شعوب العالم، نتبين حجم اليهود تاريخياً ليكونوا أكثر من ستة ملايين يهودي في الشرق الأوسط، وأن شعورهم الجمعي في العالم يتمثّل بتحقيق حلمهم في «إسرائيل» التي وصلوا إليها من أماكن مختلفة من العالم‏[13].

2 – ونقف في الموسوعة الكاثوليكية الضخمة عند مقالتين مطولتين: الأولى تخص فلسطين والثانية باسم «إسرائيل»، ففي المجلد العاشر، نتوغل في فلسطين التي تسميها الموسوعة وطن «إسرائيل» وتعالج طبوغرافيتها وجغرافيتها السياسية والطبيعية وآثارها وتاريخها منذ العصور الحجرية وصولاً إلى البرونزية والعصر الحديدي وانتقالاً إلى العصر الفارسي ثم الإغريقي ثم الروماني ثم البيزنطي (ولا وجود للبابليين)، ثم باختصار شديد الفترة العربية الأولى ومرحلة الحروب الصليبية ولا وجود للأمويين ولا للعباسيين ولا للعثمانيين‏[14].. في حين تعالج مقالة «إسرائيل» (المجلد 7) تفاصيل واسعة عن «إسرائيل» القديمة والسبي البابلي وحتى الرومان مع انقطاع تاريخي واضح من دون معالجة المراحل والعهود العربية الإسلامية والانتقال مباشرة إلى دولة «إسرائيل» والحركة الصهيونية والتقسيم وقرار الأمم المتحدة والحرب العربية – الإسرائيلية‏[15]، والايحاء باعتداء العرب على اليهود.

3 – وننتقل إلى الموسوعة الكاثوليكية الجديدة، فلا نجد أي ذكر لفلسطين ولا لـ «إسرائيل» فيها‏[16]. وفي موسوعة حديثة أخرى لم أجد فيها أي ذكر لفلسطين أبداً، بل اقتصر على تاريخ «إسرائيل» وسمّاها أرض الميعاد (The Promised Land)‏[17]، والشيء نفسه ينطبق على موسوعة تاريخية أخرى اقتصرت على تقسيم الأمم المتحدة عام 1947 لفلسطين: قسم عربي وقسم يهودي‏[18].

4 – وفي موسوعة تاريخ «إسرائيل»، أجد تحليـلاً لعوامل قيام منظمة الهاغانا الصهيونية والتشديد على دور بيغن في بريطانيا، وأثر الحرب الثانية وأدولف هتلر. ويؤكد مارتن غلبرت بقوله: وكان بالإمكان أن يتفاهم الفلسطينيون مع اليهود لولا الهياج العربي والإسلامي.. ودور المفتي أمين الحسيني مع هتلر الذي عُدّ العدو الأول لليهود في العالم، إذ كان لدور جرائم هتلر ضد اليهود تعاطف العالم معهم وكل ذلك ساعد على أن يفقد العرب أوراقهم حتى صدور قرار الجمعية العامة في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947‏[19].

5 – ويبرر المؤرخ غلبرت نكبة شعب كامل بقوله: «لقد ضاعت جهود الفلسطينيين وكفاحهم في الثلاثينيات بوقوعهم في فخ هتلر والنازية، وفي اللحظات الحرجة كان المفتي قد احتضنه هتلر في ألمانيا»‏[20]. أما حرب 1948، فثمة تفاصيل تاريخية عنها في كتاب موسوعي عنوانه 1948، كان للعرب أن ينتصروا على كيان لم يؤسس بعد، وتدل الأحداث وتراكيبها من خلال المصورات والخرائط عن دور الجيش العراقي إزاء أدوار جيوش أخرى بقيت على الهوامش في حين اخترق الجيش العراقي فلسطين، ولاحت سواحل البحر المتوسط أمامه، أي أنه فصل اليهود في شمال فلسطين عن جنوبها‏[21].

6 – وفي موسوعة الشرق الأوسط نجد اهتماماً كبيراً بشأن «إسرائيل»، بتخصيص عدة صفحات وصور متنوعة‏[22]، والتوقف عند نشأتها بعد شرح جغرافية المكان (فلسطين) والانتقال إلى تاريخ النشأة ليقف عند 14 أيار/مايو 1948 معتبرين إياه يوم وجود أو إعادة وجود «إسرائيل»، وما قامت به الصهيونية بتحقيق حلم اليهود في العالم وعودة الجذور إلى الحياة عبر قرون مضت منذ أن تشتت اليهود على أيدي الرومان بعد ثوراتهم إبان القرنين الأول والثاني للميلاد‏[23]. وتمر الموسوعة على المسلمين ووجودهم والحروب الصليبية وتشتت اليهود من إسبانيا بعد عام 1492 حتى القرن التاسع عشر، إذ بدأت الحركة الصهيونية تطرح فكرة جمع اليهود ثانية في الأرض الموعودة. وثمة بحث في الصهيونية وتكوينها‏[24]، ثم الانتقال إلى انتداب بريطانيا لفلسطين حتى حرب الاستقلال 1948 – 1949 التي جاءت في إثر الهولوكست الذي صنعه هتلر باليهود، مع شروح بكيفية انتصارات الصهاينة من دون أي ذكر لعملياتهم الإرهابية وعلى رأسهم بن غوريون الذي أعلن ولادة «إسرائيل»‏[25]. وجعل العرب أقلية في وطنهم في إثر بناء كيان دولة «إسرائيل»‏[26].

7 – إنه لأمر غريب أن تخلو إنسايكلوبيديا آسيا الحديثة (ستة مجلدات) من مادة «إسرائيل» وفلسطين كلها، وقد ورد في المجلد 6: إن فلسطين قد انتُدبت من قبل بريطانيا، وإن اليهود تجمعوا فيها ليؤسسوا دولة مستقلة يهودية لهم في حين شعر العرب بعد أن تحرروا من حكم الأتراك وقوعهم بأيدي الإنكليز والفرنسيين، فبدأوا حركات تحررهم التاريخي‏[27].

8 – أما موسوعة التاريخ المرئي للعالم، فلم أجدها قد وقفت على نشأة «إسرائيل»، ولكنها خصصت صفحتين كبيرتين عنها، وكأن وجودها تحصيل حاصل، صفحة من التفاصيل لما قبل 1967 وتسند الدور التاريخي لبن غوريون وصفحة لما بعد 1967 وتؤكد دور النخبة الأوروبية الإسرائيلية في مشروع التأسيس‏[28].

9 – وتتعامل إنسايكلوبيديا ويبستر الدولية الجديدة مع «الموضوع» بمقالتين منفصلتين أولاهما «إسرائيل» وثانيهما فلسطين، وهناك شروح جغرافية واقتصادية وبشرية عن مجتمع «إسرائيلي» أغلبيته من اليهود المهاجرين إزاء 15 بالمئة من أقليات عربية من مسلمين ومسيحيين ودروز وغيرهم، أما عن فلسطين وأهلها الذين كانوا يسمون منذ القدم بالكنعانيين، فنجد ثمة توازناً وحيادية في تحليل العناصر الأساسية للموضوع‏[29].

10 – ونقف أيضاً عند كتاب موسوعي الحضارة الغربية (يدرّس لطلبة العديد من الجامعات الأمريكية والكندية) ويحكي نشأة «إسرائيل» قائـلاً: أسئلة حول قدر اليهود الذين قاسوا بشدة خلال الحرب العالمية الثانية، وأن ثلثي اليهود في أوروبا قد قتلوا، وعدداً ممن بقي حياً إما غدا بلا مأوى، أو قرر عدم الحياة ثانية في أوروبا كأقلية، إذ قرر اليهود بمجموعهم أن يتملكوا وطناً لهم. لقد مضت عقود من السنين والحركة الصهيونية تعمل على أن تكون أرض الميعاد («إسرائيل») موطناً لليهود. وكانت الهجرة اليهودية في إثر الحرب الأولى قد تركزت في قلب فلسطين بعد طرد الفلسطينيين العرب. وكان العرب قد بنوا علاقاتهم بترولياً مع البريطانيين المتحالفين معهم بسبب البترول، وتدفق اليهود إلى فلسطين ليكوّنوا دولة لهم باسم «إسرائيل». إن الولايات المتحدة أخذت في الحسبان العوامل والأسباب كي تتعاطف مع الصهيونية، في حين نضجت الخلايا الإرهابية اليهودية ضد الإنكليز في أحياء القدس… وفي أيلول/سبتمبر 1947، صدر قرار الأمم المتحدة، وأعلن اليهود دولتهم بعد صراع مع العرب، وبقي القتال حتى 1949 وضم اليهود مناطق هائلة من الأراضي الفلسطينية‏[30].

11 – ويحاول المؤرخ الأمريكي وليام ماكنيل أن يكون محايداً لا موضوعياً في موسوعته تاريخ العالم في تحليله مشروعية العرب في فلسطين على حساب تأسيس كيان يهودي فيها، ويجد الأعذار والمبررات لذلك‏[31].

12 – وفي موسوعة القرن (The Century) إشارة تاريخية إلى أن سفن خطة مارشال قد عبرت مياه الأطلسي فضـلاً عن الطائرات لحمل اللاجئين اليهود، ونقلهم إلى مستعمرة فلسطين البريطانية التي أُعلنت من جانب الأمم المتحدة دولة باسم «إسرائيل». وكان الاتفاق قوياً بين الروس والأمريكان لتأسيس مستوطنات يهودية في فلسطين على حساب تهجير أهلها العرب‏[32].

13 – إذا كان العرب يسمّون ما حدث لتأسيس «إسرائيل» المخجل «النكبة»، فإن إنسايكلوبيديا الشرق الأوسط الحديث تسمي ذلك استقلال دولة «إسرائيل» 1948! وكأن «إسرائيل» كانت موجودة وقد استقلت؟؟ وتستطرد قائلة: إن ذلك «الاستقلال» جاء نتيجة لكفاح استمر نصف قرن من جهود قادة الصهيونية لتأسيس دولة سيادية أو لها سيادة (Sovereign) كوطن ليهود الشتات، وتحقيق حلم عودتهم كما جاء في التوراة بعد أن تشظوا في إثر قيام الإمبراطورية الرومانية بتدمير أورشليم عام 70 ق. م. وتشتيت السكان الأوائل من فلسطين. وبقيت البقايا اليهودية تتشظى حتى قيام الحركة الصهيونية بقيادة ثيودور هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر، الذي خطا خُطىً مدروسة دولياً لجمع كل يهود العالم‏[33] (كذا).

خامساً: أرنولد توينبي: اليهود في طريقهم إلى الانقراض كمجتمع أحفوري لولا الحركة الصهيونية

ذكر المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي في موسوعته دراسة في التاريخ، مناقشاً الثقافة اليهودية، أنه «لا تزال هناك حالة تمثل ضحايا التمييز الديني وهي تحكي مجتمعاً منقرضاً كبقية المجتمعات الكلاسيكية التي اندثرت كونها لم تقوَ على النمو فهي بقايا أحفورية كالنساطرة واليهود»‏[34]. وقد اختلفت الآراء حول تفسير هذه الجملة، واتُّهم توينبي بمعاداة السامية، وخصوصاً بعد عام 1945‏[35] وفي مطبوعات لاحقة، أرفقت حاشية كتب عليها «كتب السيد توينبي هذا الجزء من الكتاب قبل الاضطهاد النازي لليهود وفتح فصـلاً جديداً ومروِّعاً من القصة. السفير الإسرائيلي يعقوب هرتزوغ والمؤرخ أرنولد توينبي أمام طلاب جامعة ماغيل في عام 1961.

الصورة: السفير الإسرائيلي يعقوب هرتزوغ والمؤرخ أرنولد توينبي أمام طلاب جامعة ماغيل في عام 1961 (أرشيف Rogers photo).

كان موقف توينبي قد اتخذ التشكيك في حق اليهود بتأسيس دولة، فهي دولة لا مشروعية لها والتأكيد أن المعاملة الصهيونية للفلسطينيين تعادل أخلاقياً معاملة النازية لليهود. حدث ذلك في عام 1961 في جامعة ماغيل الكندية بمونتريال، حيث ألقى توينبي محاضرة مثيرة للجدل هناك، وأعقبها حوار تاريخي، إذ تحدّى السفير الإسرائيلي لدى كندا، يعقوب هرتزوغ، المؤرخ توينبي، ودعاه إلى حوار عام، وقد سجلت المحاورة التاريخية بعد أن بُثت مباشرة في جميع أنحاء العالم ومنها «إسرائيل» نفسها. ووصفها شيمون بيريز أنها «أحد أكثر المناقشات المثيرة في تاريخ شعبنا»‏[36].

كتب توينبي منذ عام 1954 وكان ضد اضطهاد اليهود للعرب، إذ شبهه باضطهاد النازية لليهود ولكن ما جاء في المحاضرة انتشر بسرعة أكثر من كتابات الرجل. وكان توينبي قد وصف الشعب اليهودي بأنه صاحب حضارة «متحجرة» وأنه «مجتمع منقرض»، كما وصف الصهيونية لاحقاً في عام 1934 بأنها حركة «شيطانية». وكان أن اتُّهم بمعادة السامية. وكان أن تحدى السفير الإسرائيلي فوراً لمواجهته في حوار عام حول مقايسة الصهيونية بالنازية وتأكيده أن اليهودية «أحفورية» منقرضة، حالها حال كل المجتمعات الكلاسيكية في التاريخ القديم التي ماتت كلها ولم تحيا منذ آلاف السنين. كان السفير الإسرائيلي في التاسعة والثلاثين من العمر إزاء توينبي البالغ الواحدة والسبعين، وللسفير ثقافته الدينية ودبلوماسيته البارعة وهو حفيد الحاخام الأشكنازي الثاني إسحق هاليفي هرتزوغ. وسيعمل لاحقاً مديراً عاماً لمكتب رئيس الوزراء ليفي أشكول وغولدا مائير.

وهكذا، مساء يوم 31 كانون الثاني/يناير 1961، وقف السفير الشاب موقفاً شخصياً لا رسمياً كما قال، وبدأ الحوار الذي دام الإعداد له 48 ساعة، وقال توينبي: «لم أفعل سوى القليل جداً من حيث قدرتي الرسمية، وقد اجتزت إلى حد ما بعد الزمان والمكان بضعة آلاف من السنين من التاريخ، ذهاباً وإياباً، في محاولة لتفكيك الحضارات ونبش الحفريات». واعترف هرتزوغ قائـلاً: «بالرغم من أن الزعماء اليهود قد نصحوا السفير ورفضوا تحدّيه لتوينبي خوفاً من كونه دبلوماسياً مجهولاً نسبياً إزاء مفكر دولي شهير يقرب من ضعفي عمره». في حين كتب مايكل بار – زوهار سيرة هرتزوغ قائـلاً: «في تلك اللحظة، كان هرتزوغ يقاتل من أجل شرفه».

كانت المعركة رائعة المضامين مروراً بتواريخ اليهود والعرب في إطار التاريخ البشري، وتناولت محاور شتى، من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين إلى مناهج القانون الدولي، ولكن اشتد الحوار ومحاججاته حول الإجراءات الإسرائيلية عام 1948 ومعادلتها بإجراءات النازيين، وما إذا كانت الأمة اليهودية حضارة متحجرة إذ كانت متوقفة عن النمو لآلاف السنين، فأجابه هرتزوغ: ولكنها نهضت من جديد، فسدد له توينبي لكمته بقوله: على حساب دماء الأبرياء واستئصال شعب بأساليب همجية لاأخلاقية‏[37]!

منذ البداية، ضغط هرتزوغ على توينبي كي يقارن بالأعداد بين ضحايا النازية وضحايا الصهيونية، فأجابه توينبي بأنه لا يعادل إحصائياً أعمال الإبادة الجماعية، بل إنه ببساطة يرسم مقارنة أخلاقية: ذاك أن المذابح التي ارتكبتها «إسرائيل» عام 1948 لم تكن مختلفة عن تلك التي ارتكبها الألمان ضد اليهود. وقال «إذا قتلت رجـلاً، فإن ذلك يجعلني قاتـلاً». «لست مضطراً إلى الوصول إلى علامة ألف أو علامة المليون لأكون قاتـلاً».

هرع هرتزوغ ليحاجج توينبي تاريخياً في بعض ما كتبه بارتكاب فظائع أوقات الثورة والحرب، وسرد جميع الدول المتورطة في هذه التهمة متسائـلاً: «لماذا لا تعتبر ذلك أيضاً في فئة الفظائع النازية؟ لماذا تختارنا نحن؟ ونحن أقل ذنوباً من أي دولة حديثة أخرى. فأسكته توينبي ثم تحول الحوار إلى مسألة تقييمية: هل لليهود حيويتهم المعاصرة، أم أنهم مجرد بقايا «أحفورية» عفّى عليها الزمن بعد أن بقيت مناطقهم منعزلة لوحدها آلاف السنين؟ وهل كان إنشاء «إسرائيل» مفارقة تاريخية أم إنجازاً؟ وأسقط ما عند هرتزوغ من أوراق عندما اعترف توينبي بأن ««إسرائيل» يمكن أن تدمر، تماماً كما يمكنك تذويب سيارة». وأصرّ على اتهام اليهود بممارسة الاضطهاد والعزلة، وهم لم يكن لهم أي دور مؤثر في التاريخ الحديث.

وبحلول نهاية الحوار، كان واضحاً أن اليهود شنوا حملات هجوم واسعة النطاق ضد المؤرخ توينبي في الصحف والإعلام العالمي مباركين للسفير الشاب حماسته، ولم تزل هذه المحاورة واحدة من أهم دروس المؤرخ للسياسيين. وبقي اليهود وما زالوا يناصبون توينبي العداء وهو أبرز مؤرخ موسوعي في القرن العشرين، وأن هرتزوغ ذهب لخدمة العديد من رؤساء الوزراء الإسرائيليين، وتوفي شاباً عام 1972، وهو في سن الخمسين. وكان هرتزوغ قد اعترف أمام العالم بتهمة «إسرائيل» بسلوكها النازي، فلم ينكر ارتكاب الميليشيات الإسرائيلية جرائم فظيعة عام 1948. وقد أخطأ في منازلته توينبي الذي كان حواره فضحاً لـ «إسرائيل» أمام العالم كونها كياناً يثير الاشمئزاز وهي مصممة على قضم الأراضي من خلال مشروع شيطاني! إنها قاعدة يحكمها مجرمون فاشيون يثيرون المسألة الدفاعية التي تقود الآخرين للدفاع عن «إسرائيل» في جميع الظروف، ومصيرها كما قال توينبي الدفن في مزبلة التاريخ، ستبقى كلمات المؤرخ توينبي هي الفائزة بعد كل شيء.

سادساً: الاستنتاجات: دروس ومقترحات

لقد علمتنا هذه «الجولة» النقدية كثيراً، وخصوصاً أن الفوارق كبيرة بين الحقائق والتزييفات، أو بين المعلومات والتشوُّهات. إن قراءة كل موسوعة تختلف عن قراءة الأخرى بحكم تباين المناهج وقوة المعلومات وحجوم المضامين الموسوعية من عدة أسطر إلى عدة صفحات. وعلى الرغم من حيادية أغلب الموسوعات – كما تدّعي – إلا أن هناك معلومات ثابتة تتناقلها الموسوعات مع تباين في التفسير وتحديد المواقف بافتقاد الموضوعية. صحيح أن العالم تعاطف مع اليهود وأحداث الهولوكست النازي ضدهم في أوروبا، ولكن التاريخ الموسوعي العالمي لم ينصف العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً مقارنةً بأحداث الهولوكست الصهيوني ضد الفلسطينيين.. وصحيح أن ثمة تواريخ موسوعية ممالئة لليهود الصهاينة في تأسيسهم لـ «إسرائيل»، ولكن تواريخ موسوعية أخرى تقف ضدهم وضد تواريخ مؤسساتهم الإرهابية وعملياتهم ضد العرب. وإذا كان تبرير قيام «إسرائيل» قد استند إلى 2000 سنة مضت، فإن كل دول العالم القديم قد زالت وانقرضت، فلا مشروعية لقيام «إسرائيل» كون شعبها قد انقرض، ولولا الحركة الصهيونية لما راجت مثل هذه الأسطورة على حد موقف المؤرخ أرنولد توينبي. وعليه، فإن مصير «إسرائيل» اليوم سائر إلى الزوال.

تتضّح الصورة جلية الآن كم راهنت «إسرائيل» على خطابها للعالم منذ عقود طوال من السنين، وهو الأهم عندها.. كما يتوّضح دور اليهود في تكريس ما أرادوا تعميمه على العالم من معلومات، وأنهم لم يسمحوا أبداً بالحقائق التي يعرضها العرب ورؤيتهم لقضيتهم التي شغلت العالم في القرن العشرين. وبالرغم من مواقف أطراف ومختصين ومفكرين وأكاديميين من بلدان متعددة إزاء الحقوق العربية، كي تتصدر «إسرائيل» قائمة الإرهاب في موسوعة تعتني بذلك، وقيام مراكز بحوث ودراسات بنشر ما يدين الصهيونية و«إسرائيل»، وخصوصاً لدى جيل جديد من الباحثين في العالم، إلا أن هذا العالم بحاجة ماسة إلى الرؤية العربية الموّحدة والدراسات النقدية العربية لخطاب «إسرائيل»، وفضْح مواقفها ودراسة مواطن الخلل في معلوماتها. بالرغم من جهود مشكورة قدمتها نخبة عربية (وأغلبهم من المختصين والمفكرين والمؤرخين الفلسطينيين) في طرح الحقوق العربية المستلبة من قبل الصهاينة، إلا أن الضرورة باتت ماسة إلى تكريس خطاب عربي يوّجه باللغات الأساسية الحية إلى العالم، وأن تقوم مراكز بحوث عربية بدراسة ونقد ما ينتج عالمياً حول مختلف القضايا التي تخص العرب، وخصوصاً قضيتهم المركزية فلسطين، ونشرها مطالبين بالتحقق منها موضوعياً دون الوقوف على الحياد فقط. وكم أتمنى أن يتصدّى أي سفير عربي لمؤرخ صهيوني ليفحمه أمام العالم.

قد يهمكم أيضاً  فلسطين وإسرائيل وشعرية الإبادة الجماعية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #فلسطين #النكبة #قيام_الدولة_الصهيونية #إغتصاب_فلسطين #تأسيس_دولة_”إسرائيل” #دراسات