مقدمة:

واجه النظام السياسي الفلسطيني بمكوِّنَيه منظمة التحرير والسلطة الوطنية، ومنذ نشأته في عامَي 1964 و1994، تحديَ إقامة نظام سياسي يحتكم إلى القانون، ويرتكز على الأُطر الدستورية والبناء المؤسسي، ويعزّز الحكم الرشيد، لتمثيل الشعب الفلسطيني وإدارة شؤونه في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، وخارجها في مناطق النزوح والشتات، بوصف منظمة التحرير الوطنَ المعنوي للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده. ولَمّا أُخضع النظام السياسي الفلسطيني لمقارنته بالأنظمة السياسية مكتملة الأركان، ومع تنامي مظاهر القصور والخلل والضعف في البُنية المؤسساتية والإخفاقات التي رافقت الأداء الفلسطيني طوال هذه السنوات؛ انطلقت مطالب الإصلاح من داخل النظام نفسه، ومن القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والذوات الاعتبارية، ومن جهاتٍ دولية في مقدمتها الدول الراعية لعملية التسوية السياسية، والدول المنغمسة في قضية الصّراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والمؤسسات الداعمة للقضية الفلسطينية عمومًا.

تطرح هذه الدراسة إشكاليتها الرئيسة، المتمثلة بـ: إلى أي حدٍّ استجاب النظام السياسي الفلسطيني لمطالب الإصلاح؟ تثير هذه الإشكالية العديد من التساؤلات، أهمها: 1- ما أبرز مبادرات ومطالب إصلاح النظام السياسي الفلسطيني؟ 2- ما تأثير مبادرات الإصلاح على صانع القرار في النظام السياسي الفلسطيني؟ 3- هل الإصلاحات التي أنجزها النظام السياسي الفلسطيني عبّرت عن الاستجابة للمطالب الداخلية أم كانت حصيلة الضغوط الخارجية؟

وفي محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات تتوقف الدراسة عند فرضيتين:

الأولى، مفادها أنَّ ثمّة علاقة ارتباطية بين رشد النظام السياسي وبين حرصه على الاستجابة لمطالب الإصلاح وتلبيتها.

أما الفرضية الثانية، فترى أنَّ طبيعة النخبة السياسية الفلسطينية تسعى إلى الحفاظ على الأوضاع القائمة، وهي بذلك تُعدّ سببًا من أسباب إعاقة عملية الإصلاح في النظام السياسي الفلسطيني.

تهدف الدراسة إلى استعراض عام لنظريات ومفاهيم الإصلاح والنظام السياسي؛ وذلك بغرض التعرف إلى مستوى الاستفادة من مفاهيم الإصلاح في السّياق الفلسطيني، ومدى تطابق النظام السياسي على الحالة الفلسطينية. كما تناقش الدراسة مبادرات الإصلاح في النظام السياسي الفلسطيني من حيث دوافعها وظروفها، وترصد وتُقيّم مستوى الاستجابة لها، والصعوبات التي واجهتها خلال المرحلة الممتدة من عام 1964، وحتى عام 2021.

وفي ضوء ما تقدم، تُعالج الدراسة إشكاليتها، وتساؤلاتها الفرعية من خلال ثلاثة محاور على النحو الآتي:

أولًا: مقاربة نظرية لمفهومَي الإصلاح والنظام السياسي مع تطبيقهما على الحالة الفلسطينية.

ثانيًا: مبادرات ومطالب الإصلاح في سياقها الفلسطيني.

ثالثًا: إصلاح النظام السياسي الفلسطيني بين الإنجازات والإخفاقات.

أولًا: مقاربة نظرية لمفهومي الإصلاح والنظام السياسي مع تطبيقهما على الحالة الفلسطينية

1- مفهوم الإصلاح السياسي

شغل موضوع الإصلاح السياسي حيزًا متناميًا لدى مفكّري الأدبيات السياسية ومنظّريها بوجهٍ عام، وفي حقل النظم السياسية المقارنة على وجه الخصوص. فذهب العديد من الباحثين إلى وصف عملية الإصلاح السياسي بأنها عملية تطوير في أنظمة الحكم والانتقال بها من البُنى التقليدية إلى بُنى عصرية تحتكم إلى القانون، وتستند إلى نصوصه، وأنَّ هذه العملية تدريجية وتمر بمراحلٍ متعددة، وصولًا إلى رشد وكفاءة وفعالية النظام السياسي. وجاء تعريف الإصلاح في قاموس أكسفورد بأنه: “بناء قائم يتم إصلاحه، وذلك للوصول إلى وضع أفضل بتعديل الأخطاء بشكل سليم وصحيح؛ مما يؤدي إلى تغيير أفضل وأصلح”[2]. وعرّفه صموئيل هانتنغتون بأنه: “تغيير القيم وأنماط السلوك التقليدية ونشر وسائل الاتصال والتعليم، وتوسيع نطاق الولاء، بحيث يتعدى العائلة والقرية والقبيلة ليصل إلى الأمة وعلمنة الحياة العامة، وعقلانية البُنى في السلطة، وتعزيز التنظيمات المتخصّصة وظيفيًا، واستبدال مقاييس المحاباة بمقاييس الكفاءة، وتأييد توزيع أكثر إنصافًا للموارد المادية والرمزية”[3]. وتعرّف الموسوعة السياسية الإصلاح بأنه: “تعديل أو تطوير غير جذري في شكل الحكم أو العلاقـات الاجتماعية دون المساس بأسسها، والإصلاح خلافًا للثورة ليس سوى تحسين في النظام السياسي والاجتماعي القائم دون المساس بأسس هذا النظام”[4]. ويتداخل مفهوم الإصلاح السياسي مع بعض المفاهيم كالتحديث السياسي، والتنمية السياسية، والتغيير السياسي، والتحول الديمقراطي، التي تلجأ إليها الدول والحكومات وبمختلف أدواتها.

ويتخذ الإصلاح مستويات ثلاثة[5]: الأول، هو الإصلاح الذي هدفه الوصول إلى السلطة والمشاركة فيها، وهو ما يعرف بالاتجاه الثوري في التغيير المستند إلى بناء القوة من أسفل إلى أعلى، وبصورةٍ تدريجية وتراكمية، لبسط السيطرة الأيديولوجية على المجتمع المدني ومكوناته كمدخل للسيطرة السياسية. أما المستوى الثاني فهو الإصلاح بكونه عملية تطوير مجتمعي مستمرة تهدف إلى تحسين الأداء في المؤسسات السياسية والاجتماعية والنظم للوصول إلى الكفاءة والفعالية، وهو ما يسمى بالإصلاح السياسي أو الإداري أو القانوني. أما المستوى الثالث فهو المتعلق بالإصلاح الفردي، والداعي للتمسك بالقيم الأخلاقية والمعرفية والسلوكية، وقَبول الآخر وتكوين هوية مشتركة وتطويرها.

ووفق هذا التصور، فإنَّ المداخل النظرية المفسرة للإصلاح تتوزع على ثلاثة: 1- المدخل التحديثي: والذي يقوم على ضرورة المزاوجة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية؛ 2- المدخل الانتقالي: ويمر بأربع مراحل أساسية (مرحلة تحقيق الوحدة الوطنية وتشكيل هوية سياسية مشتركة، ومرحلة الصراع السياسي الطويل بين مختلف القوى والجماعات، ومرحلة القرار وتشهد عملية الانتقال والتحول وتوصل الأطراف المتنازعة إلى التسويات، ومرحلة التعود وتعني تعود الأطراف المختلفة على القواعد الديمقراطية)؛ 3- المدخل البنيوي: والذي يفترض أنَّ المسار التاريخي للتحول الديمقراطي أو الإصلاح السياسي يتوقف بالأساس على طبيعة البُنية المتغيرة للطبقة والدولة، وليس من طريق مبادرات وخيارات النخب فحسب[6].

وحول عملية إصلاح النظام السياسي الفلسطيني، يُعدّد محمد خالد الأزعر[7] وباسم الزبيدي[8]، المداخل النظرية والمفاهيمية للإصلاح والتحول الديمقراطي بالثقافة السياسية والتعددية السياسية، والبناء الاجتماعي والاقتصادي، والتكوين القضائي- القانوني، والإصلاح المؤسساتي، والتأثيرات الخارجية، والمداخل البنيوية والثقافية. ويرى الزبيدي[9] أنَّ مفهوم الإصلاح في الحالة الفلسطينية له خصوصيته؛ نظرًا إلى التداخل بين مهمتي التحرر الوطني والبناء المجتمعي، الأمر الذي يقتضي الارتكاز على قاعدتي حق تقرير المصير والتنمية المجتمعية، وهو ما يسمح بجعله مفهومًا شاملًا للأبعاد المادية، والمعنوية، والعملية، والنظرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والقانونية، والإدارية، والمالية، والمؤسسية، وتبني رؤى مشتركة وموحدة خطابًا وأداءً، وإعادة النظر في مجمل قضايا الوضع الداخلي إلى جانب تحديد أهداف واستراتيجيات متفق عليها في مواجهة السياسات الإسرائيلية بشكل يخدم التطلعات والأهداف الفلسطينية.

2- مفهوم النظام السياسي

استُخدم النظام السياسي كمرادف لنظم الحكم، فالمدرسة الدستورية فهمت النظام السياسي على أنه المؤسسات السياسية وبالذات المؤسسات الحكومية (التنفيذية، والتشريعية، والقضائية)، لكن وتحت تأثير المدرسة السلوكية، اتخذ مفهوم النظام السياسي أبعادًا جديدة، وأصبح يشير إلى شبكة التفاعلات والعلاقات والأدوار التي ترتبط بظاهرة السلطة، سواء من حيث منطلقها (الجانب الأيديولوجي)، أو القائمين على ممارستها (النخبة)، أو الإطار المنظِم لها (الجوانب المؤسسية)[10].

فجبرائيل ألموند[11] يرى أنَّ النظام السياسي لأي دولة يتكون من أربعة عناصر مهمة وضرورية: 1- مواطنون ومجموعات اجتماعية تبحث عن تحقيق رغباتها السياسية وبخاصة الأمن والسلام والحرية؛ 2- هيئات لصنع القرارات واتخاذها، ومجموعة قوانين تحكم هذه الهيئات؛ 3- مجموعة قرارات ذات تأثير قوي تقوم بتوزيع المصادر الاقتصادية وتقنين القيم الاجتماعية والسياسية؛ 4- مجموعة تفاعلات وأدوار موزعة بين المدخلات والمخرجات.

أما ديفيد إيستون[12] فيعرّف النظام السياسي بأنه: تلك المتغيرات المتعلقة بالحكم وتنظيماته والجماعات السياسية والسلوك السياسي، لذلك حدّد إيستون ثلاثة عناصر من الضروري توافرها في أي نظام سياسي، وهي: 1- صنع السياسات “السلطة التشريعية”؛ 2- تنفيذ السياسات “السلطة التنفيذية”؛ 3- عملية إلزام المجتمع بهذه السياسات وإعطائها التفسير الصحيح “السلطة القضائية”.

ما يميز أفكار إيستون تناوله لمفهوم “بيئة النظام السياسي” التي تتكون من البيئة المجتمعية الداخلية والبيئة المجتمعية الخارجية. فعلى الصعيد الداخلي، يتأثر النظام السياسي بمجموعة الأنظمة الموجودة، والتي تتمثل بمجموعة الاتجاهات وأنماط السلوك والأفكار التي يمكن وضعها تحت عناوين اقتصادية وثقافية واجتماعية وسلوكية وحضارية. أما على الصعيد الخارجي، فالنظام السياسي يتأثر بالبنية السياسية والاقتصادية التي تضم الأحلاف العسكرية؛ دور الأمم المتحدة؛ النظم الإقليمية؛ التكتلات الاقتصادية، موازين القوى الدولية والإقليمية والنظم الثقافية الدولية في ظل عولمة الثقافة والإعلام[13].

وعرّفت موسوعة العلوم السياسية النظام السياسي بأنه: “مجموعة التفاعلات والأدوار المتداخلة والمتشابكة التي تتعلق بالتخصيص السلطوي للقيم، أي بتوزيع الأشياء ذات القيمة بموجب قرارات سياسية ملزمة” (ديفيد إيستون)، أو هي التي “تتضمن الاستخدام الفعلي، أو التهديد باستخدام الإرغام المادي المشروع في سبيل تحقيق تكامل المجتمع على الصعيدين الداخلي والخارجي” (جبرائيل الموند)، أو هي التي “تدور حول القوة والسلطة والحكم” (روبرت دول)، أو هي التي “تتعلق بتحديد المشكلات وصنع القرارات السياسية وتنفيذها”[14].

وبالتطبيق على النظام السياسي الفلسطيني، نجد أننا أمام تجربتين نظاميتين: منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الوطنية الفلسطينية. فمنذ قيام منظمة التحرير عام 1964، تمّ التعامل معها كتجسيد للكيانية السياسية الفلسطينية، من حيث وجود قيادة ومؤسسات تتمثل بـ: رئيس اللجنة التنفيذية، واللجنة التنفيذية، والمجلس الوطني، والمجلس المركزي، والقضاء الثوري، ومؤسسات أخرى. ومع دخول منظمة التحرير في اتفاقات التسوية السياسية مع إسرائيل في عام 1993، أُنشئت السلطة الفلسطينية، وأُقيمت مؤسساتها[15]: التنفيذية والتشريعية والقضائية.

مهّد أحمد الشقيري بعد تعيينه مندوبًا لفلسطين لدى جامعة الدول العربية، لإنشاء الكيان الفلسطيني والإعلان عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك من خلال جولته العربية التي أخذت صفة الإعداد للمؤتمر التأسيسي الذي عُقد في مدينة القدس في 28 أيّار/ مايو 1964. وهكذا، انتقل الكيان الفلسطيني من مشروع إنشاء إلى بناء مؤسساتي؛ تجسّد في القرارات التي صدرت عن المؤتمر، أهمها: اعتماد الميثاق القومي الفلسطيني، والمصادقة على النظام الأساس لمنظمة التحرير واللائحة الداخلية للمجلس الوطني، واعتبار المؤتمر بمكانة المجلس الوطني الأول، وانتخاب الشقيري رئيسًا للجنة التنفيذية للمنظمة، ورئيسًا للمجلس الوطني الفلسطيني[16].

شهدت المرحلة الانتقالية من تاريخ منظمة التحرير (1967- 1969) تغيرات تنظيمية، وإدارية، وقانونية عديدة هدفت إلى إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، وذلك عبر ضم الحركات والتنظيمات الفدائية للمنظمة، وإعادة بناء المجلس الوطني ليُمثل التنظيمات والفئات والقوى الفلسطينية المتعدّدة، واستبدال الميثاق القومي الفلسطيني بالميثاق الوطني الفلسطيني، وتعديل اللوائح والقوانين الداخلية للمجلس الوطني وللجنة التنفيذية للمنظمة، وكذلك تأسيس قوات التحرير الشعبية، وتأسيس الصندوق القومي ومركز الأبحاث الفلسطيني[17].

أرست منظمة التحرير هياكلها من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بحيث تكوّنت السلطة التشريعية من المجلسين الوطني والمركزي، وتكوّنت السلطة التنفيذية من اللجنة التنفيذية، وتشكّلت السلطة القضائية عام 1968، بإقامة محكمة الثورة العليا، وفي أواخر السبعينيات، أصدر رئيس اللجنة التنفيذية قرارًا بإنشاء جهاز للقضاء الفلسطيني، ووقّع على مرسوم لأربعة قوانين، هي: قانون أصول المحاكمات الجزائية الثوري لمنظمة التحرير؛ قانون العقوبات الثوري لمنظمة التحرير؛ قانون السجون ومراكز الإصلاح لمنظمة التحرير؛ ونظام رسوم المحاكم الثورية لمنظمة التحرير[18]. وبموجب هذا المرسوم، أصبح النظام القضائي الفلسطيني يتكون من: المحكمة المركزية، والمحكمة الدائمة، ومحكمة أمن الثورة، والمحكمة الخاصة، ومحكمة الميدان العسكرية[19]. كما أقامت منظمة التحرير بُنيتها المؤسساتية من الصندوق القومي الفلسطيني، الدائرة السياسية، دائرة العلاقات القومية والدولية، الدائرة العسكرية، دائرة شؤون الوطن المحتل.

وإلى جانب تجربة منظمة التحرير، شكّل تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، تطورًا مهمًا في بنية النظام السياسي الفلسطيني كأول تجربة لممارسة السلطة في الأرض المحتلة، ومباشرة إدارة شؤون المواطنين فيها، وهو ما كانت تفتقده منظمة التحرير.

وضعت اتفاقية أوسلو الخطوط العريضة لإنشاء السلطة الفلسطينية بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ورغم أنَّ الاتفاقية لم تتضمن نصًّا صريحًا حول تسمية المجلس التشريعي بصفته السلطة التشريعية، واقتصرت تسميته على مجلس الحكومة الذاتية الانتقالية[20]، إلا أنَّ السلطة الفلسطينية باشرت إجراء الانتخابات التشريعية لمرتين في عامي 1996 و2006. وتكوّنت السلطة التنفيذية من: رئاسة السلطة[21]، والمجلس الوزاري بوزاراته وهيئاته والمحافظين والأجهزة الأمنية، وتكوّنت السلطة القضائية من المحاكم النظامية “محاكم الصلح، ومحاكم البداية والمحكمة المركزية، ومحكمة الجنايات الكبرى، والمحكمة الخصوصية، والمحكمة العليا”، والمحاكم غير النظامية “المحاكم الشرعية، والمحاكم الدينية”[22]. كما تمّ إنشاء محاكم أمن الدولة بقرار من رئيس السلطة الفلسطينية في 1 شباط/ فبراير 1995؛ للنظر في الجرائم المتعلقة بأمن الدولة الداخلي والخارجي[23].

ولا يفوتنا بطبيعة الحال التذكير بالهيئة التي اعتمدها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، واستمرت من بعده، وتسمى (القيادة الفلسطينية)، وهي تجتمع دوريًا، وتقوم بوظيفة مجلس استشاري، وتضم أعضاء اللجنة التنفيذية، وهيئة رئاسة المجلس الوطني، والمجلس الوزاري، وبعض رؤساء الأجهزة الأمنية، وبعض المحافظين، وبعض رؤساء البلديات، ورئاسة المجلس التشريعي، وشخصيات مستقلة من المجلسين التشريعي والمركزي، وعددًا من المستشارين السياسيين، وقادة حركة فتح، وعددًا من المستشارين العسكريين. هؤلاء جميعًا هم المقررون في الشأن الفلسطيني، ويمثّلون نواة النخبة السياسية.

ثانيًا: مبادرات ومطالب الإصلاح في سياقها الفلسطيني

كما سبقت الإشارة، فقد توزعت مطالب ودعوات إصلاح النظام السياسي الفلسطيني – في سياق فرزها وتصنيفها – على مبادرات داخلية؛ أيّ من المستوى القيادي داخل النظام السياسي نفسه، ومبادرات تبنتها القوى السياسية المندمجة في مؤسسات النظام وأُطره، ومبادرات أخرى طرحتها قوى المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، حتى امتدت المطالب إلى جهاتٍ دولية على شكل ضغوط تعرض لها النظام السياسي من الدول والمؤسسات الراعية لعملية التسوية السياسية، والمانحة والممولة للسلطة الفلسطينية منذ تأسيسها.

وقد عرف النظام السياسي الفلسطيني طائفتين من المبادرات، إحداها تتعلق بإصلاح وتطوير منظمة التحرير- برنامجها السياسي وهيكلها التنظيمي، بما يضمن ضم التنظيمات السياسية إليها وتمثيلها في المجلسين الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية. وهذه المبادرة ترجع عمليًا إلى عامي 1990 و1991[24]، والأعوام التي تلتها. والطائفة الثانية من المبادرات تتصل بإصلاح وتطوير أداء السلطة الفلسطينية بهدف إقامة نظام سياسي صالح وراشد يستند إلى معايير الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد، وإعمال مبدأ الفصل بين السلطات، ودوران النخبة، وإطلاق الحريات وتعزيز احترام حقوق الإنسان، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية، وغير ذلك.

وفي ما يلي أبرز المبادرات الداعية إلى إصلاح النظام السياسي الفلسطيني:

1- مبادرات إصلاح وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية

سبقت مبادرات الإصلاح السياسي والتمثيلي لأطر منظمة التحرير دعوات لإصلاح المنظومة الإدارية والمالية في مؤسساتها منذ السبعينيات، غير أنَّ هذه الدعوات غابت عن التداول، وهذا ما أرادته قيادة المنظمة وعملت عليه طَوال السنوات الماضية، حتى تزايدت الحاجة إلى مبادرات تفتح الباب أمام إصلاح وتطوير وتفعيل منظمة التحرير من جديد، من داخل المنظمة وخارجها.

ففي مبادرة عبد الله الحوراني – رئيس اللجنة السياسية الأسبق في المجلس الوطني الفلسطيني – لإصلاح النظام السياسي الفلسطيني عام 2005، اقترح مرحلتين لإصلاح المنظمة؛ الأولى تقوم على إعادة إحياء المنظمة وتصحيح وضع اللجنة التنفيذية واستكمال النواقص فيها، وإعادة إحياء دوائرها وتنشيطها، وتحديد مهمات أعضائها، وتوزيع المسؤوليات بينهم، وضبط وتنظيم اجتماعاتها، واستعادة دورها المرجعي في كل ما يتعلق بالقضايا السياسية، ومراقبة أداء السلطة الوطنية، ومتابعة المنظمات الشعبية الفلسطينية العمالية والطلابية والنسائية والمهنية التي تكلست وغاب دورها. والمرحلة الثانية هي مرحلة إعادة البناء وتبدأ بإعادة تشكيل المجلس الوطني عبر إلغاء نظام “الكوتا” والعودة لمبدأ الانتخاب المباشر، وإشراك التيار الإسلامي في عضوية منظمة التحرير[25].

لقد توحدت المطالب الفلسطينية حول إصلاح وتفعيل منظمة التحرير في مجموعة من المبادرات؛ فتضمن إعلان القاهرة الصادر عن الفصائل الفلسطينية في 17/3/2005، الموافقة على تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية وفق أسس يتم التراضي عليها، بحيث تضم جميع القوى والفصائل الفلسطينية بكون المنظمة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وتم التوافق على تأليف لجنة تتولى تحديد هذه الأسس، وتتشكل اللجنة من رئيس المجلس الوطني وأعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة والأمناء العامين لجميع الفصائل وشخصيات وطنية مستقلة[26].

وفي نهاية آذار/ مارس 2006، عقد الأمناء العامون للتنظيمات الفلسطينية، وبحضور فاروق القدومي -الأمين العام للجنة المركزية في حركة فتح، ورئيس الدائرة السياسية في المنظمة – اجتماعًا لهم في دمشق واتفقوا على تشكيل لجنة عليا لإعادة بناء منظمة التحرير[27].

وطالبت وثيقة الأسرى للوفاق الوطني في شهر مايو/ 2006، الإسراع في إنجاز ما تم الاتفاق عليه في القاهرة في ما يتعلق بتطوير وتفعيل منظمة التحرير، وانضمام حركتي حماس والجهاد الإسلامي إليها وفق أسس ديمقراطية، وبما يعزّز قدرة منظمة التحرير في القيام والنهوض بمسؤولياتها في قيادة الشعب الفلسطيني في الوطن والمنافي وفي تعبئته والدفاع عن حقوقه الوطنية والسياسية والإنسانية في مختلف الدوائر والمحافل والمجالات الدولية والإقليمية[28].

وتضمن اتفاق مكة الموقّع بين حركتَي فتح وحماس في 29/1/2007، إجراءات تطوير منظمة التحرير وإصلاحها على أساس مبدأ الشراكة السياسية[29].

وفي أيار/ مايو 2007، بادرت الشخصيات والفعاليات الوطنية الفلسطينية، أبرزهم: شفيق الحوت، وسليمان أبو ستة، وبلال الحسن، للضغط في اتجاه تفعيل المنظمة وإعادة بناء مؤسساتها، وتشكيل مجلس وطني منتخب[30].

واشتملت الورقة التي أعدتها القاهرة في شهر أيلول/ سبتمبر 2008، على خمسة محاور، من بينها إعادة تأهيل منظمة التحرير وتفعيل أطرها وفق أسس يتم التراضي بشأنها، بحيث تجرى انتخابات للمجلس الوطني وفق نظام التمثيل النسبي بما يضمن تمثيلًا فلسطينيًا واسعًا في الداخل والخارج[31].

وتضمنت اتفاقية الوفاق الوطني الفلسطيني 2011، بندًا يتعلق بتطوير وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك تشكيل مجلس وطني جديد بالانتخابات حيثما أمكن، ووفقًا لمبدأ التمثيل النسبي وبالتوافق، حيث يتعذر إجراء الانتخابات، تمتد ولايته لأربع سنوات[32].

ونصّ إعلان الدوحة الذي وقّعه الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في شهر شباط/ فبراير 2012، برعاية أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، على الاستمرار في خطوات تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية من خلال إعادة تشكيل المجلس الوطني بشكل متزامن مع الانتخابات الرئاسية والتشريعية[33].

ووفق هذه الرؤى، تعدّدت مبادرات التنظيمات السياسية الفلسطينية لإصلاح منظمة التحرير، أبرزها[34]:

أ- مبادرة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 2006: تقوم على أساس إعادة تفعيل دور مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وتطويرها، من خلال إعادة بنائها استنادًا إلى برنامج وطني ديمقراطي وفقًا لنظامها الأساسي وعلى أساس التمثيل النسبي.

ب- مبادرة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين 2016: تدعو المبادرة التي أطلقها رمضان عبد الله شلح-الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي- والمكونة من عشر نقاط إلى إعادة بناء منظمة التحريرلتصبح الإطار الوطني الجامع الذي يضم كل قوى وأبناء الشعب الفلسطيني.

ج- مبادرة الفصائل الفلسطينية 2019: طرحت المبادرة (حركة الجهاد الإسلامي والجبهتيّن “الشعبية” و”الديمقراطية” لتحرير فلسطين، وحزب الشعب الفلسطيني، والمبادرة الوطنية، والاتحاد الديمقراطي الفلسطيني “فدا”، والجبهة الشعبية- القيادة العامة، والصاعقة)، واشتملت على أربعة بنود، يتضمن بندها الرابع، جدولًا زمنيًا للمرحلة الانتقالية يتمثل بعقد اجتماع لجنة تفعيل وتطوير المنظمة وفق جدول أعمال يتم خلاله تنفيذ أمور عديدة، تتمثل بالاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية بما لا يتجاوز نهاية عام 2019، وآليات تسلم مهامها والفترة الزمنية، ويتضمن أيضًا، “توحيد القوانين الانتخابية للمؤسسات الوطنية، واستئناف اجتماعات اللجنة التحضيرية للبدء بالتحضير لإجراء انتخابات المجلس الوطني وفق قانون التمثيل النسبي الكامل فور انتهاء اجتماع لجنة تفعيل المنظمة، والتوافق في المناطق التي يتعذر إجراء الانتخابات فيها، على أنْ تُجرى الانتخابات الشاملة، “التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني”، منتصف العام 2020.

د- مبادرة تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح 2019: تضمن البيان السياسي للتيار مبادرة طالبت باستعادة العملية الديمقراطية عبر الانتخابات الوطنية العامة في المؤسسة التشريعية ورئاسة السلطة والمجلس الوطني الفلسطيني، بما يحقق إعادة هيكلة منظمة التحرير واستعادة مكانتها، وتحديد جداول زمنية ملزمة للانتخابات، واعتماد آليات مراقبة عربية دولية شاملة وشفافة مع الالتزام بميثاق شرف وطني بقبول نتائج الانتخابات.

ه- مبادرة الملتقى الوطني الديمقراطي 2021: طرح الملتقى المتشكل حديثًا برئاسة ناصر القدوة، مبادرة لتشكيل جسم قيادي فلسطيني مؤقت لاستعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الوضع الفلسطيني المتردي. والجسم القيادي بحسب المبادرة يتألف من نحو 70 شخصية تُمثّل كل شرائح الفلسطينيين، يتولى وضع آليات تنفيذية لاستعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، وإعادة بناء هيئات منظمة التحرير، وتشكيل مجلس وطني جديد وإجراء الانتخابات، إضافة إلى إنشاء حكومة فصائلية، وتشكيل لجنة وطنية قانونية لمراجعة بعض القوانين.

و- مبادرة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 2021: نصّت المبادرة على الدعوة لعقد اجتماع للجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير باعتبارها إطارًا قياديًا مؤقتًا ومرجعية سياسية، لتحديد أجندة إجراء الانتخابات الشاملة، بما يُعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني على قاعدة الشراكة الوطنية، وبناء استراتيجية وطنية جامعة تُنهي اتفاقات أوسلو وتسحب الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي.

ز- مبادرة حزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني “فدا” 2021: دعت المبادرة إلى عقد اجتماع عاجل للأمناء العامّين مع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير برئاسة الرئيس الفلسطيني محمود عباس من أجل توحيد الرؤية السياسية، ووضع استراتيجية وطنية يقع في مقدمة أولوياتها إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية وفقًا لما جاء في اتفاقيات المصالحة، وآخرها اتفاق القاهرة 2017، وعقد اجتماع عاجل للمجلس المركزي بمشاركة جميع فصائل منظمة التحرير وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، والمباشرة بالتحضير لعقد دورة جديدة للمجلس الوطني بمشاركة كل الفصائل والمنظمات الجماهيرية والشخصيات الوطنية المستقلة من الداخل والخارج، وضمان مشاركة جميع الفصائل، بما فيها حركتا حماس والجهاد الإسلامي في جميع مؤسسات المنظمة، وفي مقدمتها اللجنة التنفيذية، وتعزيز مشاركة المرأة والشباب في هذه المؤسسات.

 

2- مبادرات إصلاح مؤسسات السلطة الفلسطينية

رغم أننا ركزنا في المبادرات المذكورة آنفًا على مطالب إصلاح وتطوير منظمة التحرير، إلا أنَّ هذه المبادرات لا تخلو من دعواتٍ صريحة لإصلاح مؤسسات السلطة الفلسطينية بعدما تراجع أداؤها بحكم الهيمنة والتفرد بالسلطة والقرار وغياب التجديد فيها، خاصة عقب الانقسام السياسي عام 2007، فضلًا عن ذلك، ثمّة مبادرات أخرى تضمنت دعوات صريحة لإصلاح مؤسسات السلطة الفلسطينية.

برزت أولى مطالب منظمات المجتمع المدني بالإصلاح في مؤسسات السلطة الفلسطينية عام 1996، حيث دعت بعض المنظمات الحقوقية إلى إصلاح الأجهزة الأمنية وعزل بعض قادتها[35]، واشتملت مطالب إصلاح الإدارة المالية في السلطة الفلسطينية على المبادرات الآتية[36]:

  • تقرير هيئة الرقابة العامة لسنة 1996.
  • تقرير فريق العمل المستقل (تقوية مؤسسات السلطة الفلسطينية- حزيران/ يونيو1999).
  • إعلان المجلس التشريعي لتطوير وإصلاح مؤسسات السلطة الفلسطينية في 16/5/2002.
  • بيان الموازنة العامة لسنة 2003، المقدم إلى المجلس التشريعي بتاريخ 31/12/2002.
  • خطة المئة يوم للحكومة الفلسطينية بتاريخ 23/6/2002.
  • بيان حكومة محمود عباس أمام المجلس التشريعي في 29/4/2003.
  • وثيقة مؤسسات المجتمع المدني حول الإصلاح الصادرة في 26/11/2002.
  • وثيقة القطاع الخاص بخصوص عملية الإصلاح عام 2003.
  • وثيقة صندوق الائتمان لإصلاح إدارة المال العام المقترح في 28/4/2004.

كما جاءت بعض المطالب الفلسطينية بالإصلاح من داخل حركة فتح وقياداتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين رفضوا تشكيلة السلطة والمناصب العليا فيها، لاقتصارها على القيادات الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وقيادات الحركة القادمة من الخارج، ومطالب أخرى تضمنتها الرسالة الموجهة من لجنة المتابعة العليا للقوى الوطنية والإسلامية إلى رئيس السلطة الفلسطينية، التي طالبت باتخاذ قرارات حاسمة تضع حدًّا لمظاهر الفساد الإداري والمالي، وسوء استخدام المناصب العامة والمال العام[37].

إلى جانب هذه المبادرة، نشطت منظمات المجتمع المدني في طرح مبادراتها لإنهاء حالة الانقسام في النظام السياسي الفلسطيني وإصلاح مؤسساته، منها: مبادرة القطاع الخاص وجمعية رجال الأعمال، ومبادرة مجموعة الحوار الوطني من المثقفين والأكاديميين في عددٍ من المؤسسات المحلية والمراكز البحثية، ومبادرة بعض الشخصيات المستقلة وقيادات في العمل المدني، ومبادرة مؤسسة بال ثينك، ومبادرة المركز الفلسطيني للديمقراطية وحل النزاعات، وقد ركّزت هذه المبادرات على[38]:

  • توزيع الصلاحيات الأمنية بوضوح بين رئيس السلطة والحكومة، وتشكيل حكومة تكنوقراط.
  • تأليف حكومة وحدة وطنية، والعمل على إعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس مهنية فلسطينية خالصة.
  • تصويب الأوضاع الأمنية والإدارية والسياسية، وتشكيل حكومة وطنية تتولى معالجة المشاكل الأمنية والإدارية.
  • تشكيل حكومة انتقالية متوافق عليها، واستعادة وحدة مؤسسات السلطة الفلسطينية.
  • تصورات لحل بعض المشاكل، كالأمن، والعلاقة بين السلطة والمنظمة، وتنازع الصلاحيات بينهما، وتشكيل المحكمة الدستورية[39]، واعتماد التمثيل النسبي الكامل في أيّ انتخابات فلسطينية، واللجوء للتحكيم.

من أجل إيجاد مخرج قانوني بما يتعلق بالموقف من الاتفاقيات السابقة التي وقّعتها منظمة التحرير مع إسرائيل.

ثالثًا: إصلاح النظام السياسي الفلسطيني بين الإنجازات والإخفاقات

تتمتع الحالة الفلسطينية بخصوصية شديدة عند الحديث عن قدرة النظام السياسي على الاستجابة للمطالب والتحديات التي يتعرض لها، سواءً من بيئته الداخلية أم الخارجية، وسوف نلاحظ كيف أنَّ هذه الخصوصية أثّرت تأثيرًا واضحًا في استجابة ذلك النظام لعملية الإصلاح البنيوي والهيكلي في مقابل إخفاقه في القيام بمهمة الإصلاح وإنجازها في مرحلتين: مرحلة الرئيس ياسر عرفات (1969-2004)، ومرحلة الرئيس محمود عباس (2005-2021).

1- الإصلاحات في منظمة التحرير الفلسطينية

إنَّ من دواعي إصلاح منظمة التحرير أنَّ مؤسساتها قد أصابها الشلل، ولم تعد تعمل بالطريقة الطبيعية التي يأملها الفلسطينيون بعد أنْ هيمنت الطبقة السياسية عليها، واحتكرت عملية صنع القرار في مؤسساتها، وبعدما تعرضت لعمليات تهميش وإحلال السلطة الفلسطينية بديلًا عنها، حتى أصبحت المنظمة وكأنها دائرة من دوائر السلطة.

وفي ضوء هذه المعطيات، يُؤخذ على منظمة التحرير أنها غيّبت العملية الانتخابية، ما يُعدّ خروجًا عن نصّ المادة الخامسة من النظام الأساسي[40]. وبسبب تعذر الانتخابات، فإنّ المجالس الوطنية كانت تأخذ بنظام التعيين وفق اعتبارات جغرافية وسياسية ووظيفية. كان مبرر قيادة المنظمة في عدم اللجوء إلى الانتخابات هو الظرف الاستثنائي التي تمر به القضية الفلسطينية، والظروف الضاغطة التي يحياها الفلسطينيون في المهجر ودول الشتات، وضمنها عدم موافقة الدول التي تُقيم فيها الجاليات الفلسطينية على إجراء الانتخابات فوق أرضها.

وتماشيًا مع هذه الأوضاع، استُحدث نظام “الكوتا”[41] أو ما بات يعرف فلسطينيًا بـ “المحاصصة الفصائلية”، دون خوض الانتخابات أو اللجوء إلى عملية التنافس الديمقراطي، وبذلك ظلّ تشكيل المجلس الوطني مرتبطًا بما تريده قيادة المنظمة، فيما انحصر تشكيل اللجان التنفيذية بطبيعة التوازنات في المجلس الوطني؛ الأمر الذي يفسر استحواذ المستقلين وممثلو حركة فتح على نسبٍ معتبرة من مقاعد اللجنة التنفيذية، مقارنة بالفصائل الأخرى، وذلك بفضل نصيبهم الوافر من مقاعد المجلس الوطني.

ولقد مكّنت هذه الصيغة النخبة السياسية من الهيمنة على مؤسسات المنظمة، فمثلًا تشير بيانات اللجنة التنفيذية من اللجنة الخامسة عام 1969، وحتى الدورة الثالثة والعشرين عام 2018، إلى أنَّ المستقلين جاءوا في المرتبة الأولى في عضوية اللجنة التنفيذية بـ 112 مقعدًا، وجاءت حركة فتح في المرتبة الثانية بتوليها 64 مقعدًا، تلتها الصاعقة بحصولها على 20 مقعدًا، ثم جبهة التحرير العربية 15 مقعدًا، وجبهة التحرير الفلسطينية 7 مقاعد، وشغلت الجبهة الديمقراطية 17 مقعدًا، والجبهة الشعبية 14 مقعدًا، والقيادة العامة 5 مقاعد، وجبهة النضال الشعبي 7 مقاعد، وحزب الشعب الفلسطيني 6 مقاعد، والاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا) 4 مقاعد[42]، مع ملاحظة أنَّ المستقلين تتم تسميتهم من قِبل قيادة المنظمة، وهي حركة فتح في هذه الحالة.

وبتحليل معدل دوران أعضاء اللجنة التنفيذية من المستقلين وممثلي “فتح” خلال الفترة نفسها، يتبيّن أنَّ 35 عضوًا، يمثلون المستقلين في اللجنة تناوبوا على 98 منصبًا، و8 أعضاء يمثلون حركة فتح في اللجنة التنفيذية تناوبوا على 58 منصبًا. فاستمر ياسر عرفات رئيسًا للجنة التنفيذية من اللجنة الخامسة وحتى اللجنة الحادية والعشرين، واستمر فاروق القدومي في عضوية اللجنة التنفيذية من اللجنة الخامسة وحتى الثانية والعشرين (باستثناء اللجنة الثانية عشرة)، ونال خالد الحسن، ومحمد يوسف النجار عضوية اللجنة التنفيذية من اللجنة الخامسة وحتى الحادية عشرة، وحصل محمود عباس[43] على عضوية اللجنة التنفيذية من اللجنة الخامسة عشرة وحتى الثانية والعشرين، فيما تولى عبد المحسن أبو ميزر العضوية في اللجنتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة، وفيصل الحسيني في اللجنة التنفيذية الحادية والعشرين، وصائب عريقات في اللجنة الثانية والعشرين[44].

وترافقت الهيمنة على صناعة القرار في المنظمة مع تباعد فترات انعقاد المؤسسات الرقابية والتشريعية، مما يضعف آليات الرقابة والمحاسبة، ويفتح المجال للقيادة التنفيذية لتفعل ما تريد. وعلى سبيل المثال، فقد عقد المجلس الوطني 11 دورة في السنوات العشر الأولى من عمره، وعقد 5 دورات في السنوات العشر الثانية، وعقد 4 دورات في السنوات العشر الثالثة[45]، ولم تُعقد سوى 3 دورات في السنوات الثماني والعشرين التالية. وفي السياق عينه، يُعدّد محسن صالح[46] الإشكاليات التي باتت تواجه المنظمة وتنتقص من مكانة تمثيلها في: إشكالية التمثيل؛ إشكالية المؤسسات والعمل المؤسسي؛ إشكالية صناعة القرار وآلياته؛ إشكالية تضاؤل الدور والتأثير، وإشكالية الرؤية والمسار والمرجعية.

وإلى جانب الخلل الذي أصاب بنيان المنظمة بفعل الهيمنة والتفرد، فإنَّ العديد من قرارات المجلسين الوطني والمركزي لم تجد طريقها إلى التنفيذ، أبرزها أخيرًا قرار المجلس المركزي بتعليق الاعتراف بدولة إسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران/يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، ووقف التنسيق الأمني بأشكاله كافة، والانفكاك الاقتصادي على اعتبار أنَّ المرحلة الانتقالية وبما فيها اتفاق باريس لم تعد قائمة، وهي قرارات للمجلس المركزي في دورته العادية الثلاثين في مدينة رام الله في 28- 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2018[47]، وقرار التحلل من جميع الاتفاقيات مع حكومتَي إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ردًا على الخطط الإسرائيلية لضم أراضٍ فلسطينية في 19 أيار/ مايو 2020، الذي أعلنه الرئيس محمود عباس، والتراجع عنه باستئناف التنسيق مع إسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه.

المعنى أنَّ منظمة التحرير لم تستجب للمبادرات ومطالب إصلاحها بنيويًا وهيكليًا، وبالتالي ظلَّ نداء “الشراكة السياسية” مطلبًا نظريًا لم يتحقق. كان ذلك واضحًا طيلة مسيرة المنظمة ومنذ تأسيسها، وأكثر وضوحًا بعد تعثر اتفاق القاهرة 2005، وبعد انشقاق النظام السياسي الفلسطيني إلى نظامين بين الضفة الغربية وقطاع غزة على إثر سيطرة “حماس” بالقوة العسكرية على مؤسساته في قطاع غزة منتصف عام 2007، وتلكؤ حركتي “فتح” و”حماس” في تطبيق اتفاقات المصالحة التي تضمنت نصوصًا صريحة لإصلاح وتطوير مؤسسات منظمة التحرير وضمان مشاركة القوى السياسية في أُطرها، كما بينت هذه الدراسة في الفقرات السابقة.

2- الإصلاحات في السلطة الوطنية الفلسطينية

واجهت السلطة الفلسطينية تحدياتٍ كبرى مسّت بقدرتها على تنفيذ إصلاحات عامة، أو تنفيذ استراتيجيات لمكافحة الفساد، التي تعدّدت أشكاله بين الواسطة والمحسوبية، والفساد البيروقراطي والسياسي، وسوء استخدام الأموال والموارد العامة، وسوء استخدام السلطة، وغيرها.

ورغم أنَّ السلطة لم تُشبع التطلعات الوطنية في معالجة أوجه الخلل والقصور في أدائها بإصلاحات شاملة وجذرية، إلا أنها تمكّنت من إنجاز مجموعة من الإصلاحات، حيث بذلت جهودًا من أجل تعزيز إطارها القانوني والمؤسساتي ضد الفساد، فأصدرت عددًا من قوانين مكافحة الفساد، وأقامت مؤسسات مثل: هيئة مكافحة الفساد، ومحكمة جرائم الفساد، وديوان الرقابة المالية والإدارية.

ففي سنواتها الأولى، أنجزت السلطة الفلسطينية مجموعة من الإصلاحات الإدارية والمالية، ففي حزيران/ يونيو 2002، أطلقت أولى مبادراتها الإصلاحية في رسالتها إلى صندوق النقد الدولي المعنونة بـ “الإطار الاقتصادي والمالي للسلطة الوطنية الفلسطينية”، وجاءت الموجة الثانية من الإصلاحات المالية في منتصف عام 2002، استجابة لدعوات الإصلاح الوطنية وبضغط من اللجنة الرباعية الدولية، تم اعتماد وتطبيق جزء منها، فيما البعض الآخر لم يحظَ بالاهتمام الكافي[48].

وفي المقابل، جوبهت انتقادات ومطالب إصلاح عديدة بالرفض واللامبالاة، نذكر منها على سبيل المثال، تقرير هيئة الرقابة العامة 1997، الذي حدّد عددًا من المخالفات ومرتكبيها من أصحاب المناصب العليا في السلطة، إلا أنَّ النتائج تم احتواؤها بشكل مخالف للقانون؛ وتقرير لجنة الرقابة في المجلس التشريعي 1998، الذي أشار إلى تورط مسؤولين كبار في السلطة بقضايا مالية، وبعد مناقشته لم يستطع أعضاء اللجنة ومَن يؤيدهم استصدار قرار بفرض سيادة القانون ومحاسبة المتهمين بالفساد، وقد وافق أعضاء المجلس التشريعي بالأغلبية على إغلاق ملف الفساد[49].

وترافقت هذه المطالب مع ضغوط دولية اعتبارًا من عام 2001، أجبرت السلطة على إجراء التعديل الوزاري وتطبيق سياسات الإصلاح المالي والإداري، بعد أنْ فرضت الدول المانحة شروطًا يجب استيفائها في كيفية إنفاق الأموال العامة وبشكل خاص المقدمة من الدول المانحة على شكل مساعدات أو قروض[50].

وقد أدت سياسة المماطلة التي اتبعتها السلطة الفلسطينية في ما يتعلق بعدم الاستجابة لمبادرات الإصلاح في مؤسساتها وهيئاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية – إلا في حدودٍ ضيقة – إلى انتكاسة حقيقية في الاحتكام إلى معايير الحكم الرشيد. ويمكن قياس ذلك عبر المؤشرات الخمسة الآتية: الحريات العامة ومبادئ حقوق الإنسان؛ استقلال السلطة القضائية؛ العملية الانتخابية؛ معدل دوران النخبة؛ وتمكين المرأة.

فعلى امتداد تجربة السلطة الفلسطينية، وثقت المنظمات الحقوقية الفلسطينية إجراءات تقييد الحريات العامة وانتهاك مبادئ حقوق الإنسان في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي إجراءات يصعب حصرها. وقد توزعت على اعتقالات غير قانونية لعدد من السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان وغيرهم من المواطنين على خلفية انتقادهم لأداء السلطة الفلسطينية، وممارسة اعتداءات من قِبل الأجهزة الأمنية على المواطنين، وممارسة التعذيب داخل السجون ومراكز الاعتقال أدت بعضها إلى حالات قتل، وإصدار أحكام بالإعدام ضد مواطنين فلسطينيين، وإغلاق عدد من المؤسسات المدنية المرخصة وانتهاك الحق في تكوين الجمعيات، وانتهاك الحق في التجمع السلمي، وفضّ التجمعات السلمية واعتداء الأجهزة الأمنية على المتظاهرين السلميين[51]. كان آخر هذه الاعتداءات ما قامت به الأجهزة الأمنية في مدينة رام الله من اعتداء على المتظاهرين الذين تجمهروا في الميادين العامة للتنديد بجريمة قتل الناشط السياسي نزار بنات على أيدي الأجهزة الأمنية أثناء اعتقاله، ومطالبتهم بمحاسبة المتورطين ورحيل الرئيس عباس[52]، واعتقال عدد منهم.

إضافةً إلى سياسة السلطة في انتهاك الحق في حرية الرأي والتعبير، ومن أمثلة ذلك مصادقة الرئيس محمود عباس بتاريخ 24/6/2017، على قرار بقانون الجرائم الإلكترونية المحال إليه من الحكومة، والذي يجيز للسلطات حجب المواقع الإلكترونية وفرض رقابة على المستخدمين العاديين لمواقع التواصل الاجتماعي، وتوقيف الفلسطينيين على خلفية التعبير عن آرائهم ووجهات نظرهم السياسية على شبكة الإنترنت وإدانتهم بجرائم إلكترونية تستوجب عقوبةً تصل إلى السجن لمدة 15 عامًا[53]، وقرار مجلس الوزراء[54] بإلغاء المادة 22 من مدونة السلوك وأخلاقيات الوظيفة العامة، التي تنصّ على أنَّ للموظف الحقّ في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير أو الفن مع مراعاة أحكام التشريعات النافذة، وأنه يجب على الموظف عند إبداء رأي أو تعليق أو مشاركة في مواقع التواصل الاجتماعي أنْ يوضح أنه يمثل رأيه الشخصي فقط، ولا يعكس رأي الجهة الحكومية التي يعمل فيها.

وفي ما يتعلق بالسلطة القضائية، فإنها تعاني خللًا مزمنًا يتمثل أساسًا بالتعــدي علــى اســتقلاليتها وتغوّل السلطة التنفيذية، دون أن تتوافر عملية إصلاح جادة لمنظومة العدالة. ومن مظاهر هذا الخلل، ضعف التكوين والأداء المؤسسي، ودخول المؤسسة القضائية في أتون الخلافات السياسية، وتشكيل المحكمة الدستورية في ظل الانقسام السياسي وتعيين قضاتها بلون سياسي مسّ باستقلاليتها وحيادها، وتدخلات الأجهزة الأمنية في شؤون القضاء وبإجراءات تعيين القضاة من خلال ما يسمى بالمسح الأمني، وغيرها من مظاهر الخلل التي عدّدتها التقارير الصادرة عن مراكز حقوقية منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، وكانت أكثر وضوحًا جراء الانقسام في مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني منتصف عام 2007[55].

وحول العملية الانتخابية، يمكن القول إنَّ السلطة الفلسطينية أخذت بصيغة الانتخابات وأسسّت نظامًا انتخابيًا لها، لكنها لم تعزّز مسار العملية الانتخابية، ولم تلتزم بمواعيدها وشروطها. فعلى امتداد تجربتها بين عامَي 1994 و2021، لم تجرِ السلطة الانتخابات التشريعية وانتخابات رئاسة السلطة إلا مرتين في السنوات 1996 و2005 و2006، حتى أصبحت هذه المؤسسات فاقدة للشرعية؛ إذ كان من المفترض تنظيم الانتخابات في عامي 2009 و2010، لكنها لم تُجرَ، ما يُعدّ نكوصًا وتراجعًا عن نص المادتين (36) و(47) من القانون الأساسي الفلسطيني[56]، فالرئيس ياسر عرفات استمر في منصبه رئيسًا للسلطة الفلسطينية لعشر سنوات (1994- 2004)، بينما استمر الرئيس محمود عباس في منصبه ستة عشر عامًا، ولم يزل يشغل المنصب حتى الآن، واستمرت ولاية المجلس التشريعي الأول لعشر سنوات (1996- 2006)، بينما ما زالت ولاية المجلس التشريعي الثاني مستمرة منذ عام 2006، أي لأكثر من خمسة عشر عامًا، وظلّ المجلس معطلًا منذ عام 2007، ومنذ تعطيله أحكم الرئيس عباس سلطته بتولي دور السلطة التنفيذية ودور السلطة التشريعية معًا، ليصدر التشريعات بمراسيم رئاسية تفتقر إلى الشفافية والتشاور الواجب مع عامة الشعب. كان آخرها مرسومه بتأجيل الانتخابات العامة التي كانت مقررة للمجلس التشريعي في 22 أيار/ مايو 2021، ولرئاسة السلطة الفلسطينية في 31 تموز/ يوليو 2021، بذريعة عدم موافقة إسرائيل على إجرائها في مدينة القدس المحتلة[57].

وبحكم سيطرة حركة فتح على مؤسسات السلطة الفلسطينية، ظلّت النخبة الوزارية تتجدد من داخلها، من دون توسيع وتنويع لمصادرها، بحيث كانت التغييرات أو التعديلات الوزارية تعطي الانطباع بوجود عملية تدوير، لكنها في حقيقة الأمر لا تتعدى كونها إعادة توزيع لمسميات أعضاء النخبة الوزارية من الدائرة نفسها[58]. يتضح ذلك عند تتبع التشكيلات الوزارية التسع الأولى خلال المرحلة من 1994 حتى 2005. فمثلاً، استمر نبيل شعث في التشكيلات الوزارية جميعها، وشارك صائب عريقات في ثمانية تشكيلات وزارية، بينما تولت انتصار الوزير منصبها الوزاري في سبعة تشكيلات وزارية. أما ياسر عبد ربه، وعزام الأحمد، وماهر المصري، وعبد الرحمن حمد، ونعيم أبو الحمص، فقد شاركوا في ستة تشكيلات وزارية، تلاهم كل من أحمد قريع، وجميل الطريفي، ومتري أبو عيطة، ونبيل قسيس، وغسان الخطيب، وسلام فياض، وهؤلاء شاركوا في خمسة تشكيلات وزارية. وتشكلت خلال الفترة 2006-2017 ثمانية مجالس وزارية غلبت عليها سيطرة حركة فتح، حيث شاركت في سبع حكومات واستحوذت على 77 منصبًا وزاريًا فيها[59].

وفي ما يتصل بـ تمكين المرأة، فإنَّ المرأة الفلسطينية لم تُمثل تمثيلًا حقيقيًا في مؤسسات السلطة الفلسطينية، التشريعية والقضائية والتنفيذية، دون أيّ اعتبار للقوانين الدولية والمحلية أو لمؤشرات الجهاز المركز للإحصاء الفلسطيني التي تشير إلى أنَّ المرأة الفلسطينية تمثل ما نسبته 94.2 بالمئة من عدد السكان. يظهر ذلك بوضوح عند تحري مستوى تمثيل المرأة في مؤسسات السلطة الفلسطينية، فانتخابات المجلس التشريعي الأول عام 1996، لم تمنح المرأة سوى 4 مقاعد من أصل 88 مقعدًا، وفي الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006، لم تحصل المرأة إلا على 17 مقعدًا من أصل 132 مقعدًا. ولقد جرى تعميم هذه التجربة في المؤسسات التنفيذية، فمن أصل 315 منصبًا وزاريًا كان نصيب المرأة 28 منصبًا فقط[60].

وكانت حصيلة الاقتتال الداخلي وانقسام مؤسسات السلطة الفلسطينية بين الضفة الغربية وقطاع غزة بفعل سيطرة “حماس” عليها في عام 2007، تعميق أزمة السلطة والتناحر على الصلاحيات الإدارية والاختلاف بشأن القوانين والتشريعات، وبالتالي تراجع عملية الإصلاح.

في ضوء هذا المشهد، تَعمَّق الانقسام في السلطة التنفيذية، حيث أقامت السلطة الفلسطينية وزاراتها وهيئاتها ومؤسساتها ومقراتها الأمنية في الضفة الغربية، وقابلتها مؤسسات مدنية وتشكيلات عسكرية وأمنية وشرطية في قطاع غزة تُشرف عليها وتديرها حركة حماس.

واشتد النزاع حول السلطة التشريعية، بحيث استمر الرئيس الفلسطيني وحكومته في تجاوز المجلس التشريعي، وإصدار المراسيم بقوة القانون، وهي القوانين التي لا تُطبق عمليًا إلا في الضفة الغربية، في مقابل استمرار كتلة التغيير والإصلاح التابعة لحركة حماس في غزة، عقد جلسات للمجلس التشريعي وإصدار التشريعات رغم مقاطعة الكتل البرلمانية الأخرى.

واستمر الانهيار في السلطة القضائية التي عرفت نظامين قضائيّين أحدهما في الضفة الغربية، والثاني في قطاع غزة، بعد تفرد السلطة الفلسطينية في الضفة بالنظام القضائي، وسيطرة “حماس” على مجمع المحاكم والمؤسسات القضائية في غزة.

خاتمة

ناقشت هذه الدراسة مبادرات إصلاح النظام السياسي الفلسطيني ومستوى الاستجابة لها في ظلّ خصوصية وتعقيدات المشهد الفلسطيني الداخلي. وأظهرت الدراسة تحديات ومعوقات إقامة نظام سياسي يحتكم إلى القانون، ويُعزّز الحكم الرشيد، لتمثيل الشعب الفلسطيني وتلبية تطلعاته. وأثبتت أن هذه المعوقات خلقتها ظروف النظام السياسي الفلسطيني نفسه ومن داخله، بحيث انفردت قيادتي منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بالسيطرة على المؤسسات كافة، وأغلقت مداخل الإصلاح إلا في حالات ضئيلة، الأمر الذي يؤكده مشهد تعثر النظام السياسي وأزماته راهنًا، وضمنها أزمة تجديد الشرعيات المتآكلة في المنظمة والسلطة معًا، رغم تأهب القوى السياسية واستعداها للمشاركة في أُطر النظام ومؤسساته لإصلاحها من الداخل.

لقد مثّل الانقسام الداخلي وغياب الإرادة السياسية عند حركتَي “فتح” و”حماس” ضغطًا حقيقيًا ومباشرًا على النظام السياسي الفلسطيني، فمن ناحية أدى إلى إضعافه، ومن ناحيةٍ أخرى أعاق عملية الإصلاح الشاملة في مؤسساته، دون أنْ تتوافر فرص التغيير والتجديد، خاصة بعد إلغاء الانتخابات العامة التي كانت مقرّرة في أيار/ مايو- تموز/ يوليو- آب/ أغسطس 2021، للمجلس التشريعي، ورئاسة السلطة والمجلس الوطني على التوالي.

وفق هذه المقدمات، فإنَّ أزمة النظام السياسي ستستمر لأجلٍ غير معلوم ما لم تتولد الإرادة الحقيقية لدى قيادة المنظمة والسلطة والتنظيمات السياسية، وما لم تعمل هذه الأطراف مجتمعة على استعادة الثقة المفقودة بينها لإنقاذ الوضع الفلسطيني الداخلي بما يضمن تجديد الشرعيات وإصلاح مؤسسات النظام السياسي كافة، وهذه أمور في غاية الأهمية؛ إذ تُعدّ مبررًا لدعم كفاح الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه الوطنية في الحرية والعودة والاستقلال الوطني.

 

قد يهمكم أيضاً  حيثيات وتداعيات تفكك الحقل السياسي الفلسطيني

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السلطة_الفلسطينية #منظمة_التحرير_الفلسطينية #الإصلاح_السياسي #النظام_السياسي_الفلسطيني #إصلاح_النظام_السياسي_الفلسطيني #حركة_فتح #فلسطين #السياسة_الفلسطينية #المنظمات_الفلسطينية #الحركات_الفلسطينية