ملخص:

يأتي هذا العمل ضمن قراءة سوسيوثقافية لأهم التحولات الكبرى التي تعيش على وقعها مجتمعات ما بعد الحداثة في ضل الثورة الرقمية الهائلة التي لم تشهد مثيلها منذ فترة ما قبل التاريخ، هذه الثورة قوضت معالم الحياة اليومية للأفراد والمجموعات. أصبحت الإنسانية تعيش على وطأة كل ما يفرزه المعطى الرقمي من مستجدات باعتباره متغيرًا مستقلًا، وأحد أبرز تجليات الثورة الرقمية؛ هذه المستجدات التي من شأنها أن تعيد الاعتبار في عديد المسائل الحياتية.

تعَدّ هذه الثورة الرقمية نمطًا جديدًا لتمثل الإنسان المعاصر لذاته، للأخر، وللعالمين الطبيعي والاجتماعي وهي بذلك تعَدّ رابع ثورة عرفها العصر الحديث كان لها الأثر البالغ في حياة البشر وفي سائر أنشطة الإنسان. نسعى إذن من خلال هذا الطرح، إلى معرفة مكانة الفن الرابع كواحد من الأنشطة الثقافية في خضم هذه التحولات الكبرى التي أفرزتها الثورة الرقمية وأهم الرهانات المطروحة على الفن المسرحي في سياق التطور التكنولوجي الهائل.

الكلمات المفاتيح؛ الثقافة الرقمية؛ الفن الرابع؛ المجتمع الشبكي؛ الفضاء الافتراضي.

تمهيد:

إن الثورة الرقمية التي نعيش على وقعها تنتج كل لحظة كمًّا هائلًا من الأنظمة والبرمجيات وأجهزة الاتصال المختلفة ذات التأثير البالغ في مختلف أوجه مجالات الحياة وسائر القطاعات الإنتاجية والخدمات وغيرها من مجلات الحياة اليومية، هي ثورة تختلف عن سابقاتها من الثورات الصناعية في شكلها ومضمونها لأنها تعتمد على مادة خام مختلفة تماما ألا وهي “المعرفة” التي لم تقتصر آثارها على الصناعات وطرق الإنتاج فحسب، بل امتدت كذلك إلى التطور المعرفي والإنساني بوجه عام.

إذ تعرف الفترة الراهنة في ضل هيمنة العقل الحسابي تطورات متسارعة في سائر القطاعات (المجتمع الآداب، الثقافة، الإعلام، الفنون، العلوم وما إلى ذلك)، ويشكل المعطى الرقمي المتغير الأساسي والفاعل في سائر أنشطة الإنسان والمحرك الرئيسي في الانتقال الحالي.

إذ تشير أحدث الأرقام إلى مدى تجذر المعطى الرقمي (قرابة 4,66 مليار مستخدم لشبكة الإنترانت في العالم منهم 4,2 مليار يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها)[1] الربط عبر الشبكة العنكبوتية ذات التدفق العالي، والحواسيب والهواتف الخلوية، والهواتف الذكية، المنصات الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي؛ فايسبوك والتويتر وانستغرام، وقارئات الموسيقى وعالم التطبيقات والمدونات وآخرها إنترنت الأشياء…) في حياة البشر بشكل لا يترك مجالًا للتأني أو التردد في ضرورة الانخراط في المنظومة الرقمية من عدمها. إذ نجد أغلب سكان المعمورة يستخدمون المنصات الإلكترونية والشبكة الإنترانت في سائر أنشطنهم اليومية (التعليم، الأعمال، الصحة، الثقافة…)، كما لم تسلم وسائل الترفيه من تأثير الرقمي على الممارسات الثقافية (تحميل الموسيقى والإعلام والفيديوهات وتتبع البث المباشر للإذاعة والتلفاز وقراءة الكتب على الشاشة، بحيث أصبح يصعب مع هذا التحول المذهل أخذ مهلة تأمل للتفكير في إمكانية الانخراط في هذا التيار أو الهروب منه. هنا تتأكد إلزامية التطور والانفتاح والانصياع لنسق التجديد والإضافة في شتى الميادين حتى لا يبقى الفاعل الاجتماعي خارج الزمن ويحكم عليه بالفناء. وقد زادت في تأكيدها جائحة كورونا(Covid-19) حيث تبين للجميع ضرورة اعتماد الرقمي كمتغير فاعل في سائر أنشطة الإنسان.

سنحاول في هذا العمل التطرق إلى احد الجوانب المهمة من التحول الرقمي وهو التحول الثقافي وبالتحديد مجال الفن الرابع وكيف عايش هدا التحول الهائل في ضل الانتقال من الوعاء الورقي إلى الحامل الرقمي، وذلك بتخصيص الجزء الأول من العمل إلى التطرق إلى أهمية المعطى الرقمي ومدى تأثيره على سائر أنشطة الإنسان بما فيها الممارسات الثقافية واستعراض التطور التكنولوجي وأثره على الإبداع الثقافي من مرحلة التصنيع إلى مرحلة الرقمي مرورًا بظهور فضاء جديد للتفاعل وهوا لفضاء الافتراضي, أما الجزء الثاني سيكون محوره دور الرقمنة في دمقرطة الإبداع الثقافي وأي مكان للفن الرابع في الثورة الجيل الرابع للتكنولوجيا مقارنة ببقية الفنون. ينتهي هذا العمل بمعرفة لماذا يتوجب على الإبداع المسرحي الانخراط في الثورة الرقمية واستغلال الفضاء الافتراضي من خلال ثلاثية: المبدع/المتلقي/ الوسيط.

أهم التساؤلات

  • قبل الحديث عن مسار تطور الفنون حتى بلوغها عصر الرقمنة سوف نطرح جملة من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها من خلال عرضنا لمختلف أوجه تطور الأعمال الفنية ومنها الفن الرابع.
  • ما الذي قدمته التكنولوجيا الرقمية للمسرح وما الذي سلبته منه في المقابل؟
  • ما هي خصائص الوضعية الاعتبارية الجديدة للمسرح في ضوء الرقمي؟
  • كيف يمكن بناء جماليات رقمية للفرجة المسرحية؟
  • كيف يمكن أن تتحول المسرحية بوصفها جنسًا أدبيًا إلى مسرحية رقمية لا مكان لها على الورق ولا يمكن التفاعل معها أو قراءتها إلا على شاشة الإنترانت أو المنصات الإلكترونية؟
  • متى يمكن أن نحصر حدود الفن الرقمي؟
  • ما هي العلاقة بين المبدع والمتلقي إذا كان الوسيط هو الفضاء الافتراضي؟
  • ما موقع المسرح التونسي من كل هذه التغيرات؟

أولًا: الثورة الرقمية ثورة ثقافية

منذ انبلاج الثورة الرقمية شهدت الإنسانية انسحاب تدريجي نحو فضاء جديد تحت مسميات مختلفة؛ الفضاء الافتراضي، الفضاء الرقمي، فضاء الحسابات الكبرى(Big Data) ، الفضاء الشبكي… وعليه بدأت مختلف أنشطة الإنسان تتخذ أشكالًا جديدة وفق خاصيات هذا الفضاء الذي يتميز بالمرونة والانفتاح والتعدد والانسياب والتحرر من كل القيود وإكراهات المكان والزمان.

في هذا السياق، يشير عالم الاجتماع مانويل كاستلز (Manuel Castels) إلى أن المجتمعات الحديثة أصبحت تعيش في حالة خضوع لازدواجية المعايير. حيث هناك انخراط شبه كلي في المنظومة الرأسمالية بكل ما تحمله من سمات السلوك الاستهلاكي وهيكلة شاملة للرأسمالية… وفي المقابل يلاحظ تطور مجتمع معلوماتي تمثل المعلومة فيه مصدر الإبداع الإنتاجي وتحولت بذلك إلى محرك أساسي للإنتاج.

بمثل هذا السياق فإن تكنولوجيات الإعلام والتواصل وبطريقة استعمالها في الشبكة وبمرونة تكيفها وإعادة تنظيمها تسهم في إبراز نمط جديد للحياة في المجتمع[2].

أصبحت البشرية بمقتضى هذا التحول الهائل تتطور بشكل مستمر بحكم التوسع المذهل لشبكات الاتصالات في عالم انتشرت فيه المعلومة والسرعة وعالم التفاعلية والعلاقة الجديدة من حيث الزمان والمجال. لقد أصبح الإنسان المعاصر بحكم هذه المتغيرات الجديدة منخرطًا انخراطًا شبه كلي في ما يسميه المنظّر الأمريكي في مجال الاقتصاد الرقمي جيرمي رفكين (Jermy Rifkin) بثقافة الولوج بمعنى الثقافة الجديدة. وتتجلى هنا أهمية عيش اللحظة الراهنة.

ثم إن أغلب سكان المعمورة يستعملون شبكة بصفة مكثفة وتستأثر مواقع التواصل الاجتماعي نصيب الأسد، ولما كانت المواقع الفنية غير كافية لاستقطاب المتلقي هنا تحضر أهمية المواقع الاجتماعية في الترويج للعمل الفني التي إلى حد الآن لم تستثمر بعد هذه في الترويج للأعمال المعروضة بالقاعات، والدليل على ذلك هو نجاعة الطريقة التي يتم من خلالها تعبئة الناس أثناء التظاهرات والتحركات الاجتماعية وبالخصوص دورها في بناء الرأي العام.

في هذا السياق، نتساءل عن مصير الإبداع الثقافي في خضم هذه التغيرات وفي نسق الإنتاج الفكري وآليات نشره؟ هل ما زالت الثقافة مؤشرًا على اختلاف الشعوب وتطورها؟ ما الذي أضافه الرقمي للإبداع الثقافي عمومًا والمسرحي بصفة خاصة؟

ثانيًا: مرحلة التصنيع وكونية الثقافة

من الثقافة الخصوصية إلى الثقافة الكونية، أصبحت كل الممارسات تلقب بالعمل الثقافي وانتقلنا من التميز الثقافي إلى التعميم الثقافي وأخذًا لإبداع الثقافي أشكالًا جديدة معبرة أكثر ما يمكن عن طبيعة التحول المجتمعي التي تميل في أغلبها إلى الطابع لاستهلاكي حيث العمل على تنويع المادة الثقافية وتكثيفها نزولًا تحت طلب السوق، فانتقلت بذلك البشرية من مرحلة الإبداع إلى مرحلة التصنيع؛ ومن مستوى تذوق الأثر الفني إلى مستوى استهلاك الإنتاج الثقافي، ومن مرحلة النوع الثقافي إلى مرحلة الكمّ الثقافي ومن الثقافة المعرفية (العالمة) إلى الثقافة الشعبية التي تلامس أكثر ما يمكن من المستهلكين، وانتقلنا من المعنى الثقافي إلى القيمة المادية.

هذا التحول لا نلمسه فقط في الإبداع الثقافي بل نلاحظه في أفضية التفاعل الثقافي الذي انتقل هو الأخير (بدوره) من المسارح والمعارض إلى شاشات التلفزيون والأسطوانات. لقد شغلت المسألة بالَ الكثير من الباحثين خصوصًا في مجال علم اجتماع الثقافة، حيث تطرق الباحث الفرنسي  إدغارد موران Edgard Morin)) إلى أزمة الثقافة التي استفحلت خاصة مع موجة التصنيع في القرنين التاسع عشر والعشرين، كما أشار إليها المفكر الألماني تيودور أدورنو (Theodor Adorno) وكذلك ج. هوركمايمر (J. Horkheimer) عندما تحدثا عن تصنيع الثقافة أو ثقافة التصنيع، وهو مصطلح صاغه الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع النقدي تيودور أدورنو (1895-1973)[3]. وهو من أهم مصطلحات النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. ففي كتاب جدل التنوير (1947) ظهر لأول مرة مفهوم جديد في علم الاجتماع النقدي أطلق عليه أدورنو “تصنيع الثقافة”، حيث رأى بأن هناك مصانع تنتج ثقافة، بالرغم من أن الثقافة لم تكن يومًا ما إنتاجاً صناعياً، كما هي اليوم.

لقد كانت مسألة التصنيع الثقافي سببًا في نزع صفة الإبداع عن كل عمل ثقافي واستُبدل بالإنتاج من أجل توفير أكثر ما يمكن من السلع الثقافية التي غزت السوق، أي البحث عن الوفرة عوض الجودة. وتحول الإنتاج الثقافي والفني الذي يضخه المجتمع الصناعي التقني المتقدم إلى آلية مستوعبة للمجتمع الصناعي المغترب وفكره التخديري الذي يتمثل بثقافة شعبية جماهيرية تشبع حاجات جماعية ولكنها تتحول إلى وسيلة هيمنة وتسلط وذلك بسبب تطور آلي لتصنيع، تطوراً لاعقلانياً وسيطرتها غير المباشرة التي تظهر في المشاركة الجبرية للملايين في عملية الإنتاج والاستهلاك وموافقتهم عليها دون مقاومة.

وبذلك، كان لوسائل الإعلام والاتصال الحاضنة لبث مثل هذه المنتوجات، الآلية لترويجها لأكثر ما يمكن من المستهلكين والخطورة التي تسببها تكمن في السلع الثقافية التي تخلق حاجات نفسية لا يمكن إشباعها إلا من خلال المنتجات الصناعية، الشيء الحاسم، كما يقول أدورنو ليس بيع الثقافة والفنون والاتجار بها، وإنما الطريقة التي تتغير بها الفنون والثقافة لتصبح منتجات سلعية تعرض كبضاعة مصنعة، وكذلك تغير الثقافة لتتحول إلى بضاعة شعبية رائجة.[4]

إن صياغة تيودور أدورنو المفهوم “الثقافة المصنعة” أعطتها بعدًا أيديولوجيًا شموليًا بين بوضوح قوتها وسيطرتها وأثارها التي تظهر في المشاركة الجبرية للملايين في عملية الإنتاج والاستهلاك وموافقتهم عليها دون مقاومة.

ثالثًا: من الثقافة المعرفية إلى الثقافة الجماهيرية

تاريخيًا، لم تكن الثقافة يومًا ما بضاعة أو إنتاجًا صناعيًا واسعًا كما هي اليوم. فمنذ القديم وحتى منتصف القرن الماضي (القرن العشرين) بقيت الثقافة بناء فوقيًا حتى في عصرالتنوير واتخذت محتوى ارتبط بالبنية الفوقية وأنتجت تاريخًا وأدبًا وفنونًا. ولكن منذ الحرب العالمية الثانية اندمجت التكنولوجيا بالثقافة، عن طريق الإنتاج الآلي الواسع وإعادة الإنتاج والاستهلاك، وأصبحتا شيئًا واحدًا لا يمكن التمييز بينهما.

إن عولمة الثقافة من طريق النزعة الاستهلاكية ووسائل الاتصال والإعلام وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات جعلت من الصعب التمييز بين الإنتاج الصناعي ومحتواه الثقافي وحوّلته إلى بضاعة. لقد تحوّل الإنتاج الثقافي والفني إلى آلية مستوعبة للمجتمع الصناعي وفكره التخديري الذي يتمثل بثقافة شعبية جماهيرية تشبع حاجات جماعية ولكنها تتحول إلى وسيلة هيمنة وتسلط وذلك بسبب تطور التكنولوجيا تطوراً لاعقلانياً وسيطرتها غير المباشرة على الناس. فالثقافة المصنعة تُنتجُ اليوم بمصانع تبيع سلعاً ثقافية مغرية تهدف إلى التلاعب بأفراد المجتمع وجعلهم سلبيين وعاجزين من طريق استهلاك المتع السريعة التي تبثها وسائل الإعلام والاتصال الحديثة التي تنتزع الأفراد من واقعهم وتجعلهم يركضون لاهثين وراء بضائع المدنية البراقة بغضّ النظر عن ظروفهم المعيشية وحاجتهم إليها. والخطورة التي تسببها تكمن فيالسلع الثقافية التيتخلق حاجات نفسية لا يمكن إشباعها إلا من خلال المنتجات الصناعية. إذ يختزل الرسم البياني الآتي سيرورة التحول التي علاها الإبداع الثقافي من مرحلة التصنيع إلى انتشار الثقافة الكونية.

تحوّلت الثقافة في المجتمع الصناعي اليوم إلى بضاعة واتخذت معنيين، الأول له محتوى واضح ينتج وباستمرار تواريخ وآدابًا وصورًا وموسيقى من أجل عرضها للبيع في السوق. أما الثاني فيتمثل بالإنتاج الآلي الواسع وإعادة الإنتاج والتوزيع بطريقة تكنولوجية، بحيث أخذت التكنولوجيا تندمج بالثقافة بالتدريج حتى أصبح تأثيرها واضحًا وأخذت تنتج أفلامًا وأجهزة استنساخ وتسجيل أغانٍ وألحان كاسيتات ودسكات وغيرها، وهذا يعني أن محتويات الثقافة أنتجت بوسائل تكنولوجية وأعيد إنتاجها وتوزيعها بذات الطريقة.

يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بوردييه (Pierre Bourdieu) أن آليات التلفزيون المعقدة لا تشكل خطرا على مستوى الإنتاج الثقافي فحسب، بل أصبحت تهدد الحياة السياسية والديمقراطية أيضا. والمشكلة، كما يقول بوردييه أن التلفزيون ومعه الصحافة هي وسائل مدفوعة بمنطق الركض واللهاث وراء مزيد من الجمهور”[5]. وفي هذا السياق نفسه يقرّ الباحث الفرنسي بوجود مصطلح جديد في إطار الثورة الصناعية وهو الثقافة الشعبية.

تغمر الأسواق اليوم ثقافة شعبية تجارية لا تنبع من حاجة الجماهير التي تستهلكها، وإنما من شركات رأسمالية كبرى عابرة للقارات تصنعها وتسوّقها وتدعمها وسائل إعلام ودعاية مبرمجة ومكثفة ومغرية تجعل الإنسان يركض وراءها، ويعمل متخصصون من فنيين وصحافيين ومصورين بالدعاية والإعلان لتسويق هذه الثقافة الشعبية وترويجها وغسل العقول وتشكيلها وفق مقاسات استهلاكية معيّنة تساعد على خلق ميول لتقبل البسيط والساذج وحتى الرديء وتشكيل عقل شعبي جمعي.

تلتقي الثقافة الشعبية المصنعة دون تفكير وحسّ جمالي رفيع وتسيطر على آليات توجيهه وتحريكه اجتماعيًا وسياسيًا ضد مصالحه وبوسائل وأساليب ناعمة تدغدغ عواطفه وتثير غرائزها لأكثر بدائية. وكنموذج آخر للثقافة الشعبية المؤدلجة يأتي أدورنو بأمثلة عديدة، منها موسيقى الجاز في أميركا. فموسيقى الجاز لا تبقى مصدرًا للرعب فحسب، لأنها لا تستطيع رفع الاغتراب الذي يعانيه الزنوج، بل وتقوم بتقويته وترسيخه. فالجاز أصبح بضاعة بالمعنى المطلق للكلمة وذلك لأن وظيفته الاجتماعية لا تعدو أن تجعل المسافة التي تفصل بين الفرد المغترب وحضارته قصيرة وبأيديولوجيا أقل ما يقال عليها شعبوية.[6] هذا ما عرفته الثقافة في التصنيع مرورًا بالثقافة الكونية في سياق ما يسمى بالثقافة المعولمة فكيف أصبحت مع ظهور الثورة الرقمية وعولمة الثقافة؟

رابعًا: فضاء الإبداع الرقمي وكسر مفهوم المتلقي السلبي

فتحت الرقمنة آفاقًا جديدة للتنوع في الأشكال التعبيرية الثقافية، كما مكّنت الثورة الرقمية من انفجار الطاقات الإبداعية فتغيرت أساليب التعامل مع الإبداعات الفنية عبر الوسائط الرقمية وانتقلنا من التفاعل الواقعي مع الإبداع الفني إلى التفاعل الافتراضي، ووجدت الثقافة في تكنولوجيا المعلومات أداة جديدة ذات إمكانات غير مسبوقة في التنمية والانتشار، كما رأت التكنولوجيا في الثقافة فضاءً رحبًا وبكرًا يسمح لها بتمدد غير مسبوق في نسيج المجتمعات الحديثة، الأمر الذي أفرز تحولات كبرى في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية وهو الذي مهد لتحقيق الثقافة الديمقراطية.

إن قنوات البث الرقمية خلخلت القطاعات الثقافية التقليدية وزعزعت منطقها الوظيفي الاعتيادي في طرق توزيع المضامين وفي إعادة تشكيل المشهد الثقافي. أما السوق الرقمية فتبدو مختلفة جدًا، ومن ذلك أنها تضع رهن إشارة المتقبل للأثر الفني مجموعة من المنتجات الثقافية الأكثر انتشارًا مستخدمة في ذلك جاذبية المواقع وسهولة الولوج مثل أمازون ويوتيوب، وتوفر تنوعًا من حيث الشكل وحجم العرض المتاح[7].

كما تغيرت طبيعة ما أطلق عليه الصناعة الثقافية استخدام لتكنولوجيا المعلوماتية والاتصالية الرقمية الراهنة بخلق فضاء رحب مفتوح وأضيفت عليها خصائص تفاعلية أنهت فكرة الاتصال في اتجاه واحد من المرسل إلى المتلقي وهو ما كانت تتسم به وسائل الاتصال الجماهيري التقليدي إذ أصبح الاتصال في اتجاهين تتبادل فيهما أطراف عملية الاتصال والأدوار ويكون لكل طرف القدرة والحرية على عملية الاتصال. ومن ذلك نجد الفنان في حاجة إلى الآخر، أي إلى ذلك المتلقي للأثر الفني، ليساهم في تجليات هذا العمل والتي لا ربما كانت خفية على الفنان ذاته في اللحظة الإنشائية التشكيلية ذاتها. وهو ما يتحقق مع الرقمي، ومن هنا يتجسد الإشكال المطروح من خلال هذه العلاقة الجدلية الكامنة بين ثلاثية تقوم على باث ومتلقّ ومفهوم معاصر ألا وهو التكنولوجيا.[8]

هناك إذن، جدلية قائمة بين ثلاثية مبدع ومتلقّي وفضاء رقمي، ومن هنا يمثل الفضاء الافتراضي فرصة لإفراز علاقة المتلقي بالعمل الفني القائم على الآنية الزمنية والتفاعلية[9]. فهل تستقيم العملية التشكيلية في عصرنا الراهن بحذف أحد مكونات هذه الثلاثية؟

خامسًا: ما مكانة انخراط الفن الرابع في الجيل الرابع للتكنولوجيا؟

الكل يعرف مدى مواكبة فن المسرح للتطور التكنولوجي حتى وإن كان بصفة محتشمة/ ومثال على ذلك تجربة Théatrophone[10]؛ لكنْ هناك إقرار بتأخر الفن المسرحي في الانخراط بالمنظومة الرقمية مقارنة ببقية للفنون التي وجدت في التكنولوجيا الحديثة فرصة للتجديد والابتكار والانتشار الواسع.

ففي سياق التطور الذي عرفته البشرية تحول المسرح من ممارسة تعليمية سياسية واجتماعية في ظل مجتمع إغريقي، إلى نص مكتوب يؤسس للذاكرة الجمعية. اختراع الطباعة، جعل المسرح جنسًا أدبيًا بامتياز والمتفرج هو القارئ للنص الذي يمكن أن يشخصه ممثلون في مكان أسميناه مسرحًا. يرتبط فيه العمل المسرحي بالمطبوع من خلال علاقة نص/عرض.

بدخول التقنيات الجديدة، أصبح مفهوم النص أكثر انسيابية وكثافة وتعددًا، ليتضمن الصورة والصوت والرمز والرقم. تقع الإشارة هنا إلى أن الممارسة الحديثة لفعل القراءة والكتابة خارج المطبوع دفعت إلى ممارسة فعل القراءة والكتابة على الوسائط الرقمية التي لم تغير فقط نوع الدعامة، بل في وظيفة القراءة والكتابة أيضًا[11].

وعليه، إن المسرح في حاجة ماسة للتماهي مع ثقافة العصر وكسر العزلة التي يعيشها حتى لا يتحول كائنًا جامدًا في وسط عالم متغير فالوضع الراهن يلح على العمل المسرحي أكثر من أي وقت مضى ضرورة الانخراط في الرقمي واللحاق ببقية الفنون، وتعددت الأطروحات في هذا الخصوص لكن الممارسات ضلت رؤى ومحاولات لتسخير الرقمنة في خدمة المسرح. بالرغم من التطور الهائل في مجال الرقمية لتصميم المناظر المسرحية إلا أنه لا يزال هناك ندرة في استخدامها.

في هذا السياق يمكن إعطاء لمحة عن خاصيات الفضاء الافتراضي في علاقة الفن المسرح، إن العروض المسرحية المباشرة أصبحت تعيش نوعًا من الأزمة بغض النظر عن الأزمة الاقتصادية، هناك الأزمة الاجتماعية التي أفرزتها الجائحة، هذه الأزمة جعلت من الرقمي ضرورة ملحّة أكثر من أي وقت مضى. بالتالي فإن الفضاء الرقمي وبما يتميز به من خاصيات الاتساع والذوبان والحرية والتنوع والتفاعل … ألغى بمقتضاها حدود المكان والزمان وأصبح هو الفضاء بامتياز لكل التفاعلات بما أننا نعيش موازاة للواقع في العالم الافتراضي. إذ نجد أن الفضاء الرقمي قد أدّى دورًا مهمًا في مختلف القطاعات الثقافية (الفن، المسرح، السينما، الأدب، الموسيقى…) فكثرت بذلك المواقع والمنتديات والمدونات التي تهتم بمختلف الممارسات الثقافية والمنفتحة على الجميع. كما ساهم هذا المعطى الرقمي في تحقيق الاستقلالية للمبدعين عن الرقابة التي كانت في وقت ما تحد من وصول ابتكاراتهم إلى جمهور واسع. فظهرت إبداعات جديدة من خلال مهارة استعمال الصورة والصوت وتقنية ثلاثية الأبعاد.

أما عن البعد العلائقي بين المبدع والمتقبل فقد أدى الفضاء الرقمي دورًا في جعلها علاقة تفاعلية بين المبتكر للأثر الفني والمتذوق له، الذي خول له الفضاء الرقمي فرصة التعليق والنقد والتقييم المباشر والسريع، فهو يساهم كذلك في إثراء ثقافة تفاعلية يشارك فيها الكاتب والمتلقي من طريق الحوار والتواصل والتفاعل من خلال ثلاثية المبدع، المتلقي، الوسيط كما يشير الرسم البياني الآتي، فهي ثلاثية جدلية لا تقف عند مستوى واحد بل يدلي كل طرف بدلوه في إثراء الإبداع المسرحي، كما يشير الرسم البياني الآتي، فهي ثلاثية جدلية لا تقف عند مستوى واحد بل يدلي كل طرف بدلوه في إثراء الإبداع المسرحي؛

لقد غيرت الرقمنة العلاقة التقليدية بين الأثر الفني والمتلقي، أصبح في ظل الرقمنة بإمكان المبدع ان يتطلع إلى ذوق المتلقي ومعرفة رأيه في ذلك، وهو ما يحيلنا للحديث عن تجربة الفن الرابع في الانخراط في عالم الرقمي. ترجع الإرهاصات الأولى لظهور المسرح الرقمي في التجربة الغربية إلى تشارلز ديمر الذي ألّف أول مسرحية رقمية تفاعلية سنة 1985، وقد تزامنت مع ظهور أول رواية رقمية تفاعلية بعنوان “الظهيرة قصة” لمايكل جويس سنة 1986، التي اعتمد في إبداعها على برنامج المسرد Storyspace))[12].

أما في الحقل الثقافي العربي فقد عرف ظهور المسرح الرقمي في الثقافة العربية تأخرًا مقارنة مع نظيره الغربي؛ حيث يعود ظهور أول تجربة مسرحية رقمية لسنة 2006 للكاتب المسرحي العراقي حسين حبيب بعنوان «مقهى بغداد» التي اعتمد في إبداعها على تقنية «النص المترابط». ما لا يمكن نفيه هنا أن المسرح اتخذ وضعية اعتبارية جديدة تداعت بموجبها المفاهيم السابقة وأوجب “التعامل معه باعتباره فرجة مفتوحة على التحولات الوسائطية الجديدة التي فرضت إعادة النظر في الهوية والجوهر”.

سادسًا: الوسائط الحديثة والفن المسرحي

لقد ساهمت التقنيات الرقمية الحديثة في استثمار الوضع الاجتماعي والسياسي لتوجه الفرجة المسرحية بوصفها وسيطًا شعبيًا، فاستجمع مادته الدرامالوجية من فيض المعلومات التي قدمتها المواقع الاجتماعية والمنصات الإلكترونية فايسبوك وتويتر. مثلت إذًا هذه الوسائط فضاء للتفاعل مع الجمهور ومجال يستوحي منه المسرحي فحو العرض المسرحي عبر ما توفره هذه الوسائط من تطبيقات ومميزات الصوت والصورة والنص المرجعي او التشعبي مثل ما يوضحه الرسم البياني الاتي؛

سابعًا: ما المقصود بالنص التشعبي الذي ظهر بظهور التكنولوجيا الحديثة؟

هناك عدد من التعريفات المختلفة لمصطلح النص التشعبي (Hypertext) [13] إلا أن معظمها يتمحور حول الربط والترابط. ويعرف نلسون (Nilsson) النص التشعبي من خلال مقارنته بالنص التقليدي، أبسط تعريف للنص التشعبي هو مقارنته بالنص التقليدي في كتاب[14]. كل النص التقليدي، سواء كان مطبوعًا أو في صورة ملفات حاسوبية، هو نص تتابعي (Séquentiel) أي تتابع خطي واحد يحدد التراتبي الذي ينبغي قراءة النص وفقًا له. فالقارئ يطالع الصفحة الأولى ثم الثانية والثالثة وهكذا. ولا يتعين عليك أن تكون عالم رياضيات لحل المعادلة التي تحدد أية صفحة تقرأها تاليًا.

أما النص التشعبي فهو غير تتابعي، إذ لا يوجد ترتيب واحد يحدد التتابع الذي ويضيف: “النص التشعبي عبارة عن كتابة يسير النص وفقًا له غير تتابعية مع روابط يتحكم بها القارئ”[15].

مع تقدم برمجيات الكمبيوتر، والذكاء الاصطناعي(Artificial Intelligence) ، ظهر العديد من ألعاب “الدرامية التفاعلية” على شبكة الانترنت، وهي برمجيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي ونظرية الاحتمالات التي تقبل مداخلات ردود أفعال/ استجابات مختلفة من الجمهور بينما يمكنها أن تبتكر أو “ترتجل” سيناريوهات مختلفة تبعا الاستجابة “المتفرج”.[16]

ثامنًا: مميزات المسرح الرقمي

تتميز المسرحية الرقمية بخصائص يمكن إجمالها فيما يلي: تولي أهمية بالغة لعنصر الإضاءة من أجل تجسيد رؤية المخرج. كما تقوم بالمزج بين الوسيط التكنولوجي (جهاز الحاسوب) والعنصر البشري (الممثل /الممثلون). أن شخصيات المسرحية الرقمية شخصيات أساسية توجد باستمرار في فضاء العرض. ومن أهم أدوات التكنولوجيا الرقمية المستخدمة في مجال الفن المسرحي؛ الإسقاط الضوئي، أجهزة المؤثرات الخاصة والخدع البصرية، التشكيل بأشعة الليزر وغيرها من الأجهزة وبخاصة منها المتعلقة بتصميم الديكور المسرحي.

تجري العروض المسرحية في بيئات واقعية حية غير ثابتة، فيقوم المسرح الرقمي بإشراك المتلقي/ الجمهور في أحداث المسرحية في مختلف مراحلها، وذلك من خلال وضعه أمام مواقف مشهدية وسيناريوهات تفرض عليه اختيار طرق مواصلة المشاهدة.

إن المسرح الرقمي هو نتيجة للتفاعل الذي حصل بين المسرح والتكنولوجيا، إذ يهتم بقضايا المجتمع ومشكلاته ويسعى إلى تقديم حلول لمختلف الظواهر السوسيولوجية والسيكولوجية والسياسية، موظفًا في ذلك جميع أدواته التي تركز على طبيعة العلاقة مع الجمهور وهو الأمر الذي يميزه عن المسرح التقليدي. والاستدلال على أهمية انخراط فن المسرح في الرقمي نجد فن السينوغرافيا الذي تألق مع ظهور التقنيات الرقمية.

الرقمي فرصة السينوغرافيا

لقد أظهرت عديد البحوث في مجال الفن المسرحي أن السينوغرافيا هي الأكثر مجالات التفاعل بين الرقمي والمسرحي، الفضاء في المسرح يستلزم فضاءً زمكانيًا، لكن الفضاء المكاني تلاشى، وذاب العرض داخل خطوط الرقمي. تم إذًا استدعاء التقنية في تأثيث الفضاء، الغرض منه هو الاقتصاد في الجهد وإتاحة خيارات سينوغرافية أكثر: فعوضت الشاشة الهيكل المادي لتفتح إمكانات جديدة، ما كان المسرح الكلاسيكي يستطيع استحضارها أثناء العرض.

وعليه، مثلت الصورة هاجس السينوغرافي ومفتاحًا لدخول العالم الافتراضي، مستفيدًا من تكنولوجيا الصوت والصورة، التي واكبت فنون أخرى كالفوتوغرافيا والسينما، وهو ما جعل من المسرح ورشة مفتوحة أمام التجريب العلمي الذي بموجبه تقلصت مساحة الفضاء المادي مقابل فضاء رقمي قد يستغني عن كل مكونات العالم الواقعي بما فيها قاعة العرض – المكان المفترض للعرض المسرحي -. لقد تفتت الفضاء المكاني، بفضل تقنيات الاتصال الرقمي وسهل انتقال التلقي عبر بوابة العالم الافتراضي الأكثر انسيابية.

كما تغيرت عديد المفاهيم المتعلقة بفن المسرح منذ انبلاج الثورة الرقمية واقتحامها مجال المسرح من ذلك مفهوم خشبة المسرح التي انتقلت إلى فضاء افتراضي لا تضبطه الحدود وذاب العرض داخل خطوط الرقمي. فعوضت الشاشة الهيكل المادي لتفتح إمكانات جديدة، ما كان المسرح الكلاسيكي يستطيع استحضارها أثناء العرض.

كما تغير مفهوم الممثل المسرحي، إن الممثل جسد، يتألف من صوت وحركة، يتفاعل داخل فضاء، لكن الجسد ليس بالضرورة إنسان من لحم ودم. قد يكون تسجيلًا لشخص أو إبداعًا لممثل افتراضي أوجدته التقنية”. تحول الممثل من عنصر محوري في الدراما إلى مجرد أداة من بين أدوات أخرى تستمد وجودها من آلات وأجهزة وتقنيات سمعية-بصرية متعددة ومعقدة في طرق اشتغالها. لقد تقوض مفهوم الممثل ككيان سيكولوجي وسوسيولوجي، وحل محله مفهوم الجسد الذي أصبح أرضية أو مختبرًا لكل الاستعمالات الممكنة التي أفرغته من محتواه الإنساني أحيانا”[17].

أما عن المتلقي فقد تغير دوره من المنظور المسرحي ولم يعد مجرد تفاعل مع العمل المسرحي بالحضور الجسدي إذ تلاشت قاعدة لقاء الممثل الحي والجمهور في حيز مكاني واحد هنا والآن، أصبح بالموازاة مع العرض المباشر هناك إمكانية المتلقي يختار مكان وزمان تفاعله مع العرض المسرحي.

يتأتى التفاعل الرقمي هنا بتشغيل برنامج رقمي يدعو إلى تدخل مستعمل بشري، تخضع بموجبه المشاهدة لمناولة تتحكم في العرض، كتفاعل يجعل من المتلقي صانعًا للفرجة: ليست هناك أية سلطة للمبدع على المتلقي فهو يكبر أو يصغر أو يوقف العرض. الاختيار بالضغط على الزر لا يعني بأي حال من الأحوال أن المتلقي يشاهد العمل كما خطط له المبدع[18]، وهو ما أثر سلبًا في قاعات العرض التي أصبحت بمقتضى هذا المعطى الجديد شبه مهجورة، وهما تتجلى النظرة التقليدية اتجاه مسألة اقتحام التقنية مجال الفن الرابع. ربما يتضح لنا أكثر سبب تأخر المسرح في الانخراط في الرقمي، ربما تخوف من أن يفتقد أحد أهم عناصره والتي تمثل هويته، أي خشبة المسرح التي يبغي المحافظة على وجودها المادي (الآن وهنا).

هذا الأمر يدعونا للتساؤل هل أصبح لزامًا على المسرح اليوم مسايرة كل هذه التحولات التي عرفتها تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة؟

تاسعًا: فن المسرح والمجتمع التونسي بين مقتضيات الرقمي وتداعيات الأزمة الوبائية

ارتبط المسرح منذ بداياته بالتكنولوجيا بوصفه فنًا يحاكي الحياة، ونحن نعيش عصر التكنولوجيا بامتياز؛ التي طغت على سائر أنشطة البشر وأصبحنا بالتالي نتحدث عن مجتمع جديد وهو مجتمع المعلومات نسبة إلى نمط الإنتاج المرتكز على إنتاج المعلومة، بالتالي يعكس المسرح في مختلف عروضه طبيعة هذا المجتمع الجديد كما الاستعادة من التقنيات الجديدة لتطوير فن المسرح.

في هذا السياق، إذا تأملنا الوسائل التقنية التي استخدمها الإغريق على سبيل المثال في مسارحهم، استطعنا أن نعرف على مستوى التكنولوجيا التي كانت سائدة في ذلك العصر. وهذا إقرار بأن جل الفنون – بما فيها المسرح – لم تكن منعزلة عن التطور الذي يعيشه المجتمع والمتغيرات الجديدة التي تحكمه.

هنالك إذًا علاقة تبادلية بين المجتمع والمسرح باعتبار انعكاس هذا الأخير على كل مميزات المجتمع. فقد عرف المسرح عبر عقود طويلة من الزمن عديد التغيّرات سواء على مستوى التركيبة والشكل أو على مستوى المضمون والوظائف، مرتبطا في ذلك بمجموع التغييرات التي تحدث في المجتمع، ذلك أنّه كان منذ نشأته ظاهرة اجتماعية منغمسة في الواقع الاجتماعيّ والوعي الجماعيّ سواء كان ذلك بطريقة واعية أو غير واعية، حيث إنّ التركيبة والشكل والمضمون والممارسة كانت في غالبها نتاجًا اجتماعيًّا بشكل مباشر أو غير مباشر.

تغيّر العالم وتوازى مع ذلك تغيّر في الظاهرة المسرحية، فتجلّى ذلك أساسًا في النقطة المفصلية التي مثلتها الثورة الصناعية التي ركزت بدورها ثورة مسرحية (وهذا ما ذهب إليه العديد من علماء اجتماع المسرح وبخاصة منهم عالم الاجتماع الفرنسي جان دوفينيو). ففي مسرح ما بعد الثّورة الصّناعية ظهر مسرح بروليتاري متجذّر في التّجربة الاجتماعية، معبّر عمّا تعانيه هذه الطّبقة العمّالية من استغلال وقهر وحرمان واستعباد بطريقة جديدة، واغتراب، فكان أن برزت وظائف اجتماعية أخرى اضطلع بها المسرح كالتّحريض والتّوعية والتّقويم خدمة لمصالح العمّال وتعبيرًا عن آمالهم، مسرح يتّخذ من المقولة الماركسية بمحاولة تغيير العالم بدل تفسيره منهجًا له[19]. في هذا الإطار، كيف تتجسد الخصوصية التونسية في مجال فن المسرح غي علاقة بالمعطى الرقمي؟

يبقى الوضع الراهن الذي يعيشه المجتمع التونسي من تحولات وحركات اجتماعية وما خلفته الجائحة العالمية من آثار سياسية واقتصادية واجتماعية، بيئة مناسبة جدًا لاحتضان المسرح الرقمي وتبنيه، والذي يأخذ على عاتقه أهدافًا ومميزات تربوية وتوعية تسهم في إحداث التغيير في الظواهر النمطية المغروسة في مجتمعاتنا وعلاجها ثقافيًا وفنيًا، من خلال فسح المجال للمتلقي/المتفرج للحوار والتفاعل مع الأفكار التي يثيرها الممثلون أثناء العرض المسرحي، جاعلًا نفسه مكانهم ومتقمصًا لبعض أدوارهم. هذه الأدوار التي يمكن أن يستقيها من الفضاء الافتراضي الذي يمثل الحياة الثانية، وهو ما يمثل نقطة الاختلاف مع بقية الشعوب باعتبار أن كل شعب له مخزونه الثقافي (التقاليد، العادات، النواميس والقيم…) التي تتقولب عليها حياة المجتمع.

إن المسرح الرقمي كسر النمط الجامد والسكوني للمتلقي/ المتفرج على عرض مسرحي تقليدي داخل صالة مظلمة، حيث لا يمكنه أن يتحرك من مكانه أو يسهم في أداء عروضه، وذلك من خلال جعل المتلقي/ المتفرج مشاركًا في العملية الإنتاجية للنص المسرحي ومسهمًا أيضًا في أداء أحداثه، الأمر الذي يجعلنا نقول إن المسرح الرقمي له رهاناته وله الحق في التجريب. فالرهانات المطروحة اليوم على المسرح هي الانخراط في الرقمي والعمل على تطوير ذاته من خلال اعتماد الفضاء الافتراضي كمصدر إيحاء ومجال انتشار.

عاشرًا: ما الرهانات المطروحة على الفن الرابع في ظل الثورة الرقمية؟

إن التطور التكنولوجي الهائل في السنوات العشر الأخيرة كان له وقع كبير على جميع الأصعدة، منها نجال الإبداع الثقافي بمخالف أشكاله (السينما الرقمية، الرسم التشكيلي الرقمي المتاحف الرقمية…). وقد ساعدت التكنولوجيا في إعادة هيكلة عديد المجالات الثقافية وبخاصة منها اللغة المسرحية من حيث تأسيس الجماليات الفنية للمسرح وأسلوب التذوق الفني لها.

بالرغم من انتشار تقنيات وأساليب التعبير عن تصميم المنظر المسرحي باستخدام التكنولوجيا الرقمية والمؤثرات البصرية للعرض المسرحي إضافة إلى ما يوفره الفضاء الرقمي من تطبيقات وتصميمات، إلا أنه لا يزال هناك فجوة كبيرة بين تطور باقي الفنون وما يعرفه عن المسرح في علاقة بهذه الثورة الرقمية، وعليه يجب أن يستثمر الفن الرابع من ثورة الجيل الرابع والخامس للتكنولوجيا خاصة في ظل تداعيات وباء covid-19 على الإنسانية التي أصبحت تتجه نحو الرقمي بامتياز لتجاوز هذه الأزمة.

يعيش الإنسان المعولم حالة من الحيرة والتأمل إلى ما آلت إليه الحياة أثر تفشي الوباء المستجد في جميع أنحاء المعمورة تقريبًا. هذا الوباء الذي يمكن اعتباره ظاهرة كلية وشاملة مختلفة الأوجه ومتعددة التداعيات الصحية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما كذلك الديمغرافية. هذه الظاهرة التي قلبت كل الموازين وغيرت من مسار حياة البشر في مختلف جزئياتها وعلى كل الأصعدة.

لقد أثرت الجائحة في مختلف أوجه الحياة، إذ طغى عليها الخوف والحيطة والحذر من الآخر الذي أصبح يشكل مصدر خطر مع سرعة انتشار الوباء. هذا الأمر أثر مباشرة في العلاقات البشرية وفي حياة الفرد، وهو ما غيّر من طبيعة العلاقات بين الافراد والمجموعات وأعاد ترتيب الأولويات التي أصبحت تتصدرها صحة البشر وهي الشغل الشاغل ومحور اهتمام وتركيز الفاعلين في جميع المجالات. على هذا الأساس تغيرت طبيعة الشعوب وما الأعمال المسرحية إلا مواكبة لكل ما يطرأ على حياة المجتمع من تغيير.

لقد عايش المجتمع التونسي الثورة الرقمية كسائر شعوب العالم وراوح بين الانخراط والإحراز في استعمال الرقمي، كما عايش الأزمة الوبائية كبقية دول العالم في إطار عولمة الوباء وتفطن إلى أهمية المعطى الرقمي في تجاوز الأزمات وإعادة الحياة، لكن يبقى لكل شعب خصوصيته الثقافية التي تظهر في الأعمال الرقمية؛ حتى وإن كنا نعيش وضعًا عالميًا بامتياز فإن الأعمال الفنية وبخاصة منها المسرح تبقى هي المرآة العاكسة لهوية المجتمع وتميزه.

خلاصة

في ختام هذا العمل نستطيع أن نقول الفن المسرح بالمنطقة العربية ظل متأخرًا في علاقة بالتكنولوجيا الحديثة مقارنة بالغرب الذي طور هذا المجال بشكل مذهل، نجد من ذلك أعمال الباحث الإيطالي أنطونيو بيزو الذي بحث في تأثيرات التقنية الرقمية على المسرح الغربي عمومًا والإيطالي بنوع خاص، منطلقًا من انتشار الإنترنت والعلاقة والمتداخلة بين العرض المسرحي والأجهزة الجديدة للتكنولوجيا الرقمية.

وعليه، يجب أن يتكرس العمل المسرحي بانفتاح المبدع على المكتسبات التقنية الناتجة من التطور في الآليات التكنولوجية التي تمكنه من خلال رواسبه وموروثه الفكري والمرئي من اكتساب التقنية وتطويعها في خدمة الأبعاد الحسية للعمل الفني من خلال البحث والتواصل مع الآخر عبر القنوات الحديثة. في هذا الإطار تتجه الأنظار نحو التحسيس بأهمية الثقافة الرقمية ودورها في تطوير علاقة الفكر بالمعرفة، وهو ما يتطلب ضرورة تنشئة الأجيال الحديثة على حسن توظيف الوسيط التكنولوجي من أجل مزيد تفجير الطاقات الإبداعية والاستفادة من العالم الرقمي لتبليغ مواهبهم إلى مختلف الثقافات. إلا أن المسالة تبقى دائمًا محل بحث من حيث قضية الدفاع عن حقوق الملكية الفكرية وحماية رواد ومستعملي الفضاء الرقمي من الجرائم الافتراضية.

 

قد يهمكم أيضاً    السياقات الثقافية الموجّهة للهوية الرقمية في ضوء تحديات المجتمع الشبكي من التداول الافتراضي إلى الممارسة الواقعية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المسرح #الفن_الرابع #المسرح_الرقمي #الإنتاج_الثقافي #الإبداع_الرقمي #التصنيع_الثقافي #العولمة #عصر_الرقمنة #عصر_الانترنت #الثقافة_الرقمية #الفضاء_الافتراضي #الجيل_الرابع_للتكنولوجيا #الثورة_الرقمية