طوال عقود ممتدة، ارتبط حال الحدود السودانية- الإثيوبية البالغة نحو 265 كم، والمطلة على الولايات الأربع السودانية (كسلا، القضارف، النيل الأزرق، وسنار)، وعلى إقليمي التيغراي والأمهرا الإثيوبيين، بمجموعة من المحددات سواء المتعلقة بما تتمتع به منطقة الفشقة من مزايا اقتصادية، أو المتعلقة بحدود تأثير المكون العرقي على سياسة إثيوبيا تجاه بعض الملفات الحيوية كملف الفشقة، أو تلك المحددات المتعلقة بما تشهده كل من السودان وإثيوبيا من تطورات سياسية واقتصادية من جانب، والتي يشهدها إقليم شرق أفريقيا من جانب آخر. ومن الجدير بالمناقشة، تجنب الجانبين وصف ما تشهده التوترات الحدودية السودانية- الإثيوبية بأنه نزاع حدودي قد يدفع البلدين لدخول حالة حرب ليس أي منهما على استعداد لتحمل تبعاتها. إلا أنه يبدو أن هناك مجموعة من العوامل الداخلية والإقليمية التي دفعت نحو تغيير الحسابات السودانية في التعامل مع ملف الفشقة، بصورة ساهمت في إضفاء مزيد من التوتر على العلاقات السودانية- الإثيوبية.

انطلاقًا مما تقدم، يناقش المقال الدوافع التي أدّت إلى اندلاع المناوشات الحدودية السودانية- الإثيوبية، وما هي المسارات المحتملة لأزمة الحدود وفقًا للحسابات الإثيوبية ونظيرتها السودانية المحتملة.

أولًا: دوافع تصعيد أزمة الحدود السودانية- الإثيوبية

هناك مجموعة من الدافع التي وقفت وراء تصعيد أزمة الحدود السودانية- الإثيوبية، وانتهاجها مسار غير المسار المعهود على مدار العقود الماضية، يمكن توضيحها على النحو التالي:

1- الأهمية الجيواقتصادية لمنطقة الفشقة

تتمتع منطقة الفشقة بأهمية جيواقتصادية بالغة نظرًا إلى ما تتمتع به من مزايا اقتصادية، جعلتها سببًا لاندلاع النزاعات الحدودية على مدار عقود ممتدة بين إثيوبيا والسودان؛ حيث تتمتع منطقة الفشقة[1] بتعدد الأنهار والمجاري المائية، إلى جانب تميزها بأراضٍ زراعية خصبة تصل مساحتها نحو 600 ألف فدان. وتنقسم الفشقة إلى قسمين: أولهما؛ الفشقة الكبرى التي يحدها من الشمال نهر ستيت ومن الجنوب بحر باسلام ومن الغرب نهر عطبرة، وأغلبية سكانها من أعراق الحمران والفلاتة والهوسا؛ ثانيهما، الفشقة الصغرى التي يحدها من الشمال بحر باسلام، ومن الغرب نهر عطبرة ومن الشرق الحدود السودانية- الإثيوبية، وتتخللها العديد من الجبال[2].

ونظرًا إلى الطبيعة الجغرافية والمناخية التي تتميز بها منطقة الفشقة، والتي تفرض على أراضيها العزلة عن الأراضي السودانية المتاخمة لها خلال موسم فيضان الأنهار، إلى جانب ما تشهده من أمطار غزيرة خلال فصل الخريف، ميزتها بالإنتاج الكثيف لمحاصيل السمسم والذرة والقطن قصير التيلة، إلى جانب الصمغ العربي والخضروات والفاكهة، أصبحت المنطقة مطمعًا للمزارعين الإثيوبيين الذين اعتادوا الاستيطان في أراضيها وزراعتها بحماية ودعم من قبل الميليشيات الإثيوبية “الشفته” التي تستقوي بصمت الحكومة الإثيوبية على ممارساتها.

إضافة إلى أنه في ظل ما تعانيه إثيوبيا من كثافة سكانية عالية وما تتسم به المناطق الجغرافية الحدودية الإثيوبية من مرتفعات وهضاب تنتهي بالوصول إلى السهول السودانية، وتجعل الإثيوبيين بحاجة دائمة إلى توفير المحاصيل الزراعية، فإن عدم توافر بنية تحتية مكونة من طرق وجسور وشبكة كهرباء وخطوط اتصالات داعمة لحركة السودانيين في المنطقة على الأقل خلال الخمسة أشهر في فصل الخريف والمزامنة لسقوط الأمطار، إلى جانب قلة عدد السكان السودانيين مقارنة بنظائرهم الإثيوبيين، خلق لدى الإثيوبيين دافعًا للتسلل إلى أراضي الفشقة، ولا سيما بعدما أصبحت الأنهار السودانية تجري طوال العام بعد بناء سدين على نهري عطبرة وستيت[3].

2- إثيوبيا ومحاولة فرض سياسة الأمر الواقع

تجنب الجانبان الإثيوبي والسوداني إطلاق صفة التنازع في وصفهما لحجم وطبيعة التوترات المندلعة على الحدود السودانية- الإثيوبية منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، وحرصًا على تجنب التصعيد واحتواء الأزمة، كما أن أديس أبابا لم يسبق لها وأن أعلنت عدم اعترافها بترسيم الحدود بين البلدين وفقًا لاتفاقية عام 1902، ولم تطلب الطعن أو حتى أبدت اعتراضها على تلك المسألة عند إقرار منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حاليًا) لمبدأ تثبيت الحدود الموروثة من الاستعمار[4]، ناهيك ب أنها قبلت في عام 2002 باعتماد نقطة تلاقي خور الريان مع نهر ستيت كنقطة نهاية لحدودها مع إريتريا وفقًا لما توصلت إليه لجنة ترسيم الحدود الإثيوبية الإريترية، وهي ذات النقطة التي تلتقي عندها حدود الدول الثلاث (الإثيوبية والإريترية والسودانية)، والتي أقرتها اتفاقية عام 1902[5]، وحددها ممثل بريطانيا الميجور جوين في بروتوكول عام 1903 واعترفت بها إثيوبيا في المذكرات المتبادلة عام 1972.

لكن على الرغم مما سبق، وبخلاف بعض التحديات السياسية والاقتصادية التي شهدتها البلدين على مدار عقود ممتدة دفعتهما لتأجيل النظر في تلك المسألة، ولا سيما في ظل ما تتسم به العلاقات بين البلدين بالقوة، إلا أنه قد غلب على المشاورات المشتركة بين البلدين سمة المماطلة والممانعة الإثيوبية لوضع العلامات الراسمة للحدود بين البلدين. فلقد لعب المحدد العرقي خلال تلك المشاورات دورًا في توجيه موقف السياسة الإثيوبية من تلك الحدود، سواء خلال حكم كل من الإمبراطور هيلاسيلاسي أو منغيستو هيلا مريام المنتميين إلى عرقية الأمهرا، أو خلال عهد آبي أحمد الذي يستند إلى دعم تلك العرقية بعد تراجع شعبيته لدى عرقية الأورومو؛ لاعتقاد عرقية الأمهرا بأن لها الحق في المناطق الشرقية السودانية[6].

انطلاقًا مما ذُكر، لجأ الجانب الإثيوبي لفرض سياسة الأمر الواقع على الجانب السوداني بوضع يده على أراضي الفشقة، فازداد تدفق المزارعين من ثلاثة مزارعين عقب استقلال السودان وتحديدًا في عام 1957 حتى بلغ 10 آلاف مزارع في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، كما مدّت إثيوبيا بنية تحتية لها في المنطقة ممثلة بطرق وخطوط كهرباء واتصالات[7]، وأنشأت 17 مستوطنة لمزارعيها، يوجد 7 منها في “الفشقة الكبرى”، بينما تتمركز 10 مستوطنات في “الفشقة الصغرى”[8]. وعلى مدار عقود ممتدة تعرض المزارعون السودانيون للقتل والنهب والطرد من مزارعهم على أيدي المزارعين الإثيوبيين وميليشيا الشفتة، وهو ما كان سببًا في توصل الجانبين للمذكرات المتبادلة في عام 1972 التي اعترفت خلالها أديس أبابا بعلامات الممثل البريطاني جوين، مقابل بعض الالتزامات، أهمها؛ حل قضية المزارعين الإثيوبيين في السودان والبالغ عددهم في ذلك الوقت حينئذ 52 مزارع، مقابل التزام الجانب الإثيوبي بعدم زيادة عدد المزارعين في السودان والحفاظ على خط التمييز بين المزارعين السودانيين والإثيوبيين داخل السودان[9]، وهو ما لم تلتزم به أديس أبابا، ولا سيما مع انسحاب القوات الأمنية والعسكرية السودانية من المنطقة الحدودية في عام 1995 خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير، في إطار المقايضة الإثيوبية بين التنازل عن أراضي الفشقة أو دعم الجهود المطالبة بمحاسبته عقب محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك.

واعتمدت إثيوبيا في تنفيذ سياستها لانتزاع أراضي الفشقة السودانية على آليتين رئيسيتين، أولاهما؛ إطلاق إثيوبيا يد ميليشيات الشفتة الأمهرية لدعم وحماية المزارعين الإثيوبيين والتعدي على المزارعين السودانيين، مع إدعاء الحكومة الإثيوبية بأنها ليست تابعة لها ولا يُمكنها السيطرة عليها. فما كانت تمارسه الميليشيا من اعتداءات على أراضي الفشقة كان يقابله صمت إثيوبي، إلى أن قامت السودان ولأول مرة باتهام الجيش الإثيوبي بدعم تلك الميليشيات في 28 أيار/ مايو 2020، وقتل أحد عناصره بعد رفض الجيش السوداني سحب الميليشيا كميات من مياه نهر عطبرة[10]. بينما تتمثل ثانية الآليات الإثيوبية بعرض مشاريع اقتصادية في المناطق الحدودية كمحاولة لاستمالة الجانب السوداني، كمشروع سكك الحديد للربط بين البلدين الذي حاولت إثيوبيا تفعيل أولى خطواته بالتزامن مع اندلاع النزاع في كانون الأول/ ديسمبر 2020، إلى جانب الإعلان عن زيادة الربط الكهربائي مع السودان عقب المناوشات الحدودية في أيار/ مايو 2020 [11].

3- إعادة نظر السودان في ملف الفشقة    

وقفت مجموعة من العوامل وراء إعادة السودان النظر في حساباتها تجاه ملف الفشقة، تزامنًا مع إعادة تقييم وهيكلة سياساتها تجاه عدد من الملفات الحيوية المشتركة مع الجانب الإثيوبي أبرزها ملف سد النهضة، بصورة ساهمت في إضفاء مزيد من التوتر على العلاقات السودانية- الإثيوبية، أولها؛ أن حكومة آبي أحمد أطلقت يد ميليشيات الأمهرة في ساحة المعركة في تيغراي، مطلقةً العنان لرغبتها باستعادة أراضيها التاريخية في إقليم تيغراي والتي سبق أن خصصتها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في تسعينيات القرن الماضي، وهو ما تجسَّد في رفع الميليشيات لافتات على الطرق عقب سيطرتها على الإقليم كتب عليها “مرحبًا بكم في أمهرة”[12]، وبالتالي إمكان تكرار السيناريو الأمهري في إقليم تيغراي، على أراضي الفشقة السودانية التي تُعد من المنظور الأمهري أراضي أمهرية تاريخيًا، ولا سيما في ظل استيطان المزارعين الأمهريين على أراضي الفشقة لعقود ممتدة، وهو ما أدى إلى تصاعد المخاوف السودانية من إحكام إثيوبيا قبضتها على أراضي الفشقة عبر ميليشيات الأمهرة وفرض “سياسة الأمر الواقع”.

أما بالنسبة إلى ثاني العوامل التي دفعت السودان لإعادة النظر في حساباتها تجاه أراضي الفشقة؛ هو امتلاك السودان فرصة ذهبية لاستعادة سيطرتها على أراضي الفشقة دون حرب وبأقل خسائر ممكنة، لانشغال الجانب الإثيوبي بالحرب على إقليم تيغراي؛ حيث إن تحرك القوات السودانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 لاستعادة أراضيه، بالتزامن مع اندلاع الحرب في إقليم تيغراي، سيشتت القوات الإثيوبية وحلفاءها في ساحة المعركة ويمنعها من فتح جبهات قتالية جديدة. وبالفعل، اقتربت السودان حتى 2 آذار/ مارس 2021 من السيطرة على آخر وأكبر معاقل الميليشيات الإثيوبية على أراضي الفشقة وهي منطقة “برخت”، التي يقطن بها ما لا يقل عن 10 آلاف من المدنيين والقوات الإثيوبية والميليشيات المسلحة، وتعد واحدة من أكبر مراكز دعم وتشوين الجيش الإثيوبي[13]، وبتحريرها استردت السودان أكثر من 97 بالمئة من أراضيها.

أما بالنسبة إلى العامل الثالث الدافع لإعادة الحسابات السودانية تجاه ملف الشفتة فيتمثل بالتحديات الأمنية، حيث تمر السودان بمرحلة انتقالية حرجة تواجهها العديد من التحديات أبرزها السياسية والأمنية، ولا سيما المتعلقة بتنفيذ اتفاق جوبا للسلام السوداني، ورفض عدد من الميليشيات المسلحة الانضمام إلى الاتفاق. ومع اندلاع أزمة إقليم تيغراي وتصاعد عدد اللاجئين الإثيوبيين حتى بلغوا 67 ألفًا في آذار/ مارس 2021[14]، تصاعدت المخاوف والمخاطر الأمنية سواء المتعلقة بسيادتها على أراضي الفشقة، أو المتعلقة بمعدل الجريمة المنظمة العابرة للحدود المهددة لأمن البلاد واستقرارها، والتي تتطلب اتخاذ الإجراءات الأمنية اللازمة لضبط الحدود والتصدي لأي هجمات عسكرية من المحتمل التعرض لها في المستقبل. بينما ينصرف العامل الرابع إلى الحالة الثورية السودانية التي فرضت على حكومة عبد الله حمدوك ومجلس السيادة السوداني، ضرورة العمل على استعادة السيادة السودانية على أراضي الفشقة، والتصدي لاعتداء الميليشيات الإثيوبية، ولا سيما أن الاقتصاد السوداني في حاجة ملحة إلى الاستفادة من مزايا الفشقة الاقتصادية.

ثانيًا: مآلات أزمة الحدود السودانية- الإثيوبية

بعدما تمكنت السودان من فرض سيطرتها واستعادة سيادتها على أراضي الفشقة، انحسرت مآلات أزمة الحدود السودانية- الإثيوبية في مسارات محدودة، تتوقف بالأساس على عنصرين رئيسيين: أولهما، يتمثل بالخيارات الإثيوبية الممكنة والمحتملة للرد على التحركات العسكرية السودانية في الفشقة، ولا سيما مع تأكيد السودان في 21 آذار/ مارس 2021 على رفضها لأية مفاوضات مع الجانب الإثيوبي حول إعادة ترسيم الحدود بين البلدين، إلى جانب جاهزيتها للرد على أي احتلال إثيوبي محتمل لأراضي الفشقة؛ ثانيهما، الخطط السودانية اللازمة للحفاظ على مكاسبها الميدانية. ويُمكن توضيح المسارات على النحو التالي:

1- الانصياع الإثيوبي للإملاءات السودانية في الفشقة

يُشير هذا السيناريو إلى الاعتراف الإثيوبي بأحقية السودان في ممارسة سيادتها على أراضي الفشقة، والقبول ببدء المحادثات السودانية- الإثيوبية لترسيم الحدود بين البلدين وفقًا لاتفاقية عام 1902، لعدة أسباب: أولها؛ كسبيل للحفاظ على قوة ومتانة العلاقات مع إحدى دول الجوار الإثيوبي بشكل يتسق مع مسار السلام الإقليمي الذي بدأته إثيوبيا عقب تولي رئيس الوزراء آبي أحمد الحكم في عام 2018، وانعكس بالإيجاب على صورتها لدى المجتمع الدولي؛ ثانيها، فتح المجال أمام أديس أبابا لاستمالة الموقف السوداني في ملف سد النهضة، وقطع الطريق أمام مصر لتعزيز علاقاتها مع الجار السوداني؛ ثالثها، ما يشهده الداخل الإثيوبي من تحديات أمنية عقب اندلاع الحرب على إقليم تيغراي، تدفع الجانب الإثيوبي للتنسيق مع الجار السوداني إن لم يكن لمطاردة قيادات التيغراي، فلضمان عدم تلقيهم الدعم والحماية السودانية، وهو ما يُمكن الاستدلال عليه بتوجيه رئيس الوزراء آبي أحمد في 19 آذار/ مارس 2021، ما وصفه بالإنذار الأخير لقيادة التيغراي للاستسلام دون الإعلان عن رد الفعل الإثيوبي المحتمل في حال عدم استجابتهم للإنذار[15].

على الرغم مما سبق، فإن ما يضعف من احتمالية ترجمة هذا المسار، هو عدم توافر الإرداة السياسية الإثيوبية لحسم الملف على هذا النحو، كما إنه لا يتسق مع توجهات رئيس الوزراء آبي أحمد ولا مع وزن إثيوبيا الإقليمي حتى وإن كانت الأسباب الدافعة للتنازل منطقية وداعمة للسلام في محيطه الإقليمي.

2- القبول الإثيوبي المشروط بترسيم الحدود

من ضمن المسارات المحتملة للأزمة هو القبول الإثيوبي المشروط باستعادة السودان لسيادتها على أراضي الفشقة وإنهاء عملية ترسيم الحدود وفقًا لاتفاقية 1902، نظير تقنين أوضاع المزارعين الإثيوبيين في الفشقة وتقييد يد الميليشيات الأمهرية، وهو ما يُعد تكرارًا للسيناريو نفسه الذي سبق أن دفع الجانبين لتوقيع مذكرات عام 1972، التي أتاحت للمزارعين الإثيوبيين الانتفاع بمزايا الفشقة.

لكن في المقابل، يواجه هذا المسار عدة تحديات، أبرزها؛ رفض عرقية الأمهرة القبول بمنتصف الحلول في التعامل مع ملف الفشقة، لاعتقادهم الراسخ بأحقيتهم بها، وأن ما قدمته من دعم لحكومة آبي أحمد في مختلف الملفات، ولا سيما خلال حربه على إقليم تيغراي، يفرض على آبي أحمد انتهاج كل الوسائل الممكنة لتمكينهم من أراضي الفشقة، بما في ذلك اللجوء للحل الأمني والعسكري، وإلا سيفقد آبي أحمد الدعم الأمهري الوحيد والرئيسي له خلال تلك المرحلة الحرجة التي يعاني فيها الداخل الإثيوبي عدم استقرار. أي يتوقف ترجمة هذا المسار على مدى التزام الجانب الإثيوبي بما قدمه من تعهدات، وعلى ما تتخذه السودان من إجراءات لضمان الحفاظ على مكتسباتها الميدانية، وآليات الرد على آية تجاوزات إثيوبية.

3- تهدئة مؤقتة يتبعها تصعيد

يُشير هذا المسار إلى اتجاه أزمة الحدود السودانية- الإثيوبية إلى التهدئة المؤقتة؛ لإعادة ترتيب الحسابات الإثيوبية تجاه ملف الحدود من جانب، والتوصل إلى منهاجية جديدة في التعامل مع الجار السوداني من جانب آخر، يتبعها تصعيد إثيوبي ممنهج، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما، أنه مثلما سبق الإشارة، ليس من السهل قبول إثيوبيا ورئيس وزرائها بأي تنازلات أو الخضوع لحسابات الواقع، بشكل يؤدى إلى الانتقاص من قوته وصلابته سواء في الداخل الإثيوبي أو في محيطه الإقليمي؛ ثانيهما، لن يقبل آبي أحمد بمعاداة الأمهريين أو خسارتهم بعدما أصبحوا الورقة الوحيدة الداعمة له في الداخل الإثيوبي بعد تصاعد الأصوات المعارضة له، بما في ذلك بين أبناء عرقه (الأورومو)، وهو ما يجعل هذا المسار هو الأقرب للواقع ولو على المستوى القريب.

انطلاقًا مما تقدم، يُتوقع أن يعتمد الجانب الإثيوبي على آليتين رئيسيتين في ملف الحدود، سيرتكز فيها بالأساس على نقاط الضعف السوداني، منتهجًا في ذلك سياسة “شد الأطراف” السودانية سواء في ساحة الميدان أو على المستوى السياسي، من أجل استنزاف القدرات السودانية وتشتيتها وإضعاف قواها، ولا سيما في ظل ما تشهده الخرطوم من تحديات خلال مرحلتها الانتقالية، يُمكن مناقشتهما على النحو التالي:

أ- الأداة الدبلوماسية     

تُعد الأداة الدبلوماسية أداة رئيسية إثيوبية لتهدئة الأزمة، ولإعادة صياغة الموقف الإقليمي والدولي من إثيوبيا في ما يتعلق بملف الحدود، وذلك ردًا على ما تُجريه السودان من زيارات خارجية لتأكيد أحقيتها في ممارسة سيادتها على كامل أراضيها، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بتصريح رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في 23 آذار/ مارس 2021 بالتشديد على أن أديس أبابا لا تريد الحرب مع السودان، وأن إثيوبيا لا يمكن أن تكون عدوًا للسودان، ولا يمكن للسودان أن يكون عدوًا لإثيوبيا.

وفقًا لهذا المسار، فمن المتوقع أن تلجأ إثيوبيا إلى دعوة الخرطوم إلى بدء محادثات مشتركة طويلة الأمد لترسيم الحدود، لسببين: أولهما، دفع السودان نحو القبول بالجلوس على مائدة الحوار والتفاوض من أجل التوصل إلى آلية مرضية تمنح للمزارعين الإثيوبيين الانتفاع بأراضي الفشقة تضمن عودة الوضع إلى ما قبل تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، تزامنًا مع اطلاق واستكمال عدد من المشاريع الاقتصادية المشتركة كسبيل لاستمالة الموقف السوداني تجاهه؛ ثانيهما، كسب مزيد من الوقت لإعادة ترتيب الحسابات الإثيوبية في ساحة الميدان وبالتنسيق مع حلفائها من جانب، ولإعادة رسم صورتها في محيطها الإقليمي والدولي بوصفها دولة داعمة للتعاون المشترك مع السودان بوجه خاص، وللسلام الإقليمي بوجه عام من جانب آخر.

ب- الأداة الأمنية

تُعد تلك الأداة عصب المنهج الإثيوبي الجديد وفقًا لهذا المسار في تعامله مع السودان؛ لدوره في تشتيت قوات الأخيرة واستنزافها، وبالتالي فتح الطريق أمام إثيوبيا لنشر قواتها في أراضي الفشقة، ولا سيما في ظل ما تشهده المنطقة الحدودية السودانية- الإثيوبية من ارتفاع لمعدل الجريمة المنظمة العابرة للحدود بكل أنماطها؛ بوصفها المصدر الرئيسي لتمويل وتأمين كفاية الميليشيات الإثيوبية ونظيرتها السودانية من الأسلحة، وبالتالي فرض مزيد من الضغوط على السودان سواء من الداخل السوداني أو عبر حدودها المشتركة مع إثيوبيا، وهو ما يُمكن الاستدلال عليه من خلال عدة مؤشرات: أولها، تعدد عمليات ضبط القوات السودانية لكميات من الأسلحة المهربة عبر حدودها التي تستخدم إما في دعم ميليشيات الشفته، أو دعم الميليشيات المسلحة في السودان، وبالتالي الإضرار بمعدل الأمن والاستقرار السوداني بشكل عام وفي الفشقة بشكل خاص، كان آخر عمليات التهريب في 13 آذار/ مارس 2021[16]؛ ثانيها، إلقاء القوات السودانية القبض على قائد ميليشيا إثيوبية برفقة معاونيه داخل الأراضي السودانية في الفشقة في 14 آذار/مارس 2021[17]، وهو ما يُشير إلى وجود مخطط إثيوبي تسعى أديس أبابا لترجمته عبر ميليشياتها؛ ثالث تلك المؤشرات والكاشف للخطط الإثيوبية القادمة؛ هو اتهام السودان الحكومة الإثيوبية في 7 آذار/ مارس، بتقديم دعم لوجيستي لقوات جوزيف توكا بالنيل الأزرق لتمكينها من السيطرة على مدينة الكرمك الموجودة على مقربة من الحدود السودانية- الإثيوبية[18]، وهو ما يُعيد إلى الأذهان السيناريو الإثيوبي خلال ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي عندما قامت أديس أبابا بتسليح المتمردين السودانيين، كما إنه يُنذر باحتمالية تقديم إثيوبيا مزيد من الدعم لمختلف الجماعات المسلحة التي لم تُوقع على اتفاق جوبا للسلام السوداني، إلى جانب العمل على إثارة النزاعات العرقية في عدد من المناطق السودانية ولا سيما في دارفور؛ كسبيل لتشتيت القوات السودانية في مختلف الجبهات.

ترتيبًا على ما سبق، هناك حزمة من الآليات التي يُحتم على الحكومة السودانية اعتمادها، للحفاظ على مكتسباتها الميدانية في الفشقة من جانب، ولإجهاض المحاولات الإثيوبية لاستنزاف القوات السودانية من جانب آخر: أولها، استئناف المشاورات السياسية مع قادة الجماعات المسلحة الرافضة الانضمام إلى اتفاق جوبا للسلام السوداني، بما في ذلك قوات “توكا”؛ ثانيها، استمرار الزيارات الخارجية السودانية لإيضاح حقيقة الوضع في الفشقة وأحقيتها في ممارسة سيادتها على أراضيها؛ ثالثهان تعزيز الوجود الإداري للسودان في منطقة الفشقة ووضع خطط تنموية لإعمارها وتنميتها وتعظيم حجم استثماراتها، إلى جانب العمل على تمليك أهالي المنطقة مساحات زراعية تخلق لديهم حافز للبقاء والدفاع عن مصالحهم؛ رابعها، من المهم وضع آلية لضبط وتنظيم حالة التداخل والاندماج الاجتماعي بين القبائل في بعض النقاط الحدودية السودانية- الإثيوبية، دون الإضرار بالترابط القبلي أو الاضرار بأمن السودان القومي، منعًا لاستخدامها كذريعة لعودة المناوشات بين الجانبين مرة أُخرى.

إجمالًا لما سبق، على الجانب السوداني ألا يعتمد على ما حققه من مكاسب ميدانية في أراضي الفشقة، والتقليل من مخاطر السياسات الإثيوبية المحتملة للرد على تحركات السودان العسكرية من جانب، وانتهاجها سياسة خارجية مغايرة لنظيرتها خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير تجاه عدد من الملفات الحيوية المشتركة مع الجانب الإثيوبي بما فيها ملف الفشقة من جانب آخر. كما أن هناك فرصة ذهبية لمصر لتعميق العلاقات المصرية- السودانية في مختلف الملفات؛ الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والدعوية والصحية، ولاسيما في ظل حرص الحكومة الانتقالية السودانية للاستفادة من الخبرات المصرية في العديد من الملفات، أبرزها؛ ملف الإصلاح الاقتصادي. هذا إضافة إلى أن السودان تعد بوابة مهمة لانفتاح وتعزيز التعاون والتنسيق بين القاهرة ودول القارة بشكل عام، ودول شرق أفريقيا بشكل خاص بما في ذلك دول حوض النيل، بشكل قد ينعكس إيجابًا على موقف الأخيرة من ملف سد النهضة وتشكيل عامل ضغط على الجانب الإثيوبي.

 

قد يهمكم أيضاً  أزمة الحدود السودانية الإثيوبية والاستقرار السياسي في السودان

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السوادن #أثيوبيا #النزاع_على_الحدود #أزمة_الحدود_السودانية_الأثيوبية #أراضي_الفشقة #ميليشيات_الشفتة #سد_النهضة #صراعات #النزاع_الحدودي_بين_السودان_وأثيوبيا