عُرف الإله جانوس في الإرث الأسطوري الرُّوماني بوصفه حارسًا لبوابة السّماء، وهو إله ذو وجهين: وجه يؤدي صوب النعيم وآخر صوب الجحيم. استعارة رشيقة آثر الباحث السوداني: محمد جميل أحمد أن يتخذها عنوانًا لمصنّفه الصادر حديثًا عن منشورات المركز العربي للكتاب 2021: قناع جانوس، الإسلام السياسي وجدلية التأويل، سعيًا منه إلى إبراز تقاطع الخير والشر ضمن ظاهرة الإسلام السياسي.

يظهر الشر من خلال استغلال بعض الإسلاميين للنُّصوص الدِّينية وإزاحة وتحريف معانيها ودلالاتها – حتى لا نقول تأويلها – لأن توظيف النصوص تلك من قبل الإسلاميين أولئك لا يرقى إلى مستوى التأويل كما أشار إلى ذلك رضوان السيد في التقديم الذي خصّه لهذا المصنف: “أنا أرى أنَّ مشروع ‘الدولة الإسلامية’ كارثة كبرى قبل الأوان وبعده(!). وقد عدَّ المؤلف الإسلام السياسي (الذي سمَّيته في دراساتي: الإسلام الإحيائي) مثل قناع جانوس في انقساميّته، فكيف يكون سابقًا لأوانه، أي إنَّ له مستقبلًا، وإنما أخطأ الترابي والبشير وخالد مشعل وابن لادن والزرقاوي والبغدادي في تسرعهم وحسب! لقد قسم المشروع الإحيائي الهُويّاتي الإسلام، وهو يوشك أن ينهيه أو يصنع منه شيئًا جديدًا قاتلًا وحسب”[1].

أولًا: فقط الشرعية

تستند أطروحة الإسلام السيّاسي إلى فكرة: ‘فقط الشرعية’، أي أنه يستمدُّ مشروعيته من الشريعة، على أنَّ هذه الأخيرة لا يمكن أن تُصان إلّا من قبل دولة يتزعمها حزب إسلامي جهادي، فالدولة بالنسبة إلى أهل السُّنّة أو الإمامة ليست غايةً أو ركنًا من أركان الدّين بقدر ما هي وسيلة وظيفتها المصلحة والكسب والتدبير (= تدبير الشأن العام). بل إنَّ فقيهًا كالماوردي منحها وظيفة حراسة الدين، علمًا أنَّ التاريخ يشهد على الضد، ونقصد أن الدّين هو الذي ما انفك يحرس بوابة الدولة على نحو وفيٍّ وأمين. ليست الدولة الإسلامية إذًا، سوى نسخة مشوّهة من الدولة القومية الأوروبية ذات السلطة المطلقة، وقد جاء انبجاسها نتيجة سيرورة من العمليات الطويلة والمعقدة التي خصت تحويل وإزاحة المفاهيم والأسس: “خرجت الشرعية الدينية والسياسيّة من الجماعة إلى الشريعة، وصارت الشريعة نظامًا كاملًا، الحاكمية ركن من أركانه، وإذا لم يخضع المسلمون لفتويي سيد قطب والترابي (الذين آمنوا بربهم وزدناهم هدى) فتأتي المفاصلة، ويأتي الجهاد الذي صارت مهمته الأولى مصارعة عدو الداخل وإبادته. تحدث الترابي عن المفاصلة عام 1999 عندما اختلف مع البشير، ومضى في اتجاه غارانغ! وإذا لم تعجبنا صيغة البشير والترابي للدولة، فهل تعجبنا صيغة غزة، أو صيغة أبي بكر البغدادي التي تتبارى مع ولاية الفقيه القاتلة، وتضرب المسلمين قبل غيرهم[2].

غني عن البيان القول إنَّ مفهومَي الجاهلية والحاكمية هما عصب فكرة الإسلام السياسي، وقد شمَّرَ كل من السيد قطب والمودودي على التشييد النظري للمفهومين ذينك. وما يحسب للباحث محمد جميل أحمد في هذا المصنف هو وقوفه على السياقات الأيديولوجية والتاريخية التي احتضنت ذينك المفهومين، وهو الأمر الذي ازورَّ عنه ازورارًا العديد من الباحثين الذين اهتمُّوا بدراسة ظاهرة الإسلام السياسي. ومردُّ ذلك حسب محمد جميل إلى المناخ العام الذي وسم الإسلام السيّاسي بعد تجربة الربيع العربي، حيث تم حصر الفكرة في جانبها الضيّق، بالنظر إلى ما أفرزته تجربة أحزاب الإسلام السياسي في الحكم، ويقصد تجربة مرسي في مصر، وتجربة حزب النهضة في تونس، ويمكن أن نضيف إليهما تجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب: “والحال أنَّ ما حدث في كل من مصر وتونس، على الرغم من اختلاف السياق، أفضى في النهاية إلى كسر هيمنة هذا التيار، نتيجة لتناقضاته البنيوية”[3].

ثانيًا: من التأويل إلى التشويه

يراهن محمد جميل أحمد على فحص الكيفية التي تمارس بها جماعات الإسلام السياسي عملها الأيديولوجي، وممارستها التشويهية لا التأويلية للنصوص الدينية، وما يترتب على ذلك من انغلاق نظري ونسقي، وهو أصل المآزق الذي تعيشه الجماعات تلك، ويقصد أنّ فكرة الإسلام السياسي بعيدة كل البعد عن ضروب المقاربات المعرفيّة للإسلام وما تتيحه من إمكانات أخلاقية وإنسانية وعقلانية. لا يمكن لتجربة الإسلام السياسي إلا أن تقود المنطقة العربية إلى المجهول، ما لم يتم تفكيك مقولاته المأزومة وفق منهجيات معرفية رصينة تمهد لوعي إسلامي جديد”[4].

ليس تَزَيُّدًا في القول إنَّ فكرة الإسلام السياسي تشوه واقع الإسلام، وتكرس الصورة النمطية الهمجية التي ترسخت في اذهان الغربيين إزاءه. ومن ثم، فإنَّ الحاجة في يوم الناس هذا ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى اخضاع أصول الإسلام: القرآن وصحيح السنّة، إلى الدراسة العلميّة المعرفية الممنهجة، قصد الوقوف على دلالات المفاهيم المؤسسة لهذا الدين ومعرفة مدى فعاليتها وصلاحيتها وجدواها وصِلتها بواقع المسلمين. دون ذلك لا يمكن سوى أن ننتظر تنامي وتكوثر الحركات المتشددة، التي تستند إلى فهم متطرف للدين يفرز نتائج وخيمة تضر بالفرد والمجتمع: “إنّ اشتغال المفكرين العرب على دراسة المصادر المؤسِّسة للإسلام، وعلى رأسها القرآن الكريم، ضمن مشروعات فكرية ومعرفية، سيظل من أهم التحديات والاستحقاقات التي طال تأجيلها، وتحتاج إلى شجاعة فكرية، بعيدًا عن الرهاب الأيديولوجي للحداثة، ذلك أنَّ القيام بمثل هذه المشروعات هو الخطوة الأولى لتحرير الإشكالات المزنمة والمعقدة لعلاقة المفكرين العرب والمسلمين، بتياراتهم كافة، مع القرآن”[5].

ثالثاً: أكذوبة الدولة الإسلامية

من الواضح أنّ أُسس مشروع الإسلام السياسي يتركز على: أكذوبة الدولة الإسلامية، وبالتالي فإن تبديد وهم الدولة الإسلامية سيؤدي لا محالة إلى إجهاض فكرة الإسلام السياسي من جذورها. لقد جاء مشروع الإسلام السياسي نتيجة سقوط دولة الخلافة، وانبجاس الدولة الوطنية: “ففي المزج بين ما هو عقدي وبين ما هو من الفروع حيال قضية الحكم، مثلت الأيديولوجيا دورًا بارزًا، وأفرزت واقعًا جديدًا نتجت منه دورة العُنف الذي مارسته الجماعات الإسلامية في سبيل الاستيلاء على السلطة من ناحية، والبراءة من أنظمة حكم الدولة الوطنية الحديثة من ناحية ثانية”[6].

ما زالت الشريعة تحتل دورًا بارزًا ضمن منظومتنا القانونية، رغم الجمود الذي بات يحيط بها من كل جانب، بعد أن أغلق باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري، فمنذ أفول الخلافة العباسية سادت ولا تزال نزعة محافظة، طمست بشروحاتها وتفسيراتها المغلقة أثار الانفتاح داخل “النصوص الموحى بها” وغلفت هذه الأخيرة بتركيبات لاحقة مشكلة بشريًا، وذلك بتعطيلها كل إمكانية تسعى إلى تأويل معاني النصوص تأويلًا جديدًا، منفتحًا على الأخلاق الكونية، ويرجع ذلك إلى إنكارها تاريخية النص القرآني، فـ”بالنسبة لبيرك التاريخ هو أصل الشريعة ومبدأها. يبدأ التاريخ مع الوحي ذاته: ‘إن الوحي القرآني… إذا كان يقدم للمؤمنين باعتباره، مصدر كل معيارية وتشريع، ليس كذلك إلا كبلاغ يربط الأبدي بزمن الإيمان’. فالوحي يدخل التاريخ في اللحظة ذاتها التي تم فيها تبليغ الصورة الأولى من طرف الرسول إلى الصحابة الأوائل. إن صلاحيته لكل زمان ومكان تفرض تدخل (الناس) في التطبيق، ومن هنا الدور الذي كان للتفسير وللفقه… أما في وقتنا الحالي فالرجوع إلى أسلمة القانون ليست أقل من رجوع إلى المصادر لترجمة الاهتمامات الحالية، الحاجة إلى الانصاف كما تفهمها الجماعة في لحظة من تاريخها ‘مما يعني أن تاريخيّة القانون تظهر من جديد، ولو في (حركة) بعث معيار موحى به’. يستشهد بيرك بشاهد من عيار ثقيل ليشهد على تاريخية القانون، إنه أحد ركائز حركة الإخوان المسلمين سيد قطب الذي يرفض دعوى التطبيق الحرفي للشريعة الأولى، فيكتب معلقّا على سورة يوسف ‘ليست الشريعة هي التي أنتجت المجتمع، بل المجتمع الإسلامي هو الذي أنتج الشريعة.’”[7].

ومن ثم، وجب علينا إحداث قطيعة مع هذه التشريعات التاريخية، وتعويضها بشميلة قانونية حديثة، تنبجس من الأسس التي يحيل عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأهمها الاعتراف بكونية حقوق الإنسان، والوعي بطابعها الشمولي، الذي يتعالى عن كل انتماء عرقي ثقافي ديني طائفي زماني. فترسيخ مبدأ كونية القيم الإنسانية لا يمس في شيء الهوية أو الثقافة المحلية، بل إن الأمر بعين الضد، إذ الحق في الاختلاف الذي يعد إحدى الركائز الأساسية التي شيدت على إثرها حقوق الإنسان، هو سبيلنا الوحيد من أجل وضع حد للاحتكارات الدينية والثقافية والإيديولوجية واللغوية من جهة، ومن أجل محاربة استغلال السلطة لمبدأ الاختلاف من أجل تبرير التمييز والتراتب والقمع (سواء كانت دينية أو عرفية أو سياسية أو جنسية) من جهة ثانية[8]. لا يمكن إلا لجاحد أن ينكر أن “حقوق الإنسان ظهرت في الغرب، مع بروز حقوق البرجوازية الأوروبية الصاعدة في صراعها ضد سلطات الأسياد والملكيات المطلقة. كما أنه من المؤكد أنها ازدهرت مع البرجوازية الغربية الليبرالية، وأنها استخدمتها كآلة حرب ضد كل نزعة دولاتية ترمي تقوية جهاز الدولة وضد النزعة المركزية في التخطيط للبلدان الاشتراكية. غير أن التاريخ يظهر لنا أيضًا أن حقوق الإنسان لم تبقَ خاضعة بشكل دائم للهيمنة الأيديولوجية للبرجوازية الغربية، كما أنها تجاوزت وظيفتها التاريخية التي حددتها لها البرجوازية: تحطيم الفيودالية والقضاء على الملكية المطلقة، كما أنها تخلصت من الهيمنة البرجوازية عندما تمكنت هذه الأخيرة من السيطرة على جهاز الدولة وحاولت استخدام حقوق الإنسان لشرعنة سلطتها الاقتصادية والسياسية بأوروبا وبالمستعمرات. فتمكنت الحركات العمالية وحركات التحرر الوطني من تعبئة هذه الحقوق ضد البورجوازية الأوروبية. وإن لم تلعب هذه الحقوق إلا دورًا تكميليًا محدودًا سواء في الصراع الطبقي بأوروبا أو في حركات التحرر الوطنية بالعالم الثالث. إن هذه القدرة على التخلص من المثالات البرجوازية الأوروبية التي نشأت حقوق الإنسان بين أحضانها، بل والتي استخدمت ضدها هي التي تجسد كونية حقوق الإنسان التي لا يمكن لنا أن نرفضها، وهي التي تمارس، على المستوى العالمي، ضغطًا على السلطات، وتقود مختلف الأنظمة إلى الاعتراف بها، أو على الأقل أن تتخذ منها موقفًا محددًا”[9].

يُرجع نجيب بودربالة إلحاح بلداننا على التنكّر للمقتضيات الكونية لحقوق الإنسان، إلى خاصية سوسيو-ثقافية، تتجلى في تشبث المجتمعات العربية بالأسطورة الجماعية للإجماع، رغم التحول الذي عرفته هذه المجتمعات من مجتمعات ذات تكوين تجزيئي، إلى مجتمعات ذات تكوين مركّب، وهي خاصية تعتدي على حقوق الأقليات الدينية والسياسية والعرقية واللغوية، بتهميش وإلغاء وجودها الاجتماعي، “إن حقوق الإنسان، وخصوصًا الحق في الاختلاف، لا يمكن أن يُضمن إلا في إطار جدلية الأغلبية والأقلية. فإذا لم نقبل قاعدة الأغلبية، فهذا يعني أننا لا نعترف بأية مكانة أو وضع للأقلية، ونتنكر للحق في الاختلاف، وبالتالي لحقوق الإنسان. إن المجتمعات التي تتبنى أيديولوجيا الإجماع هي مجتمعات لا تعمل حسب جدلية أغلبية/أقلية، بل حسب جدلية كارثية هي جدلية داخلي/خارجي أو جدلية الإدماج/الإقصاء. فمن لا يتبنى الإجماع يدفع به خارج دائرة الإجماع إلى ظلمات الخارج. ولا حل آخر لهم غير تبني الإجماع للإدماج. لا تعود لهم أية إمكانية، كما في النظام ذي الأغلبية، أن يبقوا في الوقت نفسه، هم أنفسهم (في اختلافاتهم) وأعضاء الجماعة يتمتعون بكامل حقوقهم. يمكن قبول الأقليات والتسامح معهم وأحيانًا حمايتهم، غير أنهم يكونون في وضعية دونية وتابعة، إذ من الطبيعي أن تحس الأنظمة ذات التوجه الكلياني بالتهديد من طرف حركة تطالب بكل الحقوق للأقليات وبالمساواة… ينبغي على الدول بعد حصول الاستقلال الاعتراف بحقوق الأقليات السياسية والدينية والإثنية واللغوية داخل كيانها ولا يمكن للهوية الوطنية ولا الوحدة أن يهددها هذا الاعتراف وينبغي من أجل هذا فهم أن على الأقليات الاعتراف بالأغلبية والتعرف على نفسها، بكيفية ما، داخلها، كما أنها هي بدورها معترف بها دون أي تحفظ “[10].

وبالتالي يمكن القول أن مسألة الهوية، تشكل أكبر عائق أمام ترسيخ مبدأ الاحترام الوضعي في مجتمعاتنا، بيد أن مشروع تشييد منظومة قانونية ترتكز على أسس حقوقية كونية، غالبًا ما تعوقه أسئلة مقيتة من قبيل: إلى أي حد تتفق مبادئ حقوق الإنسان مع هويتنا التي تستمد أسسها من القرآن والحديث والشريعة؟ إن حصر مصدر التشريع القانون في مكون وحيد (القرآن/الحديث/الشريعة) ليس بإمكانه مساعدتنا على الالتحاق بركب الحضارة والتقدم، بل إنه سبب إعضالنا الوجودي، واضطرابنا البنيوي، ومن أجل إصلاح هذا العطب العظيم الذي يكتنف ذواتنا، لا بد من فتح منظومتنا القانونية على مصادر تشريعية إنسانية كونية، برهنت على فاعليتها ونجاعتها وصدقيتها عالمياً، وذلك بالامتناع عن البحث داخل القرآن والسنة على ما يتطابق مع المبادئ الحقوقية الإنسانية، ويعرض لنا الأستاذ نجيب بودربالة[11] الأسباب التي تحتم علينا تفادي هذا الفخ فيما يلي:

  • قبول المناقشة على هذه الأرض، التي هي أرضية الخصم، هي الدخول إلى مناقشة خاسرة مسبقًا ليس لسبب قوة حجج الخصم، بل لأن من يقدم هذه الحجج يتوافر على مشروعية آسرة وأخاذة. والواقع أن المتشددين حين يرجعون كل الحقيقة إلى الكلام الموحى به، وبالتالي إلى مرحلة الأصل، يكونون ملزمين بعدم البحث عنها إلا في القصد الأول للتشريع الإلهي، وبالتالي حصر مهمة التفسير والتأويل في النصوص المقدسة. ويكونون باعتبار كل تاريخ المجتمعات الإسلامية منذ الوحي (باعتباره مصدرًا ممكنًا لقانون الأمة وحقوقها) تاريخًا ثانويًّا، بل وحتى تافهًا.

وهكذا يتم التخلص من كل ما استطاعت هذه المجتمعات أن تبدعه كأجوبة عديدة وغنية، طوال قرون في التأويل بناء على جدلية المعطى النصي في علاقة مع ضرورات التاريخ، إذ لم يتم إرجاعها إلى المشروعية الأصلية.

  • من الضروري، إذًا، رفض هذا المنطق التفسيري (المختزل) وقبول كل إنجازات مراحل تاريخنا. فهي مراحل ساهمت كلها في تحديد هويتنا، بما فيها المرحلة التاريخية الأخيرة التي بدأ فيها مفهوم كونية حقوق الإنسان ينغرس تدريجيًا في ثقافتنا.
  • حجة أخرى لأصحاب دعوى الخصوصية يمكن اعتبارها واهية وغير ذات قيمة وهي الأصل الخارجي البراني لحقوق الإنسان والذي سيجعلها تفتقد كل مصداقية لإدخالها في مجتمعنا. وبالفعل ظهرت حقوق الإنسان في صيغتها الكونية في الغرب من قبيل الفصل بين السلط والانتخاب المباشر.

إذا أردنا ترسيخ مبدأ الاحترام الوضعي في أذهان الأفراد، وجعله القلب النابض لمنظومتنا القانونية، ليس أمامنا سوى تسلق سلَّم القيم الحديثة، وهو سلّم يختلف بشكل جذري عن سلّم القيم التقليدية، وقد شاءت الظروف أن يكون لهذا السلّم تصميم غربي أوروبي، إذ ابتكرت مواده الأولية إبان عصر الأنوار، وشرعت صورته في الإشعاع مع الطفرة التي شهدتها علوم الطبيعة وعلوم الإنسان. إنه سلم سيؤدي بنا تسلقه لا محالة إلى اكتشاف الدواء الذي من شأنه أن يعالج عوارض اضطرابنا ومسببات إعضالنا، على أن القيم التي شُيِّد على إثرها السلّم الحديث تحمل أبعادا كونية إنسانية، بإمكانها أن تساعدنا على استدراك تأخرنا التاريخي وتحقيق انبعاثنا الحضاري. ولا أدَلّ على الأهمية البالغة لذلك البعد الكوني أن القيم الحديثة هي محل طموح البشرية قاطبة، والأفق الذي تعمل على بلوغه مهما اختلفت الثقافات والأديان واللغات. إن قيمًا في مستوى الحرية الفردية التي لا حدود لها سوى حرية الآخر، أو العقلانية التي يخضع لها التفكير في شتى مجالاته ولا تعترف بالمناطق التي يحرم الخوض فيها، أو الديمقراطية التي تضمن مشاركة المجموعة الوطنية عبر ممثليها المنتخبين في اتخاذ القرارات المصيرية، وتحدّ من تسلط الحكام وجورهم، وتنظم التداول السلمي على الحكم، أو المساواة بين المواطنين، ولا سيما بين الجنسين، في الحقوق والواجبات أمام القانون، وما إليها من القيم التي اشتمل عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكرستها المواثيق والمعاهدات الدولية في نصف القرن الأخير بالخصوص، إن قيمًا في هذا المستوى لكفيلة بأن تجمع حولها جميع الناس الواعين بمشروعيتها وبجدواها والساعين إلى الارتقاء بالمنزلة البشرية إلى أعلى درجاتها، ومن الطبيعي أنها تؤلب ضدها في الآن نفسه جيوش المحافظين على المصالح والامتيازات المادية والمعنوية المكتسبة، أفرادًا وجماعات”[12].

 

قد يهمكم أيضاً  الإسلاميون في السلطة: تجربة الإخوان المسلمين في مصر

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الإسلام_السياسي #أيديولوجيا #الديمقراطية #القيم #جانوس #الدولة_الإسلامية