يرى جيل دولوز أنه يتعين على الفلسفة، باستمرار، إبداع أنماط جديدة من التفكير، أو وضع تصور جديد للفكر، أو بالأحرى تصور لما نعنيه بـ «التفكير» ملائماً ومنصتاً لما يجري في العالم. لذلك لا يمكن للفلسفة سوى أن تكون «نقداً» (Une Critique). لكننا نجد أنفسنا أمام نهجين في النقد: إما أن ننقد «التطبيقات الخاطئة»، بما فيها نقد الأخلاق المزيفة، والمعارف الباطلة، والأديان «الكاذبة»، وهو التصور الذي بنى عليه كانط عمله النقدي؛ وإما أن ننتبه إلى عائلة أخرى من الفلاسفة الذين اختاروا خلخلة ما يراه الآخرون «حقّاً» أو «حقيقياً»، وانخرطوا في معمعة تفكيك الأخلاق «الحقة»، والإيمان «الحق»، والمعرفة المثالية قصد بلورة صورة جديدة للفكر، لأننا ما دمنا نكتفي بنقد ما يبدو «باطلاً» فإننا لا نلحق ضرراً بأحد (فالنقد الحق هو نقد الأشكال وعدم الاكتفاء بالمضامين). هذه العائلة من الفلاسفة يمثلها لوكريس (Lucrèce)، سبينوزا، نيتشه… ويعتبر، جيل دولوز، أن هذه السلالة استثنائية في الفلسفة لأنها تمثل «اتجاهاً مكسَّراً، انفجارياً، وبركانياً تماماً»[1].

تبحث الفلسفة، حسب دولوز، عن صورة جديدة لفعل التفكير، ولنمط اشتغاله. فنحن كثيراً ما نعيش على صورة ما للفكر. قد نملك قبل التفكير فكرة غامضة عما يعنيه فعل التفكير، أو ما يمكن أن يحمله من وسائل وأهداف. ويمثل المفهوم في الفلسفة ما يمثله الصوت بالنسبة إلى الموسيقى، واللون عند الرسام. يبدع الفيلسوف المفاهيم، يموضعها داخل «مسار مفهومي» كما يضع الموسيقي لحنه داخل «مسار موسيقي»[2].

وتظهر الغاية من ذلك في محاولة تشكيل مفاهيم تتفاعل وتتشابك وتتمفصل فيما بينها بشكل رفيع ومتمايز للانفلات من المفاهيم الثنائية، وإبراز «الوظائف المبدعة» في الفكر[3]. ومن ثم فالفيلسوف الكبير «هو الذي يبدع مفاهيم جديدة بحيث تقوم هذه المفاهيم بتجاوز ثنائيات الفكر العادي، وتعطي للأشياء حقيقة جديدة، توزيعاً جديداً، وتقطيعاً هائلاً»[4].

نجد من يعتبر أن للفلسفة دوراً لا جدال فيه لسببين اثنين: الأول، يتمثل بكون التراث الفلسفي العالمي يزخر بأدوات فكرية لا حصر لها من شأنها أن تسعفنا على فهم التحولات الجارية أمامنا؛ وثانياً، لا يتعلق الأمر بمطالبة الفلاسفة، في الماضي والحاضر، بتقديم أجوبة جاهزة بقدر ما يتعين الرجوع إلى ذلك الخزان الهائل من الأفكار والمفاهيم الذي تقدمه الأنساق والمذاهب الفلسفية. فهي تقترح علينا عناصر وأدوات لإعادة صوغ القضايا الراهنة بطرق جديدة.

لقد وجدت كل التيارات الفلسفية أصداءها، بنسب متفاوتة، في الدرس، أو التأليف الفلسفي في الوطن العربي، سواء تعلق الأمر بالشخصانية، أو الوجودية أو الماركسية الأرثوذوكسية أو في تعبيرها الآلتوسيري، أو فلسفة العلم، أو فلسفة التفكيك… إلخ. المهم أن الخطاب الفلسفي العربي يتكئ، دوماً، على مرجع منفصل عن سياقه الثقافي، وهو ما جعل هذا الخطاب يعاني غربة مزدوجة: غربة عن الواقع الثقافي الذي كثيراً ما يعاند كل تفكير عقلاني، تنويري، وغربة عن الروح الفلسفية من حيث هي قوة سلب، وميل نحو خلق المسافة مع المألوف، أو بما هي «معرفة فرحة» تنشط بالسؤال وفيه، وتصغي لتحولات المرحلة لالتقاط مكوناتها وتفاصيلها.

ولعل غربة الاهتمام العربي النشط عن الفلسفة وعن الواقع، أدى بالمشتغلين بها إلى تناول موضوعات وقضايا بأساليب أقرب إلى ما أسماه هشام جعيط «فلسفة الثقافة» أكثر مما هي في صلب التفكير الفلسفي. صحيح أن أسئلة عديدة تهم الذات، والهوية والآخر، والتقدم، والسلطة، والتاريخ طرحت منذ مدة، ولا تزال تصاغ بأشكال مختلفة، لكنها نادراً ما تعالج برؤى ومناهج وأنماط أسئلة تحركها مقتضيات «الفعل الفلسفي».

أولاً: في النزوع نحو الفعل الفلسفي

تخرج نصوص ناصيف نصار عن سرب الكتابات العربية حول الفلسفة، أو حول التفكير الفلسفي في القضايا التي تهم الوجود، والزمان والإنسان في الفضاءات العربية. فالرجل مسكون بهاجس التفلسف وبإصراره القوي على تعبئة النصوص الفلسفية التي تعضد مساره الفكري بشكل يجعل منه نصاً فريداً في الإنتاج الفلسفي المعاصر، أو بالأحرى في الإنتاج الفلسفي الذي يمنح الغلبة للسؤال والبحث والتفكير أكثر مما يكتفي باجترار المقولات والصيغ السهلة. اختار نصار، منذ البدء، ركوب سبيل الصعوبة ومغامرة التأمل الفلسفي. وهي ظاهرة فكرية نادرة في الإنتاج الفكري العربي.

قد نجد كتابات عربية حول الفلسفة الشخصانية أو تستلهم تصوراتها، كما الحال مع محمد عزيز الحبابي، وروني حبشي، أو الوجودية مع عبد الرحمن بدوي، أو الوضعية المنطقية مع زكي نجيب محمود أو الديكارتية مع نجيب بلدي، وغيره، أو الماركسية مع عدد كبير من المثقفين العرب، أو التفكيكية مع عبد الكبير الخطيبي، أو بعض الكتابات الشذرية لعبد السلام بنعبد العالي… إلخ. لكن ناصيف نصار، ومنذ كتابه طريق الاستقلال الفلسفي[5]، يبدو حريصاً على ممارسة ما يسميه «فعل التفلسف» أو «الوعي بدور الفعل الفلسفي»، وبالبحث عن «فكر فلسفي يكون عربياً ومعاصراً»، والعمل خلال «رحلاته الاستكشافية» والكتابة، على نحت أسلوب وصوغ نمط سؤال ورسم طريق يؤدي إلى فكر فلسفي عربي جديد. كل ذلك قصد خلق «فلسفة نابضة بالحياة انطلاقاً من موقف استقلالي نقدي»، و«ليس الموقف التوفيقي الحامل لشعار التجديد».

ولهذا الغرض، كان يتعين على ناصيف نصار توضيح تموقع الفيلسوف العربي الذي يستحق صفة الاستقلالية والقادر على الإبداع. فهو يرى «أن العلاقة بين موضوع الفلسفة وتاريخ الفلسفة مختلفة نوعاً عن العلاقة بين الفيلسوف وتاريخ الفلسفة، وقد يخفى ذلك على بعضهم، فيظن أن التأريخ للفلسفة شكل من أشكال التفلسف. وهو في الحقيقة عمل علمي، له شروطه الخاصة كجزء من التاريخ العام للفكر البشري، ويمكن أن يكون مصحوباً بموقف فلسفي أو صادراً عن نزعة فلسفية، إلا انه ليس في حد ذاته عملاً فلسفياً»[6]؛ بل ويحرص على التشديد على أن «مفهوم الفلسفة» يتقرر و«تتحدد مهمتها عند الفيلسوف في العالم العربي المعاصر من خلال حله لمشكلة علاقته بتاريخ الفلسفة»[7].

يعتبر نصار أن للفلسفة مهمة، وإذا ما نظرنا إلى مجال التأمل الفلسفي العربي فإننا نعثر على موقفين: «موقف التبعية، وموقف الاستقلال. أما التابعون فإنهم ينقسمون قسمين: التابعين لتاريخ الفلسفة الوسيطة، والتابعين لتاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة، وهم على اختلاف نزعاتهم، أهل اقتباس أكثر مما هم أهل ابتكار»[8]. والحال أن الاستقلال، في نظر نصار، يعني «تقبل النظريات الفلسفية، أيّاً كان عصرها، بالنقد المنطقي والسوسيولوجي، وهضم عناصرها الصالحة وتحويلها في عملية إبداعية أصيلة، انطلاقاً من الوعي بدور الفعل الفلسفي في الواقع الثقافي المجتمعي المتعين في الزمان والمكان»[9].

لذلك فمهمة الفيلسوف ليست بسيطة، أو ادعاءً أن الاستقلال الفلسفي مسألة إنشائية سهلة، لأن الفيلسوف العربي، مهما كانت نزعته وانحيازه، يجرُّ اغتراباً تاريخياً حضارياً، وعليه الانخراط في مجابهة فكرية مع «عقدة تاريخ الفلسفة». فالاستقلال الفلسفي «ليس رفضاً لتاريخ الفلسفة ولكنه رفض للتبعية المذهبية الاغترابية واستيعاب نقدي للأفكار والنظريات التي تكوّنت تباعاً فيه»[10]. ذلك أن «تركيز البحث الفلسفي على مشكلة المعرفة يقود مباشرة إلى ربط الوعي الفلسفي بتاريخ الفلسفة القديمة والحديثة، ربطاً آسراً وإلى إبعاد الفعل الفلسفي عن محور الحركة الثقافية التاريخية»[11]. هكذا تطلع نصار، منذ البدء، أي بدء إعلان الانخراط في عمليات التفلسف، إلى أن «تكون فكرة الاستقلال الفلسفي قاعدة ينطلق منها محبّو الحكمة في المجتمعات العربية لكي يعمقوا أو يوسعوا، إلى أبعد الحدود الممكنة وفي كل الاتجاهات الممكنة، وعي الإنسان بوجوده وبالسر الأعظم الذي هو خلق الذات بالذات»[12].

أدرج ناصيف نصار، منذ كتاباته الأولى، علاقته بالتفلسف في إطار «رجاء»، وفي سياق فلسفة الوعي؛ وعي الذات بذاتها حتى ولو اعتبر أن «فعل التفلسف هو نظر في الوجود الإنساني من حيث هو وجود تاريخي»[13]، باعتباره وجوداً «شخصياً ومجتمعياً وتاريخياً، وبوصفه متعلقاً، بعمق، بالمشكلة الأساسية في الوجود الإنساني، مشكلة العمل»[14].

ورهان نصار على الوعي بالوجود التاريخي، في إطار المهمة الملقاة عليه وعلى غيره من الفلاسفة العرب ـ وليس فقط المشتغلين بالفلسفة ـ ضمن الوضعية الحاضرة للثقافة العربية «يتمثل في سؤال المجال الذي ينبغي لنا أن نمارس فيه فعل التفلسف، أي سؤال عن المجال الذي يشكل دخولنا فيه إعلاناً عن ارتفاع الثقافة العربية إلى مستوى العقل الفلسفي»[15].

وعلى الرغم من إصرار ناصيف نصار على مفهوم «الاستقلال الفلسفي» سواءٌ بالقياس إلى تاريخ الفلسفة أو باستدعائه لقاموس فلسفي من قبيل، التفلسف، وفعل التفلسف، والوجود الإنساني والتاريخي، والعقل الفلسفي، ومحبة الحكمة، ومشكلة العمل، و«خلق الذات بالذات»… إلخ، فإنه في كتاب الاستقلال الفلسفي لا يتردد في إدراج ما ينعته بـ «الفكر الأيديولوجي العربي الحديث» في «صميم الفكر الفلسفي»، باعتبار أن هذا الفكر طرح وتناول قضايا «كالحرية، أو الاستبداد، أو المساواة أو العدالة أو التقدم»؛ فضلاً عن أنه يوجد «عند زعمائه صفات أخلاقية وفكرية هي من صفات زعماء الفكر الفلسفي كصفات الصدق والإخلاص، والاجتهاد وفي ربط النظر بالعمل»[16].

يرى ناصيف نصار أن كل نظام أيديولوجي يتضمن نواة فلسفية، هي بالنسبة إليه كالجذع بالنسبة إلى الشجرة، وعليه ليست الفلسفة شكلاً من أشكال الأيديولوجية وإنما هي المستوى النظري الأعمق فيها[17]. وهذا لا يعني، عنده أن «احتواء الأيديولوجية على مضمون فلسفي أنها شكل من أشكال الفلسفة، إذ إن الخصائص الرئيسية للروح الفلسفية كنظرية في العمل تنزع إلى أن تتحول إلى طريق في الحياة، أي أن تتجسد في ممارسة اجتماعية تاريخية معينة»[18]. ومن ثم فما دام الفكر الأيديولوجي العربي يحتوي على «مضمون فلسفي» فإنه يستلزم الاشتغال على ما يختزنه من كثافة فلسفية ولا سيَّما تلك النصوص التي اعتبرها ناصيف نصار تدخل ضمن دائرة «أعمق إنتاج أيديولوجي عربي حديث» المتمثل بكتابات نديم البيطار، هشام شرابي، أنطون سعادة، وزكي الأرسوزي[19].

وهو في ذلك يعلن، بوضوح، أن الارتباط العضوي للفكر الأيديولوجي بوجود ومصير جماعة معينة، بكل ما يستلزم هذا الارتباط من تقدير مصالحها، وأشواقها، يتطلب ـ أي هذا الارتباط ـ سلوك سبيل يسميه «النهج الانحيازي»[20]. مهما كانت الفروق الحاصلة بين المفكر الأيديولوجي و«المفكر الفيلسوف» بحكم أن الأول يسعى لتأمين مصلحة الجماعة التي هو منشغل بحياتها، وأن الثاني يرنو إلى اكتناه حقيقة الوجود الإنساني، فإن «البحث عن المصلحة لا يتنافى مع اعتبار الحقيقة وطلبها والبحث عن الحقيقة الوجودية لا يتنافى مع اعتبار المصلحة وطلبها. وفي نهاية الأمر لا تتم المصلحة بدون حقيقة ولا يخلو امتلاك الحقيقة من جلب مصلحة»[21].

إزاء إلحاح ناصيف نصار على فعل التفلسف، وتجاوز اشتراطات تاريخ الفلسفة، والحث على الاستقلال الفلسفي، وعلى الإبداع فيه، كيف يمكن استساغة تبنّيه نصوصاً لأهمّ منظري التيار القومي، ولا سيَّما الحزب السوري القومي الاجتماعي، واعتبارها نصوصاً حاملة لمضمون فلسفي، يمكن أن ترقى إلى درجة الوعي بالوجود التاريخي؟ وهل اختيار نديم البيطار، وأنطون سعادة، وزكي الأرسوزي، في العمق، اختيار أيديولوجي أم فلسفي حتى ولو كان الدافع هو البحث عن الدلالة الفلسفية لأعمالهم الأيديولوجية؟

إن ناصيف نصار، في هذه الفترة من مساره الفلسفي، يقر بأن الوجهة العامة لكتاب طريق الاستقلال الفلسفي «تتحدد كوجهة انتقال من الأيديولوجية إلى الفلسفة»[22]، وكأنني به يحمل معه همّ هذه المفارقة في دواخله، أي مفارقة الإصرار على استقلالية فعل التفلسف والولاء للفكر الأيديولوجي الذي يبدو أنه متأثر بنصوصه كما بزعمائه أيّما تأثر.

وحتى ولو بدا ناصيف نصار مقنعاً في نسج الروابط وتسجيل الفوارق بين الأيدولوجيا والفلسفة، فإن توزعه الظاهر سيستدركه بطريقته الخاصة في نهاية المبحث، حين يؤكد أن مجال الوجود التاريخي هو «المجال المطلوب لنزع الاغتراب عن الوعي الفلسفي فينا، الاغتراب في تاريخ الفلسفة عن التاريخ الحي والاغتراب في التاريخ الحي عن تاريخ الفلسفة، وهو المجال الذي يعطينا الأصول الحقيقية للنقد الاجتماعي، بعبارة واحدة، إنه المجال المنفتح أمامنا لكي نقوم بتجربة الإبداع الفلسفي»[23].

ثانياً: نضج الوعي الفلسفي
بمقتضيات الوجود التاريخي

من المؤكد أن كتابات ناصيف نصار تثبت أن الرجل نحت لنفسه «مساراً فلسفياً» أكثر ممّا يدعي اقتراح مشروع، بل حتى إن بدا حاملاً لهموم المجتمعات العربية ومطالبها في النهضة، والحرية، والمساواة، والعدالة، والسعادة فإنه في كتاباته الأخيرة، ولا سيَّما في ثلاثية منطق السلطة وباب الحرية والذات والحضور، يبرهن على اقتدار فريد على بذل الجهد الفكري، وعلى صبر استثنائي في البناء والتأليف، وعلى نزوع فلسفي بارز، وأيضاً على شمولية في النظر والسؤال والاستكشاف. يتقدم إلينا ناصيف نصار من خلال هذه الثلاثية باعتباره مُفكراً جسوراً قلّ نظيره في التأليف العربي اليوم، متحكماً في موضوعاته ولغته، مغامراً في نحت مفاهيمه، وتصريف نمط سؤاله. ومهما حضرت انشغالات المفكر بأحوال أمته في منطق السلطة وباب الحرية فإنه ببناء كتاب الذات والحضور، بحث في الوجود التاريخي ارتقى بعيداً في التفلسف، وفي الاستكشاف المفهومي للقضايا الكبرى للإنسان والحياة.

يبدو ناصيف نصار مهجوساً بمسألة النهضة. ففي باب الحرية يقرن بوضوح بين ما ينعته بـ «النهضة العربية الثانية» ومفهوم إعادة البناء. فهو يرى أن «كل شيء في العالم العربي محتاج، بدرجة أو بأخرى، إلى إعادة بناء، وإعادة البناء تعني، أولاً: إعادة النظر في ما طرحته النهضة، ثم الثورة، وتقييمه… وإعادة البناء تعني، ثانياً، وضع تصور واضح للقيم الرئيسية التي لا يمكن أن تكون عملية التغيير نهضوية حقّاً في شروط القرن الجديد من دونها. وتعني ثالثاً، تنفيذ خطط عملية تأخذ في الاعتبار ما هو ضروري وصالح في المستقبل القريب وما هو ضروري وصالح في المستقبل البعيد. إن إعادة البناء تستلزم النقد، ولا ترتد إليه. وتستلزم المحافظة، ولا ترتد إليها، وتستلزم التهديم، ولا ترتد إليه، كما تستلزم المبادرة والتخيل والمغامرة»[24].

إعادة البناء هي، في العمق، دعوة إلى إنتاج عالم جديد من خلال «عملية إنشائية إبداعية» و«إطلاق قوى الحرية والعقل والخيال»[25]. حرية الذات مع ذاتها، واستدعاء مبدأ التضامن في علاقة الذات بالآخرين. وتفترض إعادة البناء هذه اختياراً فلسفياً وأيديولوجياً يسميه ناصيف نصار «الليبرالية التكافلية» ويدعو إلى «تعميمها وترسيخها في المجتمعات العربية بغية تحقيق نهوض حضاري شامل في كافة وجود حياتها ومشاركة فعالة في حركة العولمة واتجاهاتها ومؤسساتها»[26].

في حديثه عن باب الحرية يتقدم نصار كفيلسوف، وأيضاً كمثقف يسكنه همّ إعادة بناء الذات العربية، وتوفير شروط تحقيق «نهضة ثانية». غير أنه بكتاب الذات والحضور بحث في مبادئ الوجود التاريخي[27]، فهو يحقق نقلة نوعية في الانحياز إلى التفلسف قياساً على ما سبق إنتاجه. فحتى لو اعتبر بأن هذا الكتاب يتكامل مع منطق السلطة وباب الحرية، فإنه يؤكد في مفتتحه أنه يحاول تجاوز مضمون الكتابين السابقين من «حيث الرؤية الأساسية إلى الوجود والفعل، الوجود بالفعل. وبهذا المعنى ليس سوى بحث في ما يخترق الحرية والسلطة ويتجاوزهما في المقلب الإيجابي من الحياة»[28]. وكان لزاماً عليه وهو يخوض هذا السفر الفلسفي الطويل، الاعتراف بأنه تجرأ وغامر، وتعمق في القراءة والبحث وتبحر في الاستكشاف، منطلقاً من سؤال جوهري وحيد صاغه كالتالي: «ماذا يعني أن الإنسان يصنع نفسه؟».

سؤال إشكالي، ومدخل إلى استدعاء مجموعة هائلة من الأسئلة والمفاهيم المرتبطة بوعي الإنسان بقدرته على «تقرير مصيره بنفسه، ليس فقط على معرفة نفسه بنفسه. وتقرير المصير يعني في نهاية المطاف، أن الإنسان قادر على أن يكون ذاته بأن يصير ذاته، ولا يمكنه أن يصير ذاته من دون أن يكون ذاته… وهذا هو منطق الحاضر ورهان الحضور»[29].

يعتبر ناصيف نصار أن هذا السؤال، يستحق من الفلسفة أن تجعله «موضوعاً مركزياً للتفكير والاستعبار». وبحكم أنه بنى مصنفه بطريقة بدت لي من الصعب تقديم ملخص لأسئلته وقضاياه ومفاهيمه، فإنني سأعمد إلى الاستشهاد، مباشرة، بفقرات وأفكار تبدو لي أنها تكثف الأفق الفلسفي أو بالأحرى البعد الفلسفي في كتاب الذات والحضور.

إن الكائن الحاضر، عند نصار، هو الذي يقوم بفعل الحضور، ذلك أنه «لا يكفي… لكي يكون الكائن حاضراً أن يكون موجوداً في ذاته فقط، الكائن الحاضر، بوصفه حاضراً، موجود في علاقة وجود مع غيره، بحيث يكون، على نحو ما، شاهداً أو مشهوداً، أو شاهداً ومشهوداً، وهكذا، إذا انتبهنا إلى أن الكائن لا يكون حاضراً إلا بتوسط الوعي فإننا نفهم لماذا نجد أنفسنا أمام نوعين مختلفين جداً من الكائنات يمكنها أن تكون حاضرة: الذات الواعية والواقع المتعين. فالذات الواعية يمكنها أن تكون حاضرة لأن الوعي، بطبيعته القصدية، يدفعها إلى خارج ذاتها، كما بينت الفلسفة الفينومينولوجية. والواقع المتعين يمكنه أن يكون حاضراً لأنه يمكنه أن يكون موضوعاً لوعي يدركه، وهذا يعني أن الذات والواقع لا يحضران على نمط واحد من الحضور»[30]. ينتج من حضور الكائن باعتباره ذاتاً، أو كائناً ذاتياً، حضور قصدي، بحكم أن المغايرة أو ما ينعتها نصار بـ «الآخرية» توجد في «بنية الحضور القصدي بكيفية تحول دون الانفصال المطلق بين الذات والعالم»[31]. فالحضور إلى الذات أو إلى الواقع لا تفترض الشروط نفسها التي يتطلبها الحضور إلى الآخر، باعتبار الحضور القصدي هو تلك الحركة التي تقوم بها الذات في اتجاه الآخر لخلق تواصل أو اتصال ما معه.

يمثل النزوع نحو الآخر شرط الوجود، بحكم أن الحضور القصدي يوفر للذات إمكانية اختبار «حقيقة اختلافها عن الغير واختلاف الغير عنها ووظيفة الاتصال بالغير من حيث إنه يكشف حاجتها الكيانية إلى التعرف إلى نفسها عن طريق ملاقاة ما ليس هي وما ليست هو»[32]. فالآخر قياساً على الذات نوعان: «كائن مثلها هو ذات أخرى، وواقع ليس مثلها هو كائنات العالم الأخرى على اختلافها». والذات الحاضرة «حضوراً قصدياً تقول أكثر من مجرد أنها موجودة ههنا، وأكثر من مجرد أنها هي نفسها ههنا وليس غيرها». فهي تعيش «حال الها ـ أنا ـ ذا في جميع المناسبات، في مجرى الحياة العادية أو غير العادية، ما دامت في يقظة الوعي والتعاطي مع العالم»[33]، بحكم أن الوعي يمثل المطلب البدئي لكل حضور، ويكثف «عين الذات في حضورها إلى ذاتها» بحيث يحصل نوع من التماهي بين الوعي والذات، فهما لا يشكلان ثنائية، غير أن وحدتهما «ليست كاملة ومطلقة لأن الرائي لا يتطابق تطابقاً مطلقاً مع المرئي». وهكذا فإن «الذات كائن يسعى إلى الشفافية عبر مرآة الوعي، لكنه يسعى إلى ذلك لأنه بالضبط كائن كثيف، غامض، ذو أغوار، وغير متطابق مع ذاته تطابقاً مطلقاً. وكثافته هذه تنطوي على تعددية لا تلغيها الإشارة إلى الذات بوصفها أنا»[34].

لذلك فإن «آخرية الذات بالنسبة إلى نفسها ينبغي أن توصف في مغايرتها لآخرية الآخر بالنسبة للذات». هنا تنتصب مشكلة رئيسية تتمثل بمشكلة المسافة بين الذات والآخر. فالإنسان «كائن يعيش في المسافة، على مسافة بين المسافات، وفي تشابك المسافات، إنه كائن في حالة جدلية دائمة مع المماسفة… ومن التهام المسافات»[35]. هذا يعني القطع مع منطق الثنائيات في النظر إلى تجربة الحضور إلى الآخر، واستدعاء ما يسميه نصار «التجسد». ذلك أن «الوجود في تجربة الحاضر نوعان: وجود الذات الواعية ووجود الواقع المدرك. والكائن الذي يتيح اختبار الوجودين معاً هو الجسد»[36]. كما يشترط استدعاء صورة للآخر ليس باعتبارها «بديلاً عن الآخر… ولكنها الوجه الذي يلازم الآخر في علاقتي الحضورية معه، والذي يتطلب مني انتباهاً مزدوجاً، انتباهاً إليه في نفسه وانتباهاً إليه في إحالته على من هو وجه له»[37].

هنا تجد الذات ذاتها في «توقعُن» مستمر. وهي حركة «توجد حول الذات واقعاً خاصّاً هو منها وليس منها»[38]. كما تواجه سؤال الزمن بحكم أن الحاضر لا ينفك يمضي ويغيب والنظر إليه من وجهة الذات كما من وجهة الواقع.

في مواجهته لمسألة الزمن، لم يورط ناصيف نصار ذاته في معارك الفلاسفة حول الموضوع، بسبب اختياره المبدئي المتمثل بتفادي عملية التأريخ للفلسفة، والعمل على استثمار ما يعتبره لدى الفلاسفة «ضرورياً لجلاء منطق الحاضر مدخلاً إلى فلسفة الوجود التاريخي»[39]، تبعاً لما يراه صواباً. فهو في تأمله للزمن الحاضر يعي المفارقة المعروفة القائلة بوجود الزمن الحاضر وانعدام وجوده، ويميز بين أربعة أنواع من الزمن الحاضر، «من جهة الذات بحسب مقتضى إنجاز الفعل أو انقضاء الحالة: الحاضر ـ اللحظة، والحاضر ـ البرهة، والحاضر ـ الفترة، والحاضر ـ المرحلة. وذلك بالطبع من دون أن نتوهم أنه في الإمكان رسم حدود دقيقة فاصلة بين هذه الأنواع، أو بين الحاضر بأنواعه كلها وبين الماضي والمستقبل»[40].

وكلما تشكل إدراك «بحقيقة الماضي وحقيقة المستقبل نزداد إدراكاً لحقيقة الحاضر». ذلك أن الزمن ثلاثي الأبعاد ولكن للحاضر مكانة مركزية، إذ «المستقبل ليس موجوداً مع الحاضر بوصفه حاضراً، بل بوصفه ما يتهيأ لكي يكون حاضراً. والماضي ليس موجوداً مع الحاضر بوصفه حاضراً بل بوصفه ما كان حاضراً، حيث إنه لا وجود فعلياً إلا للحاضر… وهذا يعني، بكل بساطة، أن الحاضر يحتل في وحدة الزمن المثلث الأبعاد مقام المركز»[41].

إن الإصرار على اعتبار الحاضر زمناً مركزياً يسنده ناصيف نصار بمبادئ ثلاثة يلخصها في كون: أولاً، الحاضر يتقدم على الماضي والمستقبل في الرتبة الوجودية، ولا يتقدم عليهما بالضرورة في الرتبة القيمية؛ وثانياً، طبيعة المغامرة في الوجود التاريخي تمنع الحاضر من الانغلاق على نفسه والاكتفاء بنفسه؛ وثالثاً، معنى الحاضر موجود فيه وفي حكم المستقبل عليه»[42].

هنا يستدعي نصار مفهوم «الانوجاد» بوصفه أصلاً للحضور، وذلك أن الحضور فعل، و«من دونه لا سبيل للكائن الذاتي إلى المعرفة ولا إلى العمل… وهذا يعني أن الكائن الذاتي لا يفصل بين فعل الحضور وحضوره بالفعل»[43]. ويغدو «الحاضر بمعناه الآلي هو الكائن الذي يصنع تلك الأحداث بحضوره الفاعل إلى ذاته وإلى واقعه وأحداث العالم حوله»[44]، لأن ما يشكل انشغالاً أساسياً لفلسفة الحضور هو طابعها الوجودي ومطلب الحضور الفاعل، من خلال الانوجاد وصياغة الذات، باعتبار أن «دينامية الانوجاد تدور في جملتها على صناعة الهوية». وهو ما يستدعي قوة الإرادة، لأنها محرك عملية صناعة الذات حتى تصير منتجة. وبعد استحضار لـ كوجيتو ديكارت، وفلسفة الإرادة لدى كل من شوبنهاور ونيتشه، انتهى ناصيف نصار إلى القول إنه «يمكننا النظر إلى صناعة الذات إما من حيث الاقتران بين الإرادة وبين مقومات الذات، كالرغبات والمخيلة والعقل، وإما من حيث الموضوع بكليته وهو الذات المتكونة بسلسلة مفتوحة من الأفعال المتعينة. وفي الحالتين، نجد أنفسنا مدفوعين إلى التفكير في درجة ابتعاد الصناعة عن المعطى وارتقائها في عملية الإيجاد. وهذا يعني الخروج عن عموم المفاهيم التي يترجم بها حب الذات لنفسه عملياً، الخروج عن نوع الانهمام بالذات، والاهتمام بالذات، والانشغال بالذات، والاشتغال على الذات، والتمتع بالذات، والتبرم بالذات، إلى تصور نظري دقيق قدر الإمكان، لما يمكن أن نسميه مراتب عملية خلق الذات من داخلها»[45].

لا سبيل لاستعراض كل مفاصل مصنّف ناصيف نصار حول الذات والحضور لأنه في رحلته الاستكشافية لمبادئ الوجود التاريخي لم يغفل مفهوماً، قريباً أو بعيداً، من إشكالية الحاضر والحضور الذاتي إلا واستدعاه، من قبيل التذكر، والغياب، والوفاء، والعقل، والقيمة، والخير بوصفه القيمة العليا، والطموح، والتخيل، والأمل. فهو مقتنع بأن مقولة الحاضر، كما ينعتها، هي أساس مقولات الوجود التاريخي، بما تفترض من تمايز بين الكائن والحاضر، والزمن الحاضر، والواقع الحاضر، والذات الحاضرة، وبما تستدعيه من انوجاد باعتباره «أصلاً للحضور، وحاملاً للماهية والهوية، ومركزاً لصناعة الذات»، وبما يتطلبه من تعبئة لملكة العقل في عملية حضور الذات في الواقع، وبما يستلزمه من مقومات قيمية لبناء الذات وتفاعلها مع أشياء العالم.

من أجل ترتيب أمور مساره الفلسفي لبناء هذا المتن المفهومي برهن ناصيف نصار عن نفس فريد في التساؤل والكتابة والبناء. بتأليف منطق السلطة، وباب الحرية والذات والحضور أزعُم أنه أقام معماراً فلسفياً استثنائياً في الفكر العربي المعاصر. وقد ترجم شوقه إلى التفلسف في ثنايا هذه الكتب، ولا سيَّما في الذات والحضور. يجابه مبادئ الوجود التاريخي متسلحاً بزاد فلسفي أوروبي وعربي قلّ نظيره؛ إذ يحيل على نصوص ديكارت، وكانط، وهيغل، وشوبنهاور، ونيتشه، وبرغسون، وسارتر، وهايدغر، وريكور بأسلوب لا تشعر فيه بأن صاحبه يتكلف في الاستشهاد أو يلهث وراء سند لدعم فكرته؛ كما أنه في سياق البناء تجده يستحضر نصوص الفلاسفة العرب بسلاسة، ودقة مثيرة. اختار القطع مع الاجترار الفكري العربي بالانخراط في الفلسفة بالفعل، والتبرم من التبعية لتاريخ الفلاسفة، من خلال نحته مفاهيم خاصة به من نوع التجسُّد، التوقْعُن، والانوجاد… إلخ.

وهو في الأول والأخير، يقترح أفقاً فلسفياً للفكر العربي بقدر ما ينشغل بقضايا صناعة الذات والهوية ضمن فهم نهضوي للوجود التاريخي. ويدعو، في الآن نفسه، إلى تجاوز نمط التفكير الأيديولوجي، ومساءلة الحاضر، ليس باعتباره «حاضراً عربياً» فحسب بل «بوصفه النمط البدئي لوجود الإنسان»[46].