ملخص:

لطالما بينت الدراسات أن للميديا تأثير في المتلقي. ويبدو ذلك جليًا اليوم مع التلفزيون وعبر المنصات الإلكترونية التي تعدّ النتفليكس أكثرها استقطابًا للجماهير، كرمز للحداثة والتميز.

وقد ركزت هذه الدراسة على تحليل محتوى عينة من المسلسلات – التي تبث في التلفزيون وفي النتفليكس- والتي باتت اليوم تسير عن طريقها منظومة من الصور النمطية عن المثلية بكل تجلياتها.

فالهدف المتوخى من هذه الدراسة هو تبيين كيفية تسيير المثلية في التلفزيون والنتفليكس وكيفية تشكل الصور النمطية عنها، بتحديد الأهداف الخفية من ورائها ومنظومة القيم المسيرة فيها وأساليب الإقناع الموظفة بغية التأثير في المتلقي، خصوصا مع تقنية التكرار التي تولد الألفة، حيث توظف في الميديا بغرض تثبيت بعض القيم، بغية توجيه سلوك المتلقي.

فضلا عن ذلك، فقد تبين في هذه الدراسة دور استعراض الصور النمطية عن المثليين، مما يسهم في ترسيخ صور إيجابية عن هؤلاء، خصوصا وأنهم يبرزون في المواد السمعية-البصرية قيد التحليل بأن لهم دور فعال في المجتمع، على المستويات: المهنية والأسرية والعلاقات الاجتماعية.

فالمسلسلات التي نشاهدها تصنف ضمن المواد الترفيهية. بيد أن الترفيه يخفي بين طياته بعدا إيديولوجيا، تحت غطاء الدعابة والمرح، بغية تمرير أفكار معينة قد تكون مرفوضة في بدايتها. ولكن، ومع مرور الوقت –بفعل أن بعض المسلسلات تتجاوز الألف حلقة وحلقة- يتم تبنيها كنماذج جديدة للفعل والوجود، كأسلوب حياة عولمي لا مفر منه.

الكلمات المفتاحية: المثلية، المسلسلات، الصور النمطية، الترفيه، القيم، وسائل الإقناع.

 

مقدمة:

لا تلبي العروض (Shows) ، كما يعتقد بعضهم، حاجات المتلقي فحسب، بل وأكثر من ذلك: العروض هي التي تسبق عادة الحاجات، مقيدة بذلك مجال الاختيارات في عالم يبدو فيه التنوع كسمة للتقدم والازدهار. بيد أن هذا التنوع يحصر فضاء الاختيارات لدى المتلقي الذي لا يمكن أن يطمح سوى في ما يعرض عليه.

فنحن نعيش في مجتمع الاستهلاك حيث يثار الاستهلاك كهدف في حد ذاته، مما ينجرُّ عنه إدماج الأفراد في هذه العملية التي لا نهاية لها والمتجسدة في عروض الإشهار والأفلام والمسلسلات وحتى الربورتاجات العلمية، كقوة قاهرة مهيمنة لها سلطة على المتلقي، سلطة فرض الأذواق والتوجهات وأنماط الاستهلاك، لنتساءل في الأخير إن كان هنالك تطابق بين ما يعرض في هذه الرسائل وبين الرغبات والانتظارات الحقيقية للجمهور العربي، حاجات تتجدد بتجدد العروض في عوالم الاستهلاك بتنوعها، في عصر الاختيارات المفرطة.

ومن بين هذه العروض نجد المسلسلات التي تعرض في التلفزيون وفي المنصات الرقمية حيث تعَدّ النتفليكس من أكثرها استقطابًا للجماهير المتعطشة، بوجود فراغ برامجي عربي محض.

ومن بين النماذج الثقافية التي بات التلفزيون والمنصات الرقمية – وفي مقدمتها النتفليكس – يسيرها بصورة منتظمة نجد الشعارات الداعية إلى احترام وجود المثليين، وضرورة الاعتراف بوجودهم، بوصفهم – تبعًا لهذه النماذج – فعّالين في المجتمع.

وقد تبين في السنوات القليلة الماضية تكثف صور نمطية للمثليين المسيرة في المسلسلات التي أضحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، منظمة وقتنا وأولوياتنا، عبر نماذج الأبطال التي تعرض علينا عرضًا.

فكيف تسير المثلية في المسلسلات التي تبث عبر التلفزيون والنتفليكس؟ وفيمَ تكمن الصور النمطية عنها؟ وكيف يعمل التكرار على انتشارها؟

هذا ما سيتم رصده في هذا المقال، من خلال تبيين كيفية تسيير الصور النمطية عن المثلية، عن طريق المنظومة القيمية الخاصة بها والتي تبث في المسلسلات التلفزيونية وفي النتفليكس، وأساليب الإقناع الموظفة فيها للتأثير في المتلقي.

أولًا: دور الميديا في التنشئة الاجتماعية

تؤدي التنشئة الاجتماعية (Socialization) دورًا مهمًا في نقل قيم المجتمع من جيل إلى آخر. فهي تخص ذلك “المسار الاجتماعي الذي يتعلم من خلاله الأفراد القيم والمعتقدات والمعارف والمعايير الاجتماعية لمجتمعهم. يبدأ هذه المسار عند الولادة ويستمر طوال حياة الفرد”([1]).

وتتم تلك العملية عبر عدة فاعلين مؤثرين، بداية بالأسرة، فشلّة الرفاق فالمدرسة فالشارع فالمسجد، وأيضا عبر الميديا… إلخ. فيبدأ تلقن المنظومة القيمية الخاصة بهذه الجماعة الاجتماعية أو تلك أو هذا المجتمع أو ذلك منذ الصغر، ويستمر هذا المسار التوجيهي-التعليمي مع انتشار الميديا وعلى رأسها التلفزيون، واليوم مع الإنترنت مدى الحياة.

فالميديا فضاء تفاعلي لنقل المنظومة القيمية التي يسيرها وسيط معين، بهدف تكييف المتلقي مع تلك المنظومة بدون أن يحدث الأمر خللًا في اتساق المجتمع. فكم من منظور جديد للتفكير والفعل والوجود أدرج تدريجيًا في المحتويات الإعلامية والاتصالية المتعددة!

والجماهير هي دائمة البحث عن المثير الذي يستند إلى تقنيات الإخراج العالية وتقنيات التصوير الحديثة والمؤثرات الصوتية، وإلى طبيعة المواضيع المعالجة والتي تندرج ضمن رؤية وتصور عالمي لها([2]).

وفي هذا السياق، تقوم الميديا بأشكالها ومحتوياتها المتعددة بتوجيه الرأي العام نحو اتجاه معين، عبر وظيفة التنشئة الاجتماعية التي تؤديها. وبما أن الأخيرة مسار يبدأ منذ الصغر ويستمر مدى الحياة عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية المتعددة، فإن الميديا ستستثير لدى الأفراد ميكانيزمات لاستيعاب نظرة إدماجية لمنظومة من الأفكار والقيم.

وقد شاع في السنوات القليلة الماضية توظيف بعض “الأقليات” في المسلسلات، لما يُعتقد بأن لذلك الأثر الكبير في تغيير توجهات الأفراد وتمثلاتهم لبعض القضايا والتي من بينها وجود أعراق متعددة مكونة للمجتمع الأمريكي، والتي يعَدّ السود واللاتينو-أمريكيون والآسيويون وحتى العرب والمسلمون جزءًا منه.

كما وظفت في الآونة الأخيرة حتى صورة ذوي الاحتياجات الخاصة، وتحديدًا في مسلسلي: VeraوGrantchester، وحتى عن أقزام في مسلسلي Vera وNew Amsterdam. وأيضًا صور عن محجبات، كما هو حال New Amsterdam وGrey’s anatomy وVera. واليوم، تسير في المسلسلات صور متكررة عن المثلية، التي تعتبر في العالم الغربي – وحتى اليوم في بعض الدول العربية- أقلية لا يمكن تجاهل وجودها.

وتظهر هذه الأقليات – بالرغم من كل المشاكل التي تعانيها في الولايات المتحدة الأمريكية – منسجمة ومندمجة كل الاندماج داخل ذلك “المجتمع الكبير”، حيث يتبين من خلال عرض تلك المسلسلات أنه يمكن تجاوز الاختلافات والتناقضات التي بين الأقليات المختلفة، من أجل هدف مشترك ألا وهو حب الوطن والدفاع عنه بكل قوة.

والملاحظ في المسلسلات التي تسير صورًا نمطية عن المثلية أن هذه العلاقات تتمثل المثليين على أنهم أفراد عاديون لهم واجبات وحقوق، وهم جزء لا يتجزأ من النسيج العلائقي داخل المجتمعات الغربية. فمن منا لا يذكر فيلم Philadelphia الذي أنتج عام 1993 حيث مثل توم هانكس (Tom Hanks) الدور الرئيسي فيه والذي جسّد قصة محام مثلي مصاب بالسيدا، وكيفية استظهار الشخصية الحقيقية على أنه مظلوم ومنبوذ من طرف الجميع، في مجتمع كان آنذاك لا يبالي بالمثليين ولا يعترف بوجودهم ولا يرى بأن لهم “قضية” يدافعون عنها!

وعلى هذا الأساس، الميديا لا تؤدي وظيفة ترفيهية محضة؛ فالرسائل المشفرة المحملة أيديولوجيًا تبث باستمرار، وتنقل لنا أساليب حياة تبدو مثالية، نحلم أن نصل إليها يومًا ما.

ثانيًا: الإطار المنهجي للدراسة

بغية استخراج الصور النمطية للمثلية في عينة من المسلسلات التلفزيونية والتي تبث عبر منصة النتفليكس، فقد تم الاعتماد في هذه الدراسة على بعض الإجراءات المنهجية.

بداية، فقد تم تبني تقنية “تحليل المحتوى”، التي هي من التقنيات التي ما فتئت تُستخدم بكثافة في العلوم الإنسانية، حيث استُخدم بداية بُغية تحليل المواد الإعلامية، مهما كانت طبيعتها: مكتوبة أو سمعية أو سمعية بصرية. ثم، تم توسيع مجاله ليضم أيضا مجال اللغة الموازية.

والأداة التي تمكن الباحث من تجميع المعطيات الخاصة بتحليل المحتوى هي فئات تحليل المحتوى.

ونظرا لطبيعة هذه الدراسة، تم الاعتماد على الفئات التالية:

الموضوع والاتجاه والأهداف والسمات والقيم وأساليب الإقناع.

وبعد تحديد الفئات التي ستستخدم لتحليل المسلسلات المنتقاة في هذه الدراسة، يتعين تحديد وحدات التحليل المتمثلة بهذه الدراسة في الصور النمطية كوحدة تحليل، باستخراج كل ما يمكن أن يوجه البحث إلى تصرفات ومؤشرات إيجابية للشخصيات المثلية المدعوة للتمثيل في العينة المنتقاة، من أدوار مؤداة وتكرار لبعض المشاهد وصور تهز مشاعر المتلقي.

أما مجتمع البحث فيتمثل في هذه الدراسة بمجموع المسلسلات التلفزيونية التي تسير منظومة من القيم المثلية.

أما المعاينة فقد كانت معاينة غير احتمالية نمطية. وهنا، يتعلق الأمر بالمسلسلات التي تسير صورًا نمطية عن المثلية، دون سواها.

أما العينة فتتكون من ستة وعشرين مسلسلا يبث عبر التلفزيون والنتفليكس تم اختيارها على درجة أهميتها بالنسبة إلى هذه الدراسة.

وبالتأكيد فإن تلك العينة لا تمثل العدد الإجمالي للمسلسلات؛ فهي تمثل مجموعة المسلسلات التي قمت بمتابعتها للفترة الزمنية الممتدة ما بين 2018 إلى شباط/ فبراير 2022 والتي أنتجت بصورة أساسية بالولايات المتحدة الأمريكية؛ فالعدد الفعلي للمسلسلات التلفزيونية والتي تبث عبر النتفليكس التي تسير صورًا عن المثلية هو أكبر بكثير، إذ هنالك جرد لستمئة وثلاثة عشر (613) مسلسلًا([3])، حيث تحتل الولايات المتحدة الأمريكية الصدارة من خلال إنتاجها ثلاثمئة وعشرين (320) مسلسلًا من هذا النوع لوحدها*.

وفي هذه الدراسة، تم تجميع العينة وتحديد بعض متغيراتها في الجدول الموالي:

الجدول الرقم (1)

خصائص العيّنة

عنوان السلسلة التلفزيونيةمدة البثالشخصيات المثليةالدور المؤدى من طرف شخصيات الذكورالدور المؤدى من طرف شخصيات الإناثعدد المواسم

إلى 2022

Grey’s anatomy

 

2005-

2021+**

12طبيبان (2)  0 طبيبات18
The Murdoch Mysteries2008-20212

 

محقق1 طبيبة شرعية

 

15
How to get away with murder2014-2020123 طلبة طب+ 2 محاميان

+ 1 تقني في الإعلام الآلي

+ 1 موظف

4 محاميات: 2 مثليات و2 ثنائية الجنس + 1 محققة06
Grantchester20142022+1راهب: 1/07
Chicago Fire20122021+4رجل إطفاء: 13 مسعفات ثنائية الجنس07
Walking dead2010-2022+9

 

المحاربون: 36 محاربات: 5 مثليات +1 ثنائية الجنس11
9-11

 

2018+31 مثلي: الزوج السابق للملازمة Athena Grant.2 مثليتان: المسعفة +”رفيقتها”05
The Rookie2018+11 مثلي: شرطي/04
Instinct 2018+2 بروفيسور و”رفيقه/02
New Amsterdam2018-2022+2المحلل النفسي و”رفيقه”/04
Prison Break 2005-20171مجرم/5
S.W.A.T2017-2022+1/01 محققة خاصة،  ثنائية الميول الجنسي5
The Young and the Restless1973-2022+42 مثليان:

01    محام+ 01 شخصية ثرية

2 ثنائية الميول الجنسي:

01 مديرة شركة +01 نادلة ومغنية

49
Buffy the vampire Slayer1997-20033/2 ساحرتان+ 1 قاتلة مصاصي الدماء7
Emergency Room1998-20094/4 مثليات يعملن في المجال الطبي15
The Shield2002-2008101: شرطي/7
Arrow2012-

2020

31 عالم2 محاربتان مثليتان8
NCIS200321 مثلي: محقق خاص1 مثلية: محققة خاصة19
Dr House2004-20121/1 طبيبة: ثنائية الميول الجنس8
Battlestar Galactica2004-20104  1 مثلي+1 ثنائي الميول الجنس1 مثلية +1 ثنائية الميول الجنس4
Hospital Central2000-20123/3 طبيبات: 2 مثليات + 1 ثنائية الميول الجنس20
La casa de papel2017-202141: سارق3 سارقات7
Hunters202011: محارب ضد الإرهاب/1
Ghost Wars

 

 

2017-20182/محاربتان1
The Resident2018-2022+11 طبيب/5
Friends1994-200441 مثلي2 مثليات +1 متحولة الجنس10

 

الدراسة التطبيقية: بعد تحديد الإطار المنهجي للدراسة، سيشرع الآن في تحليل المادة السمعية-البصرية، بناء على الفئات التي تم تحديدها.

فئة الموضوع: يتعين أن يحدد الباحث في فئة الموضوع (Theme) حول ماذا يدور الموضوع في الوثيقة أو الوثائق.

ففي Grey’s anatomy و Chicago Fireو New Amsterdam و Emergency Room و Dr Houseو Hospital Central و The Residentيتم استعراض حياة الأطباء أثناء تأديتهم لمهامهم، مع إبراز المشاكل المهنية والخاصة التي يتعرضون لها.

أما في The Murdoch Mysteries و How to get away with murde و The Rookie وInstinct و  S.W.A.T و The Shield و NCIS و Hunters و9-1-1  و Grantchester و La casa de papel فيتم التعرض لنجاعة التحقيقات البوليسية والفيدرالية.

ثم تأتي مجموعة أخرى من المسلسلات التي تتطرق إلى مواضيع الخيال العلمي والفانتازيا، والمتمثلة بـ Walking dead و Buffy the vampire Slayerو ArrowوBattlestar Galactica وGhost Wars.

أما مسلسلPrison Break  فيسرد أحداثًا تحدث لأخوين أثناء تواجدهما في السجن وهروبهما منه، ومحاولة إيجاد أدلة على براءة الأخ الأكبر.

أما مسلسل Friends فيروي قصصًا عن الصداقة والوفاء والتضحية وعن إمكان العيش معًا، بالرغم من الاختلافات الموجودة بين مجموعة من الأصدقاء.

وفي الأخير، يستعرض مسلسل The Young and the Restless لعشرات السنين حياة عائلتين اثنتين متنافستين، وتتخللها قصص حب من هنا وهنالك…

وبالرغم من تباين مواضيع هذه المسلسلات، بيد أنها تشترك في موضوع فرعي أساسي ألا وهو واقع حياة المثليين في المجتمعات الغربية.

فلا يخلو مسلسل واحد من هذه العيّنة من استعراض حياة المثليين، عبر تكرار هذه المسألة في حلقات كل مسلسل بدون استثناء، عبر سرد معاناتهم على المستوى النفسي والاجتماعي من تهميش من طرف بعضهم، ولكن خصوصا عبر استظهار كيفية اندماجهم في جل الحالات واستظهار مكانتهم الفعّالة في المجتمع، مما يبين جليًا مراكز اهتمام القائم بالاتصال الذي يركز على هذه النقطة بالذات، بغية الترويج للمثلية ولجعلها مقبولة وحتى “طبيعية” و”عادية” بالنسبة إلى المتلقي وهو ما يجعله يتابع مسلسله المفضل بصورة منتظمة، إلى درجة الإدمان في العديد من الحالات.

فئة الأهداف: يتم تحديد الأهداف الواضحة بشكل سريع في المادة قيد التحليل. بيد أنه يتعين على الباحث أيضًا استخراج الأهداف الخفية التي يصعب تحديدها للوهلة الأولى.

على الباحث أن يعيد مشاهدة المادة إن تعلق الأمر بمادة سمعية-بصرية كفيلم سينمائي، أو أن يعيد الاستماع إليها إن تعلق الأمر بمادة سمعية، أو أن يعيد قراءتها إن تعلق الأمر بمادة مكتوبة، وذلك لعدة مرات حتى يتسنى له تحديد الأهداف والمعاني الخفية التي أُنتجت لأجلها المادة.

فكأي مادة سمعية-بصرية، للعينة قيد الدراسة أهداف بارزة تتمثل بتقديم مادة ترفيهية تجلب المتلقي، عبر عروض تقطع الأنفاس، من فنيات وتقنيات عالية، عن طريق المواضيع المتنوعة الخاصة بكل مسلسل. ولكن، ليس هذا فحسب، إذ هنالك أهداف كامنة لا تظهر للوهلة الأولى؛ فتبتغي هذه المسلسلات تمرير فكرة مركزية ألا وهي أن المثليين كغيرهم لديهم حياة “طبيعية” في المجتمعات التي يعيشون فيها وأنهم غير مهمشين بل وأكثر من ذلك؛ فهم مندمجون كل الاندماج فيها وينظر إليهم كفاعلين لا يمكن الاستغناء عنهم، بفعل الدور الإيجابي والمكانة الاجتماعية التي يحضون بها، حتى وإن كان بعضها كما هو حال مسلسل Grantchester قد صور واقع المثليين في خمسينيات القرن الماضي، من “تعنيف وشتم واحتقار” ونبذ من طرف الكنيسة نفسها آنذاك، حيث لم يكن هنالك إطار مؤسساتي يضمن “حقوقهم”، كما هو اليوم. بيد أنه حتى في هذا المسلسل، كان الهدف منه تصوير تلك المعاناة، إذ إن هذه الوضعية كانت تعرض على أنها غير طبيعية وغير إنسانية!

فبالرغم من القالب الظاهر للمواد السمعية-البصرية والمتمثلة بمواد ترفيهية، بيد أنها تمرر بين ثناياها أفكارًا محملة بالأيديولوجيا.

فالصور التي تسيرها الميديا بكل أشكالها ليست حيادية؛ فهي محملة بالأفكار والقيم التي يود القائم بالاتصال إيصالها إلى المتلقي.

فكل المواد السمعية-البصرية تحوي بعدًا أيديولوجيًا، متجسدة في تأثير الأفكار التي يتم بثها في قيم ومعتقدات الأفراد وتصرفاتهم.

فللصور قدرة قوية على التأثير والإقناع وسلطتها تمارس على الجميع، وهي “عكس الكلمات، يمكن أن تصل إلى الجميع، في كل اللغات، بدون كفاءة أو تعلم مسبق”([4]).

وحتى وإن كان عدد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية يسير منظومة من الصور لتوعية الجماهير حول قضايا إنسانية، بيد أنه يتعين ألا ننسى بأنه قد “ساهم كل من الراديو والسينما والألعاب الرياضية الجماهيرية والاستعراضات العسكرية، فضلًا عن تشكيلة كبيرة من المسابقات الأقل شأنًا، ولا تزال تواصل مساهماتها في امتصاص طاقة رد الفعل الإنساني”([5]).

فالهدف من البرامج “الترفيهية” ليس خلق وعي لدى المتلقي بأهمية القضايا المعالجة فيه، بقدر ما تهدف إلى “تحجيم هذا الاهتمام وتخفيف حدته”([6]).

فمن منا لا يعلم الدور الذي أدّته ولا تزال تؤديه الدعاية (Propaganda) إثر ظهور وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية.

وحتى على المستوى الأكاديمي، عندما ظهر البحث في الاتصال، كانت الدراسات الأولى ذات صلة بالحرب النفسية والدعاية إبان الحرب العالمية الثانية، ثم إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي آنذاك.

ونحن نعلم البعد السلبي لمصطلح “الدعاية”. لهذا الغرض، قام الباحثون باستبداله بمصطلح “الإقناع” نظرًا إلى دلالة الأخير غير السلبية.

بيد أن هذا التطور في مجال الاتصال كان يخفي في الواقع بعدا ليس بالجديد، ألا وهو “المجال الأكثر سرية للتنمية العسكرية لتقنيات الدعاية في سياق الحرب الباردة”([7])، الذي ظهر بعيد 1945 بين المعسكرين: الشرقي (بقيادة الاتحاد السوفياتي آنذاك) والغربي (بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية)، حيث أسهمت الحرب الباردة في استمرار البحث في الإقناع والاتصال.

وتهدف الدعاية إلى الاستمالة العاطفية للجماهير، محاولة التأثير فيهم بشتى الوسائل بغية تغيير آرائهم واتجاهاتهم لتوجيه سلوكهم في الاتجاه المقصود؛ فهي تستخدم من طرف المرسل للتأثير في توجهات المتلقي وفيما بعد في سلوكه.

فالصور المسيرة في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والتي نشاهدها كل يوم تدعي الحياد، وتصنف على أنها تنتج وتبث بغرض التسلية والترفيه. بيد أن ذلك هو الجزء البارز من الجبل الجليدي، إذ الكامن أكبر بذلك كثيرًا!

فوظيفة الترفيه في المجتمع لا تخلو من الأهمية، وهي متعددة النشاطات، من غناء ورقص وعروض مختلفة، كما تشمل ظاهرة “المكالمة من نوادر، أحاج، محاورات…”([8])

والترفيه هو المتعة والتسلية التي يحس بها الأفراد عند تلقيهم لهذا النشاط أو ذاك. هو ذلك الوقت الذي يُعتبَر فترة يشغلون فيها وقت “فراغهم”!

فمع تطور الرأسمالية الحديثة وتطور وسائل وظروف العمل، أضحى للناس “وقت فراغ” يودون ملأه بمتابعة برنامج تلفزيوني أو فيلم سينمائي، واليوم الإبحار في أعماق الإنترنت.

بيد أن مصطلح “فراغ” يحمل بين طياته دلالات خفية، إذ يرى إريك بارنو، مؤرخ التلفزيون الأمريكي أن “مفهوم الترفيه هو مفهوم شديد الخطورة، إذ تتمثل فكرته الأساسية في أنه لا يتصل، من بعيد أو قريب بالقضايا الجادة للعالم، وإنما هو مجرد شغل أو ملء ساعة من فراغ. والحقيقة أن هناك أيديولوجية مضمرة بالفعل في كل أنواع القصص الخيالية. فعنصر الخيال يفوق في الأهمية العنصر الواقعي في تشكيل آراء الناس”([9]).

فالملاحظ أن البرامج الترفيهية لها تأثير في توجهات وآراء الناس، لأنها تحمل دلالات خفية لا تُدرك للوهلة الأولى ولعامة الناس، ببثها منظومة من الصور المحملة بالرمزية.

فقد غدت وسائل الإعلام والاتصال بما فيها الجديدة تضخ بشكل مستمر صورًا ومحتويات متعددة من التسلية، والتي هي بالتأكيد محملة قيميًا، بغية التأثير في المتلقي.

ولكن، يتعين ألّا تظهر هذه الإيديولوجية بشكل يلفت الأنظار. لذلك، فالقيم المثلية هي ضمنية لا تظهر للوهلة الأولى، خصوصًا لدى أولئك المولعين بالتكنولوجيا وبالإخراج السينمائي والتلفزيوني، حيث لا يأبهون بالأيديولوجيا التي تمررها.

فئة الاتجاه: وبالرغم من وجود فئات اتجاه واضحة: الاتجاه المؤيد والمعارض والمحايد، بيد أنه يمكن أن نجد داخل كل فئة من الاتجاهات المذكورة فئات فرعية؛ فمثلًا يمكن تصنيف الاتجاه الإيجابي إلى:

“الاتجاه الإيجابي التام أو المطلق

الاتجاه الإيجابي النسبي

الاتجاه السلبي التام أو المطلق

الاتجاه السلبي النسبي.”([10])

كما يمكن اللجوء إلى التصنيفين المواليين:

“- الاتجاه المتوازن والاتجاه الصفري”.([11])

لا يظهر الاتجاه السلبي إلا في مسلسلي Prison Break، حيث يظهر المثلي الوحيد المدعو للتمثيل في هذا المسلسل كشرير، وفي مسلسل Battlestar Galactica حيث تظهر إحدى المثليات كشريرة.

فبناء على الأهداف الخفية المتوخاة من المواد السمعية-البصرية قيد التحليل – التي تتمثل المثليين بأنهم مندمجون كل الاندماج في المجتمع وأنهم يؤدون وظائف مهمة في المجتمع، وبالتالي لا يمكن الاستغناء عنهم – لن تظهر الشخصيات التي تمثل أدوارًا مثلية إلا في صورة إيجابية، عبر عرض صور نمطية عن نجاحها واندماجها وفعاليتها في المجتمع.

وعليه، معظم المسلسلات قيد التحليل تصنف ضمن الاتجاه الإيجابي المطلق – إذ تم إحصاء 86 مثليًا ضمن هذا الاتجاه، مقابل مثليين اثنين (2) فقط يقومان بأدوار سلبية، وبالتالي يصنفان ضمن الاتجاه السلبي النسبي- فيبدو جليًا بأن القائم بالاتصال لا يبث سوى رسائل إيجابية حول المثليين، حول دورهم الفعال في المجتمع على مختلف الأصعدة.

فئة السمات: يتم استخدام هذه الفئة بغية تحديد خصائص الشخصيات التي تظهر في المادة، سواء أكانت مكتوبة أو سمعية أو سمعية-بصرية.

ومن خلال تحليل محتوى عينة المسلسلات التي انصبت عليها الدراسة، يتبين لنا بأن جل الشخصيات تمثل الطبقة العاملة الناجحة في المجتمع*، من أطباء ومحامين ومختصين في الإعلام الآلي وشرطيين ومحققين خاصين وممرضين وطلبة، وحتى محاربين خيّرين وممن يملكون مواهب فائقة، حيث يظهرون كخيرين. ولم يتم تسجيل سوى حالتين اثنتين يظهر فيها المثليون كأشرار.

ويصل عدد الشخصيات المدعوة لتمثيل دور مثلي أو مثلية في بعض مسلسلات عيّنة الدراسة إلى 12 شخصية، مما يبرهن تأكيد القائم بالاتصال على خاصية هذه المسلسلات والهدف الخفي المتوخى منها. كما أن العديد من الشخصيات التي تمثل أدوارًا مثلية تؤدي أدوارًا رئيسة.

 

بيد أن الملاحظ أنهم ليسوا فقط مثليين (ذكرًا وإناثًا على حد سواء)، بل أيضا هم ثنائيو الميول الجنسي ومتحولون جنسيون.

فئة القيم: لفئة القيم (Values) أهمية كبرى، تمكن الباحث من تصنيف المعتقدات والعادات سواء لدى الأفراد أو الجماعات، إن كانت جلية أو ضمنية داخل الوثيقة.

وتكتسب القيم من خلال تعلم الأفراد عبر التنشئة الاجتماعية القواعد التي يجب الامتثال لها في حياتهم، من خلال المؤسسات الاجتماعية المختلفة، بوصفها هي حصيلة اجتماعية للأفضليات والمعتقدات. وبذلك، فمصدرها اجتماعي. يتبناها الأفراد ويستقونها من محيطهم الثقافي ليتم التفاعل الاجتماعي، كعلاقات متبادلة بينهم حيث يتوقف سلوك أحدهم على سلوك الآخرين، فيتم التأثير في اتجاهاتهم وتصرفاتهم.

وهي توجه مع المعايير سلوك الأفراد، ولها علاقة مباشرة بالفعل الاجتماعي. وتبعًا لبارسونس (Parsons) ليس لها وجود إلا عبر الوعي الاجتماعي. وهي نسبية، تتغير بتغير الثقافات والمجتمعات؛ فما يُعَدّ جميلًا في أحد المجتمعات سيُعتبر قبيحا في مجتمعات أخرى؛ وما يكون مرغوبًا في بعضها سيكون ممقوتًا في أخرى.

فالمواد السمعية-البصرية قيد التحليل إنما هي محملة بمنظومة قيمية تشرع لوجود المثليين وتعرُّض الإطار المؤسساتي الذي تم اندماجهم فيه، ممجدة وجودهم وفعاليتهم في المجتمع.

فبالرغم من الإجماع على الأساس المثالي للقيم، بيد أن القيم نسبية من مجتمع إلى آخر ومن جماعة اجتماعية إلى أخرى. ففي بعدها الفلسفي، القيمة “مفهوم تحليلي، بمعنى أنه ليست لديها دلالة أخلاقية التي تقودنا إلى “تقييم القيم” ومنحها قيمة ومكانة، على عكس المصالح تكون فيها هذه الأخيرة أنانية بينما تكون القيم إيثارية. هذا ليس صحيحًا. الأحاسيس المشتركة القوية يمكن أن تكون قاسية كالقيم النازية التي هي قيم كأخرى من وجهة نظر عالم الاجتماع”([12]).

لا يمنح صاحب هذا النص لمفهوم القيمة ذلك البعد الأخلاقي السامي. فهو يرى أنه لا يجوز مقابلة القيم بالمصالح، إذ إنه يستشهد ببعض الأحداث التي مرت بها البشرية والتي كان فيها تمجيد لبعض القيم “العنصرية”. فبالرغم من فضاعتها وبعدها غير المنصف، بيد أنها كانت قيما تبناها مجتمع في مرحلة من مراحل حياته.

فمن بين 193 دولة، 69 منها فقط تمنع المثلية ولا تسن قوانين لصالح المثليين، تبعا لتحقيق عرض في “مرصد عدم المساواة”، حيث يكرر صاحب المقال كلمات تبين موقفه ومساندته للمثليين، مثل: “العدوان، الذل، هجمات معادية للمثليين، التمييز ضد المثليين”…([13])

وفي الواقع، مسألة إدراج المثليين في الأفلام والمسلسلات لها علاقة وطيدة “بالبيزنس”، إذ بالرغم من رفض هوليود في البداية رفضًا قاطعًا إنتاج أفلام تشهر لشخصيات مثلية امتثالًا “لرغبات رواد دور السينما المستقيمين”([14])، فقد بدأت تدرج الأدوار والقيم المثلية في إنتاجها، بغية استقطاب جماهير جديدة مناصرة للمثلية أو فضولية شغوفة لمشاهدة كل ما هو جديد، حتى وإن تنافى مع المنظومة القيمية العربية-الإسلامية.

فمع التطور الهائل الذي يشهده التلفزيون والمنصات الرقمية، فإنه يتعين عليهما إرضاء رغبات الجماهير المتباينة باختلاف عقيدتها وقيمها وميولاتها المتعددة.

فاليوم، لم نعد نتحدث عن جمهور بل عن جماهير، لكل واحد منها رغباته وميولاته وأولوياته والمنظومة القيمية التي يتبناها.

فلتحديد مفهوم الجمهور، يذهب الإخصّائيون اليوم إلى تحديد كمي وكيفي لهذا المفهوم؛ فالجمهور هو ليس ذلك التحديد الكمي لبعض خصائص متلقي محتوى إعلامي أو اتصالي أو ثقافي فحسب، إذ يمكن دراسته بناء على بعده الكيفي، من حيث “البحث عن سبب وكيفية وتأثير ما يستقبله الجمهور من رسائل التي تبث من طرف الميديا، إذ يكون الأمر أكثر غموضًا ويتطلب دقة أكبر”([15]) مما هي الدراسات الكمية للجمهور، حيث تتعقد الأمور لما يبحث في السياق العام الفعلي لعملية التلقي.

لذلك، وبالرغم من رفض المثلية في المجتمعات الإسلامية نظرًا إلى تحريمها في القرآن الكريم لما تنتجه من أذى وتعَدٍّ على الطبيعة الإنسانية واختلال في الوظائف الأسرية، بيد أنها اليوم تعَد قيمة “سامية” في المجتمعات الغربية التي أعدت لها إطارًا مؤسساتيًا يشرع من خلاله للمثليين وتسنّ قوانين تحميهم وتدافع عن وجودهم، باسم حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، عبر قوانين محلية ودولية.

وقد كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 لهيئة الأمم المتحدة في بندها السابع والمتمثل بأن “كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق بدون أي تمييز في حماية القانون”([16])، صدى وتأثير كبير في تهيئة الأرضية للمطالبة بحقوق المثليين.

وبالفعل، ففي بيان عام 2012 المتكون من أكثر من ستين صفحة، قامت هيئة الأمم المتحدة بالدفاع عن فئة “LGBT” بمعنى المثليين والمثليات والثنائيي الميول الجنسي والمتحولين الجنسيين، عبر الحث على حمايتهم ضد ما يسمى بكراهية المثليين والمتحولين الجنسيين. كما حذرت من تعذيب المثليين والمعاملة القاسية لهم وعدم تجريم المثلية. فضلًا عن ذلك، فقد منعت التمييز تبعًا للتوجه الجنسي وللنوع. وختمت الهيئة منشورها بالمناداة باحترام حرية التعبير والتجمع السلمي([17]).

وهذا الإعلان كان في سياق مميز حيث ست وسبعون دولة كانت آنذاك تمنع المثلية…

ثم، بدأت العديد من الدول بمأسسة الزواج للمثليين؛ فقد شرع للزواج المثلي بإسبانيا “سنة 2005 تبًعا للقانون 13/2005”([18]) .

وها هي الولايات المتحدة الأمريكية تمنح الحق في الزواج للمثليين في حزيران/ يونيو 2015، حيث “تسارع السياسيون، وعلى رأسهم الرئيس أوباما، بالترحيب بالقرار. ووصف أوباما القرار بأنه “انتصار لأمريكا وانتصار للحب،” ملاحظًا أنه يدشن لمرحلة جديدة من الحقوق المدنية في الولايات المتحدة”([19]).

وأكثر من ذلك، ففي بعض المجتمعات العربية-الإسلامية بدأنا نسمع “استغاثات محتشمة” وأحيانًا علانية للدفاع عن المثليين، بحجة أنهم جزء لا يتجزأ من المجتمع وبأنهم “مضطهدون”!

فها هي تي جمعية “شمس” في تونس تنتفض بسبب سجن بعض المثليين في تونس بتهمة المثلية. كما أن هذه الجمعية قد وجهت “في شهر أيار/ مايو الماضي رسالة إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد تذكّره فيها بحساسية منصبه ووجوب التزامه بالدستور التونسي وباب الحقوق والحريات، داعيةً إلى التسريع في المفاوضات مع الأطراف البرلمانية، من أجل اعتبار المحكمة الدستورية الضامن الرئيس لحسن تطبيق القانون”([20]).

وتماشيًا مع ما يحدث في العالم، تأتي المسلسلات لترسيخ الأفكار المثلية عبر منظومة من القيم التي تسيرها.

فمن جهة هنالك بعض القيم السلبية المسيرة في عيّنة المسلسلات التي اعتمدت في هذه الدراسة، والمتمثلة بالكراهية والتهميش والعنف والمعاناة والتمييز. ولكن هذه القيم السلبية تسير في ثلاثة مسلسلات فحسب: The Murdoch Mysteries و New Amsterdamوخصوصًا في Grantchester لأن هذا الأخير يصور في سياق زمني محدد ألا وهو خمسينيات القرن الماضي، حيث كانت ترفض فكرة التحدث عن وجود مثليين، وما بالكم في الاعتراف بوجودهم وبوصفهم جزءًا لا يتجزأ من المجتمع. وحتى إن هذه القيم السلبية لا تسير بصورة شاملة في هذه العيّنة من المسلسلات؛ فهي تعكس ما يتمثله بعض “الأفراد” عن المثليين لتبرزهم في وضعية حساسة ليتعاطف معهم المتلقي غير الواعي بخطورة الموقف. وبالتالي، هذه القيم هي أقل عددًا وتسييرًا من القيم الإيجابية حيث الأخيرة هي الغالبة في المواد السمعية-البصرية قيد التحليل. وتتمثل هذه القيم الإيجابية بـ: الاعتراف والاندماج والمآزرة والحب والاحترام والتضحية والعمل والحرية والمساواة، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على رسالة التفاؤل التي يود القائم بالاتصال إيصالها إلى المتلقي، من خلال تبيين آلام فئة المثليين ومعاناتهم في بعض الحالات، ولكن وخصوصا بتأكيده على قدرة المجتمع على إدماجهم والتعامل “الطبيعي” معهم، بما أنهم يظهرون فعالين يتساوون مع غير المثليين.

وفي الواقع، كل قيمة مرتبطة بأخرى، وفي تناقضها تمثل بنية خطابية لا يمكن اختراقها؛ فالاعتراف بالمثليين في المواد السمعية-البصرية قيد التحليل يؤدي إلى اندماجهم في المجتمع مما يقف أمام تهميشهم. واحترامهم ومحبتهم إنما يقف أمام خطاب الكراهية الذي يوجه إليهم ويتفادى تعنيفهم ومعاناتهم. والتضحية والتفاني في العمل إنما يجعل المثليين يبرزون كفاعلين عبر الأدوار المتعددة التي يؤدونها: في عملهم وفي حياتهم الخاصة كأزواج وكأولياء مسؤولين عن أطفالهم، أمام المعاناة التي يحسون بها والتي تبرز في بعض المشاهد.

فضلًا عن ذلك، فهم يظهرون مساوين لغير المثليين، قادرين على القيام بالوظائف المنوطة بهم على كل المستويات، مما يجعلهم لا يتعرضون للتمييز بسبب توجهاتهم الجنسية.

كما أن الاعتراف بوجودهم هو اعتراف في الواقع بحقهم في الحرية، حرية التعبير عن وجودهم بكل الأشكال الممكنة. وقد اتخذت قيمة “الحرية” في العصر الحديث مآلًا جديدًا، حيث أصبح لها بعدًا عالميًا. ومن بين الأشكال الجديدة التي تتجسد من خلالها قيمة “الحرية” هي الشعارات والمبادئ المنادى بها في العالم من خلال المطالبة بحرية المرأة وحرية الاقتراع وحرية المعتقد وحرية الأقليات… إلخ.

وأضحت المنظومة القيمية في زماننا معيارًا شموليًا، تحاول البلدان العظمى فيه تعميم ما يروق لها من قيم، نافية ما لا يتماشى ومصالحها.

فئة وسائل الإقناع

توضح هذه الفئة كيف أن القائم بالاتصال استخدم منظومة من الوسائل للتأثير في المتلقي.

نتساءل على هذا المستوى عن الحجج وأساليب الإقناع التي تستخدم من طرف القائم بالاتصال لإقناع المتلقين والتأثير فيهم.

وهذا يدفعنا إلى تحديد وظيفة الاتصال الإقناعي المتمثلة بالبحث عن إقناع المخاطَبين بفحوى الرسالة عبر عدة تقنيات:

– “الإقناع عن طريق تقديم صورة حسنة عن الذات وتدعى: Ethos

– الإقناع عن طريق التأثير في عواطف وأحاسيس المتلقي وتدعى استمالة النفوس: Pathos

– وأخيرًا استهداف عقل المخاطب وتفكيره عن طريق الحجج والبراهين: Logos”([21]).

وعند تحليل عينة المواد السمعية-البصرية، يتضح بأن القائم بالاتصال استخدم كل التقنيات الثلاث والمتمثلة بتقديم صورة حسنة عن الذات وفي الإقناع من طريق التأثير في عواطف وأحاسيس المتلقي، واستهداف عقل المخاطب وتفكيره عن طريق الحجج والبراهين. وفي الواقع هذه المستويات الثلاثة هي متكاملة ومتناسقة، حيث كل مستوى يكمل الثاني ويمنح له معنى.

فكل المسلسلات التي تم تحليلها إنما تستظهر الشخصيات التي تمثل أدوارًا مثلية على أنها فعّالة في المجتمع؛ فمن يمثل هذه الأدوار هم إما مقاتلون يدافعون عن ذويهم وأقاربهم بكل قوة وتفان حتى لا يصيبهم أي ضرر، أو هم مختصون في تخصصات متعددة، أو لديهم قوى خارقة يوظفونها ضد الشر، أو أولياء يسهرون على أمن واستقرار أسرهم، و”كأزواج” مثاليين؛ فهم ناجحون في حياتهم المهنية والخاصة على حد سواء، باستظهار صور عن نجاحاتهم واندماجهم في المجتمع، وأيضًا من خلال صور تبين مدى معاناة البعض منهم من “التهميش”، حيث يظهر الذين يهمشون المثليين على أنهم أناس غير “عاديين” وغير إنسانيين ولا ينتمون إلى فئة المتحضرين.

كان ذلك على المستوى الأول. أما على المستوى الثاني، فيركز القائم بالاتصال في العينة المنتقاة على مشاهد حساسة، كمشاهد تصور اضطهاد المثليين واحتقارهم، ومشاهد أخرى تجسد ما يمكن أن يحدث بين المثليين من إغراء وحياة “زوجية” تعرض على أنها “طبيعية” بين أفراد من جنس واحد، يعيشون في مجتمع أقر هذا النوع من العلاقات وجعل لها إطارا مؤسساتيا ليحافظ عليها.

وعلى المستوى الأخير، فقد لوحظ بأن جل المدعوين لتمثيل أدوار مثلية يقومون بأدوار رئيسية وليست ثانوية، حتى يتعود المتلقي على وجودهم.

فضلًا عن ذلك، فإن عدد المثليين في كل مسلسل مهم؛ فهنالك مسلسلات لا تستدعي سوى مثلي واحد. ولكن، هنالك أخرى يصل عدد المثليين فيها إلى اثني عشر ممثلًا، وبالتأكيد أن التأثير لن يكون بنفس الحدة في كلتا الحالتين الاثنتين!

علاوة على ذلك، فإن الوظائف المؤداة من طرف الممثلين الذين يمثلون أدوارًا مثلية تجعل المتلقي يؤمن بفعاليتهم في المجتمع، وبالتالي لا يمكن أن تصدر ضدهم أي أحكام قيمة تحط من قيمتهم كأعضاء فعّالين بحكم توجهاتهم الجنسية.

كما لوحظ تركيز المسلسلات ليس على التمثلات حول المثلية فحسب، ولكن – وبشكل خاص على المشاهد المثلية الجنسية-، بغية جذب المتلقي المؤيد لهذا النوع من العلاقات وتعويد الآخرين عليها. وهذه الصور ليست خاصة بالمثليين (ذكورًا أو إناثًا) فحسب، بل أيضًا بالمتحولين الجنسيين وثنائيي الجنس، بجعل هذه المسألة تظهر عادية وطبيعية، ليس إلا!

وما يرسخ الصور النمطية للمثليين في هذه العينة هو تقنية التكرار  (Repetition)لتأثيرها القوي في المتلقي الذي ليست لديه دائمًا نظرة نقدية اتجاه القضايا التي يتعرض إليها في الميديا، من خلال تكرار الصور النمطية الإيجابية عن المثليين، وتكرار عدد الممثلين الذين يمثلون أدواترًا مثلية، وتكرار المشاهد التي تصور تصرفات مثلية، وأيضًا من طريق تكرار تأدية جلهم أدوارًا رئيسية.

وإذا ما اعتمد التكرار كطريقة للقياس الكمّي، فيعني ذلك بكل بساطة أن العملية تتمثل بـ”تسجيل عدد مرات ظهور هذه الوحدة أو تلك (…)([22])، وهو حال اعتماد الباحث على الوحدات أو الفئات كوحدة عد عند تكرار ظهور فئة القيم في خطاب رئيس دولة ما على سبيل المثال. ويرتكز هذا الاختيار أو ذلك على مبدأ أن أهمية الظاهرة هي في علاقة وطيدة بتكرار ظهورها.

وحسب الهدف من الدراسة، فقد يلجأ الباحث عند استخدامه لهذه الطريقة إلى منح “لكل عدد من التكرارات نقطة واحدة أو أن يقسم احتمالات ظهور الفئات أو الوحدات إلى فئات تكرارية”([23]).

فالتكرار يوظف في الميديا بغرض تثبيت بعض القيم، بغية توجيه سلوك المتلقي، إذ القائم بالاتصال ينطلق من فكرة أنه كلما تكررت الرسالة كلما كان احتمال إقناع المتلقي كبيرًا. فهو يعَدّ تقنية تستخدم في الاستمالة النفسية، كأسلوب تقني يستخدم للتأثير في المتلقي، والذي يعتبر من أنجع السبل لتغيير الآراء وتوجيه الرأي العام.

فسلوك المتلقي يعَدّ ممكنا للتوجيه، من خلال ضخ مجموعة من الرسائل التي تتكرر بشكل مستمر.

وتبعًا لعلماء النفس والمختصين في العلوم الإدراكية يمكن أن يؤثر التعرض المتكرر أيضًا في إدراك الشخص للحقيقة، إذ “التكرار يزيد من الحقيقة المتصورة حتى عندما يتعارض البيان مع ما نعرفه بالفعل”([24]).

فهذا الواقع “يجعل الناس يعتقدون بأن المعلومات صحيحة بعد التعرض المتكرر والمتكرر لها – وليس بعد التحقق من الحقائق أو تحليل المصداقية، بعد التعرض المتكرر”[25].

كما يؤكد هؤلاء المختصون أن للبشر استعدادًا على تقبل الرسائل المتكررة، بفعل أن ذلك “يولد الألفة. وإذا لم يكن هناك شيء آخر فإن التكرار يجعل الأشياء تبدو مهمة ولا تُنسى”[26]، وخصوصًا أن هذه المسلسلات أضحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية والتي يمكن أن نتابعها لسنوات طوال، كما هو حال مسلسل The Young and the Restless الذي بدأ عرضه منذ 1973 أو مسلسل Walking dead الذي شرع في عرضه منذ 2010 إلى يومنا هذا*.

وهذا بالفعل ما ينتظره القائم بالاتصال عندما يكرر بث نفس الرسالة في مدة معينة، إذ يخضع منطق متابعة المسلسلات التي تعرض علينا لمبدأ أن تكرار بث نفس النماذج إنما سيؤدي حتمًا إلى تبني تلك المنظومة الفكرية والتي مفادها أن المثليين جزء لا يتجزأ من المجتمع. وبالتالي، يتعين أخذهم بعين الاعتبار، بل وأكثر من ذلك يتعين مأسسة وجودهم، عبر سن قوانين تحفظ “حقوقهم” تتجسد من طريق مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة.

ويؤدي التكرار عدة وظائف. “بداية، هو يضمن الاحتمال الكبير بأن يتأثر الفرد بالرسالة (…) ثانيًا، هو يرفع احتمال أن ينتبه الفرد إلى الرسالة (…) وفي الأخير، يرفع ذلك احتمال أن يفك تشفير الرسالة بشكل جيد”[27].

فالتكرار يستند إلى مبدأ أنه كلما كانت الرسائل متكررة كلما كانت فرص تلقيها من طرف المتلقي كبيرة. ثم، إن تكرار الرسالة نفسها سيجعل المتلقي حتما ينتبه إلى محتواها. وفي الأخير، التكرار كمسار يرفع من احتمال أن يتم فك تشفير الرسالة تبعا لما يهدف إليه القائم بالاتصال، بمعنى أن يتطابق التشفير (الذي يقوم به القائم بالاتصال) مع فك التشفير (الذي يقوم به المتلقي).

من هذا المنظور، تكمن خاصية المسلسلات التي تستمر لعدة فصول في تعويد المتلقي على المشاهدة المستمرة التي لا نهاية لها.

فالغرض من المواد “الترفيهية” هو الاسترخاء. بيد أن مشاهدة عدة حلقات دفعة واحدة(Binge Watching)  خصوصًا عبر المنصات الرقمية يؤثر في صحة المتلقي الذي يشاهد ما يحبه لساعات طوال، فتتأثر بلا ريب حاسة النظر لديه ووضعية الجسد في حالة جلوسه بطريقة غير صحيحة لمدة طويلة.

أما على المستوى النفسي والاجتماعي، فالمشاهدة المستمرة للمسلسلات تجعل المتلقي يحبذ الاستئناس بالشخصيات بدلًا من وجود علاقات اجتماعية ملموسة؛ فقد لوحظ اكتئاب العديدين بفعل انتهاء موسم مسلسلهم المفضل، مما يجعلهم ينتظرون المواسم المقبلة بقلق!

وحتى وإن كان فعل المشاهدة هذا يحفز التفاعل الاجتماعي من خلال التعليقات المنشورة حول ما شوهد، بيد إن لذلك تأثير سلبي؛ فالمضامين التي نشاهدها باستمرار نضحى مدمنين عليها بفعل هرمون المتعة (Dopamine) الذي يرسل للجسد رسالة تجعله يحس بالمتعة ودائم التطلع لمشاهدة المزيد من حلقات مسلسله المفضل، إلى درجة أن بعض المختصين يشخصون هذه الحالة بالإدمان.

فقد أضحت المسلسلات جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، منظمة وقتنا وأولوياتنا، عبر نماذج الأبطال التي تعرض علينا عرضًا.

فلا يجب أن ننسى بأن البطل يُعدّ “النموذج الأمثل الذي يتوحد به المتلقي، مع الأخذ بالاعتبار أنه قد تسود في زمن معين نماذج لأبطال وسلوكيات معينة”[28] مانحًا للعمل الفني بعدًا جماليًا يشد انتباه المتلقي.

كما لا يجب أن ننسى ما ينجر عن فعل التلقي من مشاعر مختلفة، “كالإعجاب والتعاطف والشفقة على الشخصية الضعيفة وبين الدهشة والاستهزاء والهزء”[29]، إلى درجة تجعل المتلقي يتقمص في بعض الحالات شخصية البطل أو البطلة، أو على الأقل سيكون لذلك تأثير في طرق تفكيره وفي مخياله.

وبفعل تكون كل مسلسل من عدد لامتناهٍ من الحلقات، ذلك يجعل المتلقي يقبل عليه إقبالًا ويضطر اضطرارًا إلى متابعته للتعرف إلى نهايته. فكم من مسلسل قمنا بمشاهدته، وعند تبين “تفاهة” الفكرة التي يحملها، لم ننقطع عن متابعته، إلا بهدف معرفة كيفية انتهاء قصته، وبفعل تعودنا على مشاهدته، ليس إلا!

وفي الواقع هذه المسلسلات بالرغم من تصنيفها ضمن “البرامج الترفيهية”، بيد أن المسألة أعمق من ذلك. فالصور التي نشاهدها كل يوم تدعي الحياد، وتصنف على أنها تنتج وتبث بغرض التسلية والترفيه. بيد أن ذلك هو الجزء البارز من الجبل الجليدي، إذ الكامن أكبر بذلك كثيرًا!

فهي تبث بشكل مستمر “وابلًا” من المسلسلات عبر قنواتها التلفزيونية ومنصاتها المتعددة. والجماهير العربية تنصبّ عليها صبًّا وتقبل عليها إقبالًا، أمام الفراغ البرامجي للقنوات العربية، التي حتى وإن أنتجت بعض البرامج فهي تبقى محتشمة، والتي هي بشكل أو بآخر تعيد بث ما ينتج في العالم الغربي لا غير، بحجة تقريب المتلقي العربي مما يحدث في “الضفة الأخرى” حتى لا يحس بالاغتراب، بدون الأخذ بالحسبان الثوابت المحلية التي تستقى من القرآن والسنّة!

ولكن للتقارب بين الثقافات ثمن ليس بالرخيص. يتطلب الأمر تناسي بعض القيم والمبادئ المحلية، من خلال تبني المنظومة القيمية الذي تبثها الميديا الغربية المختلفة الأشكال والمضامين، من خلال التأثير في المتلقي بشكل لا شعوري.

وقد احتلت مسألة إدماج الأقليات – باعتبار المثليين أقلية – حيزًا مهمًا في مدرسة شيكاغو التي تناولت مسألة إيجاد حل لكيفية إدماج الأقليات.

وهنا، يبرز دور الميديا في عملية التنشئة الاجتماعية التي تحدث عنها روبرت بارك (Robert Park) في دراساته، ولا سيّما مع دور الصحافة آنذاك.

وتأكد هذا الدور في ما بعد مع ظهور التلفزيون وانتشارها بين فئات المجتمع، لما تؤديه في عملية إدماج الأقليات.

فقد قام رواد مدرسة شيكاغو بوصف مورفولوجية المدن الأمريكية بهدف اكتشاف ما يحدث في المدينة، في “أحيائها ومؤسساتها وشبكاتها والجماعات العرقية والمهنية والفئات المدنية المختلفة: الغريب وبدون مأوى والمتشرد”([30]).

ولتفسير كل هذه الظواهر، كان لا بد من استخدام مفهوم الثقافة (Culture). فقد كانت هنالك نزعة ثقافية في علم الاجتماع، بحيث اهتم الباحثون في مدرسة شيكاغو بدراسة التنوع الثقافي الأمريكي، بدلًا من البحث عن براهين تباين وحدة الثقافة بالولايات المتحدة الأمريكية.

وقد “انتهت هذه الدراسات إلى خلق مفهوم جديد ألا وهو مفهوم الثقافة الفرعية (Subculture)، حيث تسهم كل مجموعة اجتماعية بثقافة فرعية خاصة، بكل واحدة منها أنماط تفكير وتصرف مميزة، وفي ذات الوقت فهي تتقاسم الثقافة الشاملة للمجتمع”([31]).

فقد تمكنت مدرسة شيكاغو من الوصول إلى نتيجة مفادها أن الثقافة الأمريكية هي مجموع ثقافات فرعية، كل واحدة تخص جنسًا ما، طبقة ما، انتماءً ما.

وفي الأخير تكون مجتمعة ذلك الكل، النسق الموحد المتمثل بالثقافة الأمريكية.

وقد عرف مفهوم الثقافة رواجًا في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من أي بلد آخر، خصوصًا مع الأبحاث الأنثروبولوجية التي كانت تجعل في مركز اهتماماتها الممارسات الثقافية بكل أشكالها.

لكننا قد نتساءل: لماذا هذا الرواج في الولايات المتحدة بالذات؟

“تتصور الولايات المتحدة الأمريكية نفسها كبلد من المهاجرين، من مختلف الأصول الثقافية، أمة متعددة الأجناس”[32].

فكان أول من اهتم بمسألة المهاجرين وكيفية اندماجهم في المجتمع الأمريكي هم الباحثون في مدرسة شيكاغو، مركزين في تحليلاتهم على مسألة الأجانب في المدينة، باعتبار شيكاغو قد شهدت حتى ثلاثينيات القرن الماضي هجرة كبيرة من مختلف الأجناس، فتكونت “تجمعات بشرية جديدة تمركزت في بعض أحيائها، كما أصبحت مدينة الجنوح والعصابات”[33].

ولكن كيف تستمر الثقافات الفرعية؟

هنا، وللإجابة عن هذا التساؤل، لجأ بعض المفكرين إلى مفهوم آخر ألا وهو مفهوم “التنشئة الاجتماعية” التي هي مسار يتم من طريقه إدماج الفرد في جماعة اجتماعية أو مجتمع ما، عبر تلقينه نموذجًا ثقافيًا معينًا، ليتعلم من خلاله أنماط التفكير والتصرف التي تمكنه من الاندماج في هذه الجماعة الاجتماعية أو ذلك المجتمع.

فقد مكّن مفهوم التنشئة الاجتماعية المفكرين في مدرسة شيكاغو من حل مشكل عويص ألا وهو الوصول إلى تفسير كيفية استمرار الثقافات الفرعية المختلفة داخل ثقافة موحدة، بالتعرف إلى كيفية تعايش ثقافات مختلفة وأحيانًا متعارضة داخل نسق واحد، بإدماج الأفراد المختلفين داخل هذا النسق، بتبنيهم مجموعة قيم داخل “الجماعة المرجعية، تتبناها جماعة الانتماء”[34].

وتبعًا لمرتون (Merton)، يكون البحث عن كيفية اندماج الأفراد المختلفين من ثقافات مختلفة داخل الجماعة المرجعية، حيث يستحوذ الفرد على قيم هذه الجماعة حتى يتمكن من الاندماج.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن للركيزة التي يشاهد عن طريقها مسلسل ما دور لا يستهان به لجلب المتلقي، وخصوصًا أننا اليوم في عهد “الاختيارات المفرطة” بفعل تعدد الركائز الإلكترونية، مما يحول المشاهدة إلى فعل “فردي”، بعيدًا من الجو الأسري التلاحمي، مما يعزز التصرفات الفردانية بشكل مستمر.

خاتمة

لا تسير المسلسلات محتويات ترفيهية حيادية كما يعتقد بعضهم. فهي تحمل منظومة قيمية تود تمريرها للمتلقي، من خلال استراتيجية معينة بغية ترسيخ التوجه الأيديولوجي الذي تود تلقينه إياه، بتوظيف جملة من وسائل الإقناع بغرض التأثير فيه.

فنحن عندما نشاهد مسلسلًا ما فإنما نشاهد بدون أن نعي أسلوب حياة الذي يمكن أن نرفضه في البداية. ولكن، مع مرور الوقت سنقتنع بذلك الأسلوب وحتى إننا سنتبناه.

وبشكل عملي، تكرار مشاهدة نفس الصور وباستعراض صور نمطية معينة بشكل متكرر هو الذي يضمن تبني أفكار جديدة، التي تتغلغل في وجداننا بدون أن نعي، مقتحمة فضاء المحضورات والممنوعات لتتسلل في عقولنا ويتم تبنيها بدون جهاز قهري؛ فقوة الصورة لا تضاهيها أي قوة أخرى… وهذا ما يحدث تحديدًا مع المسلسلات التي كانت تبث إلى زمن ما عبر شاشة التلفزيون، واليوم يمكن مشاهدتها عبر الركائز الإلكترونية المختلفة التي تكون مربوطة بالإنترنت، عبر المنصات المتعددة والتي تعد النتفليكس من أبرزها.

فقد تبين جليا دور التكرار في عينة المسلسلات قيد التحليل لتسيير منظومة من الصور النمطية حول المثلية، من تكرار لعدد الممثلين المدعوين لتمثيل أدوار مثلية، وتأدية العديد منهم لأدوار رئيسية، وتكرار مشاهد تجسد الحياة اليومية للمثليين حتى في أدق تفاصيلها، وعبر تكرار صور نمطية عن المثليين الذين يعرضون على أنهم يقومون بوظائف مفتاحية في المجتمع، على مختلف الأصعدة.

وبالتالي، تعكس عينة المسلسلات التي انصبت عليها هذه الدراسة التمثلات الإدماجية لفئة المثليين.

وتعرض هذه المسلسلات التنوع ولكن ليس التنوع الديني أو الثقافي، بل التنوع الجنسي بكل أشكاله وتجسداته، وكأن العالم الغربي بأسره أضحى مثليًا وثنائي الجنس ومتحولًا جنسيًا، كنماذج جديدة عن الكينونة والوجود، في غياب فراغ برامجي عربي-إسلامي يأخذ بجد المشاكل الاجتماعية التي نمر بها ويعالجها بمنظوره الخاص، في زمن أضحى بمقدور المتلقي في العالم العربي-الإسلامي الربط مع قنوات تلفزيونية والإبحار في أعماق الإنترنت ومشاهدة ما يحلو له، بدون رقابة أو حواجز.

فلا يتعين أن ننسى بأن العروض تعبر في الواقع عن تجليات لعلاقات اجتماعية بين الأفراد التي توظف لأجلها الصور، كحوصلة لرؤية شاملة عن العالم…

وتعَدّ هذه الدراسة مجرد لمحة عامة عن التحولات التي تحدث على مستوى المنظومة السمعية-البصرية، لتفتح الآفاق لدراسات أخرى تسلط الضوء على تطورها، وخصوصا أن بعض المؤشرات المثلية بدأت تسير في العديد من القنوات التلفزيونية في العالم العربي-الإسلامي.

 

قد يهمكم أيضاً  الإعلام والتنمية: الواقع والتحديات في عصر العولمة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التلفزيون #النتفليكس #وسائل_الإعلام #المسلسلات #دور_الدراما #المثلية #الصور_النمطية