مقدمة:

بداية التسعينيات، شهد النظام الدولي تحولات عميقة، نتج منها تشكيل نظام جديد للعلاقات الدولية تمثل بالانتقال من الثنائية القطبية، إلى القطب الواحد. وفي هذه الأوضاع الدولية اتضح أن روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي، ليست في الحقيقة قوة عظمى، فباستثناء قدرتها العسكرية، فإنها لا تملك المقومات التي تجعل منها قوة عظمى اقتصادياً وسياسياً. ورغم هذا، فقد أبقت روسيا على صورة القوة العظمى، ويرجع ذلك إلى امتلاكها القدرة على تدمير الغرب بقوتها الاستراتيجية الضخمة. ومع هذا أصبحت روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي قوة ضعيفة، فكيف استرجعت موقعها كقوة عظمى ذات تأثير كبير في السياسة العالمية وفي النظام الدولي؟

واجهت روسيا مشكلة عويصة تتعلق ببناء مفهوم جديد للسياسة الخارجية، يضع في الاعتبار مكانتها في النظام الدولي الجديد، وأوضاعها الداخلية والخارجية. ولكن كان هناك إصرار في روسيا على أن تسترجع مكانتها وتأثيرها، وتعود قوة عظمى كما كانت. وكان الأمر السائد، أنها إذا أرادت أن تكون قوة عظمى لها تأثير عالمي، فإن سياستها الخارجية يجب أن تكون مختلفة عن سياسات أمريكا، لأن أهمية روسيا ودورها الفعّال، لا يظهر إلا إذا كانت لها سياسة داخلية وخارجية مستقلة‏[1]. غير أن أهم معضلة واجهتها في تحقيق ذلك هي كيفية إعادة بناء سياسة خارجية جديدة في ظل نظام دولي جديد، تهيمن عليه وتنفرد بإدارة شؤونه قوة واحدة هي أمريكا. وكذلك في ظل الأوضاع السيئة التي عاشتها روسيا داخلياً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فقد تراجع أداء الاقتصاد، وحدثت حالة عامة من عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني، كما علت الحركات الانفصالية. ومن ثم واجهت روسيا مشكلة إعادة بناء سياستها الخارجية في ظل الضعف العام الداخلي، وفي ظل وضع دولي تهيمن عليه أمريكا. وتوازى هذا مع صعود قوى جديدة في العالم، كالاتحاد الأوروبي والصين والهند والنمور الآسيوية… وغيرها. وهكذا أصبح على روسيا بناء مفهوم جديد للسياسة الخارجية، في التعامل مع هذه المتغيرات الدولية الكثيرة، ومع الأوضاع الداخلية السيئة المتعاظمة. فكيف أمكن ويمكن لروسيا بناء سياسة خارجية جديدة تتماشى مع مقدراتها العسكرية، ومع الظروف التي خلفتها هزيمتها في الحرب الباردة، ومع معطيات النظام الدولي الجديد ومتغيراته المختلفة والمتنوعة؟

أولاً: وضع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي

بانهيار الاتحاد السوفياتي وتجزُّئه، واجهت روسيا مشاكل عويصة، وبخاصة حماية أمنها القومي، واستعادة مكانتها ودورها كقوة عظمى في السياسة الدولية لأنها تُعتبر الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي الذي كان قوة عالمية ثانية في العالم. فقد أصبحت روسيا ضعيفة؛ فداخلياً يعاني المجتمع الروسي حالة سيئة للغاية في كثير من المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وخارجياً فقدت روسيا مكانة الاتحاد السوفياتي السياسية والاستراتيجية العالمية السابقة، بل إنها أصبحت تابعة وملحقة بالسياسة الأمريكية، لأن النظام الروسي بين أعوام 1991 و2000، ظن أن الانفتاح على الغرب وجعل سياسة روسيا الخارجية تابعة له، هو الطريق الأمثل والخيار الوحيد لإنقاذ البلد من الفوضى في جميع الميادين، للعودة إلى النظام الدولي. ولهذا كانت الآمال المعلقة على الغرب كبيرة جداً، من خلال الحصول على القروض والمساعدات الاقتصادية والمالية، فكان طريق الولاء له بعامة ولأمريكا بخاصة، والانقياد والاستجابة لضغوطاتهما المتنوعة: الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، وبخاصة بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية ومشاكل روسيا الأخرى. كل ذلك أدّى دوراً في تقهقر روسيا إقليمياً وعالمياً، ما أدى إلى تحولها من فاعل رئيس مؤثر في السياسة العالمية، إلى مجرد مراقب رمزي للأدوار، رغم أنها ما زالت القوة النووية الثانية في العالم، وتملك القوة الفعلية وإمكانات القوة الكامنة، ومكانة في منظمة الأمم المتحدة كعضو دائم في مجلس الأمن، وما زالت قوة كبرى من حيث المساحة والسكان والناتج القومي والثروات الطبيعية، وكذلك القوة العسكرية التقليدية.

1 – الوضع الداخلي

رأى الرئيس يلتسين (1991 – 2000) أن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، يكون بالتحول إلى النظام الرأسمالي دفعة واحدة (سريعاً)، أي العلاج بالصدمة، عكس آلية العلاج التدريجي‏[2]. وهذا الانتقال السريع تطلّب اتخاذ عدة إجراءات مهمّة وخطيرة منها: خفض الميزانية؛ تحرير الأسعار؛ إصلاح النظام الضريبي وخصخصة القطاع الاقتصادي… إلخ. لكن هذه الإجراءات أدت إلى فوضى سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، إذ إنَّها أضعفت دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، ما أدى إلى الانخفاض المستمر في الإنتاج الصناعي والزراعي، وتدهور الأوضاع الداخلية بشكل حاد. كما تدهور الاقتصاد الخارجي، وزادته الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية والآسيوية بخاصة تدهوراً. هذا أدى بدوره إلى انخفاض 50 بالمئة من صادرات روسيا، وتدهور التبادل التجاري لها، كما تفاقمت الديون عام 2001 فبلغت 175.9 مليار دولار، ما أدى إلى دخول البلاد في فوضى عارمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، وتحولت روسيا من بلد منتج إلى بلد يعتمد على استيراد أكثر من 70 بالمئة من المواد الغذائية وغيرها وأصبحت فقط مصدرة للمواد الخام كالمعادن والأخشاب والذهب والألماس والبترول والغاز.

أدت الإصلاحات المتطرفة إلى رفع يد الدولة في تحديد أسعار السلع وتركها إلى آلية السوق المجحفة، أي تحريرها المفاجئ والسريع من دون وضع قيود محددة، وتركها لفوضى السوق، أي السماسرة والمافيا والطفيليين. كل هذا أدى إلى ارتفاع فاحش في الأسعار وبخاصة أسعار المواد الضرورية، نتج منه انفجار التضخم، والذي أدى بدوره إلى انهيار شبه كلي للاقتصاد الروسي، وإلى أزمة مالية حادة، أدت إلى انهيار شبه كامل للنظام المالي، مع هبوط قيمة العملة الروسية الروبل. كما كان هناك انخفاض في ميزانيات التنمية الاقتصادية، وانخفاض الإنفاق والاستهلاك، وانخفاض الضمان الاجتماعي، وفي متوسط الأجور ورواتب التقاعد. هذه الأوضاع انعكست سلباً على المستوى المعيشي للغالبية العظمى من السكان، والذي كان له تأثير في الانخفاض المستمر للإنتاج الصناعي والزراعي… وغيرهما. وهذه الانعكاسات السلبية الاقتصادية والاجتماعية، أدت إلى انعكاسات أخلاقية وأمنية، فارتفع معدل الجريمة والفساد وانعدام الأمن والاستقرار‏[3].

2 – الوضع الخارجي‏[4]

بسقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه، وجدت روسيا نفسها معزولة عن العالم الخارجي. إضافةً إلى مواجهتها مشاكل ومصاعب داخلية كثيرة، واجهت مصاعب ومشاكل خارجية معقدة، بسبب الأوضاع الدولية المتوترة اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً‏[5]. وبسبب ما شهده العالم من تطورات وتحولات بل وتغيرات مهمّة غيرت كثيراً من المفاهيم التي ظلت سائدة، إذ أصبحت العلاقات الدولية أكثر ترابطاً وتعقيداً وتداخلاً في عدة مجالات: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية وأمنية‏[6]. وشملت هذه التغيرات أسس النظام الدولي كلّها، ومهدت لبداية مرحلة جديدة تعرف أشكالاً وتفاعلات مختلفة، حيث تراجعت بعض القوى وبرزت أخرى بدلاً منها، وتقهقرت استراتيجيات وتقدمت أخرى، وتكونت علاقات جديدة تحكمت في مصير العالم. لقد حدث تغير جوهري في النظام الدولي، الذي شهد تقسيماً جديداً للعمل‏[7]. وكل هذه المتغيرات والأحداث، تركت انعكاسات سلبية على روسيا وعلى سياستها الخارجية‏[8].

3 – السياسة الروسية الخارجية (1992 – 2000)‏[9]

إنَّ انتهاء الحرب الباردة وبروز متغيرات جديدة في النظام الدولي، إضافة إلى العوامل الداخلية الروسية، أثرت كلها في مكانة روسيا دولياً، وفرضت على سياستها الخارجية معطيات جديدة، لزم التكيف معها وإدارتها بما يحقق بعض المكاسب، ويحفظ بعض المصالح الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية. ولهذا وجب على صنّاع السياسة الخارجية، الأخذ بهذه المعطيات الدولية والظروف الداخلية والخارجية في الاعتبار عند تحديد مختلف التوجهات الكبرى الهادفة إلى بناء سياسة روسيا الخارجية خصوصاً ما يحقق المصلحة المرجوَّة: الاقتصادية والأمنية بخاصة. وكان يلتسين من أنصار الاتجاه الغربي الذي يرى أن روسيا دولة غربية، فكانت توجهاته متوافقة والسياسات الخارجية الأوروبية والأمريكية بخاصة‏[10].

إذاً أثرت متغيرات البيئة الداخلية والخارجية في توجهات السياسة الخارجية الروسية، وشكلت قيوداً حقيقية عليها في هذه المرحلة التي سميت مرحلة إعادة البناء، ووجد يلتسين نفسه مجبراً على العمل في عدة جبهات للخروج من التدهور الاقتصادي والاجتماعي والأمني. فهو يحتاج إلى المساعدات الخارجية للاستجابة للمطالب التنموية والاجتماعية، وهو أيضاً يحتاج إلى المحافظة على استقلال روسيا وحرية قرارها، وبناء سياسة خارجية مستقلة. وإنه لمن الصعوبة قيام سياسة خارجية تبحث عن المساعدات الأجنبية وتعتمد أساساً على النصيحة الغربية في التخطيط وتنفيذ برنامج اقتصاد السوق والخوصصة، وفي الوقت نفسه تحقيق سياسة خارجية مستقلة‏[11]. وهكذا فإن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لروسيا، اقترن باتباع سياسة خارجية ضعيفة في هذه الفترة والتي جعلت هدفها الاندماج مع العالم المتحضر، وتجاهل المصالح القومية الروسية، ولأهمية الجوار الإقليمي‏[12] فأصبحت روسيا دولة منقادة سياسياً واقتصادياً، تسير في فلك السياسة الأمريكية‏[13].

كانت هذه حال روسيا الداخلي والخارجي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وكذا كانت سياستها الخارجية. لكن هذه السياسة تغيرت بوصول بوتين إلى الحكم سنة 2000، والذي أعاد لروسيا مكانتها وموقعها في السياسة العالمية معتمداً في ذلك على مقومات مهمّة تملكها روسيا، ساعدتها في تبني وتنفيذ سياسة خارجية قوية ومؤثرة. فما هي السياسة الخارجية الجديدة؟ وما هي مقوماتها؟ وكيف نفذت؟ وما هي الصعوبات التي واجهتها؟

ثانياً: السياسة الروسية الخارجية الجديدة (2000 – 2015)

وصلت إصلاحات يلتسين سنة 2000 إلى طريق مسدود في كل المجالات، وأوصلت روسيا إلى حافة الانهيار التام كدولة وكمجتمع، وتراجعت مكانتها ودورها العالميين، وتحولت إلى دولة تابعة ومنفذة للأوامر الأمريكية. وفي ظل هذه الظروف الداخلية السيئة، والضغوط الدولية المجحفة، حدث تغير في هرم السلطة بوصول بوتين إلى الحكم، فأحدث ثورة في كل المجالات، وفي السياسة الخارجية وفي دور روسيا‏[14]. فكيف تجددت هذه السياسة الخارجية؟ وما هو مجال تنفيذها في أرض الواقع؟ وكيف استعادت روسيا مكانتها العالمية؟

1 – تجديد الدور الروسي في العالم

كانت هناك رغبة وإرادة لدى القيادة الجديدة بأن يعترف العالم بحق روسيا في استرجاع المكانة التي فقدتها وفي جعلها تتصرف كقوة كبرى بمسؤوليات عالمية. ولهذا ركزت هذه القيادة على ذلك، وواجهت صعوبات بعضها متعلق بترتيب الأوضاع الداخلية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، وبمحدودية القدرات الاقتصادية، وصعوبات خارجية، فرضها النظام الدولي الجديد، الذي يمتاز ببروز أهمية العامل الاقتصادي وزيادة التحالفات والتكتلات الإقليمية، وبروز قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والعولمة. ولكن الصعوبة الأكبر هي هيمنة أمريكا على السياسة العالمية، وعدم سماحها مع الغرب لروسيا بالقيام بدور مؤثر في هذه السياسة.

أشرت هذه المرحلة إلى عهد مختلف في تاريخ السياسة الروسية الخارجية نحو السعي إلى تحقيق المصالح الاستراتيجية لروسيا، وإعادتها إلى مكانتها العالمية. فأضفى بوتين على هذه السياسة دينامية جديدة بتغيرات وبتقديرات براغماتية تعي جيداً المواقع الملائمة والأدوار التي على روسيا أن تؤديها على الساحة الدولية. فتطلب الأمر ضرورة استقرار الجبهة الداخلية، بسبب التداخل بين السياسة الداخلية والخارجية؛ فبدأ بخوض حرب ضد عدو لدود هو المافيا المالية وعصب الفساد، وإعادة بناء اقتصاد قوي، واستقرار سياسي واجتماعي، وتحقيق انسجام داخلي واسع يساند السياسة الخارجية الجديدة، وكذلك محاربة الانفصال في القوفاز والشيشان، إضافةً إلى تحريك الآلة العسكرية. كما بدأ في رسم دوائر حمراء لمصالح روسيا الاستراتيجية في الداخل والخارج، ووضع نظرة استراتيجية في علاقة روسيا الخارجية وبخاصة مع أمريكا، ونجح في ذلك بسبب الدعم القوي من الشعب الروسي له. وتميزت السياسة الخارجية الروسية الجديدة بالبراغماتية، أي إعطاء الأولوية للمصالح القومية، وتغليب النظرة الواقعية؛ حيث سعى بوتين إلى خلق تأثير روسي في المجال الإقليمي السوفياتي السابق، كطريقة إلى تحسين المكانة الروسية عالمياً. كما ركز على تطوير فكرة روسيا قوة عالمية تمتد على قارتين، وكذا ضمان حريتها واستقلالها من أجل تنفيذ سياستها الداخلية والخارجية‏[15].

وهكذا هدفت السياسة الروسية الخارجية الجديدة إلى تطوير دور روسيا في عالم متعدد الأقطاب، لا يخضع لهيمنة قوة عظمى واحدة، والعمل على استرجاع دورها في آسيا والشرق الأوسط ومناطق أخرى، وعدم السماح للغرب بتهميش هذا الدور، وبخاصة إعادة هيمنة روسيا على دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، ودول آسيا الوسطى وذلك للحفاظ على الأمن القومي الروسي، والتحكم في النزاعات العرقية في الجوار الإقليمي. ولهذا عملت هذه السياسة على وقف محاولات التحرر لهذه المنطقة من الهيمنة الروسية، لأنه إذا لم تقم روسيا بذلك، فإن الفراغ الناتج ستملؤه دول معادية ومنافسة لروسيا، وتمثل مصدر تهديد لها. إذاً، عملت روسيا على إعادة بعث دورها، لتكون قطباً دولياً جديداً، مستغلة في ذلك ما تملكه من مقومات تاريخية وجغرافية وعسكرية واقتصادية، سنتناولها لاحقاً. فعملت على إعادة بناء اقتصادها الداخلي، وبناء مؤسساتها، وتعزيز قواها العسكرية والنووية، لردم الهوة بينها وبين الغرب والتي أحدثها انهيار الاتحاد السوفياتي. فروسيا التي ورثت تركة مهمة من ثروة هذا الأخير المعنوية والعسكرية، ظهرت ذليلة أمام هجوم أمريكا الكاسح، وأمام طموحات هذه الأخيرة وسياسة مصالحها وجيواستراتجيتها في العالم. غير أن روسيا بدأت تستعيد وعيها وقواها المختلفة، باعتبارها قوة عظمى تقف على الساحة العالمية، وتقاوم لإثبات وجودها ودورها‏[16].

إذاً، شهدت روسيا تحولات عميقة على صعيد مقومات القوة الكلية، بما يشمل ذلك من الانسجام والتماسك السياسي الداخلي، والقدرة العسكرية، والأداء الاقتصادي، والمكانة الدولية، لأنها ترى أنه لا يمكنها أن تكون فاعلاً رئيساً مع انكماش اقتصادها، ولا يمكن أن يكون لها دور مؤثر دولياً، إلا إذا كانت قوية‏[17]. وكانت هذه التحولات من القوة والسرعة بحيث لا نجد مثيلاً لها في العالم الحديث، وبخاصة بعد الهزات والأزمات الحادة، والارتباك السياسي الكبير، وهيمنة أقلية واسعة الثراء على شؤون السياسة والاقتصاد والإعلام، وانفلات المشكلات العرقية، وتفشي الفساد والجريمة المنظمة وغياب الاستقرار والأمن. في ظل هذه الأوضاع شكلت السياسات التي اتُّبعت منذ سنة 2000، محاولة إصلاحية شاملة لمعالجة الاختلالات الضخمة التي حدثت، والاستفادة من المكانة الدولية للاتحاد السوفياتي السابق، من خلال العمل على إعادة هيبة الدولة، وإصلاح الاقتصاد وبنائه، وقمع الحركات الانفصالية الداخلية، وتطوير القدرة العسكرية. تم ذلك ببناء القوة الذاتية الروسية بشكل مستقل عن النماذج الغربية الجاهزة. فحدثت تحولات عميقة في ميادين مختلفة كانت لها انعكاساتها الإيجابية على توجيه السياسة الروسية الخارجية، تمثلت هذه التحولات في الأمور التالية:

أ – تحولات السياسة الداخلية

كانت السياسة الداخلية ميدان التركيز المهمّ لبدء تنفيذ الجهود الإصلاحية بسبب الاختلالات الكبيرة على مستوى النظام السياسي، ومستوى الأداء الاقتصادي، والأحوال الاجتماعية والأمنية. فقد كان هناك تدهور شامل قبل 2000. فتم القيام بإصلاح سياسي واقتصادي شامل بعد التخريب الكبير الذي تعرضت له الدولة طيلة فترة التسعينيات؛ تم ذلك وفق نظرة براغماتية تأخذ في الحسبان الظروف الداخلية والمتغيرات الدولية. وتركزت النظرة الإصلاحية على طموحات واسعة في مجالات إعادة هيبة الدولة، والنهوض الاقتصادي، والتصدي للنزعات الانفصالية، ورفض أي تدخل خارجي فيها‏[18]، ومحاربة الفساد والجريمة المنظمة بملاحقة الطغمة المالية والصناعية المتهمة بذلك، وإعادة الأمن والاستقرار للبلاد. حقق بوتين بإحكام قبضته على روسيا هدفه الأساسي بإدخال الإصلاحات على نظام الدولة، وإعادة بنائها بشكل قوي ومستقر.

ب – التحولات الاقتصادية

في سنة 2000 ورثت روسيا تركة اقتصادية ثقيلة، إذ كان الاقتصاد يعاني حالات تدهور متعددة: تفاقم الديون التي وصلت أكثر من 200 مليار دولار، عجز الحكومة عن تسديد رواتب الموظفين والجنود في مواعيدها، انتشار الفقر، وارتفاع معدل البطالة إلى أكثر من 20 مليوناً، وتراجع الإنتاج الصناعي والزراعي بعد توقف الإنتاج في 50 بالمئة من المؤسسات الصناعية، منها 70 بالمئة من الصناعات الثقيلة، كما اختفت الاحتياطات الذهبية، إلى جانب تفشي الفساد والرشوة وسيطرة عصابات المافيا على جل ميادين النشاط الاقتصادي والمالي، وانتشار الجريمة وانفلات الأمن. وكان لكل ذلك انعكاسات على تراجع السياسة الروسية الخارجية ودور روسيا في الاقتصاد العالمي، حيث انشغلت بمشاكلها الداخلية، وتخلت عن دورها في الكثير من القضايا الدولية. ولذلك كان أول ما طرحه بوتين هو أقصدة السياسة الخارجية، أي خلق بيئة اقتصادية جديدة في روسيا‏[19]. ونتيجة لذلك نما الاقتصاد الروسي نمواً كبيراً، وانتعش النشاط الاقتصادي. ففي نهاية 2001 حقق هذا الاقتصاد أفضل أداء له، كما زاد التحسن في مناخ الاستثمار وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية، وانتعش سوق الأسهم وبخاصة في قطاع المحروقات، كما ظهر فائض الموازنة العامة للدولة والميزان التجاري، وارتفع احتياطي البنك المركزي من الذهب والعملات الصعبة. وتمكنت روسيا من تسديد ديونها، وتم التقليل من الاعتماد على المساعدات من صندوق النقد الدولي. كما ارتفعت مداخيل السكان، فارتفعت الأجور بنسبة 90 بالمئة، ومعاشات المتقاعدين بـ 80 بالمئة، وتراجع معدل البطالة‏[20]. ومع نهاية 2008، أصبح الاقتصاد الروسي يختلف بشكل كبير عما كان عليه في التسعينيات، وتوقعت التحليلات آنذاك، أن تصبح روسيا القوة العالمية الرابعة اقتصادياً في عام 2010.

ج – السياسة الطاقوية

روسيا عملاق في مجال الطاقة، فهي تملك سابع أكبر احتياطي نفطي في العالم بـ 4.6 بالمئة كما أنها أكبر دول العالم في احتياطات الغاز الطبيعي بـ 35 بالمئة. ولذلك أصبحت أكبر منتج للنفط في العالم سنة 2006، والأولى في تصدير الغاز، والثانية في تصدير النفط ومشتقاته. ولكل هذا زاد النفوذ النفطي الروسي في الأسواق العالمية وبخاصة الأوروبية. كل هذا سمح لروسيا ببناء سياسة طاقوية، تضمن استقلالية القرار الخارجي لها وتطوير قدراتها الدفاعية، وتحقيق قدرة على التأثير وممارسة دور فاعل على المستويين الإقليمي والعالمي‏[21].

وهكذا فقد نجح (بوتين) في وقف التدهور والتخبط الذي عانته روسيا، واستطاع تكوين إدارة قوية للحكم إذ عمل على إعادة البناء الداخلي، والنهوض بالقدرات الشاملة لروسيا، واستعادة مكانتها إقليمياً ودولياً، مما مكنها من تجاوز الوضع الاقتصادي غير المستقر، وإعادة التماسك الاقتصادي والاجتماعي، وتحقيق الأمن والاستقرار، وبعث الروح القومية. وفي كل هذا استطاع بناء القوة الذاتية الروسية باستقلالية عن النماذج الغربية الجاهزة، مستفيداً مما تملكه روسيا من مقومات مهمّة. فما هي هذه المقومات؟

2 – مقومات السياسة الروسية الخارجية الجديدة

لروسيا مقومات القوى الكبرى، وهذا ما ساعدها على النهوض واسترجاع مكانتها العالمية، وبخاصة بوجود القيادة الواعية القادرة على استغلال هذه المقومات جيداً‏[22].

أ – المقومات الجيوسياسية‏[23]

تمثل روسيا مفترق طريق بين قارتي أوروبا وآسيا. ومن هذا يظهر الموقع الجيوسياسي المهمّ لها. فمن حيث المساحة، تعتبر روسيا أكبر دولة في العالم بأكثر من 17 مليون كلم2 (أكبر من تسع مساحة العالم). وهي تمتد على طول 10 آلاف كلم من الغرب إلى الشرق‏[24]. وهذه المساحة الشاسعة تعتبر أحد أهم عناصر القوة الروسية من منظورين مهمّين هما:

المنظور الأمني: فبفضل هذا العمق الجغرافي، نجحت روسيا من دون غيرها من الدول الكبرى في هزيمة نابليون في عام 1810، وهتلر في عام 1941. ورغم التقدم التكنولوجي العسكري، وظهور الصواريخ عابرة القارات ودورها في الاستراتيجيات الحربية، فإن العمق الجغرافي ما زال أحد أهم عناصر القوة الروسية.

المنظور الاقتصادي‏[25]: وهذه المساحة الشاسعة غنية بالثروات الطبيعية المهمّة، بها حوالى 220 مليون هكتار من الأراضي الزراعية، و120 ألف نهر يبلغ طول كل منها 10 كلم فأكثر، وأهمها نهر الفولغا أطول الأنهار في أوروبا، ونهر لينا. وهناك 2 مليون بحيرة عذبة ومالحة، أهمها بحيرة بايكال أكبر وأعمق بحيرة في العالم بعمق 1620م، وطول 636 كلم، ومتوسط عرض 48 كلم، وبها حوالى 20 بالمئة من احتياطي المياه العذبة في العالم بـ 23 ألف م3. كما تطل روسيا على كثير من البحار، أهمها بحر قزوين أكبر بحيرة مالحة في العالم. ويوجد في هذه البحار الكثير من الموانئ المهمّة، وبخاصة على بحر البلطيق، وعلى بحر بارنيتس في الشمال، وعلى البحر الأسود، وفي فلاديستوك على المحيط الهادي.

هذه المقومات الجغرافية جعلت القيادة الروسية الجديدة تضع أولويات لسياستها الخارجية الجديدة تبعاً لمعطيات الجيوسياسية، وليس تبعاً لمعطيات الأيديولوجية التي انهارت‏[26]. فقد أدركت هذه القيادة أهمية هذا الجانب الجيوسياسي لبلدها باعتباره قلب العالم الأوراسي‏[27].

ب – المقومات السكانية

روسيا هي خامس أكبر دول العالم في عدد السكان (144 مليون نسمة)، ورغم معاناتها حالياً من انخفاض معدلات المواليد، فإنه من المؤكد أنها من أكبر دول العالم سكاناً، ولها قوة بشرية متعلمة ومدربة جيداً، فلا تتجاوز الأمية 2 بالمئة من إجمالي السكان فوق 15 سنة، كما أن لديها قاعدة من العلماء في مختلف التخصصات المهمّة. وهذا يعتبر مقوماً مهمّاً من مقومات قوة الدولة، أي الكم والنوع.

ج – المقومات الاقتصادية

تملك روسيا الكثير من الموارد الطبيعية، وتعد من أغنى دول العالم، فهي تمتلك سابع أكبر احتياطي نفطي في العالم بـ 49 مليار برميل، ما يعادل 4.6 بالمئة من الاحتياطي العالمي‏[28]، ما يجعلها ثاني أكبر منتج ومصدِّر بعد السعودية، إذ تنتج 7.5 مليون برميل يومياً، وتصدر حوالى 3.2 مليون برميل يوميا من النفط الخام، أي 40 بالمئة من إجمالي الصادرات العالمية، وحوالى 70 مليون طن من منتجات التكرير سنوياً. وتملك 29 مصفاة بقدرة انتاجية تزيد على 9 ملايين برميل يومياً‏[29]. كما أنها أكبر دول العالم في احتياطات الغاز الطبيعي بـ 35 بالمئة، بحوالى 54.3 تريليون م3‏[30]، ومن ثم فمن الجانب النفطي تعتبر روسيا قوة اقتصادية عظمى. كما يوجد فيها معادن أخرى ذات أهمية كبرى مثل الحديد والنيكل والألماس والفوسفات والفضة والرصاص والذهب والأخشاب. وفي الميدان الزراعي، وكما أشير قبل قليل، تضم 220 مليون هكتار من الأراضي الزراعية و120 ألف نهر‏[31]. والأزمة الاقتصادية التي مست روسيا في السنوات الأخيرة، لم تكن لضعف الإمكانات والمقومات الاقتصادية، بل بسبب سوء تسيير وإدارة الموارد المتاحة وتوظيفها، وكذلك بسبب عدم الاستقرار السياسي. ومع تغير القيادة منذ عام 2000 وتحقيق الاستقرار الداخلي، استرجع الاقتصاد الروسي عافيته، وشهد انتعاشاً وتحسناً بل وازدهاراً واضحاً. ويظهر ذلك من خلال تحقيق إنجازات معتبرة في الاقتصاد الكلي: ارتفاع الناتج القومي الإجمالي وارتفاع نسبة نموه الحقيقي، ارتفاع نصيب الفرد من هذا الناتج، انخفاض معدل التضخم، وانخفاض نسبة البطالة، إضافة إلى تحسن أداء المؤسسات الاقتصادية. كما ارتفعت وتيرة الاستثمارات الحكومية، ما خلق جواً مناسباً للاستثمارات الخارجية. فمثلاً في 2002 بلغ النمو الاقتصادي 4.7 بالمئة، وفي 2003 حقق 7.3 بالمئة‏[32]. كما يرجع هذا التحسن والازدهار في الاقتصاد لارتفاع أسعار الصادرات، وتحصين الاقتصاد ضد اضطرابات أسعار المواد الخام في الأسواق العالمية، بإنشاء صندوق الاستقرار، وهو صندوق الادخار من مبيعات النفط، الذي بلغ رصيده عام 2004، 13.5 مليون دولار، وارتفع خلال 2005 إلى 17 مليون دولار. كل هذا يدل على عودة روسيا بقوة إلى الساحة الاقتصادية الدولية.

د – المقومات الاستراتيجية والعسكرية

ظلت روسيا في العهد السوفياتي لأكثر من نصف قرن، قوة عسكرية عظمى متكافئة مع أمريكا، بل ومتفوقة عليها في الأسلحة التقليدية. وورثت عنه أسلحة متنوعة وبخاصة ترسانته النووية الاستراتيجية‏[33]: 90 بالمئة من القوات الاستراتيجية النووية، 85 بالمئة من قوات الأسلحة التكتيكية النووية، 85 بالمئة من القوات البحرية، 58 بالمئة من القوات البرية، 79 بالمئة من الصواريخ العابرة للقارات، 100 بالمئة من الغواصات النووية، 90 بالمئة من القاذفات بعيدة المدى، وأكثر من 12 ألف رأس نووي استراتيجي‏[34]. وفي ظل التدهور العام، شهدت روسيا تدهوراً واضحاً لجيشها وتراجعاً في قدراتها البحرية، إلا أنه بوصول بوتين إلى الحكم، أعطى اهتماماً لإعادة تنظيم الجيش والأسطول، بما يمكّن روسيا من استعادة قدراتها العسكرية والحفاظ على مصالحها ومكانتها كقوة كبرى‏[35]. ورغم أن الصناعات العسكرية ومبيعات السلاح، كانت من أكثر الميادين تأثراً بانهيار الاتحاد السوفياتي، إذ عانت تدهوراً كبيراً بسبب تراجع الطلب الداخلي والخارجي وانتشار حالة الفوضى والارتباك والفساد في التعامل الحكومي مع قطاع الصناعة العسكرية طيلة التسعينيات‏[36]. ورغم هذا استطاع هذا القطاع أن يحافظ بل ويسترجع أهميته من خلال مبيعات السلاح الخارجي، والتي تحولت إلى ركيزة أساسية للاقتصاد الروسي منذ 2000، إذ أصبحت مصدراً مهمّاً للدخل القومي، وأداة لتعزيز مكانة روسيا على الساحة الدولية؛ فروسيا هي ثاني أكبر دولة بعد أمريكا في مبيعات السلاح في العالم. وهناك مقومات عسكرية غير مادية وهي الجوانب التنظيمية والكفاءة والخبرات المكتسبة في الحروب والمعنويات، وهي عوامل أساسية في الجانب العسكري، فمثلاً نجد أن أول رجل فضاء هو روسي، ونسبة المتعلمين في روسيا هي 90 بالمئة، وروسيا دولة متقدمة في هندسة الصواريخ وعلم المعادن، ولها نخبة كبيرة جداً من العلماء والمهندسين في علوم الرياضيات والذرة، حيث الروس هم الأفضل في العالم عددا وكفاءة.

و – المكانة الدولية لروسيا

روسيا هي الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي، الذي كان قوة عظمى. فكما ورثت قدراته العسكرية النووية والاستراتيجية والتقليدية، ورثت مكانته الدولية ومقعده في مجلس الأمن. وزيادة على هذا، ففي حزيران/يونيو 2000 حصلت روسيا على العضوية الكاملة في مجموعة الـ 8 الصناعية الكبرى، وتولت رئاستها في اجتماعات مناقشة القضايا الاقتصادية والمالية وغيرها. كما تم في أيار/مايو 2002 إنشاء مجلس مشترك بينها وبين حلف الناتو، يسمح بمعاملتها كشريك متكافئ مع باقي دول الحلف ما يمكنها من اتخاذ قرارات مشتركة في عدد من المجالات الدولية المهمّة.

من خلال تناول مقومات السياسة الخارجية الروسية، يتضح أن روسيا تمتلك مقومات الدول الكبرى من المنظور الجوسياسي والسكاني والعسكري، كما أن اقتصادها بدأ في التحسن الكبير ما يسمح لسياستها الخارجية بممارسة دور أكبر وأكثر فاعلية في العلاقات الدولية، حيث انعكست مقومات هذه السياسة الخارجية وعناصر قوتها على الوسائل المتاحة لتنفيذها، وبخاصة الأداة الدبلوماسية بسبب مكانة روسيا الدولية ومقعدها الدائم في مجلس الأمن والأداة العسكرية بسبب قدراتها العسكرية، وتوظيف ترسانتها النووية الضخمة لخدمة مصالحها وأهدافها‏[37].

ثالثاً: مكانة روسيا اليوم ودورها في العالم

إذاً أصبح لروسيا مكانة دولية مهمّة بسبب امتلاكها ترسانة نووية عظيمة، وقاعدة ضخمة للتصنيع العسكري، ما يعطيها إمكان توظيف مبيعاتها العسكرية كأداة فعالة في سياستها الخارجية، بالإضافة إلى موقعها الجيوسياسي، وغناها بالثروات، واستعادة اقتصادها عافيته، وتحقيق الاستقرار والأمن الداخليين. وقد حاولت الاستفادة بذكاء من كل هذه الإمكانات والمقومات وحققت نجاحات مهمّة في وضع أسس جديدة للعلاقات الاستراتيجية بعامة ومع الغرب بخاصة، كما استطاعت أن تعطي نفسها صورة مخالفة للتي تعودَّها الغرب، وذلك بدعوتها إلى إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، بديلاً من الهيمنة الأمريكية على العالم‏[38]. لقد سلكت روسيا اليوم أسلوباً جديداً في سياستها الخارجية، يقوم على التركيز على مصالحها القومية وشعورها بأنها دولة قوية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، ولها علاقات جيدة مع العديد من الدول، وأنها ستكون منافساً قوياً للغرب، وتالياً فمن حقها المطالبة بمكانتها الصحيحة في العالم‏[39]. ولإعادة تبيان مكانتها ودورها، انطلقت من توجهاتها الكبرى في سياستها الخارجية، فتم إحياء الجدل حول هويتها الأوروبية والآسيوية، ولهذا تراوحت سياستها الخارجية بين توجهين أساسيين: توجه أورو - أطلسي، وتوجه أوراسي جديد، بتأكيد المواقع الروسية في هذا المجال وهذان التوجهان يهدفان إلى فرض روسيا كقوة عظمى على الساحة الدولية‏[40].

1 – التوجه الأورو - أطلسي، أو العلاقات مع الغرب

في ما يخص هذا التوجه، استطاعت روسيا إعادة طرح نفسها كقوة أوروبية ذات عمق آسيوي. وقبل هذا ظهر تياران في السياسة الخارجية الروسية: تيار المواجهة مع الغرب، وكان متمسكاً بالحفاظ على استقلالية السياسة الخارجية، وتعزيز قدرات روسيا العسكرية، وتيار المهادنة الذي تبناه يلتسين طيلة التسعينيات، والذي انجرف وراء الغرب بسبب المعونات الاقتصادية والمالية. وبين هذين التيارين قامت السياسة الروسية الخارجية الجديدة على واقعية تنطلق من إدراك حقيقي لحدود القدرات الروسية وطبيعة المتغيرات الدولية المتسمة بهيمنة قطب واحد: أمريكا. وهذا التوازن الدقيق بين محدودية القدرات الروسية والمتغيرات الدولية، دفع بوتين إلى تبني سياسة خارجية واقعية، تقوم على التخلي عن التوسع السوفياتي السابق والصراع الأيديولوجي، ولكن مع عدم الانجراف وراء الغرب، بل أصبحت روسيا عازمة على تأكيد مكانة دولية مؤثرة لها، بحيث لا تنفرد أمريكا بذلك.

إذاً تبنت روسيا في عهد بوتين وفي ظل سياسته الواقعية توجهاً وسطياً في علاقته مع الغرب، يقوم على أن الشراكة الاستراتيجية معه، لا تعني التحالف، بل تعني اتخاذ موقف متوازن، وعدم فقدان ما تبقى لها من مواقع على الساحة الدولية، رافضاً موقف التيار اليميني الليبرالي المهادن الداعي إلى توثيق العلاقات مع الغرب في المجالات كلّها، باعتبار ذلك مصلحة استراتيجية وحيوية لروسيا، والتيار المحافظ المتشدد الذي يطالب باستعادة روسيا دورها كقوة عظمى، وأن سياسة المهادنة أدت إلى تراجع مكانتها الدولية. ورغم الضغوط التي مارسها التيار الأول، مستفيداً من سيطرته على الاقتصاد والمال والإعلام، فإن السياسة الروسية الخارجية الجديدة ظلت على مستوى الممارسة الواقعية، تقوم على تبني مواقف متوازنة إزاء القضايا الإقليمية والدولية، من دون ربط هذه السياسة بالمواقف والسياسات الأمريكية‏[41]. إلا أن المشكلة التي واجهت بوتين في علاقاته مع الغرب، لم تكن فقط في عدم تجاوب هذا الأخير مع محاولاته التقارب والتنسيق في القضايا السياسية والاستراتيجية والاقتصادية الدولية، ولكن في اتباع الغرب وبخاصة أمريكا، مواقف اعتبرتها روسيا تهديداً مباشراً لمصالحها وأمنها، مثل توسيع الناتو شرقاً، وتبني أمريكا برنامج الدرع الصاروخي، والوقوف ضد انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية، وتوثيق العلاقات الاستراتيجية مع بعض دول القوقاز التي تعتبرها روسيا عمقاً استراتيجياً لها، ودعم أمريكا لأنظمة مناوئة لروسيا في بعض دول أوروبا الشرقية وبخاصة أوكرانيا. كذلك استقلال كوسوفو بدعم غربي إذ رأت روسيا أن الانحياز للموقف الغربي ضد صربيا لا يعني تخليها عن حليف أساسي فقط، بل أيضاً إنهاء نفوذها في منطقة البلقان ذات الأهمية الحيوية لها، وتراجعاً لمكانتها على الصعيد الدولي. ولهذا أيدت صربيا ورفضت أي تسوية لا تقبلها.

كانت هذه الخلافات سبباً في اتجاه روسيا نحو الاهتمام بإقامة شراكة استراتيجية مع بعض القوى الدولية مثل الصين والهند، لمواجهة أمريكا كقطب وحيد على الساحة الدولية‏[42]. ورغم هذا، فقد أبدى بوتين منذ البداية رغبته في توثيق العلاقات التي كانت متوترة مع الغرب، وذلك استناداً إلى تصور السياسة الخارجية المتبنى في حزيران/يونيو 2000 والذي يعتبر أمريكا والدول الأوروبية شركاء حتميين. ولهذا طورت روسيا مواقفها تجاه أمريكا: تخفيف اللهجة تجاه العديد من القضايا، والتخلي عن المعارضة المستمرة للسياسة الأمريكية. ثم تطورت الأمور إلى انفتاح في العلاقات معها، وبخاصة بعد لقاء بوتين وبوش في حزيران/يونيو 2001. وسمحت هذه البراغماتية الجديدة بفتح آفاق في تطوير الشراكة مع دول أوروبا في ما يتجاوز مجرد العلاقات الاقتصادية فقط.

وكانت روسيا قد وقعت اتفاقية الشراكة من أجل السلام مع الناتو في آذار/مارس 1994، بما يعني الاعتراف بها كقوة كبرى. وفي كانون الثاني/يناير 1996 انضمت إلى المجلس الأوروبي. وفي حزيران/يونيو 1996 إلى مجموعة الـ 8. كما أصبحت عضواً في نادي باريس للدائنين‏[43]. وعندما قرر بوتين دعم أمريكا الكامل في حربها العالمية ضد الإرهاب، استغلت روسيا ذلك في تحقيق مزايا في سياستها الخارجية، باعتبار حربها في الشيشان تدخلاً في إطار الحرب العالمية ضد الإرهاب كذلك. ورغم هذا التوافق مع الغرب فلم يمنع ذلك من بروز مظاهر لاختلافات عميقة في إطار لعبة توازن المصالح. ويتجلى ذلك في مناطق مختلفة من العالم، حيث أدى التقاطع الاستراتيجي فيها إلى وصول هذه العلاقات إلى الاختلاف في المواقف.

وتمثل مناطق الاختلاف والصراع في آسيا الوسطى والعراق وإيران وكوريا والشرق الأوسط وشرق أوروبا، أهم مناطق التوتر التي تعكس لعبة اختلاف المصالح الاستراتيجية‏[44]. وعمل الغرب من جهته على توسيع الناتو شرقاً، ليضم جل دول حلف وارسو المنهار، من دون مراعاة مخاوف روسيا التي تركت خارج الحلف معزولة، رغم شراكتها معه. وقبلت روسيا هذا التوسيع بتحفظ، لكنها اعترضت بقوة على مشروع ضم أوكرانيا وجورجيا، وعلى نشر أمريكا درعاً صاروخية بالقرب من حدودها، بسبب قناعتها الراسخة بأنها مستهدفة. بل إن الغرب تعامل مع روسيا باستخفاف على أنها ضعيفة ولا تستطيع مواجهته، ولكنه لم ينتبه لنهضتها ومقدار قدراتها، ما يمكنها من التأثير في القضايا الدولية المهمّة. غير أن الغرب مع هذا رأى أن روسيا ليست دولة مارقة، فهي لا تمارس الإرهاب أو تشجعه، لذلك فهما شريكان في مواجهة خطره. وإذا كانت أوروبا تعتمد على روسيا بتزويدها بجزء من حاجاتها للغاز والنفط، فإن روسيا تستفيد هي من الاستثمارات الغربية. وتالياً فروسيا والغرب بحاجة إلى بعضهما، إذ تجمعهما مصالح مشتركة متنوعة.

وهكذا، فإن السياسة الخارجية الروسية تجاه الغرب، أصبحت أكثر براغماتية وأكثر تحرراً من القيود الأيديولوجية بزوال التناقض الأيديولوجي معه، وتحولت العلاقات بينهما من الصراع والتنافس، إلى الشراكة الاستراتيجية القادرة على احتواء الخلافات وتسويتها بما يضمن لروسيا حماية مصالحها وأمنها.

إذاً، عادت روسيا كقوة كبرى، ولكن بنظرة وأولويات مختلفة لسياستها الخارجية، تختلف تماما عن تلك التي حكمت السياسة السوفياتية الخارجية لأكثر من 70 عاماً، وهي لا تريد مجاراة الغرب ومعاداته، وإنما تسعى إلى حماية مصالحها وأمنها القوميين.

2 – اتجاهات السياسة الروسية نحو آسيا، أوالعلاقات مع الشرق

لخص بريجنسكي وضع روسيا في دول آسيا الوسطى بقوله: «روسيا هي أضعف كثيراً من أن تستطيع إعادة فرض سيطرتها الإمبريالية، ولكنها أقوى كثيراً من إمكانية إخراجها منها. ولأسباب جغرافية وتاريخية، ثقافية وعرقية واستراتيجية، سوف تستعمل روسيا الوسائل المتاحة من أجل محاولة حماية مصالحها في المنطقة»‏[45]. نعم تحاول روسيا استعادة حالة التوازن السياسي والاقتصادي في آسيا وآسيا الوسطى، والحد من سعي أمريكا المستمر إلى الانفراد وجذب دولها للسير في فلكها، وتشجيعها على الانضمام إلى الناتو بهدف تطويق روسيا جغرافياً وعسكرياً وإضعاف دورها في المنطقة وفي العالم‏[46].

وتدور اتجاهات السياسة الروسية الخارجية نحو آسيا على محور استراتيجي مهمّ، وهو الشراكة مع الدول المؤثرة في سياستها تجاه دول آسيا الوسطى، مثل اليابان والصين والهند‏[47]. واتبع هذا التوجه نحو آسيا وآسيا الوسطى لتؤخذ مصالح روسيا هناك بالاعتبار، ولتقوية علاقاتها مع الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي. فعدم حصول روسيا على اعتراف الغرب بمكانتها ومحاولاته تطويقها، دفعها إلى التقرب من الصين ومن بعض دول آسيا الوسطى دفاعاً عن النظام الدولي متعدد الأقطاب. ويقوم هذا التوجه على أن روسيا هي دولة أوروبية وآسيوية كذلك، وتالياً فإن عليها توجيه سياساتها نحو هذا العالم، ففيه تقع روسيا وفيه توجد مصالحها، ومنه تأتي مصادر التهديد الأساسية لأمنها. ولهذا أقامت روسيا عدة تحالفات، هدفت من خلالها إلى إعادة التأثير على آسيا الوسطى، أهمها: كومنولث الدول المستقلة منذ 1994. ومنظمة تعاون آسيا الوسطى‏[48] ومنظمة شانغهاي منذ 1996، والتي ضمت روسيا والصين ودول آسيا الوسطى‏[49].

وإذا كانت السياسة الخارجية تسعى إلى تحقيق الأمن، فإنها تسعى إلى تقوية الروابط الاقتصادية والتجارية لتحقيق الاستقرار المادي والاقتصادي. وبسبب معضلة الاقتصاد المتدهور، سعت روسيا إلى توسيع العلاقات الاقتصادية مع دول المنطقة خصوصاً تحت مظلة منظمة شانغهاي للتعاون، ورابطة الدول المستقلة. فأقامت شراكة مع الدول الآسيوية المهمّة وبخاصة الصين واليابان والهند‏[50]. وركزت السياسة الجديدة هناك على القوة الناعمة، وتخلت تدريجياً عن التوجه السوفياتي القائم على نشر قواتها العسكرية للحفاظ على مكانتها الجيوسياسية، عاملة على تطبيق توجهها الأوراسي في ما عُرف بـ «مبدأ بوتين».

رابعاً: معضلات السياسة الروسية الخارجية الجديدة

تواجه روسيا عدة معضلات في تنفيذ وتحقيق سياستها الخارجية، منها ما هو داخلي، أي حالة الأوضاع الداخلية الصعبة. ومنها ما هو خارجي، نابع من المحيط الذي تتحرك فيه والذي يتميز بهيمنة أمريكا. وكان الاهتمام الكبير داخلياً يتمثل في استرجاع روسيا عافيتها اقتصادياً، والقضاء على المشاكل الاجتماعية، وحماية تماسك الدولة وأمنها. ورغم ما تحقق من إنجازات، فإن هذه المسائل الداخلية ما زالت تُعتبر من المعضلات الكبرى التي تواجهها السياسة الروسية الخارجية؛ ما يتطلب بذل جهود أكبر لتجاوزها، والانطلاق في تنفيذ السياسة الخارجية بحرية وسهولة أكبر من هذه العوائق. أما المعضلات الأخرى، فنابعة من المحيط الذي تتحرك فيه روسيا التي تسعى إلى إبراز دورها واستعادة مكانتها العالمية، وهي متأكدة أن القوى الغربية تعارض ذلك بشدة ولا تكتفي بجعلها ضعيفة، بل تسعى بجد إلى عزلها وتطويقها، في الوقت الذي تسعى هي إلى إثبات نفسها ومكانتها وإجبار الغرب على الاعتراف بذلك. ولهذا فإن التوسع الغربي – وبخاصة الأمريكي – في مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق، يثير مخاوف روسيا التي تعتبره تدخلاً في شؤونها وتحدياً لأمنها؛ بل إن الهيمنة الأمريكية على هذه المناطق تهدد هوية روسيا الأورو - آسيوية وتقلل من دورها الإقليمي ثم العالمي. وهي متأكدة بأنها لو لم تستطع تأكيد دورها الإقليمي في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق، لفشلت في تأكيد نفسها كقوة عظمى‏[51]. وما سلوكها في جزيرة القرم وأوكرانيا مؤخراً، إلا دليل على هذا. وأهم المعضلات التي تواجه السياسة الروسية الخارجية هي:

1 – المعضلة السكانية

لهذه المعضلة أهمية كبيرة وبخاصة بسبب صعوبة الحلول المقترحة لمواجهتها وإمكان تأثيرها السلبي بقوة في توجهات روسيا الخارجية ومكانتها عالمياً، بل وتأثيرها في مستقبلها ككيان. وتعود هذه المعضلة إلى انخفاض عدد سكانها، الذي أصبح يمثل تهديداً خطيراً للأمن القومي الروسي ولمستقبل روسيا، وبخاصة أن نسبة الانخفاض كبيرة جداً لم تشهدها أي دولة. ففي خطاب لبوتين عام 2001 أبدى اهتماماً كبيراً بهذه المشكلة، حيث اعتبر أن عدد سكان روسيا يتناقص بمعدل 750 ألف نسمة سنوياً، وهناك احتمال أنه في عام 2050 سوف يصبح عدد السكان أقل من 22 مليوناً، وأنه إذا استمر هذا الانخفاض بهذه النسب، فسيكون هناك تهديد حتى على بقاء الدولة الروسية. وفي خطاب آخر في 10 أيار/مايو 2006 أمام الدوما، أعلن أن عدد سكان روسيا خلال عام 2005 تناقص بـ 700 ألف نسمة، وحذر من احتمال انقراض الشعب الروسي إذا استمرت نسب الانخفاض كما هي‏[52]. ومن الواضح أن يكون للانخفاض هذا، انعكاسات سلبية ومخاطر كثيرة وبخاصة في المديين المتوسط والطويل على المجالات كلّها، ومنها مجالا السياسة الخارجية والمكانة العالمية لروسيا كقوة.

2 – المعضلات الاقتصادية‏[53]

رغم الإنجازات الاقتصادية الكبرى التي حققتها روسيا منذ عام 2000، إلا أنه ما زال الكثير من المعضلات التي تواجه النمو الاقتصادي وبخاصة مستوى أداء الاقتصاد، وانعكاس النمو الاقتصادي على معيشة السكان. إضافةً إلى قدرة الاقتصاد الروسي على الاندماج في الاقتصاد العالمي، وذلك أن مكانة روسيا في هذا الاقتصاد تعتمد على قدرة اقتصادها على مواصلة النمو بمعدلات مرتفعة. وتظهر بعض مظاهر المعضلات الاقتصادية في روسيا في عدد من القضايا أهمها: ارتفاع معدلات التضخم بنسب كبيرة، والتبعية للخامات ومخاطر تراجع أسعارها في الأسواق العالمية، وخطر الأزمة المالية العالمية، لأن روسيا لا ترتبط بالاقتصاد العالمي بأسعار الخامات فقط، بل وبتدفق رأس المال. كما يواجه الاقتصاد الروسي معضلة رئيسية وهي نقص الأيدي العاملة، وبخاصة في القطاع الزراعي بسبب النزوح إلى المدن وتراجع عدد السكان كما أشرنا.

3 – المعضلات الأمنية

منذ البداية وروسيا تواجه معضلات أمنية كبيرة، بدأت بالنشاط الإرهابي، وبخاصة في الشيشان والمناطق المجاورة لها، بل امتدت إلى روسيا نفسها، وإلى موسكو العاصمة، إضافةً إلى تفشي الجريمة بمختلف أنواعها وعدم الاستقرار الداخلي. وهناك معضلات أمنية لروسيا في جوارها الإقليمي وفي جوارها الأوسع، والتي تتمثل بخاصة بـ‏[54]:

(أ) الوجود الأمريكي في آسيا الوسطى والقوقاز؛ (ب) إقامة الدرع المضادة للصواريخ في شرق أوروبا، و(ج) توسيع مجال الناتو.

خاتمة

تناولنا في هذه الدراسة سياسة روسيا الخارجية اليوم، والتي من خلالها تعمل على استعادة دورها ومكانتها العالمية التي فقدتها بسقوط الاتحاد السوفياتي. وتبعاً لنظرية الدور، فإن كل دولة ذات موقع استراتيجي وتراث تاريخي وحضارة متميزة، وذات قوة اقتصادية وعسكرية، تشعر بواجبها بل وبحقها في المشاركة في تحديد مصير العالم حتى وإن كانت وسائلها في مرحلة معينة محدودة. وهذا الأمر ينطبق على روسيا تماماً. فالتحولات الكبرى التي مست بنيان النظام الدولي، والتغيرات الداخلية فيها، أدت إلى تغيير شكل صناعة القرار الروسي، فأصبح للمتغيرات الاقتصادية والمجتمعية والنسقية والخارجية دور كبير. أما أهداف السياسة الخارجية الروسية، فبقيت طويلة المدى، إذ لا تزال روسيا تعتبر نفسها قوة كبيرة بمسؤوليات عالمية، ولها رغبة في خلق عالم متعدد الأقطاب. أما وسائل تحقيق ذلك فهي الوسائل العسكرية. فرغم تراجع هذا العامل مقارنة بالعامل الاقتصادي الصاعد، إلا أن استئثار روسيا وأمريكا بقدرة الردع النووي لا يزال يعطي لها قوة دفع متميِّزة. وتسعى روسيا إلى تأدية دور حامي المنطقة في إقليم أوراسيا، أي أن تكون زعيماً إقليمياً، ومن ثم السعي إلى الدور العالمي عبر بوابة تعددية الأقطاب. وطغت على توجهاتها النزعة الواقعية كبديل من الأيديولوجية، فلم تعد تتخذ قرارات لإثبات الوجود فقط بل لخدمة مصالحها. ومن خلال الأحداث الإقليمية والعالمية التي استأثرت باهتمام السياسة الخارجية الروسية، يظهر اعتماد تعددية الأقطاب بشكل متواصل، من سراييفو 1994، إلى كوسوفو 1999، إلى العراق 2003، إلى غيرها من الأحداث، حيث استعملت روسيا تعدد الأقطاب كوسيلة رئيسة للدبلوماسية الروسية. ففي غياب آليات أكثر إقناعاً، حاولت روسيا تدارك التراجع الكبير في دورها على الساحة العالمية، باستخدام هذه الآلية التي تحولت إلى عقيدة راسخة في سياسة روسيا الخارجية في التعامل مع مختلف الأزمات والقضايا في مختلف المناطق، وبخاصة مع الغرب، من أجل ضمان توازن القوى، الذي يسمح لها بالتصرف كقطب عالمي.

في المدة الأخيرة، وفي الوطن العربي، نجد أن روسيا خسرت كثيراً من النفوذ هناك لمصلحة الغرب بعامة وأمريكا بخاصة، ولكنها تريد الآن أن تعود بقوة وتحاول ذلك، ومساعدتها للنظام السوري، وتزايد نشاطها العسكري في سورية، رغم القلق الغربي الظاهري، يدخل في هذا الإطار (أي العودة)، وذلك لأن الساحل السوري يمثل آخر محطة لها في المنطقة العربية، وفي المتوسط. ولهذا يجب الحفاظ على مصالحها ونفوذها هناك. وفي المدة الأخيرة وفي ما يخص السياسة الروسية في الوطن العربي، فإننا نجد أن روسيا، كما يقول قادتها، لا تريد للتجربة الليبية أن تتكرر في سورية.

وهناك من يرى أنه يجري تفاهم روسي – أمريكي – إيراني – إسرائيلي على صنع شرق أوسط جديد، تؤدّي فيه روسيا مع هذه القوى الدولية والإقليمية دوراً مهمّاً. ولهذا نجد أمريكا في المدة الأخيرة، تخفف اللهجة تجاه سياسة روسيا في سورية.

أما السياسة الروسية الحالية في أوكرانيا، فإن روسيا كذلك تحاول بجد حماية مصالحها ونفوذها هناك، وما ضمّها جزيرة القرم، وكذلك تدخلها القوي ومساعدتها الكبيرة المعارضة الأوكرانية، رغم العقوبات الغربية عليها، إلا دليل على ذلك.

وفي الآونة الأخيرة هناك من يربط بين السياسة الروسية في سورية وتلك التي في أوكرانيا، ويرى أن روسيا تحاول إبرام اتفاق سياسي مع الغرب في سورية، مقابل تنازلات غربية لها في أوكرانيا.

وفي كل هذه التحركات للسياسة الروسية الخارجية، يظهر أن روسيا تحاول أن تعود بقوة مؤثرة إلى المسرح العالمي كله .

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في المجلة العربية للعلوم السياسية، العددان 47-48.

(**) محمد مجدان‏: أستاذ العلاقات الدولية، جامعة الجزائر 3.

البريد الإلكتروني:        medjden.mohammed@outlook.fr

[1] غراهام فولر، «هل روسيا دولة عظمى؟،» الجزيرة نت (3 تشرين الأول/أكتوبر 2004)، <http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2004/10/3/%​d​9​%​8​7​%​d​9​%​8​4​-​%​d​8​%​b​1​%​d​9​%​8​8​%​d​8​%​b​3​%​d​9​%​8​a​%​d​8​%​a​7​-​%​d​8​%​a​f​%​d​9​%​8​8​%​d​9​%​8​4​%​d​8​%​a​9​-​%​d​8​%​b​9​%​d​8​%​b​8​%​d​9​%​8​5​%​d​9​%89>.

[2]   Patricia Foucart et Bruno Ruffin, La Russie en recomposition, Zoom géo (Paris: Ellipse Marketing, 2004), p. 38.

[3]   نورهان الشيخ، صناعة القرار في روسيا والعلاقات العربية – الروسية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998)، ص 24.

[4]   مي قابيل، «تكلفة الفساد في روسيا،» السياسة الدولية، السنة 37، العدد 143 (كانون الثاني/يناير 2001)، ص 236 – 238.

[5]   نجم الدليمي، «الاقتصاد الروسي وسياسة (العلاج بالصدمة) ودور المؤسسات المالية والاقتصادية في عملية الانهيار الاقتصادي،» موقع الناس الإلكتروني (1 أيار/مايو 2009)، <http://al-nnas.com/article/​ndulemi/1k.htm>.

[6]   لمى مضر الأمارة، المتغيرات الداخلية والخارجية في روسيا الاتحادية وتأثيرها على سياستها تجاه منطقة الخليج العربي في الفترة 1990 – 2003 (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2003)، ص 59.

[7]   سمير طرابلسي، «قيام الاتحاد السوفياتي وسقوطه: محنة الشمولية،» المعرفة، العدد 63 (أيلول/سبتمبر 2000)، ص 56 و89، وروبرت أ. باستوري، رحلة قرن: كيف شكلت القوى العظمى بنية النظام الدولي الجديد، ترجمة هاشم أحمد محمد (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2000).

[8]   «توسيع حلف شمال الأطلسي ومؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي وموقف روسيا،» مجلة الحدث (أنقرة)، العدد 1 (كانون الأول/ديسمبر 1994)، ص 47.

[9]   الأمارة، المتغيرات الداخلية والخارجية في روسيا الاتحادية وتأثيرها على سياستها تجاه منطقة الخليج العربي في الفترة 1990 – 2003، ص 47.

[10] المصدر نفسه، ص 210.

[11] طلال نظام الدين، «لماذا تلعب روسيا دوراً في الشرق الأوسط،» الباحث العربي (لندن)، العدد 48 (آذا/مارس – حزيران/يونيو 1998)، ص 20.

[12] يفجيني بريماكوف، العالم بدون روسيا: قصر النظر وعواقبه، ترجمة عبد الله حسن (دمشق: دارالفكر، 2010)، ص 25.

[13] عبد الصادق علي، روسيا والبحث عن دور جديد: العرب في السياسة الخارجية الروسية (أبو ظبي: شركة بن دسمال للطبع، 2003)، ص 37.

[14] Anne de Tinguy, «Vlademir Poutine et l’occident: L’Heure est au pragmatisme,» Politique étrangère, no. 31 (mars 2001), pp. 514 and 533.

[15] ليليا شيقتسوقا، روسيا بوتين، ترجمة بسام شيخا (بيروت: الدار العربية للعلوم – ناشرون، 2000)، ص 470.

[16] Michael MacFaul, «What are Russian Foreign Policy Objectives: Testimony before the House Commitee on International Relations,» Carnegie Endowment for International Peace (Washington) (1 May 1999), <http://carnegieendowment.org/1999/05/01/what-are-russian-foreign-policy-objec​tives/​157f>.

[17] «روسيا بوتين.. السعي وراء المكانة المفقودة،» مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية (القاهرة) (2005).

[18] Isabelle Facon, «La Politique extérieure de la Russie de Poutine,» Fondation pour la Recherche Strategique (2000), <http://www.diplomatie.gouv.fr/fr/IMG/pdf/FD001305.pdf>.

[19] Jean Radvanyi, Les États postsoviétiques: Identités en construction, transformations politiques, trajectoires économiques, U (Paris: Armand Colin, 2004), p. 107.

[20] انظر هذه المقومات، في: الشيخ، صناعة القرار في روسيا والعلاقات العربية – الروسية، ص 7.

[21] Jean Touscos, Atlas Geostrategique: Crises, Tensions and Convergences (Paris: Larouse, 1998), p. 40.

[22] الأمارة، المتغيرات الداخلية والخارجية في روسيا الاتحادية وتأثيرها على سياستها تجاه منطقة الخليج العربي في الفترة 1990 – 2003، ص 15 – 16.

[23] نورهان الشيخ، «روسيا والعالم الإسلامي: بين خبرات الماضي وآفاق المستقبل،» العالم الاستراتيجي (2005)، ص 321.

[24] موسى الزغبي، الجيوسياسية والعلاقات الدولية: أبحاث في الجيوسياسية وفي شؤون العلاقات الدولية المتنوعة (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 2004)، ص 100.

[25] أحمد العلو، «روسيا: قلب العالم يخفق من جديد،» مجلة الجيش اللبناني، العدد 262 (نيسان/أبريل 2007).

[26] Hossein K. Ardebili, «The Caspian Sea: Its Resources, its Legal Status and its Future,» OPEC Bulletin, vol. 28, no. 3 (March 1997), p. 10.

[27] Kambiz Manafi, «Refining Oil Balances and Trade in the Black Sea, Tran Caucasian and Central Asia Republiques,» OPEC Bulletin, vol. 24, no. 8 (September 1993), p. 9.

[28] Ardebli, Ibid., p. 10.

[29] الأمارة، المتغيرات الداخلية والخارجية في روسيا الاتحادية وتأثيرها على سياستها تجاه منطقة الخليج العربي في الفترة 1990 – 2003، ص 21.

[30] الشيخ، «روسيا والعالم الإسلامي: بين خبرات الماضي وآفاق المستقبل،» ص 321 و323.

[31] فريتز إيرماث، «روسيا،» في: مجموعة مؤلفين، التقييم الاستراتيجي، تحرير زلمي خليل زاد (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 1997)، ص 106 – 107.

[32] غازي فيصل، «السياسة الخارجية الروسية تجاه المشرق العربي بين الفاعلية والانكفاء،» ورقة قُدِّمت إلى: العرب والقوى العظمى: العرب وروسيا (ندوة)، المائدة الحرة؛ 20 (بغداد: بيت الحكمة، 1998)، ص 110.

[33] الشيخ، «روسيا والعالم الإسلامي: بين خبرات الماضي وآفاق المستقبل،» ص 323.

[34] أحمد إبراهيم محمود، «الصناعات العسكرية الروسية: تدعيم الاقتصاد والمكانة الدولية،» السياسة الدولية، العدد 170 (تشرين الأول/أكتوبر 2007)، ص 125.

[35] «الدبلوماسية ووسائل السياسة الخارجية،» معهد الإمام الشيرازي الدولي للدراسات (واشنطن)، <http://www.siironline.org/alabwab/derasat(01)/329.htm>.

[36] R. Craig Nation and Dmitri Trenin, «Russian Security Strategy under Putin: US and Russian Perspectives,» Strategic Studies Institute (November 2007), pp. 25-26.

[37] شملال يوسف العيسى، «نهوض الدب الروسي،» معهد الإمام الشيرازي الدولي للدراسات (واشنطن)، <http://www.siironline.org/alabwab/maqalat&mohaderat(12)/1280.htm>، وغازي دحمان، «روسيا بوتين.. قطب دولي أم دولة ممانعة؟،» الجزيرة نت (15 تشرين الثاني/نوفمبر 2007)، <http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2007/11/15/%​d​8​%​b​1​%​d​9​%​8​8​%​d​8​%​b​3​%​d​9​%​8​a​%​d​8​%​a​7​-​%​d​8​%​a​8​%​d​9​%​8​8​%​d​8​%​a​a​%​d​9​%​8​a​%​d​9​%​8​6​-​%​d​9​%​8​2​%​d​8​%​b​7​%​d​8​%​a​8​-​%​d​8​%​a​f​%​d​9​%​8​8​%​d​9​%​8​4​%​d​9​%​8​a​-​%​d​8​%​a​3​%​d​9​%​8​5​-​%​d​8​%​a​f​%​d​9​%​8​8​%​d​9​%​8​4​%​d​8​%​a​9​-​%​d​9​%​8​5​%​d​9​%​8​5​%​d​8​%​a​7​%​d​9​%​8​6​%​d​8​%​b​9​%​d​8​%a9>.

[38] Stephen J. Blank, «Towards a New Russia’s Policy,» Strategic Studies Institute (February 2008), pp. 58-59, <http://www.strategicstudiesinstitute.army.mil/pdffiles/pub833.pdf>.

[39] Nation and Trenin, «Russian Security Strategy under Putin: US and Russian Perspectives».

[40] «روسيا بوتين.. السعي وراء المكانة المفقودة».

[41] الشيخ، صناعة القرار في روسيا والعلاقات العربية – الروسية، ص 79.

[42] Larent Zecchini, «Creation d’un Conseil Otan Russie,» Le Monde, no. 110 (28 Mai 2002), p. 14.

[43] معتز محمد سلامة، «العلاقات الأمريكية – الروسية وقمة فانك وفر،» السياسة الدولية، العدد 113 (1994)، ص 215.

[44] تيري ل. ديبل، استراتيجية الشؤون الخارجية: منطق الحكم الأمريكي، ترجمة وليد شحادة (بيروت: دار الكتاب العربي، 2009).

[45] عبد العزيز محمد أسامة، «السياسة الدفاعية الروسية في بداية القرن الحادي والعشرين،» السياسة الدولية، العدد 142 (2000)، ص 248.

[46] بريماكوف، العالم بدون روسيا: قصرالنظر وعواقبه.

[47] عاطف عبد الحميد، «روسيا وآسيا الوسطى: حماية المصالح واحتواء المخاطر،» السياسة الدولية، العدد 168 (تشرين الأول/أكتوبر 2007)، ص 83.

[48] علي الصالح، «منتدى شنغهاي… هل يتحول إلى قطب عالمي جديد؟،» الجزيرة نت (3 تشرين الأول/أكتوبر 2004)، <http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2004/10/3/%​d​9​%​8​5​%​d​9​%​8​6​%​d​8​%​a​a​%​d​8​%​a​f​%​d​9​%​8​9​-​%​d​8​%​b​4​%​d​9​%​8​6​%​d​8​%​b​a​%​d​9​%​8​7​%​d​8​%​a​7​%​d​9​%​8​a​-​%​d​9​%​8​7​%​d​9​%​8​4​-​%​d​9​%​8​a​%​d​8​%​a​a​%​d​8​%​a​d​%​d​9​%​8​8​%​d​9​%​8​4​-​%​d​8​%​a​5​%​d​9​%​8​4​%​d​9​%​8​9​-​%​d​9​%​8​2​%​d​8​%​b​7​%​d​8​%​a​8​-​%​d​8​%​b​9​%​d​8​%​a​7​%​d​9​%​8​4​%​d​9​%​8​5​%​d​9​%​8​a​-​%​d​8​%​a​c​%​d​8​%​a​f​%​d​9​%​8​a​%​d8%af>.

[49] Alexander A. Sergunin, «Russian Post-Communist Thinking at the Cross-Roads: Changing Paradigms,» Journal of International Relations and Development, vol. 3, no. 3 (September 2000).

[50] شيقتسوقا، روسيا بوتين، ص 24 – 25.

[51] أحمد دياب، «التحدي الديمغرافي للقوة الروسية،» السياسة الدولية، العدد 170 (تشرين الأول/أكتوبر 2007)، ص 100، وAlain Faujas, «Catastrophe Demographique,» (20 mars 2001), <http://www.​​groupja.com>.

[52] إبراهيم أبوخزام، أقواس الهيمنة: دراسة لتطور الهيمنة الأمريكية من مطلع القرن العشرين حتى الآن (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2005)، ص 133، وهيثم الكيلاني، «الهيمنة الأمريكية،» مجلة الفكر العسكري للجيش العربي السوري، العدد 3 (حزيران/يونيو 2005)، ص 25.

[53] R. Craig Nation, «Russia, the USA and the Caucasus,» Strategic Studies Institute (2007), p. 28.

[54] نورهان الشيخ، «العلاقات الروسية – الأوروأطلسية: بين المصالح الوطنية والشراكة الاستراتيجية،» السياسة الدولية، العدد 170 (تشرين الأول/أكتوبر 2007)، ص 50.


محمد مجدان

أستاذ العلاقات الدولية، جامعة الجزائر 3.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز