يعود مصطلح العولمة المضادة (Deglobalization)  إلى عالم الاجتماع الفيليبيني ڨالدن بيلّو في كتابه العولمة المضادة: تصورات من أجل اقتصاد عالمي جديد‏[1] الصادر سنة 2002 وقد استعمل هذا اللفظ ليعلن عن بداية نهاية التنظيمات العالمية المركزية الكبرى كصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، داعياً إلى عالم بلا مركز. وينزّل الباحث الفيليبيني هذا المفهوم الجديد في إطار اقتصادي – اجتماعي بحثاً عن توازن بات ممكناً بين الغرب وسائر سكان المعمورة.

لقد كان كتاب بيلّو، رغم عمق التناول العلمي واستناده إلى البعد الوقائعي في دراسته للمسألة، أقرب إلى النبوءة منه إلى النظرية المتكاملة انبرى فيها الكاتب إلى تعقّب هنّات العولمة التي تُعدّ اليوم بحق أقصى مراحل الإمبريالية. والعولمة المضادة وفق هذا الكاتب ليست نقضاً لمفهوم العولمة المتداول، أي عولمة الهيمنة الغربية، وإنما تأكيد أهمية استثمار التقارب التقني والسلعي في ضبط تبادل متوازن ليس للسلع فحسب ولكن للقيم الثقافية والفلسفية والسيكولوجية. إنّ العولمة المضادة في مدلولها العام تقوم على المسائل المركزية التالية: أولاها كبح جماح التبادل الحرّ عبر إعادة توزيع قوى الإنتاج والعمل؛ ثانيتها تعزيز البعد الحمائي عبر العودة إلى الحقوق الجمركية وتحيين المنظومة الضريبية المتعلقة بمرور السلع؛ ثالثتها، محاولة التقليل من المؤثرات السلبية للتبادل الحرّ والعودة إلى اقتصاد معقلن وأكثر محلّية فالعولمة المضادة بمختصر اللفظ هي عقلنة العولمة بمفهومها القديم ومحاولة تجسير الفجوة الاقتصادية بين الشمال والجنوب.

إنّ أفضل ما جاء في يوتوبيا الكاتب الفيليبيني أنّه كان قراءة غير غربية للمشهد الدولي، وتأتي تحديداً من بلد ينتمي جغرافياً واقتصادياً إلى دول الجنوب، وبخاصة بعد سيطرة التصورات الأمريكية من خلال كتابات العشرية الأخيرة للقرن العشرين لعلّ أبرزها مؤلفات فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون.

أمّا اليوم وبعد أكثر من خمس عشرة سنة على صدور كتاب العولمة المضادة فقد عاد المصطلح للظهور لسببين اثنين على الأقل: أوّلهما أنّ ما تصوره بيلّو بدأ فعـلاً يتحقق وإن بأسلوب مختلف قليـلاً عمّا ذكره الكاتب الفيليبيني في مؤلفه؛ فالأزمة المالية الحادة التي عصفت بأمريكا في نهاية العشرية الأولى للألفية الثالثة ومؤثراتها المباشرة والعميقة في الاقتصاد العالمي مع تعاظم الدورين الروسي والصيني وحضورهما الدولي الفاعل، وبخاصة في البعدين السياسي والاقتصادي، جعلا العولمة بصورتها التقليدية القائمة على مركزية التحكّم في المجتمع العالمي تتلقى ضربات موجعة بدأت بوقعة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وصولاً إلى أزمة الرهن العقاري لسنة 2008. ثانيهما التطوّر التكنولوجي غير المسبوق، ولا سيَّما في ميدان الاتصال الاجتماعي، الذي أفقد دول المركز المسيطرة على العالم كثيراً من هيمنتها وسلطانها بحسن التوظيف المتزايد لهذه التكنولوجيا من قبل دول الجنوب. إنّ رياح التغيير التي بدأت تهبّ من العالم اللاغربي مؤاتية تماماً، والمشاريع المقاوِمة للهيمنة تتضاعف يوماً بعد آخر، من أمريكا اللاتينية وجنوب القارة الآسيوية حتّى العمق الأفريقي، هي بذرة صالحة بدأت بالنموّ وسفن تُبحر بأحلام عالم أقلّ قبحاً وتفاوتاً، ولكن أين العرب من كلّ ما جرى ويجري؟

أولاً: العرب والغرب والفجوة السيكو – ثقافية

لا نزال نحن العرب سادرين لا نملك القدرة على إدراك المتغيّر الكوني، ولسنا عاجزين عن وعي مقتضيات التاريخ فحسب، بل تعوزنا كذلك القدرة على إدراك الجغرافيا بأوساعها الفكرية والفلسفية والجمالية، قارّات قائمة على مرمى البصر ولم يكن بوسعنا أن نراها، لا ندري ما الشاغل الذي يمنعنا من قراءة ما يحيط بنا في لحظتنا الراهنة أو حتى إلقاء نظرة خاطفة عمّا يجري في بلدان الجنوب؛ إذ ما زلنا متعلقين بأهداب المركزية الغربية التي لا تهتمّ بنا – في الغالب – إلّا لتحافظ علينا تُبّعاً، وهي لا تمنحنا في ذلك من المنتج الفكري والفلسفي والثقافي العام إلّا بفجوة زمنية هي نفسها التي تحافظ من خلالها على فرادتها وخيلائها الثقافوي وعلى هيمنتها علينا، رغم اعتقادنا أنّ إلقاء ثقل التبعية والتخلف والفقر على كاهل الغرب والتأويل بمنطق المؤامرة التي تحاك ضدنا من جانبه وجانب أذرعه وأدواته هو في نهاية المطاف خطاب لا يمثّل الحقيقة كاملة؛ فانحسار معارفنا عن المنتج الفكري والاقتصادي والفنّي وحتى الروحاني لسائر الدول التي اصطلح الاقتصاديون على تسميتها الجنوب (آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية) وسوء متابعتنا للمتغيّرات الكونية القائمة يضاعف كذلك في تضليلنا؛ وعليه يمنعنا من مواكبة التاريخ ويخرجنا ضرورة من الجغرافيا أو يمنعنا من المحافظة عليها ناهيك بتشكيلها.

ثانياً: شياطين أم ملائكة؟

ما زلنا نحمل الغرب على محملين في تصوّراتنا المختلفة، إذ لا يزال الكثير منا يراه كافراً بالمعنى العقدي وغاصباً بالمعنى الاقتصادي ومستعمراً ظالماً، وفي المقابل هناك من يمجّده ولا يرى لنماذجه الاقتصادية والثقافية والحضارية بديـلاً. إنّ هذين الموقفين رغم وجاهة الطروح التي يقدمانها إزاء المشروعين الاقتصادي والحضاري للعالم الغربي يمنعاننا في الحقيقة من فهم هذا الغرب فهماً عقلياً متوازناً‏[2]؛ ذلك بأنّ علاقتنا بالغرب أو سائر العالم اللاغربي عائد في جزء مهمّ منه إلى أزمة سيكو – ثقافية. فنحن لا نرى الغرب إلا غازياً أو منقذاً؛ إذ ليس في مقدورنا أن نراه في صورته الحقيقية. ذلك أنّ ما نشكله في أذهاننا عنه من تصورات هو نتيجة حتمية للترسبات النفسية والثقافية التي نسجتها ذاكرتنا منذ أطوار بعيدة من الكائن الغربي، إنّنا لا نرى بعضنا أو غيرنا إلّا من نوافذنا الخاصة ولكلّ راء زاوية نظره التي تتشكل مما يمنحه موقعه ومقامه. وعليه فإنّنا لا ندرك الآخر إلّا من خلال أمرين: ما نريد أن نراه، وما بوسعنا أن نراه. فقد تبدو حقيقة الآخر على خلاف ما نرى، قد تجعله الظلال أعظم أو أصغر. وفي كلتا الحالتين ليس بوسعنا أن نفهمه أو أن نتواصل معه تواصلاً متوازناً، ورغم الانفتاح العظيم على المنتج الغربي فإن صلتنا بالغرب لا تزال بعيدة من المعطى الواقعي. فليس المطلوب فهم الغرب لأجل الفهم، وإنما المطلوب فهمه لأجل تغييره، لا لقلب ثنائية العبد والسيّد وإنما لتجاوزها أصـلاً في سبيل عالم أقلّ اضطهاداً وأقل عبودية وأكثر إنسانية.

على المقاس نفسه، وفي الضفة المقابلة، تبدو نظرتنا إلى ذواتنا غير متوازنة أيضاً وتعمّق الفجوة بيننا والعالم؛ فنحن لا نرى ذواتنا إلّا أبطالاً أو ضحايا: فالموغلون في جلد الذات يصرّون على وضع الضحية ولا يرون العربي إلّا كائناً من سقط الوجود أجمل ما فيه حزنه ومعاناته وصورته المترددة بين الشهيد والشريد أو القتيل؛ وهم بهذا التصوّر يزرعون اليأس ويحصدون الفشل وينتظرون الفاجعة من دون أن يحرّكوا ساكناً. ويقابلهم في ذلك الغارقون في البارانويا ممّن يعظّمون ذواتهم ويقدسون عنصرهم مزدرين غيرهم، ومحيطين أنفسهم بأروقة تجعلهم لا يرون غير أنفسهم وليس بوسعهم ولا بوسع المتشائمين أن يروا ذواتهم في مرآة الحقيقة المتوازنة. هل بوسعنا أن نطوي هذا التطرف وأن نتجاوز المعيارية والانفعال الوجداني في علاقتنا بغيرنا؟ من نحن لنحقق تلك النظرة العقلية المتوازنة؟ هل نستطيع فكاكاً من قبضة الأقوياء والمتلاعبين؟ هل بوسع العولمة المضادة التي تأتي قيمها الأصلية من تصورات غير غربية أن تدفع بنا نحن العرب إلى الخروج من قدر الثنائيات المضنية التي سجنّا أنفسنا في مداراتها؟ لماذا لا نرى العالم إلّا ملائكة أو شياطين؟ هل تمنحنا هذه المعيارية الانفعالية القدرة على الفعل في التاريخ؟

ليس مهماً أن نجترح أجوبة عن أسئلة مؤلمة وقاهرة وإنما الأكثر أهمية في ما نعتقد هو القدرة على الوعي بالراهن الكوني لأنه لا قدرة على التغيير والمواجهة والمقاومة أو الحوار والتواصل إلّا بفهم ما يحيط بنا ونحن لا يمكننا أن ننسى أو نتناسى أنّ العالم الغربي هو أبرز مكوِّن فيه. إنّ الهوّة النفسية – الثقافية الناهضة اليوم بيننا وبين الغرب – وهي الأقسى – وبيننا وبين العالم اللاغربي من الصعب تجسيرها بفعل عوائق ذاتية وموضوعية كثيرة. تقول الإحصاءات إنّ المهاجرين العرب هم الأقلّ اندماجاً في المجتمع الغربي قياساً بسائر المهاجرين من القوميات والثقافات الأخرى، والأمر عائد في اعتقاد كثير من الباحثين المختصين في هذا الشأن إلى الصور النمطية التي تشكل مخيالنا والتي ترى الغربي كائناً لا يمكن الاطمئنان إليه‏[3].

ثالثاً: من ربوة التاريخ إلى تشكيل الجغرافيا

عودة الشرق إلى المشهد الدولي له دلالاته، وهي عودة على جبهات متعددة اقتصادية وثقافية وفلسفية وتقنية وجمالية وقيمية وروحانية. ويصحب هذه العودة استفاقة القارة الأفريقية جنوب الصحراء من خلال الديمقراطيات الناشئة والنهوض التقني والاستثماري والثقافي والتعويل على الثروات المحلية والطبيعية منها بخاصة. إنّ هذه الاستفاقة باتت في تزايد اليوم، ليس في القارة الأفريقية وحدها، بل في معظم دول جنوب الكرة الأرضية. وهذا ما قد يشكل في قادم السنوات تكتلات اقتصادية وفكرية وحضارية أكثر فاعلية في الكيانات البشرية، وأشدّ تأثيراً في المشهد الدولي، وتمثّل فعـلاً إنهاءً حقيقياً لسلطان الليبرالية الغربية طوال أكثر من قرنين ماضيين على الأقل، علماً أنّ هذه الكيانات بدأت بالتشكل منذ سنوات، لعل أهمها البريكس (BRICS)، ثم المستجدات الحضارية المتلاحقة في الفضاء الغربي، آخرها الأزمة المالية الكبرى سنة 2008، والبركسيت (Brexit) (خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي)، وكذلك تولي دونالد ترامب سدة الحكم في الولايات المتحدة، ومع عودة روسيا إلى أداء أدوار سياسية في العالم أهمها المشاركة المباشرة في الصراع الدائر في المشرق العربي أو تعاظم تأثيرها في السياسة الخارجية الأمريكية. كلّ ذلك جعل المركزية الغربية التي مثلتها العولمة بمفهومها التقليدي تفقد هيبتها بفعل القطبية المتعددة التي باتت تحكم العالم اليوم. قد يبدو القول بأفول العولمة بالنسبة إلى البعض قولاً مغرقاً بتفاؤلية زائدة تماماً، مثل اليوتوبيا التي عبّر عنها الكاتب الفيليبيني فالدن بيلّو في كتابه قبل خمس عشرة سنة: «لا شيء يقتل الحلم سوى ضعف العزيمة»؛ وحلم كسر المركزية الرعناء لليبرالية الغربية وإنشاء عالم أكثر توازناً وبظلم أقلّ أمر يجد مصاديقه في الوقائع السياسية والاقتصادية الراهنة في العالم، إلّا أنّه لا شيء يعطّل عجلة التغيير التي تسير على خارطة المتغيّرات الدولية الإيجابية غير ما يجري في البلاد العربية التي تحوّلت إلى حلبة صراع بين الفحول المسنّة والذكور اليافعة ومسرحاً للتجريب الفاشي.

أين نحن مما يحدث؟ لماذا ينخدع معظم العرب، سياسييهم ومثقفيهم ومنظّريهم، بما يجري في عقر دارهم ولا يتفطنون إلى ما يحاك ضدهم إلّا بعد فوات الأوان؟ لماذا يُلدغون من جحر السياسة الدولية مرّات من دون أن يستوعبوا عِبَر التاريخ؟ يقفون على ربوة عدم الفهم ولا يفعلون شيئاً غير إطالة أمد هجوعهم السلبي وغيابهم عن الفعل في التاريخ. فبالقدر الذي يتعاظم سبات العرب تتعاظم المخاطر المحدقة بهم، وقد بدأت هذه المخاطر تتبلور فعـلاً بشكل دراماتيكي في حروب التقسيم التدميرية التي تعمل بتفان على تفتيت الجغرافيا العربية وتشظّيها في مختلف البلاد من العراق وسورية مروراً باليمن ووصولاً إلى ليبيا، والقائمة تتسع لتشمل ضحايا جدداً. إنّه لا حلّ لنا اليوم غير تحيين أذهاننا من دون أن نقع في أحابيل اللاعبين الدوليين والمتلاعبين.

فحينما نحيّن صلاتنا بمكونات العالم ونحدّد مطالبنا التاريخية وندرك ذواتنا الرائية بمقياس العقل ونفهم الآخر المرئي بمعايير المقياس نفسه نكون قد اجتزنا مسافات كبيرة من التعمية والجهل وسوء الفهم. أن نتجاوز عوائق الفجوة السيكو – ثقافية إزاء الآخر – غربياً كان أم غير غربيّ – هو أمر ضروري لنمرّ إلى دور الفعل في التاريخ. أن ندرك الأشياء كما هي، لأنّ سوء الفهم لا ينتج إلّا المزيد من العجز والجهل وقلّة الحيلة. بمعنى ما لا بد من توسيع جبهة الأصدقاء بتحيين رؤانا عن الآخر وتجاوز عقدة الرفض والتكفير الساذجين إلى نظرة شاملة نمدّ من خلالها اليد إلى كل المشترك الإنساني لنضيّق جبهة الأعداء أكثر فأكثر؛ وما الأعداء في نهاية المطاف غير تلك الجماعات الرأسمالية المتنفذة والممسكة بخناق البشرية والبانية رخاءها على استعباد الأغلبية ونهب ثرواتها. إنّ الصراع هو من سنن الوجود البشري – أقلّه إلى حدود أزمنتنا الراهنة – وعليه وجب أن ندرك الجبهة الحقيقية التي علينا أن ننتمي إليها ولا يتمّ ذلك في اعتقادنا إلّا بعقلنة فهمنا لذواتنا ولذوات الآخرين كمرحلة أولى ضرورية.

إنّ الفجوات المتسعة أصـلاً، وهي بصدد الاتساع راهناً على المستويات جميعها الاقتصادية منها والتقنية والمعرفية والفكرية والفنّية، لا تجلب لنا غير الإقصاء وتدفعنا على نحوٍ غير عقلي أو إنسانيّ تماماً إلى نكوص عصابي نحو تراث أنهكه التزييف ولم يفلح إلّا في إنتاج التطرّف والتوحّش ولم يمنحنا في خاتمة كلّ ذلك غير حصد خيبات الخروج من التاريخ.

 

قد يهمكم أيضاً  سوسيولوجيا الهوية: جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العرب_والغرب #العولمة #العولمة_المضادة #الفجوة_بين_الشمال_والجنوب #الفجوة_الثقافية #وجهة_نظر