مقدمة:

يعـد الاحتـجاج مـمارسة تعيد إنتاج نفسها باستمرار، رغـم مظاهر التحديث التي شملت أشكـاله وموضـوعاته، كخطاب وكفعل يتكـرر في الـزمان والمكان بسبب وجـود خلل وعائق أو اختــلالات وأعطاب ينبغي تجاوزها والبحـث عــن السبل الكفيلة بحلها وإصلاحها والحــد منها أو التخفيف من آثارها. ينفي عدد من الباحثين وجود تقليد في المغرب للاحتجاجات المنظمة[1]، لكنهم يُجمعون على استمرار بعض تجليات الثبات التي طبعت هذه الممارسة على المدى الطويل. إن الانتقال من مجتمع كانت فيه للدولة تقريباً سلطة شبه مطلقة على جميع المستويات، إلى سلطة سياسية تعلن تبنّيها للديمقراطية، والحوار، واحترام حقوق الإنسان، وحرية التعبير، وحرية السوق ليس بالأمر السهل. فالتدبير السياسي لمجتمع متغيِّر بسرعة فائقة، ومتعطش للحرية وللتعبير عن آرائه ومصالحه، جعل السلوك الحالي للدولة خاضعاً للتحول ومحتفظاً بعناصر الثبات في الوقت ذاته.

إن الفشل في تدبير الأزمة الاجتماعية، يُبقي الخط مفتوحاً على التوتر بين الساكنة والدولة، كمؤشر سلبي على استمرار تعارض مصالح الفاعلين فيه داخل النسق، وفي الوقت نفسه كعلامة إيجابية تعمل على تطوير عناصره وإعادة إنتاج آليات التأقلم الدائم مع ديناميته. هكذا، يبقى الاحتجاج كنزاع أو صراع اجتماعي[2] سلوكاً ثابتاً يسعى من خلاله المحتجون، على الدوام، إلى فرض تنازلات على السلطة القائمة[3]، وبخاصة على المستوى الاقتصادي – الاجتماعي، الذي أضحى المحرك الأساسي لهذا الصراع [4]. هذا التوتر بقدر ما يفضح «الاختلالات»، فهو يعكس أيضاً وجود «أزمة ثقة» بين الفاعلين، تؤدي حتماً الى أزمة تواصل تفتح المجال نحو المزيد من الصراع، في ظل فتح الباب أمام الإشاعات والاتهامات، من دون الوعي التام بالنتائج المحتملة والممكنة ومدى تأثيراتها المتنوعة في الجماهير.

اليوم، هناك اتفاق شبه تام بين الباحثين المغاربة، بمن فيهم أولئك الذي ينتمون إلى هيئات سياسية ونقابية، حول بروز هوّة شاسعة بين هذه التنظيمات والحركات الاحتجاجية الناشئة عن نبض المجتمع وتحولاته. وهي مسألة ليست باليسيرة في مشهد يثير قلقاً مزدوجاً؛ يتعلق الأول بوجود تعددية حزبية على مستوى الواقع، ووحدة مستفزة بخصوص «البرامج السياسية» التي ترادف، في معظم الأوقات، «البرامج الانتخابية» المحكومة بأفق المشاركة في العملية السياسية وفق قواعد اللعبة القائمة طمعاً في الوصول إلى السلطة، أو لنقل، بتعبير أدق، التقرب منها كأبعد تقدير، أي حصر «البرنامج السياسي» في زاوية الحصول على أكبر قدر ممكن من أصوات الناخبين التي هي، بدورها، مجرد أداة لانتزاع أكبر عدد ممكن من الحقائب الوزارية. بطبيعة الحال، تختفي وراء هذا التقدير مسببات كثيرة، سنأتي على ذكرها، لكن دعونا نشير، من باب التذكير، إلى أن الانتقال من مفهوم «البرنامج السياسي» الحامل لطبيعة الحزب ورهاناته وتصوراته الفكرية المؤطرة لاختياراته في الحاضر والمستقبل، إلى مفهوم «البرنامج الانتخابي بغطاء سياسي» للمشاركة، ينبئنا بوجود نزوعات سياسوية أضحت تعطي الانطباع إلى عموم الناس والمهتمين بالشأن السياسي المغربي بعجز الفاعلين السياسيين عن توليد الأفكار الخلاقة والاختباء وراء أسطورة «الواقعية» الأقرب إلى البراغماتية السلبية. ويرتبط الثاني بالتنصل من المسؤولية الملقاة على عاتقها تحت ذريعة وجود قوى ظاهرة أو خفية تتحكم فيها، رغم أن خطابها اليومي يكاد يجزم باستقلالية قراراتها وقانونية مؤتمراتها وفعالية تحركاتها؛ بل وهي التي تخرج، بين الفينة والأخرى، لتدافع عن صدقية اختياراتها تبعاً للموقع الذي تشغله (أغلبية أو معارضة)، سواءٌ للحزب أو النقابة. كيف ذلك؟

يفرض الجواب عن هذا السؤال نوعاً من الحذر الإبستمولوجي في مقاربة وضع الأحزاب السياسية ومختلف التنظيمات النقابية لفهم مدى محدودية دورها في الوساطة بين المجتمع والدولة، مع الأخذ بعين الاعتبار التحولات الجارية على المستويين الوطني والدولي، ولا سيَّما أن الوساطة كلمة يظهر معناها الحقيقي في كونها حركة مثلثة الأضلاع، بين طرف محايد يكون، في العادة، غير متورط في الصراع كمنازع ومتخاصمَين، ليأخذ مفهوم الوساطة المجتمعية، في هذه الدراسة، المسعى النبيل الذي تقوم به التنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية للحد من الاحتقان أو التخفيف من حدته لنزع فتيل السخط والغضب الاجتماعي في إطار ما يمكن تسميته المساعي الحميدة، بغية التوفيق بين الدولة والمحتجين، لإيجاد تسوية لخلاف ونزاع أو سوء فهم قائم بينهما. فهل يمكن تحقيق ذلك؟ ينبع هذا السؤال من هامش الحرية لدى الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمدنيين، وكذلك درجة استقلاليتهم وقربهم من الفئات المهمشة، فضلاً عن طبيعة الحركات الاحتجاجية، وحجم التنامي الذي تشهده شكلاً ومضموناً، كما هو حال حراك الريف الذي بدأ يشكل، مع مرور الوقت، وخزة حادة في ضمير الدولة والنخب، ونداء الكرامة الصاعد مباشرة من قلب المجتمع؛ رغم الإشاعات التي تحول دون الفهم الصحيح والأنسب لصرخة ألم وأمل، يشير تراكم الوقائع إلى أنها مزيج غريب بين التاريخ والجغرافيا والسياسة والسيكولوجيا… إلخ، أضف إلى ذلك أن مفهوم الوساطة، بحد ذاته، يبدو جديداً في بلد يسير تدريجياً نحو الديمقراطية، ويسعى إلى الخروج من المنطقة الرمادية. لإدراك ذلك، تحاول هذه الدراسة، في مقام أول، رصد أهم تجليات تطور وتنامي وتيرة الحركات الاحتجاجية في المغرب، ثم تحديد أوجه أزمة الأحزاب السياسية والنقابات وعجزها عن تأدية دور الوساطة في مستوى ثان، علاوة على الإشارة إلى أبعاد آلية التوافق بين الفرقاء السياسيين والاجتماعيين في ظل محاولة السلطة السياسية تحقيق نوع من الاستقرار الداخلي والتوازن السياسي في أفق ضمان استمراريتها وحضورها المكثف كنقطة ثالثة وأخيرة.

أولاً: تجليات تنامي الحركات الاحتجاجية

يرى المؤرِّخون أن الهجوم على «الباستيل»، أثناء الثورة الفرنسية، هو الدخول الفعلي لـ«الشعب» في الحياة السياسية؛ حيث اتضح بعد ذلك أن النزول إلى الشارع هو الشكل الوحيد الذي تجد الجماعة عن طريقه وسيلتها للتعبير عن مطالبها كجماعة موحدة. هذا النزول إلى الفضاء العمومي أصبح في التاريخ المعاصر من أكثر وسائل التعبير مباشرة، ليس لأنه يظهر للعيان طابع وحدة هذه الجماعة، وإنما بتأكيده أنها مصدر كل معيار، وكل سيادة[5]. من هنا، لم تشكّل أحداث التاريخ المعاصر استثناءً في الحضور المكثف للفكر الاحتجاجي، بل جعلته سمة لا تنفصل عن تغيراته المجتمعية، وإنْ بدرجات وخلفيات ونتائج متفاوتة، سيجد الباحث داخلها أدلة كثيرة على الاضطرابات والسخط في أي مجتمع تقريباً[6]، كما هو شأن المجتمعات العربية.

إن تنامي الحركات الاحتجاجية وتنوّعها خلال السنوات الأخيرة، ولا سيَّما في المنطقة العربية، يعكس نوعاً من التطور والنضج في اعتماد الناس طرقاً مؤثرة في مواجهة ما يعترضهم من مشكلات[7]، ومن السعي الدائم أيضاً إلى إيجاد الحلول الكفيلة بتجاوزها جزئياً أو كلياً. يجد هذا الاعتماد حجته في ما حققته الاحتجاجات الاجتماعية، في تجارب خارجية، من خلخلة للبنى التقليدية، في أفق دمقرطة الحياة السياسية والتحرر الاجتماعي والاقتصادي، وفي ما مارسته تحركات شعبية داخلية من ضغوط على السلطات العمومية من أجل تلبية مطالبها المختلفة.

لم يكن المغـــرب، بحكم جغــرافيته الاستراتيجية وسوسيولوجيته البشرية المتنوعة، بمنأى عن هذه الفاعلية الاحتجاجية التي أصبحت موجودة في صلب التحول، الذي يسم طبيعة المجتمع المغربي، بالنظر إلى كون الاتساع الكمي والكيفي للاحتجاجات الجماعية صار لازمة للفضاءات العامة في مجالات مختلفة، حضرية أكانت أم قروية أم شبه حضرية[8]. لذلك، يجد الباحث نفسه ملزماً بالبحث عن إجابات دقيقة عن التغييرات التي خضع لها السلوك الاحتجاجي في السياق المغربي منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، بهدف استجلاء مسبباتها ونتائجها وامتداداتها، وخصوصاً أن اللجوء إلى الشارع بات استراتيجية أساسية للحركات الاحتجاجية. والشاهد على الحضور المكثف لهذه الاستراتيجية هو تصاعد دينامية الاحتجاج، في السنوات الأخيرة، نتيجة لمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، وتحوُّلها من الاحتجاج على «الاجتماع» إلى الاحتجاج على «السياسة»، وهو ما يعني إعادة انتشار السياسة من داخل المؤسسات التقليدية نحو الشارع، ومن داخل الفضاء الإعلامي العمومي في اتجاه فضاء الإنترنت المفتوح.

إن الاحتجاج بالمغرب، في الزمن الراهن، تجاوز كونه مجرد فعل دوري يُحسب الفارق بين محطاته بالشهور أو السنوات، وإنما صار حركة دائمة متواترة في الزمان والمكان؛ اعتبرها المغاربة في السابق السلاح الأمثل للدفاع عن استقلالهم وهويتهم الوطنية في مواجهة الاستعمار، ثم شكلاً من أشكال الاعتراض السياسي على السلطة الحاكمة بعد الاستقلال، وكذلك مؤشّراً على تحرير الفضاء العام وضعف السياسات الاجتماعية مع بداية التسعينيات، قبل أن تصبح وسيلة للمطالبة بالإصلاح السياسي، تزامناً مع موجة الاحتجاجات في المنطقة العربية، بفعل تطور وسائل الاتصال الجديدة، بما فيها مواقع التواصـل الاجتماعي، وأزمة الديمقـراطية وهشاشة التنمية المحلية.

هذا الانتقال من الاحتجاج التحرري بقيادة الحركة الوطنية، إلى الاحتجاج المسيَّس التصادمي بقيادة الهيئات النقابية والسياسية، ثم بروز احتجاجات سلمية سوسيو-اقتصادية تنهجس بالزيادة في الأجور ومقاومة الغلاء وترسيم المياومين والمطالبة بتوفير فرص الشغل وخفض الرسوم والضرائب وتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية[9]، إلى الاحتجاج السياسي الشبابي، الذي طالب بإصلاح سياسي ودستور حقيقي، غير منفصل عن الملف الاجتماعي، يحيل على خصوصية النموذج المغربي. وتأتي سنة 2011 لتُبرز التطور الحقيقي الذي حدث على مستويات شكل الحركات الاحتجاجية ومضمونها ومجالها، بالنظر إلى الدلالات التي أضْفتها حركة 20 فبراير على قوة الشارع «الناعمة»، بعيداً من المعارضة التقليدية، في إحداث التغيير، وأيضاً بسبب قدرة النظام السياسي على التقاط إشارات «الإرادة الشعبية» المطالِبة بضرورة القيام بالإصلاحات الدستورية والمؤسسية اللازمة لبناء «دولة الإنسان».

تعرّف حركة 20 فبراير نفسها كحركة احتجاجية سياسية، تفاعلت مع موجة التحولات الإقليمية التي أحدثها الحراك العربي مطلع سنة 2011، وتأثرت بخصوصية الدولة والمجتمع، وأثّرت فيهما في الوقت ذاته، للتنديد بثنائية الفساد والاستبداد بالشارع العام. ورغم أن الحركة لم تفلح في التحول إلى حركة جماهيرية لها امتداد شعبي، فإن احتجاجاتها شكّلت، مقارنة بالتحركات الحزبية، المحك الحقيقي لمدى جدية الإصلاحات التي باشرها المغرب في السنوات الأخيرة. كما أنها أثبتت، على خلاف ما هو رائج، درجة الوعي السياسي لدى فئة الشباب، ومدى استعداده لممارسة دور مؤثر في صناعة المستقبل وصوغ خطوطه ومساراته[10]، وإن كان الفارق كبيراً بين الاستعداد لإحداث التغيير وتوجيه مساره في الاتجاه الذي يخدم المصالح المتضاربة للقائمين عليه، في عهد نظام سياسي يُجِيد إعادة إنتاج نفسه، بفضل قدرته على تدبير الأزمات والتكيّف مع مختلف التقلبات الاجتماعية والسياسية، لتجذّره وفاعليته ومكانته في الثقافة السياسية.

لكن ما يستحق الذكر هو أنه على الرغم من تراجع الحركة بنسبة كبيرة منذ سنة 2012، أو حتى ربما لم يعد لها تأثير واضح منذ التصويت على الدستور[11]، يمكن التأكيد أن ديناميتها، بعد أزيد من ست سنوات ونصف السنة على نشأتها، ما زالت حاضرة في الفضاء العام، بصيغ جديدة، تستثمر التراكمات والتجارب الحاصلة في مجال الممارسة الاحتجاجية بالمغرب.

ويلاحظ في هذا السياق أن أربع مناسبات، على سبيل المثال (احتجاج سكان طنجة ضد شركة التدبير المفوَّض «أمانديس»؛ وتشبث الطلاب الأطباء بعدم العودة إلى مُدرَّجات ومختبرات الدراسة والتكوين إلى حين تراجع وزارة الصحة عن مسودة مشروع قانون «الخدمة الصحية الوطنية»؛ ومسيرة الأساتذة المتدربين الضخمة التي تجاوز عدد المحتجين فيها عشرات الآلاف، وهو ما لم تَقْدِر النقابات ولا الأحزاب على جمعه في مسيرات مماثلة، رفضاً لمرسومي وزارة التربية الوطنية؛ وأخيراً مجموع المسيرات التضامنية مع أسرة محسن فكري[12]، وما رافقها وتلاها من احتجاجات متواصلة بمنطقة الريف تعبيراً عن الرفض الصريح لثنائية الفساد و«الحُكْرَة»)[13]، على اختلاف مضامينها وسياقاتها والفاعلين فيها ودرجة التفاعل معها، تكشف وجود مجموعة من القواسم المشتركة بينها: أولاً، شكّل الإنترنت الحاضن الرئيسي لهذه الاحتجاجات، لأن التعبئة جرت على «فيسبوك» و«تويتر» و«واتسآب» و«يوتيوب»؛ فداخل هذه العوالم الافتراضية ناقش المحتجون مطالبهم، وتداولوا في مشروعيتها، وهيأوا المشاركين فيها على المستوى النفسي لتعزيز حماستهم، بمعنى أنه تم إرجاء قرار النزول إلى أرض الواقع إلى أن نضجت فكرة الاحتجاج وعدالة هذه المطالب. ثانياً، استعارت هذه الاحتجاجات من الحركة شعارها المركزي المتمثل بالمطالبة بـ«إسقاط» كل ما هو مرفوض وغير مرغوب فيه[14]. ثالثاً، تغيب عن هذه الحركات زعامة الفاعل السياسي أو النقابي، وهذا الأمر أتاح للشباب المتعلّم التخلص من الخوف والتمرس على التفاوض والحوار مع ممثلي الحكومة من دون وسطاء.

ثانياً: أزمة الوساطة السياسية والنقابية

بالرغم من التصادم والعنف والعفوية التي كانت تتميز بها الحركات الجماعية، وخروج الأمور عن السيطرة، زمن الستينيات والثمانينيات والتسعينيات، في غياب التأطير الكافي، كان قرار الإعلان عن الإضراب وقتها يخيف ويربك حسابات الجهات المعنية، ويشل الحياة داخل البلاد، ويرفع من درجة التأهب داخلها[15].

أما في اللحظة الراهنة، فيبدو أنه صار مجرد تمرين عادي، فقد تأثيره وثقله، لدرجة أنه بات يكشف عن ارتباك وضعف العمل النقابي وتماهيه المطلق مع التوجهات الحزبية وموقعها [16]. أكثر من ذلك ترسخت لدى الدولة والمجتمع نظرة دونية للإضراب، تختزله في يوم عطلة للخروج من روتين العمل. تعود هذه النظرة إلى عوامل داخلية وخارجية كثيرة، يرتبط بعضها بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من جهة، ويتعلق الجزء الأكبر منها بهويتها وتركيبتها وتنظيمها وتسييرها وطريقة اشتغالها من جهة ثانية. منذ أكثر من ستين سنة على استقلال المغرب، توصّل أحد الباحثين الأجانب إلى أن الأحزاب بالمغرب سميت مجاناً بهذا الاسم، لأنها لا يمكن تصورها مجردة عن الذاتية، ويفسر ذلك بكون تاريخها هو تاريخ بعض الرجالات أكثر منه تاريخ التنظيمات[17]. ورغم كل هذه المدة، لا يخفي أحد الباحثين المغاربة أن «فكرة الزعيم» أصبحت «ظاهرة ممأسسة»[18]، ويؤكد آخر أن الحزب بزعمائه ظل خاضعاً لآليات النسق الثقافي العام. لقد حمل قيم هذا النسق ورسخها داخل الحقل السياسي، فأضفى على الأخير طابعاً سياسياً جعل الحزب السياسي امتداداً للمؤسسات الدينية، وعلى رأسها الزاوية[19]. ما لم تتعالَ على مستوى الزاوية أو العشيرة أو النادي أو النقابة، ستظل الأحزاب السياسية، في نظر العروي، مسلوبة الإرادة، مسيرة دون وعيها، خاضعة لمنطق المبايعة، رديفة لنفوذ البطانة[20].

وبالنظر إلى الترابط الوثيق بين العمل السياسي والنقابي، وبحكم أن النقابات الأكثر تمثيلية اليوم خرجت كلها من رحم الأحزاب السياسية، ولربما نسخة منها، يخلص صاحب كتاب في غمار السياسة إلى أن فكرة الزاوية أصبحت تنطبق على النقابة والحزب في ذات الوقت، فكلاهما تكوّن فيهما نوع من الزاوية (شيخ ومريدون)[21]، لم يؤثر فقط في صورة النقابة ببلادنا، بل أساء للوظيفة النبيلة التي حددها الفصل الثامن من دستور 2011، والمتمثلة بمساهمة المنظمات النقابية للأجراء، والغرف المهنية، والمنظمات المهنية للمشغلين، في «الدفاع عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية للفئات التي تمثلها، وفي النهوض بها»، وحصرها الفصل الأول من ظهير 16 تموز/يوليو 1957 [22] في قصد وحيد هو: «الدرس والدفاع عن المصالح الاقتصادية والصناعية والتجارية والفلاحية الخاصة بالمنخرطين فيها»، وتعززت بالمادة 396 من مدوَّنة الشغل التي تنص على أن النقابات المهنية تهدف، بالإضافة إلى ما تنص عليه مقتضيات الفصل الثامن من الدستور، إلى «الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية والمهنية، الفردية منها والجماعية، للفئات التي تؤطرها وإلى دراسة وتنمية هذه المصالح وتطوير المستوى الثقافي للمنخرطين بها. كما تساهم في التحضير للسياسة الوطنية في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي وتستشار في جميع الخلافات والقضايا التي لها ارتباط بمجال تخصصه»[23].

وبحسب الخلاصات التي انتهى إليها المشاركون في حوار «سيناريوهات المغرب في أفق 2025»[24]، فإنه على الرغم من الإنجازات المحققة في مغرب التسعينيات من القرن الماضي، لا يمكن القول إن رهان الديمقراطية قد تَمّ ربحه، إذ ما زالت تشوب سيرورة الإصلاح مجموعة من النقائص[25]، إن على المستوى الدستوري أو المؤسسي أو الاجتماعي. ما فتئت المؤسسة الملكية تحتفظ بهيمنتها، وتشكل الأساس في المنظومة السياسية المغربية. فغالباً ما تُتخذ القرارات السياسية على المستوى المركزي، أما الحكومة والبرلمان، فلا يتجاوز عملهما تنفيذ التوجيهات الملكية[26]. فبعد حصول المغرب على الاستقلال، بينما استمرت الحركة الوطنية في التشديد على أن الاشتراك في المسؤولية يفضي إلى اشتراك في اقتسام السلطة، اختارت الملكية لنفسها منطقاً آخر[27]، هو منطق الدولة[28]. بتعبير عميق ممزوج بقدر واضح من النقد الذاتي في «ذاكرة ملك»، يقول الملك الراحل الحسن الثاني: «لم تكن هناك قوتان، وإنما كان تياران، أحدهما صبور وكان يمثله والدي الذي كان يعتقد أن الطريقة المثلى المُؤدِّية إلى محمود النتائج هي عامل الزمن. والتيار الآخر كان عديم الصبر …كانت مطالبهم في مستوى درجة إدراكهم للأشياء، كان لديهم ميل طبيعي لإضفاء أبعاد ضخمة على الجزئيات، كانوا يهتمون بما هو ثانوي على حساب ما هو جوهري، وفي بعض الأوقات كان الحوار لا يسوده أي تَفهُّم، إذ كان كل منا يحلّق على ارتفاع يختلف عن ارتفاع الآخر. لقد كانت حقاً مأساة بالنسبة للمغرب»[29]. ليست إذاً مصادفة أن يظل الدستور مشروعاً معلّقاً أكثر من أربعين سنة (1956 – 1996)، وهو الذي يؤسس السلطة ويبني المؤسسات، وليس من الصدفة أن تستمر هذه الأخيرة عرضة للنقد، وتبرز حاجة الدولة والمجتمع إلى جيل جديد من العلاقات، تجسدت في إشراك «خصوم الأمس» في الحكـم، في إطار حكـومة التناوب. غيـر أنه إذا كان الهـدف المعلن للتناوب التوافـقي هـو فسح المجال لتنافس القوى السياسية، فسرعان ما يتضح أن وصول هذه القوى إلى مواقع التدبير لا يعني الوصول إلى سلطة القرار [30] في نظام سياسي له خصوصياته التاريخية ونمطه التثقيفي[31]، تُشكِّل فيه الحكومة الطابق الثاني داخل الجهاز القراري المغربي الذي يحتل فيه الملك المكانة الأساسية[32]. وهو ما يفسّر عدم توصل الحقل السياسي إلى إقرار التقاطب المفترض في البرامج والتصورات، وإنتاج الانتخابات لائتلاف حكومي ينقصه الانسجام التام، وفرق معارضة تُصوّت أحياناً لصالح الحكومات، وأحزاباً تزاوج بين لغة الموقع الحكومي ولغة موقع المعارضة[33]، وغيرها من الظواهر السياسية المسيئة للمسار الإصلاحي الذي اختاره المغرب، كامتداد لإصلاحات التسعينيات.

 

قبل 2011، ظهر اهتمام أكبر بالبحث عن وسائل معالجة المشاكل الاجتماعية، فكُثفت المبادرات الرامية إلى تخفيف الاحتقان الاجتماعي، وأُجريت تغييرات كبيرة في طاقم الوجوه التي تتولى المناصب السامية، والتحق فريق من الطاقات الشابة بالقصر الملكي[34]، وأعفي وزير الداخلية إدريس البصري، وسُمح بعودة إبراهيم السرفاتي وعائلة المهدي بنبركة، وبلورة مفهوم جديد للسلطة[35]، مع مرونة أكبر في تدبير الاحتجاج الاجتماعي، والتوسيع النسبي لمساحة حرية التعبير، والانخراط في ورش ومشاريع تنموية كبرى في مجال البنى التحتية ومحاربة الهشاشة الاجتماعية، وغيرها من القرارات والمبادرات الجريئة والإيجابية ذات الوقع السياسي والاجتماعي الحسن، سيكون من الإجحاف نفي وجودها في المغرب. لكن في المقابل، بعد 15 سنة على تعديلات 1996، وما تبعها من استحقاقات انتخابية (الانتخابات التشريعية لـ1997 و2002 و2007 والانتخابات الجماعية لـ2003 و2009 وانتخابات ثلث مجلس المستشارين)، وما انبثق عنها من مؤسسات تشريعية وتنفيذية وجماعية، وانطلاقاً من النقاشات وردود الفعل التي أعقبت حكومة عبد الرحمان اليوسفي وإدريس جطو وعباس الفاسي، سُجِّل العديد من الاختلالات التي وفّرت الأساس القانوني والدستوري لعرقلة مسار التطور الديمقراطي والتنمية السياسية[36]. والحركة الإصلاحية ببلادنا انطلقت مع تعيين وزير أول تكنوقراطي بعد انتخابات 27 أيلول/سبتمبر2002 [37]، وتفاقمت بعد أحداث 16 أيار/مايو 2003. إضافة إلى هذا المتغير، فالهيئة التي باشرت أكبر عملية مصالحة لإنصاف ضحايا الأمس، وزرع الأمل في نفوس جيل الحاضر والغد، احتفظت بتوصياتها لنفسها. كما أن محاربة المفسدين وناهبي المال العام ظلت تخضع لثقافة «الخطوط الحمر»[38]. بالموازاة مع ذلك، نسجل وجود اختلالات حادة[39]، وظواهر اجتماعية وسياسية مقلقة تهدد التماسك الاجتماعي، نقرأ أهم مظاهرها في خلاصات الدراسة التي أعدها المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية في مجال قياس مستوى التماسك الاجتماعي بالمغرب: في الوقت الذي تستمر فيه الروابط الأسرية في تصدّر مصادر إحساس المغربي بالأمان والثقة[40]. فإن التحولات التي شهدها المجتمع المغربي أدت إلى إضعاف العلاقات داخل الأسر، ومن ثم، إضعاف الرابط الاجتماعي والعيش المشترك. كما تتسم الثقة بالضعف، سواء بين الأشخاص أو تجاه المؤسسات[41]. يرتبط هذا الضعف بانعدام الحس المدني في الفضاءات العمومية والطرق والفضاءات الجماعية، كالملكيات المشتركة، وازدياد مظاهر عدم احترام القانون، والممتلكات العمومية، وممتلكات الغير، والمساس بحقوق الأشخاص، وسلامتهم المدنية والمعنوية، وهو ما يوضح أن المغاربة يعيشون أزمة وساطة اجتماعية وسياسية تشكّل أحد مظاهر هشاشة الرابط الاجتماعي. تتفاقم هذه الأزمة بسبب تدنّي مستوى الثقة، الذي من تجلياته من الناحية السياسية أزمة العلاقات القديمة التي محورها الأعيان وأطر الوساطة التقليديين، فضلاً عن تشتت الحقل السياسي، وبطالة شباب حضري يكاد يدير ظهره للسياسة[42]. وهي الوضعية التي أنتجت، حسب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مشاعر ظلم وحالات قلق، بسبب سوء التفاهم متعـدد الاتجاهات: بين الشباب والأسر، وبالخصوص في الأوساط الاجتماعية التي تعاني الفقر، والأمية، وانعدام السكن اللائق، كما أنتجت مظاهر تمرد على الشرخ الاجتماعي والاقتصادي، وواقع الفساد والزبونية، والإحساس المتنامي بحرية محجوزة من جراء الصعوبات الاقتصادية. وهو ما يؤدي بأعداد لا بأس بها إلى الضياع، والهشاشة والصراعات العائلية وانهيار القيم، ومشاعر اللاجدوى والاحتقار الذاتي، واستبطان الإحساس بكـونهم ضحايا مـجتمـع غير قادر على الإنصات إليهم، أو على الاعتراف بذكائهم وكرامتهم. الأمر الذي ينتج أشكالاً متنوعة من الاحتجاجات[43]. بماذا يمكن أن نعزز هذا التفسير؟

تعَدّ الخلاصة المُحيّنة التي توصل إليها «ريمي لوفو» بمثابة أجوبة مركزة جداً عن هذا التساؤل، غير أنها دالة، وتنسجم مع الوضع الذي رسمناه سابقاً. يقول في هذا الإطار: «غداة الاستقلال، كنا نسمع الأحزاب والنقابات وهي تدّعي ممارسة السلطة باسم الكتل الجماهيرية التي لم تكن لها تمثيلية إلا بشكل محدود، بيد أن النظام الملكي قد أزاح هذه الأحزاب والنقابات بدون صعوبة تُذكر بفضل دعم العالم القروي والقوات المسلحة»[44]، و«رفض دوماً أن يرهن نفسه بشكل مباشر من وراء تشكيلة سياسية ما، وظل يسهر على تأمين نوع من التعددية من بين أولئك الذين يعبّرون عن وفائهم غير المنقوص لفكرة السلطة الملكية ولشخص الملك بالذات»[45]، ليهيمن «بكامل السهولة في إطار المعيش اليومي»[46]. لعل هذا الأمر يوضِّح شيئاً ما سبب عدم مشاركة المؤسسات السياسية، أي الأحزاب، بصفة رسمية، والاكتفاء فقط بمشاركة بعض الشخصيات في الاحتجاجات بصفة غير رسمية.

ثالثاً: آلية التوافق: الحدود والمنافع

إن الانشغال بالاحتواء السياسي، إلى جانب حَجْبِه عمق المشاكل الاجتماعية وانحــصار التفكير فيها أثناء «تدبير الأزمة»، انعكس سلباً إلى حد ما، على وظيفة الأحزاب السياسية، التي أصبحت رهينة للتحالفات التـوافقية، ســواء الدائمة في علاقتها مع المؤسسة الملكية، أو الظرفية في إطار علاقة الأحزاب فيما بينها[47]، بشكل حصر العمل السياسي داخل  زوج «معارضة/أغلبية»، أي ربطه مباشرة بالموقع الحكومي، بعيداً من شيء اسمه برنامج حزبي أو مرجعية أيديولوجية[48]، منتجة بذلك نفس أنماط التعاطي
البيروقراطي[49]. فأصبحت الأجواء التي تخيِّم على هذه الأحزاب، على حد تعبير عبد اللطيف أكنوش، هي نفسها تلك التي يصادفها الباحث في الدراسات التي تتخذ أجواء البلاطات موضوعاً لها[50]. هذا الوضع جعل الحزب السياسي سجيناً لبنية تنظيمية مغلقة، غير منفتحة، لا على المجتمع وطبيعة التحولات التي يعرفها فقط، وإنما على النقاشات الداخلية أيضاً، سواء كانت فردية أو جماعية، وهي الظاهرة التي ارتبط بها منطق الإقصاء والإقصاء المضاد، الأمر الذي يترك تأثيراً سلبياً في إنتاج الأفكار والمفاهيم[51]. ويمكن قراءة هذا الانغلاق، على سبيل المثال، من خلال تفشي ظاهرة الترحال في البرلمان، وتهافت الأحزاب السياسية على استقطاب الأعيان خلال الانتخابات، بما يؤكد عدم قدرتها على تحديث وتطوير بنائها ووظائفها الاجتماعية والسياسية، وعدم استحضار الكفاءة والموضوعية في تزكية المرشحين باسمها، والرغبة في الفوز بأكبر عدد من المقاعد بكل الطرق والوسائل، علاوة على عدم تجدد نخبها وعدم انفتاحها بشكل كافٍ على النساء والشباب، فتكرّست رتابة وأزمة المشهد السياسي والحزبي، وأسهم في عزوف فئات عريضة من المجتمع[52]. كان من تبعات هذا الواقع، تعامل الفاعلين الحزبيين المغاربة مع المشاركة الحكومية، أساساً كمجال لتدبير العلاقة مع الدولة، وليست مجالاً لإنتاج السياسات (كسياسات عمومية وكأجوبة عن أسئلة المجتمع)؛ فالرواسب التاريخية، داخل الأحزاب، عملت على تكييف ردود فعلها، بشكل يجعل هاجسها الأساسي هو التفكير في المسألة السياسية (مسألة الدولة، السلطة، الدستور…)[53].

حكمت كثافة حضور هذا الهاجس على معظم الأحزاب السياسية بالانخراط في عملية التقرب من السلطة والدولة، والتخلي، في المقابل، عن وظيفة الحزب الأساسية، بوصفه جهازاً للوساطة بين الدولة والشارع، وضابطاً للصراعات، ومدمِجاً للمطالب الشعبية في النظام السياسي، مثلما يبرز حضوره في درجة تعبئته للمواطنين والدفاع عن قضاياهم[54]. هكذا تحولت الطبقة السياسية إلى دعامة إسنادية[55] للنظام السياسي ولخياراته المركزية التي قد تختلف من حقبة لأخرى، حسب طبيعة المرحلة ومستلزمات التحول[56]، بدل أن تكون طرفاً وازناً في القرار السياسي الذي يتحول إلى قرار مغلق[57]، يضعف عملية المشاركة السياسية، ويتحكم في المنافذ المؤدية إلى دائرة صناعة القرار السياسي. وفق هذا المجال المغلق، يمكن إدراج ردود فعل معظم الأحزاب السياسية تجاه حركة 20 فبراير، والتعاطي السلبي والمتسرع مع الحراك في الحسيمة. هكذا، يمكن اعتبار رفض هذه الأحزاب السياسية مساندة الحركات الاحتجاجية وتجاهل مطالبها، أو الترقب الحذر لنتائجها، أو حتى مهاجمتها، مراقبةً ذاتيةً تمارسها الأحزاب السياسية على نفسها، أو تكريساً لتراض وتوافق قائم بينها وبين المؤسسة الملكية، أو بالأحرى «لعبة توافق»، على حد تعبير رقية المصدق، يمكن، عبر تتبُّع الممارسة، اكتشاف ما يشوبها من ثغرات تتعارض ودعم دولة القانون وسلطة المؤسسات[58]، لأن اللعبة التي تتحكم في عمل الشركاء السياسيين لا تطوِّر مسلسلاً يؤسس لسمو الدستور، بقدر ما يدفع في الواقع في اتجاه تهميشه، ليبقى أخذه كمرجعية «مجرد مسألة تكتيكية»[59] تندرج ضمن إطار «صراع غير واضح»[60] من أجل السلطة، كما يشكل أحد مظاهرها[61].

وإذا استحضرنا، في هذا الإطار، مجمل التحولات التي عرفها المغرب السياسي، بالتركيز على طبيعة العلاقات بين الفرقاء السياسيين في مرحلة ما بعد التسعينيات وما قبلها، ندرك أن المغرب مرّ بمرحلتين أساسيتين: مرحلة الانغلاق (الصراع على السلطة واحتكارها)، وقد امتدت من بداية الاستقلال إلى التسعينيات، ثم مرحلة الانفتاح (التقارب والتراضي بين الأطراف المتصارعة على ثوابت النظام السياسي وعلى الدستور والورش الإصلاحية)[62]، التي بدأت مع بداية التسعينيات، وتميزت بتبني أحزاب الحركة الوطنية خطاباً سياسياً جديداً يسعى إلى التوافق مع القصر[63]، ويتجه بالأساس إلى حقل التدبير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي[64]. ولعل أهم تساؤل يطرح إزاء هذا الانتقال من الصراع إلى الممارسة السياسية القائمة على التوافق هو علاقة هذه الممارسة الجديدة مع الديمقراطية. في الواقع، يوجد تباين كبير بين الباحثين بخصوص الإجابة عن هذا الإشكال، إذ هناك من يعتقد أن التراضي آلية تجنِّب البلاد عواقب الشد والجذب والصراع والشقاق[65]، وتخلق جسراً أساسياً من التواصل بين الفاعلين السياسيين خارج إطار الشكلانية الدستورية، بل إنها أعادت نوعاً من الثقة السياسية في ورثة الحركة الوطنية[66]، بينما يرى آخرون أن لا أحد يذهب بهذا التراضي بعيداً إلى الحد الذي يوحي فيه بوجود مشروع مجتمعي متـكامـل، لأن الدولة وأغـلب القـوى السياسية – رغـم كـل ما تقوله – تخـشى أكـثر ما تخشى الاتجاه الوحيد[67]. ثم إن التوافق تابع للشرعية الذاتية للعاهل[68]، كما أن خطاب التراضي السياسي هيمن بين الملك والمعارضة، مع موالاة عدد من الأحزاب للملكية، ومنح الثقة لكثير من المشاريع الحكومية، بعيداً من البرلمان الذي بقي من دون تأثير كبير في الخيارات الكبرى للحكومة (كقضية التعليم ومدونة الأسرة والمسألة الانتخابية).[69] بيد أن هذا الاختلاف حول «آلية التوافق» لا يمكن أن يحجب عنا منافعها، على امتداد المنعطفات المصيرية في تاريخ المغرب المعاصر، في مقاربة الإشكاليات الوطنية الكبرى، لكسب رهانات المعارك الدبلوماسية الحاسمة، كما في مجالات التحديث والدمقرطة والتنمية[70].

على المستوى القانوني، ترجمت هذه الآلية واقع تجدّد الشرعية الوطنية للمؤسسة الملكية، وعلى المستوى السياسي، سموها و«هيمنتها» على ما عداها في منظومة المؤسسات الوطنية. وفي وضع كهذا، حيث استفادت الملكية بالمغرب بدفع جزء من أحزاب المعارضة إلى الاشتغال داخل مؤسسات الدولة[71]، كان صعباً أن ينشأ أيّ فضاء احتجاجي بعيداً من الحقل السياسي المؤسس، قبل أن يكسر الحراك في الحسيمة هو الآخر هذا الحاجز، ويتطور في استقلال عن الأحزاب السياسية (المتحدة عموماً حول السلطة والمنقسمة فيما بينها)، وتأمل في التغيير بالاعتماد على قدراتها الذاتية. وهذا ما يفسر انتقاد المشاركين في هذا الحراك من انطلاقه لأغلبية الأحزاب، والتنظيمات النقابية والمدنية ورفض وصايتها، في عدد من مسيراتهم وشعاراتهم المرفوعة، بوصفها «هيئات بيروقراطية»[72]. بالطبع، لا تبدو المهمة سهلة، أمام غياب المساندة الحزبية الكافية، غـير أن التجربة أثبتـت ولا تزال تثبت أنها مـمـكـنة، وأكــدت على نحوٍ لا يـدع مـجالاً للـشك أن المـطالبة بتغييــرات أو إحداثها في الإدارة والحكم والاجتماع ليست حكراً على المؤسسات التقليدية، بل متاحة أيضاً لحركات الشارع التي أصبحت تبحث لها عن دور في الحياة السياسية، وبخاصة إن هي أحسنت استثمار الفرص المتاحة لها، وأطّرت بكيفية جيدة تحركاتها.

خاتمة

يبدو من خلال ما تقدم أن الحركات الاحتجاجية بدأت تكرس في كل مرة مدى استقلاليتها عن الأحزاب السياسية والنقابات، ولم تعد تعوِّل على دعمها ومساندتها، بل إنها أصبحت حذرة من الركوب على خرجاتها في إشارة واضحة إلى فك الارتباط بها والتشكيك في قدرتها ونزع صريح للثقة في نياتها، مع ما صاحب ذلك من بداية تعميق الهوّة بين الاحتجاجات الشعبية وهذه التنظيمات، إلى درجة يمكن معها القول إن هذه الأخيرة فقدت «عصرها الذهبي»، وعليها أن تتهيّأ للتأقلم مع وضع داخلي وإقليمي متوتر، تنامى فيه الاعتقاد بسياسة «الأداء»، وإلا ستظل محط نقد ملكي وشعبي بسبب عدم قدرتها على التأطير والتوسط بين الدولة والمحتجين. فلا يعقل أن يجد المحتجون أنفسهم في أغلب الحالات يخاطبون مبعوثي وزارة الداخلية على المستوى المركزي أو الجهـوي أو المحلي، وما يستتبع ذلك من سوء الفهم وانتشار الإشاعة وتكثيف خطاب الإقصاء، في غياب شبه تام لوسطاء فاعلين (علماء، وبرلمانيين، وسياسيين، ونقابيين، وناشطين جمعويين، وإعلاميين…) بإمكانهم أن ينقلوا مطالب المحتجين المشروعة إلى أصحاب القرار المعنيين. ورب قائل بعجز هؤلاء الفاعلين بممارسة هذه الوساطة أصلاً في ظل المشهد السياسي القائم، أو يرتكن إلى خطاب المظلومية، بدعوى أن الأحزاب السياسية هي ضحية لما أسميناه سابقاً لعبة التوافق أو الاحتواء، التي أنتجت فاعلين سياسيين لا حول لهم ولا قوة، باستثناء طابع الحزب والمقار التي يعقد فيها أنشطته. غير أن هذا الكلام اليوم مردود عليه من جوانب شتى، ويكفي الرجوع إلى خطاب العرش الأخير للحسم في تقديم إجابات كافية لهذا التواكل. من حق كل فاعل الدفاع عن نفسه وإعداد الاستراتيجيات التي تضمن استمراريته وبسط هيمنته، وإذا حصل أن اختل ميزان القوة لصالح طرف ما، فقد يصح القول بأن الطرف القوي مطالب بفسح المجال للطرف الضعيف لترتيب أوراقه واستعادة توازنه لأنه بحاجة إلى خدماته، لكن من غير المقبول الاستسلام التام والقبول بالخضوع من دون قيد أو شرط تحت ذرائع مختلفة، بعضها مستساغ وأغلبها لا يسمن ولا يغني من جوع، والاختباء الدائم وراء أسطورة «التحكم» التي أصبحت متآكلة ومتقادمة في الزمن الحاضر. ألم تكن العبارات التي ساقها الملك محمد السادس في خطاب العرش الأخير بمنزلة علاج بالصدمة لكل من يتهرب من تحمُّل مسؤوليته كاملة في الرخاء والشدة بغض النظر عن المكاسب السياسوية المبحوث عنها خدمة للوطن: «التطور السياسي والتنموي، الذي يعرفه المغرب، لم ينعكس بالإيجاب، على تعامل الأحزاب والمسؤولين السياسيين والإداريين، مع التطلعات والانشغالات الحقيقية للمغاربة. فعندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون، إلى الواجهة، للاستفادة سياسياً وإعلامياً، من المكاسب المحققة. أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه»[73].

 

قد يهمكم أيضاً  حركة 20 فبراير بالمغرب: دراسة في سياقات التحرك وبنية الحركة 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الاحتجاج #المغرب #الربيع_العربي_في_المغرب #حركة_20_فبراير #الدينامية_الاحتجاجية #الديمقراطية #التظاهر #التغيير #الحركات_الاحتجاجية_في_المغرب