ملخص:

لا مشاحة في أن كل متتبع حصيف لتحولات المشهد الديني المغربي في العقود الأخيرة، ستؤجج اهتمامه المفارقة التالية: في الوقت الذي سيُلاحِظ فيه ارتفاعاً واضحاً في مؤشرات تديُّن المغاربة، وحضوراً كثيفاً للدين بالفضاء العمومي، وتعدداً غير مسبوق في مظاهر وكيفيات استثماره السياسي؛ سيُلاحِظ في الوقت نفسه تقلُّص مساحة الدين تدريجياً في يوميات المجتمع المغربي، وتراجع حضوره بصمت في بنائه المؤسساتي. يحاول هذا المقال، متوسـلاً أدوات علم اجتماع الأديان، تشخيص ملامح هذه المفارقة، وإعادة تركيب وقائعها، واستجلاء دينامياتها العميقة والدافعة، واستشراف مآلاتها المستقبلية في ضوء تزايد النفوذ السياسي لحزب «العدالة والتنمية»، أحد أهم أطياف مجرة «الإسلام السياسي» في المغرب.

كلمات مفتاحية: الدين، التديُّن الفردي، الدَّنيوة، العلمانية، حزب «العدالة والتنمية».

 

مقدمة

إذا كان السؤال السوسيولوجي غالباً ما يجد مصدره في الجهل بظاهرة معينة، أو في التشكيك في رأي جاهز وشائع، أو في الانشغال بظاهرة تبدو تناقضية ومفارقية (Mantoussé, 2006: 14)، فاٍننا سنحاول من خلال هذا المقال، متوسلين أدوات علم اجتماع الأديان، تفكيك لغز إحدى المفارقات السوسيولوجية اللافتة التي أججت اهتمامنا في سياق مُعايَنَتِنا للتحولات السوسيو – ثقافية العميقة التي يعرفها المجتمع المغربي، وَرَصْدِنا لمؤشرات تحول مشهده الديني بشكل خاص؛ وذلك عبر تشخيص ملامحها العامة، وتَعقُّبِ شِعابِها، واستجلاء محدداتها الشامة، وفرز مآلاتها في ظل تصاعد مد إسلامه السياسي. يمكن أن نُكثِّف عناصر وأبعاد هذه المفارقة‏[1]، التي تعبر عن طبيعة التعقد والالتباس الذي يميز علاقة الديني بالسياسي بالمجتمع المغربي، ويسِم علاقة الدين بالحداثة عموماً، على النحو التالي: في الوقت الذي نلاحظ فيه ارتفاعاً واضحاً في مؤشرات التديُّن لدى المغاربة، ونعاين كثافة حضور الدين في الفضاء العمومي، وإقبالاً كبيراً على استثماره السياسي سواء من قبل الدولة أو حركات «الإسلام السياسي» بمختلف أطيافه. نلاحظ في الوقت نفسه تراجع وتقلص مساحات حضور الدين في يوميات المجتمع المغربي أكثر فأكثر. فقد أصبح وجوده مقتصراً على بعض الفضاءات الاجتماعية الضيقة الموجودة على هامش الحياة العامة، وظل مرتبطاً بأمكنة محددة وبأزمنة محدودة وخاصة.

يوجهنا في ذلك كله هدف مركزي يروم الإجابة، انطلاقاً من رؤية نقدية مركبة لا تخلو من نَفَسٍ استشرافي، عن السؤال التالي: إلى أي حد يمكن لتفاعل كل من متغيرَي ارتفاع منسوب تديُّن المغاربة، وتضخم حضور تعبيراتهم ورموزهم الدينية في الفضاء العمومي في السنوات الأخيرة، وتكاملهما وتشابكهما مع متغير آخر هو تزايد النفوذ السياسي لحزب «العدالة والتنمية» في الحياة السياسية المغربية، أن يُفَرْمِلَ سيرورتا الدَّنيوة (Sécularisation) الزاحفة والعلمانية (Laїcité) الجزئية الصامتة اللتين تخترقان مفاصل المجتمع المغربي منذ سنين طويلة، واللتين يمكن اعتبارهما محطات متقدمة في مجرى ومسرى «الخروج عن الدين» بالمعنى الذي يعطيه إياه مارسيل غوشيه‏[2]. نُذَكّر في هذا السياق أن حزب «العدالة والتنمية»، أحد أهم أطياف مجرة «الإسلام السياسي» بالمغرب، أصبح منذ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2011 يقود ائتلافاً حكومياً بعد امتلاكه أكثر من ربع مقاعد مجلس النواب (27,08 في المئة خلال اقتراع 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2011 (وزارة الثقافة والاتصال، 2019)، و31,64 في المئة خلال اقتراع 7 تشرين الأول/أكتوبر 2016 (وزارة الثقافة والاتصال، 2016)، ويضطلع، منذ الانتخابات الجماعية والجهوية لـ 4 أيلول/سبتمبر 2015، بتدبير شؤون أغلب المدن الكبرى.

أولاً: حول أهمية الموضوع وخلفيته النظرية

من نافل القول أن التفكير السوسيولوجي في علاقة الدين بالحداثة ظل لمدة طويلة محكوماً بما سماه أُوليفيي تشانين (Olivier Tshannen) بـ «براديغم الدَّنيوة» (Tshannen, 2001: 308) الذي يسلّم بعلاقة التعارض الجذري والتنابذ الحاد والتنافر المتبادل الذي يجمع بينهما، بعلة أن كل توجه نحو الحداثة سيجرّ حتماً في إثره تراجعاً للدين في المجالين العام والخاص.

لقد ظل هذا البراديغم مهيمناً داخل سوسيولوجيا الأديان إلى حدود نهاية سبعينيات القرن الماضي، أي إلى حدود اللحظة التي بدأت تتناسل فيها «الحركات الدينية الجديدة (NMR)» (Beckford, 2013: 808‑809)، وتتواتر فيها بعض المعطيات الدولية التي أشرت إلى زخم الظاهرة الدينية، وعلى تصاعد حضور المؤسسات الدينية بالفضاء العمومي؛ ليس فقط بهوامش العالم الحديث، مثل إيران التي عرفت ما سمي الثورة الإسلامية سنة 1979، بل وبمراكزه أيضاً، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدا ذلك واضحاً عبر الدور الكبير للكنائس الإنجيلية في فوز رونالد ريغان على جيمي كارتر، خلال الانتخابات الرئاسية سنة 1980، بعدما كانت تفضل دائماً النأي بنفسها عن الصراعات السياسية المباشرة (Tank-Storper, 2013: 743).

لقد مثل ظهور هذه المعطيات الجديدة حافزاً قوياً لتسليط معاول الهدم والتقويض على مسلّمات هذا البراديغم بعد أن أبرزت ضعف قيمته الكشفية، فاعتُبرت شهادة ناصعة على «ولادة جديدة» (Renaissance) للدين (Cipriani,1981: 147)، ودلالة قاطعة على «ثأر الله» (Kepel, 1991)، وتعبيراً جلياً عن «نزع خوصصة الدين» و«تعميمه» (Déprivatisation) (كازانوفا، 2005: 16)، ومؤشراً دالّاً على «استعادة سحر العالم» (Réenchantement) (Berger, 2001)، وعلى النزوع نحو «نزع الدَّنيوة من العالم» (Désécularisation) (Berger, 2001)، بل نحو «مناهضة الدَّنيوة» (Contre-sécularisation) (Berger, 2001: 20).

لقد أبرزت هذه الوقائع أن الدين والحداثة يسيران جنباً إلى جنب، بتزامن وتساوق، حيث إن حضور طرف لا يلغي بالضرورة الطرف الآخر. يشَبِّه ريجيس دوبري ترابطهما المتلازم هذا بـ «الحركات المُحتمة في رقصة باليه […] والمعادلة ذات قيم متغيرة ولكنها مترابطة التلازم» (دوبري، 1986: 468 – 469)، ويُمَاهِيه بِلُعْبَة المجموع الصفري، حيث يبدو أن «نزع السحر عن العالم» ليس حاجزاً أمام تدفق حِمَم المُقدَّس الملتهبة، بل هو وَقُودها، أو لنقل إنه ربيبها وباكوراتها في الوقت نفسه؛ ما دمنا «نحتاج إلى الاقتحام (Effraction) كما نحتاج إلى الانكفاء، وإلى جاذبية الواسع كما إلى المنطقة الآمنة، وإلى الشجرة كما إلى الزورق، وإلى المقدس كما إلى المدنس» (Debray, 2001: 9). وضمن نفس الأفق، تؤكد دانييل هرفي ليجي (Danièle Hervieu-Léger) أن «الحداثة تحطم الدين بوصفه نظاماً من الدلالات ومحركاً للمجهودات البشرية، لكنها، وفي الآن ذاته، تخلق الزمكان المناسب لظهور يوتوبيا تظل، من حيث بنيتها نفسها، مرتبطة بإشكالية ذات طبيعة دينية هي إشكالية الاكتمال والخلاص» (Hervieu-Léger, Champion, 1986: 224). وفي الاتجاه نفسه، يؤكد بيتر بيرغر (Peter Berger) أن الحداثة «تزعزع كل اليقينيات القديمة، في حين أن العيش في غياب اليقين هو حالة صعبة بالنسبة إلى الكثيرين، لهذا تستطيع بعض التنظيمات (ليس فقط الدينية منها)، التي تعدهم بمنح أو استعادة يقينيات معينة، أن تجد سوقاً جاهزة ورائجة مفتوحة في وجهها» (Berger, 2001: 21).

اللافت للانتباه، أن المجتمعات الإسلامية غالباً ما يتم استحضارها كأفضل مثال لحالة ما يسمى «عودة المقدس»، وبخاصة بعد تصاعد مدّ الحركات الدينية – السياسية فيها على نحو غير مسبوق من جهة، وتضخم حضور الرموز الدينية المرئية بفضائها العمومي، وكثافة تصاعد مؤشرات تدين أفرادها من جهة أخرى. وبأثر من ذلك، ستغذي سيرورة «إعادة أسلمة» (Ré-islamisation) (Roy, 1992: 81) هاته المجتمعات الصورة العامة التي نسجها الخطاب الاستشراقي عن غيرية المسلمين المطلقة التي يُعتَقَد أن من أهم مظاهرها رفضهم المطلق لأيّ فصل أو تمييز بين الدين وبقية الحقول الاجتماعية الفرعية الأخرى، وبخاصة بين الدين والسياسة. للإشارة، وكما أوضحت ذلك فاليري أميرو (Valerie Amiraux)، «فالمُسَلَّمة الاستشراقية التي تتخذ من الخصوصية الثقافية والدينية مفتاحاً لقراءة وتأويل التطورات السياسية، والاجتماعية والاقتصادية لمجال يسمى تارة بالشرق – الأوسطي وتارة أخرى بالإسلامي، تستمر حالياً في كل الظروف والأحوال، بغض النظر عن سياق التجرية الكولونيالية» (Amiraux, 2004: 213). فمن بين مفاعيل هذه المسَلَّمَة على الخطاب اليومي والإعلامي والسياسي الغربي نظرته إلى المسلمين بوصفهم كتلة واحدة متجانسة، وتضخيمه من دور وآثار الإسلام على تمثلاتهم وممارساتهم. فإذا كان المسلمون يختزنون كل مكونات الضدية، فلأن الدين، من هذا المنظور، هو عامل محدد بصورة تظافرية لديناميات مجتمعاتهم، ومتغير تفسيري ثقيل لفهم منطقها الاجتماعي والسياسي، ما دام المسلم هو بالضرورة إنسان إسلامي (Homo islamicus) (بالتعارض مع الإنسان الغربي Homo occidentalis) بالمعنى الذي يعطيه ماكسيم رودنسون لهذا المفهوم (Rodinson, 2003: 83)، أي ذلك الكائن المختلف (tre à partêun) الذي يتخذ لديه الإسلام شكل الوصفة الطبية التي تحدد بالضرورة كافة معالم وتفاصيل حياته اليومية مثل طريقة أكله وشربه وملبسه ومصافحته… إلخ. فلفهم المعنى الذي تنطوي عليها تصورات وممارسات المسلمين وتفسير التمثل الذي يقبع خلف ديناميات مجتمعاتهم، يكفي، بأثر من ذلك، الرجوع إلى النصوص الدينية التأسيسية التي يحتكمون إليها بكونها سلطاً مرجعية أساسية يستمدون منها نظرتهم إلى الكون والإنسان، دون الحاجة إلى التعرف بدور المتغيرات التفسيرية الأخرى سواء كانت نفسية أو تاريخية أو سوسيو – اقتصادية أو ديمغرافية أو سياسية.

هكذا، يبدو أن هذه النزعة الاستشراقية، بمسلماتها الماهوية والثقافوية وبرؤيتها المانوية والاختزالية، تنظر إلى الإسلام وكأنه جوهر عابر للتاريخ يعلو على أطر وديناميات المجتمعات ويسمو على تناقضاتها وصراعاتها، فتخلط بذلك، دون رَوِيَّة، بين «مستوى النظام الرمزي المرجعي (الإسلام) من جهة، ومستوى كيفيات استخدام هذه الرموز والدلالات التي تضفى عليها، من جهة أخرى. ذلك أن التوافق على الرموز (الإسلامية هنا) في مختلف السياقات لا يفترض بالضرورة وجود إجماع حول مضامينها أو حول طبيعة علاقتها بالممارسة» (Kilani, 2004: 96)، ما دام كل حديث عن الإسلام بصيغة المفرد حديث متهافت، لتعدد أنماط فهمه وتأويله وممارسته.

من هذا المنطلق، تفترض هذه الدراسة وجود هوة عميقة بين الواقع السوسيولوجي للمجتمعات الإسلامية بتناقضاتها المختلفة وتعقداتها السوسيو تاريخية المتعددة من جهة، والخطاب اليومي والإعلامي والسياسي الغربي حولها من جهة أخرى؛ لكون هذا الخطاب لا يزال متشبعاً، في أغلب متونه، بالرؤية الاستشراقية المسكونة بهاجس »التمييز الأنطولوجي والإيبيستمولوجي بين الشرق (وغالباً) الغرب» (Saïd, 1980: 15).

فاٍذا كانت المجتمعات ليست كما تبدو أو كما تدّعي أنها كذلك، لأنها ترغب دائماً في إخفاء ما تصنعه، وإخفاء ما هي عليه (باسكون، 1986: 15)، فإننا نسعى، في ما يلي، أن نبين، عبر المثال المغربي، أن النفاذ إلى الواقع المتواري للمجتمعات الإسلامية والإنصات العميق لدينامياتها، يجعلنا ندرك بسهولة أن مفهوم الإنسان الإسلامي (Homo islamicus) هو مجرد بناء أيديولوجي خالص وليس حقيقة إمبيريقية ملموسة، ويدفعنا إلى الإقرار بأن المد المتصاعد للحركات الدينية – السياسية بالمجتمعات الإسلامية، وارتفاع مؤشرات تدين أفرادها لا يمكنه أن ينفي التراجع المتصاعد، بصورة متزامنة، لنفوذ الدين في قطاعات واسعة من حياتها اليومية، ومن بنائها المؤسساتي. هذا ما التفت إليه كل من يوسف كورباج وإيمانويل تود (Emmanuel Todd) عندما اعتبرا في كتابهما لقاء الحضارات (Courbage and Todd, 2007) أن ارتفاع نسبة تعليم النساء، وانخفاظ معدل الخصوبة وتراجع نسبة الزواج الداخلي بالمجتمعات الإسلامية هي مؤشرات دالة على أنها تعيش انتقالاً ديمغرافياً على غرار ما عرفته المجتمعات الغربية في السابق، منخرطة بذلك في سيرورة دنيوة عميقة؛ ومن ثمة، لا يمكن اعتبارها حالة استثنائية وشاهدة في العالم الحديث. فالإضطراب (Agitation) الديني الذي يعيشه العالم الاسلامي الآن، يقول إيمانويل تود «قد يخفي في ثناياه ظاهرة لا نستطيع إدراكها الآن هي ظاهرة الشك والتراجع الخفي للدين. فربما قد يكون العالم الإسلامي، الآن، منخرطاً في سيرورة نزع الطابع الإسلامي عن واقعه (Désislamisation) على غرار سيرورة نزع طابع المسيحية (Déchristianisation) التي عرفتها أوروبا (Courbage and Todd, 2007b)». كل هذا قاده إلى القول، رداً على صامويل هنتنغتون، أن العالم لا يسير في اتجاه صدام الحضارات، بل في اتجاه لقاء الحضارات.

وضمن نفس الأفق، سيؤكد ساري حنفي أن التحولات التي عرفها الحقل الديني وكذا بعض الحركات الإسلامية في الكثير من البلدان العربية جعلها تتحرك في اتجاه ما يسميه عبد الوهاب المسيري «العلمانية الجزئية» أو «العلمانية الأخلاقية والإنسانية»، التي تؤمن بالتوفيق بين السياسي والأخلاقي، وتميز بين الدعوي والسياسي، وتسمح للدين بالحضور في المجال العام، وتسمح للإيمان وعدم الإيمان بالتعايش (حنفي، 2019: 83 – 84).

ثانياً: مؤشرات تحولات المشهد الديني

لا شك في أن المتتبع الرصين لتحولات المشهد الديني في المغرب قد لايحتاج بالضرورة إلى الإطلاع على نتائج الاستطلاعات التي تقوم بها المراكز البحثية الوطنية أو الدولية، مثل معهد «غالوب» (Gallup) و«منتدى بيو فوروم للدين والحياة العامة» (Pew Forum)، ليلاحظ كثافة حضور مؤشرات التديُّن بالفضاء العمومي المغربي، وليخلص إلى القول بارتفاع منسوب التديُّن لدى المغاربة، وبتزايد وتيرة دلائله الكمية في السنوات الأخيرة؛ بغض النظر عن الإختلاف في قراءة وتأويل هذا الأمر، بين من يرى فيه مؤشراً دالاً على «عودة الديني»، وعلى «ظمإ أنطلوجي للمقدس» (الرفاعي، 2016: 5)، وبين من يعتبره مجرد تعبير عن تعدد شديد، وتنوع غير مسبوق في أنماط فهم الإسلام وممارسته.

يمكن رصد كثافة هذا الحضور الديني الساطع في الفضاء العمومي، واستجلاء دلائل ارتفاع منسوب تدين المغاربة من خلال المؤشرات التالية:

  • خلال فترة زمنية لم تتجاوز العقد والنصف، تضاعف تقريباً الحيز الزمني الذي تخصصه النساء للممارسة الدينية؛ إذ انتقل من 27 دقيقة الى 48 دقيقة يومياً؛ كما ارتفعت نسبة المُمارِسات الدينيات من 47 في المئة إلى 68 في المئة، وفق نتائج البحثين الوطنيين اللذين قامت بهما «المندوبية السامية للتخطيط» حول تدبير الزمن عند المغاربة سنة 1997 وسنة 2012 (HCP, 2014:40).
  • تزايد عدد المساجد أكثر فأكثر، حيث ارتفع عددها من 33407 سنة 2003 (وزارة الأوقاف، 2019)، أي بمعدل مسجد لكل 881 مواطن، إلى 51000 سنة 2018، أي بمعدل مسجد لكل 690 مواطن. وإذا ما استحضرنا عدد سكان المغرب الذي انتقل من 29438000 نسمة سنة 2003، إلى 35220000 نسمة سنة 2018 (HCP, 2019)، نلاحظ أن العدد الإجمالي للمساجد قد ارتفع بـ 34,49 في المئة، مقابل نصف هذه النسبة فقط، أي 16,41 في المئة، بالنسبة للزيادة السكانية.
  • الإقبال المتزايد على ارتداء الحجاب والنقاب، وارتفاع الطلب على المنتوجات التي تحمل ختم «حلال»، مثل لباس البحر الإسلامي «البوركيني».
  • التزايد الملحوظ في عدد الذين يحلقون شواربهم، ويطيلون لحاهم، ويرتدون قمصان أفغانية، وسراويل فضفاضة تنتهي عند حدود الكعبين.
  • التزايد الملحوظ في عدد ما يسمى «الدعاة الدينيين» و«الرقاة الشرعيين»، والإقبال الكثيف على مشاهدة القنوات الفضائية المتخصصة في الوعظ والإرشاد الديني.
  • النزوع الشديد نحو إظهار الممارسة الدينية وعرضها. فهواتف الناس تصدح بالآذان أو تشدو بالأناشيد الدينية، والقرآن تُسمع تلاوته في كل الأمكنة، من سيارة الأجرة إلى المحل التجاري مروراً بعيادة الطبيب، والملصقات المكتوب عليها «لا تنسَ ذكر الله»، تؤثث واجهات معظم السيارات.

ومع كل هذا، فارتفاع منسوب التديُّن لدى المغاربة لا يجب التسليم به بارتياح تام وبيقينية مطلقة، بل بتحوُّط واحتراس شديدين، نظراً إلى الصعوبات المنهجية والإيبيستمولوجية التي تطرحها إشكالية قياس تديُّن الأفراد والجماعات، ولتعقد وتعدد أبعاد التجربة الدينية (Hervieu-Léger, 1996: 21; Glock, 1965: 51). فمجال الإيمان المرتبط بالدخيلة والسريرة والجوف ليس مادة صماء أو واقعاً إمبيريقياً يمكن ملاحظته، بل هو مجال يعْتاصُ على الإدراك، ويستعصي على كل برهان أو تحقق تجريبي.

ثالثاً: في الفرق بين مفهومَي الدَّنيوة والعلمانية

لاستجلاء طبيعة الإختلاف الموجود بين المفهومين، وتجاوز هلاميتهما وزئبقيتهما، يبدو ضرورياً الاسترشاد بمقالة لكارل دوبلار (Karel Dobbelaere) بعنوان «حول الدنيوة» (Dobbelaere, 2008: 177‑196)، يميز من خلالها بين الدنيوة المكتومة والمضمرة وغير المبحوث عنها وغير المرغوب فيها من جهة؛ والدنيوة الظاهرة والمعلنة والواعية والمرغوب فيها والمبحوث عنها من جهة أخرى.

لتقريب القارئ مما يعنيه بالدنيوة المكتومة، يعطي كارل دوبلار مثالاً بظهور الساعة ابتداءً من القرن الرابع عشر، مؤكداً أنه »منذ القرن الثاني عشر، بدا واضحاً أن التطورات العلمية والصناعية والتجارية تتطلب أنظمة أخرى لقياس وضبط الزمن غير تلك التي كانت توفرها أجراس الكنائس والأديرة، المنظِّمة لمواقيت الصلوات. فاختراع الساعة خلال القرن الرابع عشر، ووضعها فوق أعلى برج في المدينة – حتى تبدو أشد بروزاً – سيسمح بتحرير الزمن من حمولته الدينية، وبالتالي بدَنْيَوَته، أي أنه سيفقد دلالته الكَنَسِيَّة وطابعه المقدس. سيتسع حجم هذه الظاهرة مع مرور الزمن، وبوجه خاص على إثر ظهور السكة الحديدية والطائرات – الشيء الذي يستدعي تنسيقاً دولياً – وتطور وسائل الاتصال التي أصبحت حالياً إحدى أكبر الوسائل التي عبرها تتعرف الأسر على التوقيت الزمني. هكذا، سيتحرر الزمن بالتدريج من بُعْدِهِ المُتَعَالِ. لقد أصبح الآن خاضعاً للإنسان الذي ينظمه بناءً على ما تفرضه الضرورات «التكنولوجية» أو «الاقتصادية» (التوقيت الصيفي والتوقيت الشتوي) (Dobbelaere, 2008: 179).

يوضح هذا المثال بدقة كيف أن سيرورة الدنيوة المضمرة لا تخضع لتخطيط مسبق، ولا تنتج من قرار واع، ما دامت نتائج ظهور الساعة لم يتم البحث عنها بشكل قصدي. أما الدنيوة الظاهرة فهي سيرورة قصدية وواعية ومرغوب فيها تهدف، في نظر دوبلار، إلى «تعزيز التمايز الوظيفي بين النظام الفرعي الديني وباقي الأنظمة الاجتماعية الفرعية، مثل التعليم والطب والقانون، من خلال اتخاذ إجراءات قانونية تعمل على تكريس استقلالية كل هذه الأنظمة الفرعية عن بعضها البعض (Debbelaere, 2008: 177)». وتبعاً لهذا التمايز، سينفصل المجال الدنيوي عن المعايير والمؤسسات الدينية التي ستصبح وظيفتها مقتصرة على «تدبير خيرات الخلاص الأخروي» (Habermas, 2008: 5).

لا شك أن استعارة هذا التمييز والاسترشاد به، يساعدنا على تقريب القارئ مما نقصده بمفهومي الدنيوة والعلمانية. فمفهوم الدنيوة الذي نستعمله هنا يغطي الدلالات التي يعطيها كارل دوبلار لمفهوم الدنيوة المضمرة، في حين أن ما نقصده بالعلمانية يماثله في المعنى ما يعنيه بالدنيوة الصريحة. بلغة أخرى، إننا نتمثل الدنيوة باعتبارها سيرورة مستترة وغير مبحوث عنها، وننظر إلى العلمانية بوصفها دنيوة ظاهرة وصريحة ومبحوثاً عنها ومرغوباً فيها، أي قراراً واعياً ومخططاً له. فالطابع المضمر والمكتوم وغير القصدي لسيرورة الدنيوة يشدد عليه أيضاً جون بوبيرو (Jean Baubérot)، عندما يعرّفها بأنها «سيرورة اجتماعية وثقافية ورمزية، يخفت من خلالها الدور الاجتماعي للدين بوصفه إطاراً معيارياً، ويتحول ويتحلل ويتشكل من جديد. يمكن أن تستمر أهمية الدين، لكن دون أن يفرض معاييره على المجتمع. هكذا تكون التمثلات الاجتماعية المسيطرة قد تخلصت من التَّشبُّع الديني من طريق الأداء المعقد للدينامية الاجتماعية. لهذا، فالدنيوة غالباً ما تكون «مستترة». يتعلق الأمر عموماً بنتيحة «غير مبحوث عنها» (بالمعنى الفيبري) للتغيرات الاجتماعية» (Baubérot, 2009: 17‑18). ولتدقيق قوله أكثر، يضيف بوبيرو، أن الدنيوة هي «الانتقال من الثقافة الدينية، الشمولية إلى حد ما، إلى الاعتقاد الديني حيث يصبح الدين مجرد نسق فرعي ثقافي يخضع للاختيار الشخصي والوجودي» (Baubérot, 2013: 36). وضمن نفس الأفق، يعتبرها أوليفيي روا (Olivier Roy) «ظاهرة مجتمعية لا تتطلب أي إجراء سياسي، وتتحقق عندما يفقد الدين مكانته المركزية في حياة الناس، حتى وإن استمروا في تعريف أنفسهم كمؤمنين. هكذا، فممارسات الناس والمعنى الذي يضفونه على العالم لا تحمل سمة التسامي أو الديني. ويعدّ زوال الدين هو أعلى مراحل الدنيوة (Roy, 2005: 19)». وفي الاتجاه نفسه، تعرف هرفي ليجي الدنيوة بكونها تلك السيرورة التي «يتوقف خلالها الدين عن مد الأفراد والجماعات بالمراجع، والمعايير، والقيم والرموز التي تسمح لهم باٍعطاء معنى معين للوضعيات التي يعيشونها، وللتجارب التي يقومون بها؛ بحيث يفقد الدين خاصية تشكيل مدونة المعنى (Code de sens) الشاملة التي تفرض نفسها على الجميع» (Hervieu‑léger, 1996: 13).

في المقابل، فالعلمانية هي سيرورة مؤسساتية، واختيار سياسي – قانوني يحدد شكل وحجم ومساحة حضور التعبيرات الدينية داخل الحقل المؤسساتي، أي داخل مختلف حقول الفضاء العمومي، مثل المدارس والمستشفيات والسجون والمؤسسات العسكرية ومختلف أجهزة الإعلام الرسمي… إلخ. فالمجتمع هو الذي يختار عبر نقاش عمومي، يؤدي إلى سن نصوص تشريعية يحدد من خلالها مثـلاً: هل يعترف بالأعياد الدينية ليجعلها عطـلاً رسمية أم لا، وهل يقدم مساعدات مالية عمومية للمدارس الدينية ولبناء دور العبادة وصيانتها أم لا، وهل يسمح بوجود الرموز الدينية بالمؤسسات العمومية أم لا… إلخ. تتغيى هذه السيرورة تحقيق استقلالية السلطة السياسية والمؤسسات الاجتماعية بنحو عام اتجاه المؤسسات والمعايير الدينية؛ أي تحقيق ذلك التمايز البنيوي والوظيفي بين الحقول الاجتماعية المختلفة، لكي تصبح مجالات مستقلة وقائمة بذاتها، تمتلك قواعدها الخاصة، وتشتغل بمعاييرها المتعينة والمتفردة. هكذا، يستقل الحقل السياسي الذي غالباً ما يشتغل بمنطق «الصواب» (Le Juste) – لأن السياسة هي «فنُّ المُمْكِن» – عن الحقل الديني الذي يشتغل بمنطق «الإيمان»؛ ليتمايزا بدورهما عن الحقل العلمي الذي يشتغل بمنطق «الصدق» (Le Vrai)، وعن الحقل الفني الذي يشتغل بمنطق «الجمال»… إلخ. فلا يمكن مثـلاً، وفق قاعدة التمايز البنيوي بين هذه الحقول المتعددة، قياس إبداع فني معيَّن بالمعايير الدينية – الأخلاقية، ولا يمكن مَعْيَرَة القضايا الإيمانية والاعتقادية على منطق العلم، أي بمعيار قابلية التفنيد (Falsifiabilité) أو بمعيار التحقق التجريبي (Vérifiabilité) .

طبعاً، تعددت نماذج العلمانية واختلفت مضامينها وآليات أجرأتها عبر العالم، فأصبحت اليوم موضوعاً لجدل حاد غير مسبوق، بين المدافعين عن علمانية مضيافة، ورخوة وتوافقية، تكتفي بتحرير الدولة من سلطة رجال الدين، وتحرير الدين من سلطة الدولة – أي تحييدها في الشأن الديني – من جهة؛ والمدافعين عن العلمانوية (Laïcisme)، أي تلك العلمانية الأيديولوجية والفلسفية المتشددة التي يسميها فرهاد خوسروخاور (Farhad Khosrokhavar)وأُولِيفْيِي رْوَا بـ «العلمانية المناضلة» (Roy, 2005: 39; Khosrokhavar, 2004: 209) ما دامت تسعى لاستئصال الواقعة الدينية بمختلف أشكالها ورموزها من كل فضاءات المجال العمومي، ويسميها ساري حنفي «العلمانية المؤمنة» ما دامت تعتبر «الدين معطى فردياً محصوراً في المجال الخاص، لتشكل ديناً مدنياً له قدسيته ككل الأديان ولتمنع ظهور أيّ دين آخر (دين ضد الأديان الأخرى)» (حنفي، 2019: 82)، من جهة أخرى. لكن هذا الاختلاف في طبيعة فهم العلمانية، وفي كيفية أَجْرَأَتها واقعياً، لا يلغي وجود إجماع واسع حول ضرورة توافر ثلاثة مؤشرات نموذجية – مثالية، بدونها لن يستقيم أيّ حديث عنها هي حرية الضمير، والاستقلالية/الفصل – وبوجه خاص الحياد التحكيمي للدولة – والمساواة في المعاملة (Baubérot, 2013: 34).

لكن، ورغم تداخل هذه المؤشرات وترابطها، يُلاحِظ جون بوبيرو (Baubérot, 2013: 35)، فكل فاعل اجتماعي يشدد على أهمية هذا المؤشر أو ذاك تبعاً لمصالحه الخاصة. فالزعماء الدينيون عندما يقبلون بالعلمانية فاٍنهم يختزلونها في حرية الضمير بوصفها حرية دينية قبل كل شيء، في حين أن المناهضين للإكليروس والملاحدة يتمثلونها بوصفها فصـلاً للدين عن الدولة. أما الأقليات الدينية فغالباً ما تركز على مبدأ وقوف الدولة على نفس المسافة من جميع الأديان دون أيّ تمييز أو محاباة (Baubérot, 2013: 35).

في هذا السياق، يجب الإشارة إلى أن كل نماذج العلمانية الموجودة اليوم، بما فيها المتشددة والصلبة، تظل غالباً مسكوكة بخلفية دينية واضحة. فالعلمانيات الأوروبية على اختلاف أشكالها، بما فيها النموذج الفرنسي الذي يعَدّ أكثرها تشدداً، تظل مدموغة ومشبعة بخلفية مسيحية لا تخطئها العين. يكفي أن نستحضر ذلك التطابق الكلي الموجود بين التقويم الإداري – المدرسي الأوروبي والتقويم المسيحي، الذي جعل العطل الرسمية تتزامن في الغالب مع الأعياد المسيحية. أكثر من هذا، هناك من يرى، على غرار ريجيس دوبري، أن العَلم الأوروبي – الذي رسمه اليسوعي أرسين هيتز (Arsène Heitz) – بلونه الأزرق وبنجومه الاثنتي عشرة الذهبية، لا يخلو من رمزية دينية؛ ذلك أن تصميمه «مُستوحى من العهد الجديد، وتحديداً من نص سفر رؤيا يوحنا 12 (…) فرقم إثناعشر يرمز إلى عدد حواريي المسيح، وأبواب أورشليم السماوية وقبائل إسرائيل» (Debray, 2019: 3).

بعد أن حاولنا التمييز بين ما نعنيه تحديداً بمفهومَي الدنيوة والعلمانية، سنحاول أن نبرز أهم المؤشرات الدالة على هاتين السيرورتين اللتين تخترقان مفاصل المجتمع المغربي منذ سنين طويلة، رغم أن إيقاعهما لم يرتفع إلا في العقدين الأخيرين.

رابعاً: مؤشرات الدَّنيوة الزاحفة

إذا كانت الطقوس، كما يؤكد ذلك إميل دوركايم، هي «قبل كل شيء، إحدى الطرائق التي تسعى من خلالها الجماعة الاجتماعية إلى إعادة تأكيد ذاتها (se réaffirme) بانتظام» (Durkheim, 1968: 553)، فالاحتفالات الطقوسية تمثل لحظة مهمة لكشف النقاب عن طبيعة التحولات السوسيو – ثقافية التي تعتمل في صلب مجتمع معين، و«تيرمومتراً» فعالاً لقياس مدى عمق التبدلات التي مسّت نماذجه المرجعية، ومرصداً أميناً لاستكشاف مفاعيلها التضعيفية، واستشراف تداعياتها المستقبلية على مؤسساته وتصوراته وسلوكاته.

إذا كان الأمر كذلك، فمن بين مؤشرات سيرورة الدنيوة التي يعرفها المجتمع المغربي، هو أننا لا نجد فقط غياب التطابق بين الزمكان الاجتماعي المدنس والزمكان الديني المقدس، بما أن المسجد لم يعد ذلك الفضاء المركزي في الحياة الاجتماعية، بل فضاء من بين فضاءات أخرى، وبما أن أذان مؤذنيه، بمكبراتهم الصوتية المرتفعة، لا تنظم إيقاع الحياة اليومية إلا خلال شهر رمضان (طوزي، 1999: 72)؛ وهذا يعني أن المقدس غدت له دكاكينه وأسواقه وموضوعاته الخاصة التي لا يسمح له بالمكوث خارجها (طوزي، 1999: 72). بل يمكن استجلاء مؤشرات هذه السيرورة أيضاً من خلال معاينة تراجع الدين وخفوته خلال احتفالات معظم المغاربة – بمن فيهم الأكثر حرصاً على ممارسة الشعائر الدينية – بطقوس المرور. ومن بين الأمثلة البارزة في هذا الشأن، يمكن أن نذكر:

لحظة الولادة: إذا كان من المستحب دينياً الأذان في الأذن اليمنى للمولود، وإقامة الصلاة في أذنه اليسرى بعد الولادة مُباشرةً، فشهادات بعض الممرضات اللواتي يشتغلن في قسم الولادة بمصحة خاصة بمدينة القنيطرة، أكدت لنا أن العديد من الآباء لا يبادرون إلى القيام بهذا الطقس، إلا إذا طُلب منهم ذلك. بل هناك من يرفض قطعاً القيام بهذا الأمر متذرعاً في الغالب بكونه غير متوضئ أو على غير طهارة.

اختيار اسم الطفل: لا أحد يجادل في أن الإسم لا يمثل فقط دعامة للهوية الفردية، وتعبيراً أميناً عنها، بل قد يكون أيضاً مؤشراً على الانتماء الديني للفرد. إذا كان الأمر كذلك، فمن الملاحظ أن الاسم أصبح في المجتمع المغربي، مثله مثل كل المجتمعات البشرية، يخضع لصيحات الموضة (Bien de mode) كما بيّن ذلك بابتيست كولمون (Baptiste Coulmont) في كتابه سوسيولوجيا الأسماء (Coulmont, 2011). فالثابت، بأحكام الملاحظة، أن هناك تراجعاً قوياً للأسماء الدينية التي تعبر عن الرمزية الإسلامية بدالها الثيولوجي ومدلولها التاريخي. فالأسر المغربية، بما فيها المتدينة، نادراً ما تسمي الآن طفلها محمد أو عيسى أو يعقوب أو بكر… إلخ. ونادراً أيضاً ما تسمي بناتها بأسماء زوجات الرسول (خديحة أو سودة أو جويرية أو ميمونة أو مارية… إلخ)، أو بأسماء بناته (زينب أو رقية أو أم كلثوم أو فاطمة).

الاحتفال بالعقيقة: إذا كان من المستحسن أن يقام هذا الاحتفال في اليوم السابع من ولادة المولود طبقاً لحديث نبوي يقول: «الغلامُ مُرْتَهَنٌ بعقيقِتهِ يُذبح عنه يومَ السابعِ، ويُسمَّى، ويحلقُ رأسه»، فمن اللافت أن عدة أسر مغربية، وبخاصة تلك التي تنتمي إلى الطبقات المتوسطة، لا تحتفل إلا نادراً بالعقيقة في سابع أيام الولادة. أكثر من ذلك، يلاحظ أن الطابع الديني لحفل العقيقة لدى معظم الأسر، بمختلف انتماءاتها الطبقية، يظل خافتاً مقارنة مع طابعه الاستهلاكي والاستعراضي، وأحياناً منعدماً. فغالباً ما يتم الاكتفاء بدعوة مرتلي القرآن وقراء الأمداح النبوية للحضور على هامش لحظة وفضاء «الذروة الاحتفالية»، وأحياناً لا يُستقدمون بتاتاً، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى 10.7 في المئة من المغاربة (El Ayadi; Rachik; Tozy, 2007 :79).

طقوس الزواج والختان: فإذا كان الدين غالباً ما لا يحضر، خلال طقوس الزواج، إلا أثناء لحظة قصيرة من لحظات حفل الخطوبة، حيث تُقْرَأ سورة الفاتحة بعد موافقة العروسة وأهلها على تزويجها بالعريس الذي تقدم لطلبها، فكذلك الأمر بالنسبة إلى طقوس الختان؛ حيث نُلاحِظ تواري طابعه الديني لصالح بعدِه الاستهلاكي. أكثر من ذلك، فبعض التقاليد التي كانت منتشرة إلى حد قريب ببعض المناطق القروية، مثل زيارة الطفل الموعود بالختان لأضرحة الأولياء في اليوم الذي يسبق إعذاره للتيمّن ببركتهم، بدأت تنقرض بوتيرة سريعة.

طبعاً، لا يمكن أن ننكر الطابع الديني لطقوس الموت وشعائر الجنازة والدفن، ولكن لا يمكن، في الوقت ذاته، تجاهل ازدياد عدد الأسر – خاصة الغنية والمتوسطة الدخل – التي تلجأ أثناء حفل العزاء لمتعهد الحفلات، مستغنية بذلك عن مساعدة الأصدقاء أو الجيران. نفس الأمر بالنسبة إلى حفر قبور أقاربها ودفن جثثهم، حيث أصبحت تلجأ إلى بعض الشركات الخاصة المكلفة بشؤون نقل ودفن الموتى. إنه تحوّل لا يعكس فقط انحسار الدين في فضاءات ضيقة وخاصة، ولكنه يعدّ أيضاً «ترمومتراً» يكشف حجم التحولات القيمية التي يعرفها المجتمع المغربي.

فانحسار الدين وتراجعه يمكن ملاحظته في مختلف جوانب حياة المغاربة بما في ذلك معاملاتهم المالية وطرق تقسيم تركة أمواتهم. فالمغاربة، بما فيهم الأكثر حرصاً على ممارسة الشعائر الدينية، عادة ما يلجؤون إلى القروض الربوية، ليس فقط لاقتناء سكنهم، بل لمختلف الأغراض الأخرى. فنتائج البحث حول «القيم والممارسات الدينية في المغرب» أكدت أن 37.5 في المئة فقط من المغاربة هم الذي يرفضون بصورة قطعية طلب قرض مصرفي بالفائدة عند الاقتضاء، وأن 32.6 في المئة فقط من هؤلاء (أي من نسبة 37.5 في المئة) هم الذين يبررون رفضهم هذا بدوافع دينية خالصة (El Ayadi, Rachik and Tozy, 2007: 155).

أما بخصوص الإرث، فإذا كانت مدونة الأسرة، التي تستلهم موادها التشريعية من النصوص الدينية، تنص على أن الذكر يرث ضعف ما ترثه الأنثى، فالدينامية الاجتماعية تؤكد أن هذه القاعدة القانونية – الدينية يتم تجاوزها تدريجياً، وبخاصة من قبل الطبقات الغنية والمتوسطة. فهذه الأسر، بما فيها المتدينة، عادة ما تحاول تقسيم ما تملكه بطرائق عادلة بين إناثها وذكورها، إما بهبة للأنثى يتم توثيقها، أو بوصية، أو بغيرها، بغية الالتفاف والتحايل على القاعدة القانونية – الدينية السائدة، وتجنب آثارها التمييزية. لهذا نجد أن 39,6 في المئة من الشباب المغربي، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و24 سنة، يزكّي سلوك الآباء الذين يقسمون تركتهم، وهم لا يزالون أحياء، بوجه عادل بين أبنائهم وبناتهم (El Ayadi, Rachik and Tozy, 2007: 126).

إذا كنا، إذاً، قد حاولنا في ما سبق، إبراز هامشية الدين في الحياة الطقوسية والاحتفالية للمغاربة، بغية التشديد على تراجع الدين وانحساره في فضاءات ضيقة وخاصة، فكيف يستقيم قولنا هذا، ونحن نلاحظ تضخم حضور الرموز والتعبيرات الدينية بالفضاء العمومي المغربي، مثل تعاظم حجم اللواتي يرتدين الحجاب، الذي يرى فيه البعض عنواناً واضحاً لارتفاع منسوب تديُّن النساء؟

خامساً: الحجاب والتديُّن الفردي

لا شك في أن انتشار الحجاب في العقود الأخيرة يقتضي منا ضرورة استحضار تعدد دلالاته وتنوّع رمزياته، لتَنْسيب القول بارتباطه الوثيق والدائم بالتديُّن، ولتبديد الاعتقاد الشائع بأنه تعبير عن استبطان سرديات «الإسلام السياسي» الحركي. فالدراسة التي قام بها إدريس بنسعيد حول «الشباب والحجاب في المغرب»، توصلت إلى أن هذا الانتشار واكبته عملية استرجاع مجتمعي جارفة، وتملك اجتماعي تدريجي «عمل بسرعة على تجريده، إلى حد كبير، من طابعه الديني المقدس الذي وسمه في صيغه الأولى، التي لا تتأثر باختلاف العصور والمجتمعات والثقافات، وإلى إدخاله من الباب الواسع إلى الموضة، وإخضاعه على مستوى الأشكال والأثواب والألوان والماكياج إلى التيارات الكبرى للموضة العالمية ومنطق اشتغالها العالمي» (بنسعيد، 2007: 10). من ثمة، فالأمر لا يتعلق بالنسبة إلى الأغلبية المطلقة للمحتجبات، «باختيار أيديولوجي أو سياسي محدد، أو بالتعاطف مع برنامج سياسي لحركة إسلامية، وإنما باختيار شخصي، لا يترتب عنه أي تحديد مسبق أو جامد» (بنسعيد، 2007: 59). لذلك، فالمعطيات الإمبيريقية تفرض بالضرورة التحرر من تلك الصورة النمطية التي لا ترى فيه إلا حجاباً حركيا،ً فتربطه ميكانيكياً بتوجهات سوسيولوجية وسياسية معينة، وتعزوه تحديداً، بيقين متصلب، إلى تأثير «الإسلام السياسي».

فالواقع الميداني للظاهرة يكشف أن قرار ارتداء الحجاب عندما يكون اختيارياً – أي غير خاضع لأيّ إكراه سواء كان أسرياً أو اجتماعياً – وأملته اعتبارات دينية وروحية محضة، يكون، في الغالب، متحرراً، انتماءً وولاءً ومرجعية، من كل سلطة دينية مُمَأسَسَة، ومن كل المشاريع السياسية – الدينية، وبعيداً من كل مدارات ورهانات التنافس والصراع حول السلطة والهيمنة الثقافية. إنه مجرد تعبير خالص عن نوع من التديُّن الفردي الذي يحدد من خلاله المؤمن طبيعة العلاقة التي يجب أن تجمعه بربه بكامل الحرية والمسؤولية، معتبراً نفسه قادراً على معرفة حقيقة دينه دون المرور عبر بعض الوسطاء مثل الأسرة، والعلماء، والدعاة الدينيين، والجمعيات الدينية… إلخ.

نُذَكّر في هذا السياق أن المشهد الديني المغربي، الذي أصبح شديد التعدد والتنوع في السنوات الأخيرة، لا ينفلت بدوره من بعض الظواهر التي تميز أنماط التديُّن بالمجتمعات الأوروبية كما شخّصها العديد من علماء اجتماع الأديان مثل كريس دافي ودانييل هيرفي ليجه (Davie et Hervieu-Léger, 1996)، وإيف لامبير (Lambert, 2000: 11‑33)، ورولاند كامبيش (Campiche, 1997)، وجون – بول ويلام (Willaime, 2001)… إلخ. فتنوع وغنى أنماط التديُّن يعتبر واقعة أنثربولوجية ساطعة في المغرب، وتدين المغاربة لا يخلو من بعض مظاهر التديُّن الفردي الذي أصبح يميز المشهد الديني المعاصر، مثل «الانتماء دون اعتقاد» و«الاعتقاد دون انتماء» (بلغة كريس دافي)، و«الفردَنة (Individualisation) – أي «افعلها بنفسك» في المجال الديني -، والذوتَنة (Subjectivisation) – أي تمجيد التجربة الشخصية وتعظيمها)، والاستجمال (Esthéticisation) أي حب الإظهار والاستعراض، وإضفاء الطابع الإنفعالي (أي البحث عن الدين «الساخن» عوض دين المؤسسات «البارد» والشكلي) والإيتيقي (أي الإجماع على كونية حقوق الإنسان)، واللامبالاة الشديدة (أي التقليل من قيمة الاختلافات المذهبية بين الأديان والانتظارية البراغماتية)» (Willaime, 2001: 133‑144) . من بين أهم مؤشرات تزايد وتيرة هذا النوع من التديُّن في السنوات الأخيرة، نجد ارتفاع عدد المغاربة:

  • الذين يفضلون نسج علاقات مباشرة ومُخَوْصَصَة (Privatisée) مع الله، ويعتبرون أنفسهم قادرين على اكتساب معارفهم الدينية دون وساطة المؤسسات التي تعيد صوغ وتأويل النص الديني، فيبتعدون، بالتَّبِعَة، عن كل الممارسات الدينية التي يعتقدون أنها مفرطة في المَأْسَسَة والطَّقْسَنة.
  • الذين ينظرون إلى الإسلام بوصفه إرثاً رمزياً وثقافياً وهوياتياً جماعياً، أكثر مما هو حزمة من التعاليم الأخلاقية الصارمة، والسنن التعبدية القسرية.
  • الذين يعتنقون، بلغة ليلى بابس، «دين القلب» (Religion du cœur)، الذي يكون مبنياً بصورة اختيارية، عوض «الدين المحفوظ عن ظهر القلب» (Religion par cœur) والمعاش بوصفه بداهة (Babès, 1997: 117). إنهم أولئك الذين انتقلوا من دين موروث إلى دين اختاروه بكامل الحرية والمسؤولية.
  • الذين يعملون على ما تسميه ليلى بابس بـ «رَوْحَنَة» (Spiritualisation) الإسلام (Babès, 1997: 72) بعيداً من الطرائق والطوائف والزوايا، وعن صرامة طقوسها الصوفية المختلفة من خلوة وصيام وذكر واعتكاف وتجهد، أي خارج كل التزام ديني دائم ومنظم. وتعبر هذه النزعة نحو الرَّوْحَنَة، التي يمكن تكثيفها في عبارة «الإيمان في القلب»، عن تفضيل العلاقة المباشرة بالله، وعن تمجيد البحث عن المعنى، وعن تعظيم التجربة الباطنية بانفعالاتها الروحية العميقة. إن معتنقي هذا النمط من الإسلام الذاتي – ـوليس «الموضوعي» لأنه ليس موروثاً – يعتبرون أن الإسلام الحقيقي ليس هو الحرص على احترام الطقوس والمحرمات، بل هو سخاء القلب، وصفاء الطوية، وإحساس بالآخرين. إنه ورع ووَجْد، وصل ووصال، انخطاف وشهادة، وليس نصوصاً أو سلطة متعينة.

وللتدليل على وجود أنماط التديُّن المشار إليها أعلاه لدى المغاربة، يكفي استحضار إحدى أهم الخلاصات التي توصل إليها البحث حول «القيم والممارسات الدينية في المغرب» والتي أكدت أن علاقة المغاربة بالدين «تتم من دون وساطات المؤسسات التقليدية، وتنحو إلى أن تصبح مجهولة (Anonyme)، فردية ومباشرة» (El Ayadi, Rachik and Tozy, 2007: 96). فعلى سبيل المثال، أكد 32.1 بالمئة من المستجوبين أنهم اختاروا البدء في ممارسة شعيرة الصلاة بمحض إرادتهم، أي في غياب أي تأثير للأب أو للأم أو للأصدقاء أو للزوج أو للزوجة (El Ayadi, Rachik and Tozy, 2007: 53) ؛ وأن 27.9 في المئة يرفضون نزع صفة المسلم عن الشخص الذي يرفض صيام رمضان (El Ayadi, Rachik and Tozy, 2007: 83)؛ وأن 27.60 في المئة ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة اعتبروا أنفسهم مسلمين حتى وإن كانوا غير ممارسين دينياً (El Ayadi, Rachik, Tozy, 2007 :109). في الاتجاه نفسه، أكدت الدراسة التي قامت بها «رابطة مسح القيم العالمية» سنة 2011 أن 28.3 في المئة من المغاربة يعتبرون أن جوهر الإسلام ليس شعائر تعبدية، بل هو أولاً الحرص على مساعدة الآخرين (World Values Survey, 2011: 78).

في الإجمال، إن ما نهدف إلى إثارته هنا هو التأكيد أن الحجاب عندما تمليه القناعات الدينية الخالصة لا يعدو أن يعبّر سوى عن نوع من التديُّن الفردي المتحرر، انتماءً وتوجيهاً وتأطيراً وممارسة، من سلطة كل المؤسسات دينية كانت أو عمومية. وما يسري على الحجاب يسري أيضاً على كل المظاهر التي تؤشر إلى ارتفاع منسوب تديُّن المغاربة، وإلى كثافة حضور مؤشرات التديُّن بالفضاء الاجتماعي والثقافي المغربي، وارتفاع الطلب على السوق الدينية بمعروضاتها المتنوعة.

فارتفاع مؤشرات هذا النوع من التديُّن يمكن فهم شروطها ودلالاتها في سياق ما تسميه دانييل هيرفي ليجي «غياب الضبط» (Dérégulation) و«غياب المأسسة» اللتيان تميزان المشهد الديني بالمجتمعات العصرية. فمن خلالها انشغالها بصيرورة مآلات الديني داخل العالم الحديث، واهتجاسها باستجلاء بنيات دينامية الإعتقاد (Le Croire) الديني العصري، عبر مساءلة الدينامية المتحكمة في ما تعتبره انبعاثاً وتدفقاً متواصـلاً للديني في قلب الحداثة، والذي سمته «المعضلة (Dilemme) الدينية للحداثة» – أي هل تتميز بأفول الدين أم بمجرد إعادة تركيبه؟ (Hervieux-Léger, 1993) -، توصلت إلى الخلاصة التالية: «لا يمثل الاعتقاد الديني، بأيّ حال من الأحوال، تَلّاً شاهداً (Butte-témoin) على عالم ذهني تم تجاوزه داخل عالم الحداثة، بل إنه ينبثق من رَحِمِ هذه الحداثة ذاتها ويترعرع في كنفها، في إطار تلك الحركة نفسها التي تعمل على تحطيم الأسس التقليدية لمؤسسات الاعتقاد» (Hervieux-Léger, 1993: 141). وبأثر من ذلك، أكدت ضرورة إعادة ترتيب العلاقة بين الحداثة والدين، لكون هذا الأخير يحتفظ بقوة إبداعية هائلة داخلها (أي داخل الحداثة)، فتمنحه القوة الكافية للتنافس حول احتكار إنتاج المعنى، وتجعله يتطور ليس بالضرورة على هامشها أو ضدها، بل في حضنها وفي كنفها. ذلك أن الحداثة، التي تعني انبثاق الذات الحرة والمستقلة، تخلق، بشكل تناقضي، الحاجة الفردية والجماعية للاحتماء بسلطة تقليد (Tradition) معين. لذلك، تضيف هرفي ليجي، «ليس اللاإيمان (Incroyance) هو الذي يميز مجتمعاتنا، بل انفلات الإيمان من رقابة وضبط الكنائس الكبرى والمؤسسات الدينية بصورة واسعة» (Hervieux-Léger, 1999: 42). ومن بين مظاهر غياب هذا الضبط نجد «تلك الحرية التي يتمتع بها الأفراد في «ترقيع» نظامهم الاعتقادي، دون الاستناد إلى حزمة من الاعتقادات المُصادَق عليها مؤسساتياً» (Hervieux-Léger, 1999: 42)، وهذا جعل معظم المؤمنين، اليوم، «متبدلون وعائمون، ماداموا لم يرثوا إيمانهم» (Hervieu‑Leger, 2004: 134). فأن تكون متديناً اليوم، تضيف هرجي ليفيه، «يعني أنك تختار معتقداتك، وتختار سلالتك الدينية» (Hervieu-Leger, 2004: 134)، ما دام الأفراد يصنعون، انطلاقاً من تجاربهم واستعداداتهم وتطلعاتهم، نظاماً صغيراً من المعنى الخاص بهم؛ فلايمتحون إلا بصورة هامشية من مَعينِ المدونات (Codes) الكبرى للمعنى التي تحملها المؤسسات الدينية، بعد أن يحولونها إلى علبة أدوات رمزية أو مجمع تجاري ديني ينتقون من خلاله البضاعة التي تناسب أذواقهم، ويعزلون عبره الأدوات التي يحتاجون إليها لبناء سردية اعتقادية صغيرة (Petit récit croyant) خاصة بهم. فخاصية الترقيع التوليفي للمعتقدات، إلى جانب خصائص أخرى – مثل تشظي المؤسسات الدينية ونزع طابع القداسة عنها، وأزمة نقل الهويات الدينية الموروثة، وعدم المأسسة، وغياب تقنين المعتقدات، والرخاوة، والانتقائية، والفردنة، والحركة، وإعادة تشكيل الوصفة الدينية، وتعدد العرض الروحي التنافسي، وانبعاث الذات المؤمنة الفاعلة -، تعتبر في نظر هرفي ليجي أهم مميزات ما تسميه «الحداثة الدينية».

وبأثر من ذلك، وفي سياق محاولتها لبلورة نموذج مثالي لما تسميه المؤمن العصري (Moderne)، يختزل ويكثف مسارات ومضامين تدينه، انتهت هرفي ليجي، في ما يشبه خلاصة عامة، إلى القول بأن الفردانية الدينية الحديثة الزاحفة جعلت الملامح العامة للمشهد الديني تتلخص في هيمنة صورتي كل من «الحاج – المستكشف» (Pélerin) والمتحول (Converti) دينياً، في مقابل تراجع صورة المُمارِس (Pratiquant) الكلاسيكي (Hervieu‑Leger, 1999).

فإذا كان الممارسة الدينية للممارس الكلاسيكي هي ممارسة ضرورية، وتخضع لمعايير مؤسسة معينة، وثابثة، وجماعاتية، ومرتبطة بمجال جغرافي معين (أي مستقرة)، ومتكررة (أي مألوفة)؛ فممارسة الحاج – المستكشف إرادية، وقابلة للتكييف والتعديل، وفردية واستثنائية (أي غير عادية) (Hervieu-Leger, 1999: 109).

فالحاج – المستكشف، الذي توحي صورته إلى رخاوة المسارات الروحية الفردية وإلى نوع من المؤانسة الدينية الذي تتميز بالتجمع المؤقت (Hervieu-Leger, 1999: 98)، هو ذلك الماشي الذي يشق طريقه باستمرار، لا يعرف أين ستقوده شعابات مساره الروحي الدائم الاختمار والتفاعل. فهو دائم التنقل والتجوال، قد ينطلق بتوهج وجداني غامر، وبجذوة روحية عارمة، وينتهي ببرودة انفعالية، وبفتور روحي غير منتظر أو العكس. أما المتحول دينياً، فتتخذ صورته، في نظر هرفي ليجي، ثلاثة أشكال مختلفة (Hervieu‑Leger, 1999: 121‑124)

  • ذلك الشخص الذي يغير دينه، إما برفضه الصريح لهوية دينية موروثة، مستعيضاً عنها بأخرى جديدة، أو بتخليه عن هوية دينية مفروضة واعتناقه لدين جديد.
  • ذلك الشخص الذي لم يعترف يوماً في حياته بأيّ تقليد ديني، فيكتشف، في سياق مساره الشخصي، ديناً معيناً، يقرر في النهاية اعتناقه.
  • ذلك الشخص «المتحول من الداخل»، أي الذي يكتشف أو يعيد اكتشاف هوية دينية ظلت شكلية بالنسبة إليه، أو كانت تُعاش بطريقة امتثالية محضة.

تأسيساً على الإشارات السريعة السابقة، تجتمع الأسباب كافة لتسويغ القول بأن المشهد الديني في المغرب لا ينفلت بدوره من بعض الظواهر التي تميز المشهد الديني المعاصر مثل الفردانية، وعدم المأسسة، والرخاوة، والحركة والترقيع. لذلك، فكل هذه الظواهر التي تؤثث المشهد الديني بالمغرب، تفرض بالضرورة عدم الاستسلام السريع لإغواء القراءة التي ترى في سيرورة تضخم الخطاب الديني، وارتفاع الطلب على السوق الدينية، في السنوات الأخيرة، نتيجة موضوعية لتأثر المغاربة بمفاهيم وتصورات «الإسلام السياسي». بلغة أخرى يجب تجنب الوقوع في شرك تلك القراءة التي تتجاهل كون هذه السيرورة لها منطقهما الخاص الذي ليس منطقاً احتجاجياً، ما دامت تتم عموماً خارج كل توجيه أو تأطير جماعي حاضن، وفي منأى عن سلطة المؤسسات الدينية والسياسية؛ ومن ثمة، تظل بعيدة من كل الرهانات المرتبطة بالصراع على السلطة أو الهيمنة الثقافية.

سادساً: مؤشرات العلمانية الصامتة

من نافل القول التذكير بأن الإسلام يشكل عنصراً مهماً من عناصر هوية المغاربة، وهو أيضاً الدين الرسمي للدولة المغربية. فالملك بمقتضى الدستور هو رئيس الدولة، وقائد جيشها، وقاضيها الأسمى؛ وفي نفس الوقت، هو «أمير المؤمنين»، و«حامي حمى الملة والدين»؛ يجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية. في المقابل، يجب ألّا ننخدع بالشكليات المؤسساتية فنستنتج، بتسرع، بأن إضفاء الطابع القدسي على السلطة السياسية، يعني وجود انصهار كلي ومطلق بين المجال السياسي والمجال الديني. فلا يمكن الخلط بين المنطقيات الخطابية للفاعلين السياسيين وبين ممارساتهم الواقعية، أو بين المصادر والمراجع القانونية – الدينية التي تضفي المشروعية على سلطة سياسية معينة، وبين طبيعة وشكل تدبيرها اليومي. فالطابع السياسي الخالص (Politicien) للسلطة القائمة بالمغرب، يبين أن الدين يظل مجرد أداة لإرساء شرعيتها، ويكشف لنا أننا بعيدون كل البعد عن خضوع السلطة الزمنية للسلطة الدينية. فليس من غير دلالة أن النخبة السياسية التي تدير شؤون الدولة، لا تُسأل، أثناء ترشحها لمنصب معين، عن درجة تدينها أو عن حجم معرفتها الدينية أو عن مدى قدرتها على استخراج الأحكام الفقهية بصدد النوازل التي تعرض عليها، بل أساساً عن طبيعة مشوارها السياسي، وعن مدى قدرتها على تدبير الشأن العام. لذلك، فهي تظل متمايزة ومستقلة عن تلك الفئة التي تتمتع بقدر من الكفاءة في المجال الديني التي تسمح لها باحتكار تأويل النصوص المقدسة مثل العلماء والأئمة والوعاظ والخطباء.

طبعاً لا يمكن إنكار كون النظام السياسي المغربي يستمد مشروعيته من الدين، ما دام الملك يجسد في شخصه السلطة السياسية بوصفه رئيساً للدولة، والسلطة الدينية بوصفه أميراً للمؤمنين؛ لكن هذا لا يعني، في المقابل، أن وظيفتي رئاسة الدولة وإمارة المؤمنين منصهرتان كلياً وبصورة شاملة، بما أن واقع الممارسة الملكية وتاريخها يؤكدان أنهما متمايزتان إلى حد كبير. ذلك هو ما أكده حسن رشيق، عندما نَبَّه إلى وجود فصل داخل الدولة نفسها (رشيق، 2013)، وعلى مستوى رئيسها، بين مجال السياسة ومجال الدين. ليس فقط لأن دستور 2011 يميز ويفصل بوجه بَيِّن، عبر فصلين متمايزين، وظيفة أمير المؤمنين (الفصل 41) عن وظيفة رئيس الدولة (الفصل 42)، بل أيضاً لأن تدخل الملك بوضوح وصراحة في الشأن السياسي بوصفه رئيساً للدولة (أي ملكاً دستورياً) وأميراً للمؤمنين، أي بوصفه حكماً دينياً وسياسياً في آن واحد، لا يحدث إلا نادراً في واقع الصراع السياسي بالمغرب. لقد رصد حسن رشيق (رشيق، 2013) محطتين تاريخيتين مهمتين كان فيهما الاستعمال السياسي لإمارة المؤمنين بيِّناً ومكشوفاً. المحطة الأولى هو عندما قاطع الفريق البرلماني للاتحاد الاشتراكي استفتاء 30 أيار/مايو 1980، الذي أقر تمديد ولاية مجلس النواب لسنتين إضافيتين، فقرر الانسحاب على إثره، معتبراً قرار التمديد غير دستوري. وأمام صمت الدستور عن العقوبات التي ينبغي اتخاذها في مثل هذه الحالات، سيستخدم الحسن الثاني سلطته بوصفه أميراً للمؤمنين لمواجهة النواب الاتحاديين. هكذا، سيعتبر في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية في 9 تشرين الأول/أكتوبر 1981 – الذي اتهمهم من خلاله بالاستخفاف «برأي الجماعة وبرأي جماعة المسلمين»، أي بنتائج الاستفتاء – أن الفراغ النصي التشريعي لن يمنعه من معاقبة الفاعلين السياسيين بوصفه أميراً للمؤمنين. أما المحطة الثانية التي يستحضرها حسن رشيق (رشيق، 2013)، فهي إصلاح مدونة الأسرة التي استعمل من خلالها محمد السادس «إمارة المؤمنين» اعتباراً لدورها الديني لتسوية نزاع سياسي داخل الشأن الديني. بالطبع، لا يمكن أن ننسى محطة ثالثة مهمة، أي عندما تدخّل محمد السادس، بوصفه أميراً للمؤمنين وليس ملكاً دستورياً، لممارسة وظيفته التحكيمية بصدد المطالبة بتقنين الإجهاض، سنة 2015، بعد أن تم تصنيفه ضمن خانة القضايا الدينية والأخلاقية، وليس ضمن قضايا الصحة العمومية، فأصبح موضوعاً للتقاطبات السياسية والأيديولوجية الحادة بين القوى المحافظة والقوى الحداثية.

إن هذه السيرورة غير المكتملة، وغير النهائية بالتأكيد، من مسار التمايز البنيوي والوظيفي الذي يطبع علاقة المؤسسات السياسية بالمؤسسات والمعايير الدينية في المغرب، تبين بالملموس أن تضخم الخطاب الديني لدى الفاعلين السياسيين، لا يجب أن يحجب عنا حقيقة كون الدين يظل بعيداً من التحكم الكلي في تدبير دواليب الدولة وهياكلها، وفي شيْد عمرانها السياسي.

للإشارة، فقد انطلقت سيرورة هذا التمايز منذ مدة طويلة. ويكفي هنا فقط أن نشير إلى أن كل القوانين المغربية – ما عدا مدونة الأسرة التي تستلهم الكثير من موادها من الفقه الإسلامي، مثلها مثل بضعة فصول من القانون الجنائي – مستمدة من القانون الوضعي العصري. أكثر من هذا، فالازدواجية التشريعية التي لا تزال تميز المنظومة القانونية الأسرية في المغرب لا يمكنها أن تحجب عن أنظارنا بعض مظاهر العلمنة (Laïcisation) الجزئية لبعض القوانين الأسرية والجنسية، كما لاحظ ذلك عبد الصمد الديالمي، من قبيل «منع الاسترقاق، وامتلاك الرجل لعدد غير محدود من الجواري الحسان لأغراض جنسية، وعدم العمل بقطع يد السارق والسارقة، وعدم رجم الزاني غير المحصن وعدم الاحتفاظ بهذه المصطلحات، وعدم قتل فاعل ما فعله قوم لوط وعدم الاحتفاظ بهذا المصطلح، وعدم الاحتفاظ بمقولة النكاح، وعدم الاحتفاظ بطاعة الزوجة للزوج، والتسوية بين الزوجين في رعاية الأسرة، وإثبات الأبوة أثناء الخطوبة بوسائل علمية حديثة وشرعنتها، إلخ» (الديالمي، 2009).

في المقابل، يبدو أن سيرورة التمايز هاته قابلة للتطور أكثر – ولو في غياب الفصل بين الدين والدولة – في المغرب، إذا استحضرنا حجم المكتسبات التي استطاعت الحركات النسائية والحقوقية انتزاعها في أقل من عقدين، كان آخرها السماح للمرأة، منذ 22 كانون الثاني/يناير 2018، بولوج مهنة «العدول» (مأذونات أو موثقات شرعيات). فإذا كانت نتائج مراجعة قانون الإجهاض سنة 2015، التي عكست إلى حد ما طبيعة موازين القوى بين القوى المحافظة والقوى الحداثية، قد ظلت بعيدة من تطلعات المرأة، حارمة إياها من امتلاك جسدها ومن حرية التصرف فيه؛ فإن خيبة الأمل هاته، لم تُثْنِ، في ما يبدو، الحركات النسائية والحقوقية عن تكثيف ضغوطها مطالبة بالعلمنة (Laïcisation) الكلية لقوانين الأسرة. وقد استطاعت هذه الضغوط، خلال السنوات الأخيرة، أن تحول أحياناً النقاش حول القضايا التي لها ارتباط مباشر بسيرورة العلمانية مثل المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، إلى جانب إلغاء التعصيب في الإرث، ورفع التجريم عن العلاقات الجنسية الرضائية لدى البالغين الذين لا تربط بينهم علاقة زوجية، إلى نقاش عمومي وقضية مجتمعية. وهي الضغوط نفسها التي تصاعدت وتيرتها، في حمأة الجدل حول التطرف الديني، فأجبرت «المجلس العلمي الأعلى» سنة 2017 على التراجع عن الفتوى التي أصدرها سنة 2012 بخصوص إقامة حد الردة، أي قتل المرتد عن الإسلام.

ونحن بصدد تأكيد وجود حد أدنى من التمايز الوظيفي بين المؤسسات السياسية من جهة والمؤسسات والمعايير الدينية من جهة أخرى – يتطور تدريجياً في غياب فصل حقيقي بين الدين والدولة – يسمح لنا بالحديث عن علمانية جزئية وغير مكتملة، لا بد من التأكيد أن ملامح هذه السيرورة تتعمق باستمرار وتزحف تدريجياً وبصمت، أي في غياب قوة اجتماعية أو سياسية منظمة، ذات امتداد شعبي، تتبنى المشروع العلماني وتدافع عنه بكل قوة في النقاش العمومي، دون تلطُّف اجتماعي أو كياسة أخلاقية أو صوابية سياسية (Politiquement Correct)؛ لكون كلمة العلمانية لا تزال في المخيال الجمعي المغربي «أسيرة غيتو الرجامة» (طرابشي، 2004). فغالباً ما ترمز في المجال التداولي العام للإلحاد أو للعداء للإسلام أو للإنحلال الخلقي.

خاتمة

ختاماً، وفي ضوء كل ما سبق، يُطرح السؤال التالي: إلى أيّ حد يمكن لتزايد النفوذ السياسي، في السنوات الأخيرة، لحزب «العدالة والتنمية» ذي المرجعية الإسلامية أن يفرمل سيرورة الدنيوة التي تخترق مفاصل هذا المجتمع، ويعطل سيرورة العلمانية الصامتة التي تكتسح بناءه المؤسساتي منذ سنين طويلة؟

نعتقد أننا في حاجة ماسة إلى التذكير بأن تاريخ المجتمعات البشرية قد أثبت محدودية النظرة التاريخانية الغائية والمهدوية والخلاصية التي تغفل مكر التاريخ، وتتجاهل، باسم الحتمية التاريخية، دور الإرادة الإنسانية والفاعلية البشرية. إذا كان الأمر كذلك، فمن الأكيد أن أيّ محاولة لرسم ملامح مستقبل سيرورة الدنيوة الزاحفة التي تخترق مفاصل المجتمع المغربي، ولاستشفاف آفاق ومآلات سيرورة العلمانية الجزئية الصامتة التي تميز بناءه المؤسساتي وهندسته القانونية، وأيّ رغبة في استشراف وتعقب مسارات وتحولات مشهده الديني، في ظل تزايد النفوذ السياسي لحزب «العدالة والتنمية»، ليست بالعملية السهلة والميسرة. فكل محاولة في هذا الاتجاه، لا بد لها أن تستحضر إمكان النكوص والرجوع إلى الخلف؛ وقبل هذا وذاك، عليها أن تتسلح بعقل تركيبي يبتعد عن الابتسار والتجزيء والاختزال. بتعبير آخر، يجب أن تستمسك برؤية شاملة، لا تستحضر فقط الديناميات الاجتماعية والثقافية الجارية بالداخل والخارج – على اعتبار أن المجتمع المغربي لا يدور في فلكه الخاص، ولا يعيش في عزلة عمّا يجري في محيطه الإقليمي والدولي – ولا تأبه فقط بطبيعة موازين القوى السائدة بين القوى الحداثية والمحافظة داخله؛ بل تلتفت أيضاً لطبيعة السلطة السياسية في المغرب، وبشكل خاص للموقع السياسي – الديني المركزي الذي تحظي به المؤسسة الملكية في النظام السياسي العام. فلا مناص إذاً، في ضوء هذا المنظور التركيبي، من استحضار المعطيات التالية:

أولاً: كون المؤسسة الملكية هي التي ترسم السياسات العامة للدولة، وتحدد توجهاتها واختياراتها الاستراتيجية الكبرى، بينما يتنافس بقية الفاعلين السياسيين حول طرائق وكيفيات تدبيرها الإجرائي – التنفيذي. هذا يعني أن هامش المناورة السياسية لدى حزب «العدالة والتنمية»، في ظل هذا الواقع الدستوري والسياسي والديني، يظل ضعيفاً حتى لو استأثر لوحده بالتدبير الحكومي. ذلك أن رغبته في إطلاق أيّ دينامية إصلاحية أو تغيير سياسي جدري على مستوى السياسة الدينية أو السياسات العامة – في حالة وجود هذه الرغبة طبعاً – لا بد من أن يكون مآلها الانكسار على صخرة الصلاحيات الدستورية الواسعة التي تتمتع بها المؤسسة الملكية التنفيذية ودورها المحوري في الحقل السياسي، بل وتحكمها فيه. مثله في ذلك مثل الحقل الديني الذي لا يسمح فيه الملك، استناداً إلى مرجعية إمارة المؤمنين، لأيّ فاعل ديني أو سياسي آخر منافسته فيه، ومنازعته في مشروعية احتكاره له والاستئثار بالقرار داخله.

ثانياً: على خلاف الاعتقاد الدارج، لا يمكن اعتبار ارتفاع منسوب تدين المغاربة، وتضخم حضور تعبيراتهم ورموزهم الدينية في الفضاء العمومي في السنوات الأخيرة، نتيجة موضوعية للتأثير الاجتماعي والسياسي والثقافي لصعود تيارات «الإسلام السياسي»، بما فيها حزب «العدالة والتنمية»؛ بل مجرد تعبير عن ظاهرة الفردَنة الدينية التي تخترق الإسلام، على غرار باقي الأديان الأخرى، والتي تعبر عن ذاتها من خلال انبعاث وبروز الذات المؤمنة والفاعلة، التي تعتبر نفسها مركزاً مرجعياً في اختيار شكل ومضمون بضاعتها الدينية. يتعلق الأمر بإعادة تَمَلُّك الوصفة الدينية بصورة فردية، وبتدَبُّرٍ شخصي، وبهواجس دينية وروحية محضة خارج كل توجيه أو تعبئة جماعية، أي خارج كل السلط والمرجعيات والأعراف والمؤسسات بقواعدها الدينية الموروثة، مثل الأسرة أو الزاوية أو «المجلس العلمي الأعلى» أو أحزاب «الإسلام السياسي»… إلخ. بلغة أخرى، فهذا النمط من التديُّن، الذي له منطقه الخاص وحيثياته السوسيو – تاريخية المحددة المرتبطة بما تسميه هرفي ليجي «المعضلة الدينية للحداثة» كما أوضحنا ذلك سلفاً، يتم في منأى عن كل المشاريع السياسية – الدينية، وعن كل مدارات ورهانات التنافس والصراع حول السلطة والهيمنة الثقافية.

ثالثاً، إذا كانت ماجريات الوقائع التاريخية، بشدها وبجذبها، بددت أوهام دُوكْسَا (Doxa) الحداثة، وقوضت مسلّمات سرديتها المهيمنة التي تنظر للدين والحداثة ككتلتين صلبتين مترافضتين، فإن الانتشار التدريجي والمتسارع للعلاقات والقيم الرأسمالية بالمجتمع المغربي، وانخراطه في أتون سيرورة تحديثية قسرية ومكثفة – ارتفع إيقاعها بصورة غير مسبوقة في ظل العولمة الكاسحة – واحتكاكه بما يقع خارج حدوده بفضل تكنولوجيا الاتصال؛ لا بد من أن يغذي شعور الفرد بفرادته وبتميزه، ويوسع هوامش حريته في إختيار نمط حياته، ويولد لديه نزوعاً قوياً نحو التمرد على تلك الوضعيات التي تجعله مجرد صدى لصوت الجماعة تبتلعه وتنطق باسمه، من جهة. ومن جهة أخرى، ستعمل هذه التحولات على «خلق عالم دلالي ورمزي تغيب فيه القيم الكبرى والمعاني الغائية العليا» (سبيلا، 2000: 47) التي كانت توجه ذاته الجماعية وتؤطر نظامه الرمزي، وستساهم في تعميق اهتزاز وقلقلة نقاط استدلاله، وفي زرع حالة من القلق واللايقين لديه. فبالقدر الذي ستساهم هذه التحولات الهيكلية في تعميق تحرر المغاربة من منظومة روابطهم الأولية الموروثة والعصبوية والمغلقة، وفي خلق بيئة مغذية لبزوغ مفهوم الفرد – المواطن، ومن ثمة في توفير حاضنة ملائمة لدمقرطة الحياة الخاصة والعامة، مع ما يعنيه ذلك من تحرر هذه الأخيرة (أي الحياة العامة) من سلطة المؤسسات الدينية؛ بالقدر نفسه – أي على أرضية هذه التحولات وفي كنفها – الذي ستتعمق حاجتهم إلى الدين كصورة من صور الممانعة الأنطولوجية ضد إحساسهم بضياع «آفاق المعنى» وبانخساف الغايات النهائية، وكترياق قادر على تزويدهم بنوع من التوازن والتماسك ضد جرافة التفكك والاقتلاع التي تهدد نسيجهم الكياني، وعلى إضفاء معنى معين على حياتهم، وحل لغز موتهم، ومصيرهم، ومرضهم، وخوفهم وفشلهم.

نتأدى من سياق الاستدلال السابق التشديد إلى خلاصة مركزية، هي أن سيرورة كثافة إقبال المغاربة على مختلف أشكال التديُّن الفردي ستستمر في السير جنباً إلى جنب مع سيرورتي الدنيوة والعلمانية اللتين تتصاعد وتيرتهما تدريجياً وبصمت، بحيث لن يستطيع تزايد النفوذ السياسي لحزب «العدالة والتنمية» فرملتهما. أكثر من ذلك، لن نجازف إذا قلنا إن الفرامل الأيديو – سياسية لهذا الحزب تبدو على وشك التلاشي، ليس فقط من شدة احتكاكها بتدبير الشأن العام الذي جعلها منزوعة الأشواك وناعمة الملمس؛ بل أيضاً نتاج ارتطامها بصخرة واقع سيرورتي الدنيوة الزاحفة والعلمانية الجزئية الصامتة اللتين أصبح الحزب يعتبرهما أمراً واقعاً فرضته التحولات المجتمعية. ومن ثمة، فقد أدمج هاتين السرورتين ضمن خانة القيم التي لا تكتسب، في نظره، مشروعيتها من استنادها إلى الأكثرية المجتمعية، بل مما يسميه «دينامية التدافع المجتمعي ودرجة التفاعل معها وتحكيمها» (حما وشوطي، 2016: 34). لهذا يبدو أن الاقتناع بكون الدنيوة والعلمانية في المغرب سيرورتين لا رجعة فيهما، هو الذي جعل الحزب يتخلى عن تعريف نفسه كحزب إسلامي، فأصبح يؤكد في أدبياته، منذ مؤتمره الخامس الذي انعقد في نيسان/أبريل سنة 2004، كونه حزباً سياسياً بمرجعية إسلامية؛ ويبادر إلى التنصيص خلال أطروحة مؤتمره الوطني السابع المنعقد سنة 2012 على مبدأ حرية الاعتقاد؛ ويوافق، سنة 2015، على انضمام المغرب للبروتوكول الاختياري لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، المعروفة بـ «CEDAW»، بعد أن كان رافضاً رفضاً قطعياً للعديد من بنودها؛ ويقبل بانضمام غير المحجبات إلى صفوفه وبترشح بعضهن باسمه. ويبدو أن الأمر نفسه هو الذي دفع أحمد الريسوني، الرئيس السابق للجناح الدعوي للحزب «حركة التوحيد والإصلاح»، وأحد أبرز وأشرس رموز القوى المحافظة بالمغرب، إلى الموافقة على مطلب إلغاء الفصل 222 من القانون الجنائي الذي يجرّم الإفطار العلني خلال نهار رمضان.

 

قد يهمكم أيضاً  الحوار الإسلامي – العلماني في الوطن العربي بين أزمة التواصل وانتعاش العنف

من المغرب أيضاً  الحراك الاحتجاجي في الريف المغربي: كيف وإلى أين؟

#مركز_دراسات_الوحد_العربية #المغرب #التحولات_الوسيو_ثقافية_في_المغرب #التدين_في_المغرب #حزب_العدالة_والتنمية_المغربي #الإسلام_السياسي #المشهد_الديني_المغربي #دراسات